باب ما جاء أن هذه الشفاعة هي المقام المحمود الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أنا سيد ولد آدم يوم القيامة و لا فخر و بيدي لواء الحمد و لا فخر و ما من نبي يومئذ آدم و من سواه إلا تحت لوائي ، و أنا أول من تنشق عنه الأرض و لا فخر قال : فيفزع الناس فزعات فيأتون آدم فيقولون أنت أيونا فاشفع لنا إلى ربك فيقول : أنا أذنبت ذنباً فأهبطت به إلى الأرض ائتوا نوحاً فيقول : إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا و لكن اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقول : إني كذبت ثلاث كذبات ، ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم : ما منها كذبة كذبة إلا ما حل بها عن دين اللّه و لكن ائتوا موسى فيأتون موسى فيقول : إني قتلت نفساً و لكن ائتوا عيسى فيقول : إني عبدت من دون اللّه و لكن ائتوا محمداً صلّى اللّه عليه و سلم فيأتوني فأنطلق معهم . قال ابن جدعان قال أنس : فكأني أنظر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال : فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها فيقال من هذا ؟ في قال : محمد فيفتحون لي و يرحبون فيقولون مرحباً فأخر ساجداً للّه فيلهمني من الثناء و الحمد فيقال لي ارفع رأسك و سل تعط و اشفع تشفع و قل يسمع لقولك و هو المقام المحمود الذي قال اللّه فيه عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً . قال سفيان : ليس عن أنس إلا هذه الكلمة فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها . قال الترمذي حديث حسن . و خرجه أبو داود الطيالسي بمعناه عن ابن عباس ف قال : حدثنا حماد سلمة قال : حدثنا علي بن زيد عن أبي نضرة قال : خطبنا ابن عباس على منبر البصرة فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم : ما من نبي إلا و له دعوة كلهم قد تنجزها في الدنيا و إني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ألا و إني سيد ولد آدم يوم القيامة و لا فخر ، و أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة و لا فخر ، و بيدي لواء الحمد تحته آدم صلّى اللّه عليه و سلم و من دونه و لا فخر ، و يشتد كرب ذلك اليوم على الناس فيقولون انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر فيشفع لنا إلى ربنا عز و جل حتى يقضي بيننا الحديث و فيه : فيأتون عيسى عليه السلام فيقولون اشفع لنا إلى ربنا حتى يقضي بيننا فيقول إني لست هنا كم إني اتخذت و أمي إلهين من دون اللّه و لكن أرأيتم لو أن متاعاً في وعاء قد ختم عليه أكان بوصل إلى ما في الوعاء حتى يفض الخاتم ؟ فيقولون : لا . فيقول : إن محمداً صلّى اللّه عليه و سلم قد خصه اليوم و قد غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر . قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فيأتيني الناس فيقولون اشفع لنا إلى ربنا حتى يقضى بيننا فأقول أنا لها حتى يأذن اللّه لمن يشاء و يرضى ، فإذا أراد اللّه أن يقضي بين خلقه نادى مناد أين محمد صلّى اللّه عليه و سلم و أمته ؟ فأقوم و تتبعني أمتي غراً محجلين من أثر الطهور . قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم : فنحن الآخرون الأولون و أول من يحاسب و يفرج لنا في الأمم عن طريقنا و يقولون كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها و ذكر الحديث . و في البخاري عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال : إن الناس يصبرون يوم القيامة جثياً كل أمة تتبع نبيها تقول يا فلان اشفع يا فلان اشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلم فذلك يوم يبعثه اللّه المقام المحمود . و روى الترمذي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في قوله عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً سئل عنها قال : هي الشفاعة . قال : هذا حديث صحيح . فصل : قوله : فيفزع الناس ثلاث فزعات إنما ذلك و اللّه أعلم حين يؤتى بالنار تجر بأزمتها و ذلك قبل العرض و الحساب على الملك الديان ، فإذا نظرت إلى الخلائق فارت و ثارت و شهقت إلى الخلائق و زفرت نحوهم و توثبت عليهم غضباً لغضب ربهم على ما يأتي بيانه في كتاب النار إن شاء اللّه تعالى ، فتتساقط الخلائق حينئذ على ركبهم جثاة حولها قد أسبلوا الدموع من أعينهم و نادى الظالمون بالويل و الثبور . ثم تزفر الثانية فيزداد الرعب و الخوف في القلوب . ثم تزفر الثالثة فتتساقط الخلائق لوجوههم و يشخصون بأبصارهم و هم ينظرون من طرف خفي خوفاً أن تبلغهم أو يأخذهم حريقها . أجارنا اللّه منها . فصل : و اختلف الناس في المقام المحمود على خمسة أقوال : الأول : أنه الشفاعة للناس يوم القيامة كما تقدم . قاله حذبفة بن اليمان و ابن عمر رضي اللّه عنهم . الثاني : إنه أعطاؤه عليه السلام لواء الحمد يوم القيامة قلت : و هذا القول لا تنافي بينه و بين الأول فإنه يكون بيده لواء الحمد و يشفع . و روى الترمذي عن أنس رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم : أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا ، و أنا خطيبهم إذا وفدوا ، و أنا مبشرهم إذا أيسوا ، لواء الحمد بيدي فأنا أكرم ولد آدم على ربي و لا فخر . و في رواية أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا ، و أنا قائدهم إذا وفدوا ، و أنا خطيبهم إذا أنصتوا ، و أنا شفيعهم إذا أيسوا ، و أنا مبشرهم إذا أبلسوا . لواء الكرم بيدي و أنا أكرم ولد آدم على ربي يطوف علي ألف خادم كأنهم لؤلؤ مكنون . الثالث : ما حكاه الطبري عن فرقة منها مجاهد . أنها قالت : المقام المحمود هو أن يجلس اللّه محمداً صلّى اللّه عليه و سلم معه على كرسيه ، و روت في ذلك حديثاً . قلت : و هذا قول مرغوب عنه و إن صح الحديث ، فيتأول على أنه يجلس مع أنبيائه و ملائكته . قال ابن عبد البر في كتاب التمهيد : و مجاهد و إن كان أحد أئمة بتأويل القرآن فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم . أحدهما هذا ، و الثاني في تأويل قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة قال : تنتظر الثواب و ليس من النظر . الرابع : إخراجه طائفة من النار . روى مسلم عن يزيد الفقير قال : كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج ، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد الحج ثم نخرج على الناس فمررنا على المدينة ، فإذا جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه يحدث الناس أو القوم إلى سارية عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال : و إذا هو قد ذكر الجهنميين قال فقلت له يا صاحب رسول اللّه : ما هذا الذي تحدثون و اللّه تعالى يقول ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها فما هذا الذي تقولون ف قال : أتقرأ القرآن ؟ ف قلت : نعم . ف قال : فهل سمعت بمقام محمد صلّى اللّه عليه و سلم يعني الذي بيعثه اللّه عز و جل ؟ قلت : نعم . قال : فإنه مقام محمد صلّى اللّه عليه و سلم الذي يخرج اللّه به من يخرج . و ذكر الحديث . و في البخاري من حديث أنس رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم و فيه : و قد سمعته يقول فأخرج فأخرجهم و أدخلهم الجنة حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود قال : ثم تلا هذه الآية عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً قال هو المقام المحمود الذي وعده نبيكم صلّى اللّه عليه و سلم . الخامس : ما روي أن مقامه المحمود شفاعته رابع أربعة و سيأتي الأوزاعي فصل : إذا أثبت أن المقام المحمود هو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الأنبياء عليهم السلام حتى ينتهي الأمر إلى نبينا محمد صلّى اللّه عليه و سلم ، فيشفع هذه الشفاعة العامة لأهل الموقف مؤمنهم و كافرهم ليراحوا من هول موقفهم ، فاعلم أن العلماء اختلفوا في شفاعاته و كم هي ، فقال النقاش : لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ثلاث شفاعات العامة و شفاعة في السبق إلى الحنة و شفاعة في أهل الكبائر . و قال ابن عطية في تفسيره : و المشهور أنهما شفاعتان فقط العامة و شفاعة في إخراج المذنبين من النار و هذه الشفاعة الثانية لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون و يشفع العلماء . قال القاضي عياض شفاعات نبينا صلّى اللّه عليه و سلم يوم القيامة خمس شفاعات : الأولى : العامة . الثانية : إدخال قوم الجنة بغير حساب . الثالثة : في قوم من أمته استوجبوا النار بذنوبهم فيشفعه فيهم نبينا صلّى اللّه عليه و سلم ، و من شاء أن يشفع و يدخلون الجنة و هذه الشفاعة هي التي أنكرتها المبتدعة الخوارج و المعتزلة ، فمنعتها على أصولهم الفاسدة و هي الاستحقاق العقلي المبني على التحسين و التقبيح . الرابعة : فيمن دخل النار من المذنبين فيخرج بشفاعة نبينا و غيره من الأنبياء و الملائكة و إخوانهم من المؤمنين . قلت : و هذه المشافعة أنكرتها المعتزلة أيضاً و إذا منعوها فيمن استوجب النار بذنبه و إن لم يدخلها فأحرى أن يمنعوها فيمن دخلها . الخامسة: في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها و ترفيعها. قال القاضي عياض : و هذه الشفاعة لا تنكرها المعتزلة و لا تنكر شفاعة الحشر الأول . قلت : و شفاعة سادسة لعمه أبي طالب في التخفيف عنه ، كما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ذكر عنده عمه أبو طالب ف قال : لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه فإن قيل : فقد قال اللّه تعالى : فما تنفعهم شفاعة الشافعين قيل له : لا تنفع في الخروج من النار كعصاة الموحدين الذين يخرجون منها و يدخلون الجنة . فصل : و اختلف العلماء هل وقع من الأنبياء صلوات اللّه عليهم أجمعين بعد النبوة صغائر من الذنوب يؤاخذون بها و يعاتبون عليها و يشفقون على أنفسهم منها أم لا بعد اتفاقهم على أنهم معصومون من الكبائر و من الصغائر التي تزري بفاعلها وتحط منزلته و تسقط مروءته إجماعاً ؟ عند القاضي أبي بكر و عن الأستاذ أبي بكر أن ذلك مقتضى دليل المعجزة و عند المعتزلة أن ذلك مقتضى دليل العقل على أصولهم ، فقال الطبري و غيره من الفقهاء و المتكلمين و المحدثين : تقع الصغائر منهم خلافاً للرافضة حيث قالوا إنهم معصومون من جميع ذلك كله ، و احتجوا بما وقع من ذلك في التنزيل و ثبت من تنصلهم من ذلك في الحديث و هذا ظاهر لا خفاء به . و قال جمهور من الفقهاء من أصحاب مالك و أبي حنيفة و الشافعي : إنهم معصومون من الصغائر كلها كعصمتهم من الكبائر لأنا أمرنا باتياعهم في أفعالهم و آثارهم و سيرهم مطلقاً من غير التزام قرينة ، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء لهم إذ ليس كل فعل من أفعالهم يتميز مقصده من القربة و الإباحة و الحظر أو المعية و لا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية لا سيما على من يرى تقديم الفعل على القول إذا تعارضا من الأصوليين . قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني و اختلفوا في الصغائر و الذي عليه الأكثر أن ذلك غير جائز عليهم و مال بعضهم إلى تجويزها و لا أصل لهذه المقالة . و قال بعض النتأخرين ممن ذهب إلى القول الأول : و الذي ينبغي أن يقال : إن اللّه تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم و نسبها إليهم و عاتبهم عليها و أخبروا بها عن نفوسهم و تنصلوا منها و استغفروا منها و تابوا ، و كل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا تقبل التأويل جملتها ، و إن قبل ذلك آحادها و كل ذلك مما لا يزري بمناصبهم و إنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور و على جهة الخطأ و النسيان أو تأويل دعا إلى ذلك فهي بالنسبة إلىغيرهم حسنات ، و في حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم و علو أقدارهم إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة مع عملهم بالأمن و الأمان والسلامة و هذا هو الحق . و لقد أحسن الجنيد رضي اللّه عنه حيث قال : حسنات الأربار سيئات المقربين ، فهم صلوات صلّى اللّه عليه و سلم عليهم و سلامه و إن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم ، فلم يخل ذلك بمناصبهم و لا قدح في رتبهم ، بل تلافاهم و اجتباهم و هداهم و مدحهم و زكاهم و اصطفاهم صلوات اللّه عليهم و سلامه . |