باب في سؤال الملكين للعبد و في التعوذ من عذاب القبر و عذاب النار البخاري عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم : إن العبد إذا وضع في قبره ، و تولى عنه أصحابه . إنه ليسمع قرع نعالهم أتام ملكان فيقعد أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلّى اللّه عليه و سلم ؟ فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد اللّه و رسوله ، فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك اللّه تعالى به مقعداً من الجنة فيراهما جميعاً . قال قتادة : و ذكر لنا أنه يفسح له في قبره أربعون ذراعاً . و قال مسلم : سبعون ذراعاً . و يملأ عليه خضراً إلى يوم يبعثون ثم رجع إلى حديث أنس قال : وإما المنافق و الكافر فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس . في قال : لا دريت و لا تليت . و يضرب بمطارق من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين . قلت : ليس عند مسلم ، ثم رجع إلى حديث أنس إلى آخره و إنما هو عند البخاري . فحديثه أكمل . و قول الملكين : و لا تليت : قال النحويون : الأصل في هذه الكلمة : الواو . أي و لا تلوت إلا أنها قلبت ياء ليتبع بها دريت . و قد جاء من حديث البراء : [ لا دريت و لا تلوث ] على ما رواه الإمام أحمد بن حنبل : أي لم تدر و لم تتل القرآن . فلم تنتفع بدرايتك و لا تلاوتك . ابن ماجه ، عن أبي هريرة عن النبي قال : إن الميت يصير إلى القبر فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع و لا مشغوف ، ثم يقال له : فيم كنت ؟ فيقول : كنت في الإسلام ! في قال : ما هذا الرجل ؟ فيقول : محمد رسول اللّه ، جاءنا بالبينات من عند اللّه فصدقناه . فيقال له : هل رأيت اللّه ؟ فيقول : لا ، ما ينبغي لأحد أن يرى اللّه ! فيفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً ، فيقال له : انظر إلى ما وقاك اللّه ، ثم يفرج له فرجة قبل الجنة فينظر إلى زهرتها و ما فيها ، فيقال له : هذا مقعدك . و يقال له : على اليقين كنت . و عليه مت . و عليه تبعث إن شاء اللّه تعالى ، و يجلس الرجل السوء في قبره فزعاً مرعوباً فيقال له : فيما كنت ؟ فيقول : لا أدري . فيقال له : ما هذا الرجل ؟ فيقول : سمعت الناس يقولون قولاً فقلته . فيفرج له فرجة قبل الجنة فينظروا إلى زهرتها و ما فيها . فيقال له انظر إلى ما صرفه اللّه عنك ، ثم يفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً ، في قال : هذا مقعدك على الشك كنت . و عليه مت . و عليه تبعث إن شاء اللّه تعالى . الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم : إذا أقبر الميت ـ أو قال أحدكم ـ أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر . و للآخر النكير . فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول ما كان يقول فيه : هو عبد اللّه و رسوله أشهد أن لا إله إلا اللّه و أن محمداً عبده و رسوله ، فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول هذا ، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين ، ثم ينور له فيه ، ثم يقال له : نم . فيقول : أرجع إلى أهلي فأخبرهم ، فيقولان : ثم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه اللّه من مضجعه ذلك . و إن كان منافقاً قال : سمعت الناس يقولون قولاً . فقلت مثله : لا أدري . فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول ذلك فيقال للأرض : التئمي عليه . فتختلق أضلاعه . فلا يزال فيها فيها معذباً حتى يبعثه اللّه من مضجعه ذلك قال حديث حسن غريب . أبو داود عن أنس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم دخلاً نخلاً لبني النجار ، فسمع صوتاً ففزع ، ف قال : من أصحاب هذه القبور ؟ قالوا : يا رسول اللّه ناس ماتوا في الجاهلية ، ف قال : تعوذوا باللّه من عذاب القبر . و من فتنة الدجال قالوا : و مم ذاك يا رسول اللّه ؟ قال : إن المؤمن إذا وضع في قبره أتاه ملك ، فيقول له : ما كنت . تعبد ؟ فإن هداه اللّه . قال : كنت أعتبد اللّه في قال : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول هو عبد اللّه و رسوله . فما يسأل عن شيء غيرها . فينطلق به إلى بيت كان له في النار . فيقال له : هذا بيتك كان في النار ، و لكن عصمك و رحمك فأبدلك بيتاً في الجنة فيقول دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي فيقال له : اسكن . و إن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك فينتهره و يقول : ما كنت تعبد ؟ فيقول : لا أدري كنت أقول كما يقول الناس . فيضرب بمطارق من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها الخلق غير الثقلين . و خرج أبو داود أيضاً عن البراء بن عازب قال : خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في جنازة رجل من الأنصار . فانتهينا إلى القبر و لما يلحد ، فجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و جلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير و في يده عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه ف قال : استعيذوا باللّه من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً ، قال : و إنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين حين يقال له : من ربك ؟ و ما دينك ؟ و من نبيك ؟ قال : و يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : ربي اللّه ، فيقولان : ما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام ، فيقولان : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول اللّه ، فيقولان له : و ما يدريك ؟ قال : قرأت كتاب اللّه فآمنت و صدقت قال : فينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة . و ألبسوه من الجنة . و افتحوا له باباً إلى الجنة قال : فيأتيه من روحها و طيبها قال : و يفسح له مد بصره . قال : و إن الكافر فذكر موته قال : و تعاد روحه في جسده و يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : هاه هاه . لا أدري . فيقولان : ما هذا الرسول الذي بعث فيكم ؟ فيقول هاه هاه . لا أدري . قال : فينادي مناد : أن كذب عبدي . فأفرشوه من النار ، و ألبسوه من النار ، و افتحوا له باباً إلى النار قال : فيأتيه من حرها و سمومها قال : و يضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه زاد في حديث جرير قال : ثم يقيض له أعمى أبكم معه مرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار تراباً قال : فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق و المغرب إلا الثقلين فيصير تراباً ، ثم تعاد فيه الروح . فصل : ذكره أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة : و قد روى عن ابن مسعود رضي اللّه عنه أنه قال يا رسول اللّه : ما أول ما يلقى الميت إذا دخل قبره ؟ قال : يا ابن مسعود ما سألني عنه أحد إلا أنت . فأول ما يناديه ملك اسمه رومان يجوس خلال المقابر فيقول : يا عبد اللّه اكتب عملك . فيقول : ليس معي دواة و لا قرطاس فيقول : هيهات كفنك قرطاسك ، و مدادك ريقك ، و قلمك إصبعك . فيقطع له قطعة من كفنه . ثم يجعل العبد يكتب ، و إن كان غير كاتب في الدنيا . فيذكر حينئذ حسناته و سيئاته كيوم واحد ، ثم يطوى الملك القطعة و يعلقها في عنقه . ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم : قوله تعالى : و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه أي : عمله ، فإذا فرغ من ذلك دخل عليه فتانا القبر ، و هما ملكان أسودان ، يخرقان الأرض بأنيابهما ، لهما شعور مسدولة يجرانها على الأرض ، كلامها كالرعد القاصف ، و أعينهما كالبراق الخاطف ، و نفسهما كالريح العاصف ، بيد كل واحد منهما مقمع من حديد لو اجتمع عليه الثقلان ما رفعاه ، لو ضرب به أعظم جبل لجعله دكاً ، فإذا أبصرتهما النفس ارتعدت ، و ولت هاربة فتدخل في منخر الميت فيحيا الميت من الصدر و يكون كهيأته عند الغرغرة ، و لا يقدر على حراك ، غير أنمه يسمع و ينظر قال : فيقعدانه فيبتدئانه بعنف و ينتهرانه بجفاء و قد صار التراب له كالماء حيثما تحرك انفسح فيه و وجد فرجة فيقولان له : من ربك ؟ و ما دينك ؟ و من نبيك ؟ و ما قبلتك ؟ فمن وفقه اللّه و ثبته بالقول الثابت قال : و من و كلكما علي ؟ و من أرسلكما إلي ؟ و هذا لا يقوله إلا العلماء الأخيار . فيقول أحدهما للآخر : صدق . كفي سرنا ثم يضربان عليه القبر كالقبة العظيمة ، و يفتحان له بابا إلى الجنة من تلقاء يمينه ، ثم يفرشان له من حريرها و ريحانها و يدخل عليه من نسيمها و روحها و ريحانها و يأتيه عمله في صورة أحب الأشخاص إليه ، يؤنسه و يحدثه و يملأ قبره نوراً ، و لا يزال في فرح و سرور ما بقيت الدنيا حتى تقوم الساعة ، و يسأل : متى تقوم الساعة ؟ فليس شيء أحب إليه من قيامها . و دونه في المنزلة المؤمن العامل الخير ليس معه حظ من العلم و لا من أسرار الملكوت يلج عليه عمله عقيب رومان في أحسن صورة طيب الريح ، حسن الثياب ، فيقول له : أما تعرفني ؟ فيقول : من أنت الذي من اللّه علي بك في غربتي ؟ فيقول : أنا عملك الصالح ، فلا تحزن و لا توجل فعما قليل يلج عليك منكر و نكير يسألانك فلا تدهش ، ثم يلقنه حجته فبينما هو كذلك ، إذ دخلا عليه فينتهرانه و يقعدانه مستنداً و يقولان : من ربك ؟ ـ نسق الأول ـ فيقول : اللّه ربي ، و محمد نبيي ، و القرآن إمامي ، و الكعبة قبلتي ، و إبراهيم أبي ، و ملته ملتي ، غير مستعجم ، فيقولان له : صدقت ، و يفعلان به كالأول إلا أنهما يفتحان له باباً إلى النار فينظر إلى حياتها و عقاربها و سلاسلها و أغلالها و حميمها و جميع غمومها و صديدها و زقومها فيفزع فيقولان له : لا عليك سوء . هذا موضعك قد أبدله اللّه تعالى بموضعك هذا من الجنة . نم سعيداً ثم يغلقان عنه باب هذا النار و لم يدر ما مر عليه من الشهور و الأعوام و الدهور . و من الناس من يحجم في مسألته . فإن كانت عقيدته مختلفة امتنع أن يقول : اللّه ربي و أخذ غيرها من الألفاظ فيضربانه ضربة يشتعل منها قبره ناراً ثم تطفأ عنه أياماً . ثم تشتعل عليه أيضاً . هذا دأبه ما بقيت الدنيا . و من الناس من يعتاص عليه و يعسر أن يقول : الإسلام ديني لشك كان يتوهمه ، أو فتنة تقع به عند الموت فيضربانه ضربة واحدة فيشتعل عليه قبره ناراً كالأول ، و من الناس من يعتاص عليه أن يقول : القرآن إمامي . لأنه كان يتلوه و لا يتعظ به . و لا يعمل بأوامره و لا ينتهي بنواهيه يطوف عليه دهره و لا يعطي منه نفسه خيره فيفعل له ما يفعل بالأولين ، و من الناس من يستحيل عمله جرواً يعذب في قبره على قدر جرمه . و في الأخبار : أن في الناس من يستحيل عمله خنوصاً ـ و هو ولد الخنزير ـ و من الناس من يعتاص عليه أن يقول : نبيي محمد لأنه كان ناسياً لسنته ، و من الناس من يعتاص عليه أن يقول : الكعبة قبلتي لقلة تحريه في صلاته ، أو فساده في وضوئه ، أو التفات في صلاته ، أو اختلال في ركوعه و سجوده ، و يكفيك ما روي في فضائلها ، أن اللّه لا يقبل صلاة من عليه صلاة ، و من عليه ثوب حرام ، و من الناس من يعتاص عليه أن يقول : إبراهيم أبي لأن سمع كلاماً يوماً أو همه أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً . فإذا هو شاك مرتاب ، فيفعل به ما يفعل بالآخرين . و قال أبو حامد : و كل هذه الأنواع كشفناها في كتاب الأحياء . وإما الفاجر فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : لا أدري ! فيقولان له : لا دريت و لا عرفت ثم يضربانه بتلك المقامع حتى يتلجلج في الأرض السابعة ، ثم تنقضه الأرض في قبره . ثم يضربانه سبع مرات . ثم تفترق أحوالهم . فمنهم من يستحيل عمله كلباً ينهشه حتى تقوم الساعة ، و هم الخوارج ، و منهم من يستحيل خنزيراً يعذب به في قبره و هم المرتابون ، و هم أنواع و أصله أن الرجل إنما يعذب في قبره بالشيء الذي كان يخافه في الدنيا . فمن الناس من يخاف من الجرو أكثر من الأسد و طبائع الخلق متفرقة نسأل اللّه السلامة و الغفران . قبل الندامة . فصل : جاء في حديث البخاري و مسلم : سؤال الملكين ، و كذلك في حديث الترمذي و نص على اسميهما و نعتها . و جاء في حديث أبي داود : سؤال ملك واحد ، و في حديثه الآخر : سؤال ملكين و لا تعارض في ذلك و الحمد للّه : بل كان ذلك صحيح المعني بالنسبة إلى الأشخاص قرب شخص يأتيانه جميعاً و يسألانه جميعاً في حال واحد عند انصراف الناس ليكون السؤال عليه أهون و الفتنة في حقه أشد و أعظم و ذلك بحسب ما اقترف من الآثام و اجترح من سيء الأعمال و آخر يأتيه قبل انصراف الناس عنه و آخر يأتيه أحدهما على الانفراد فيكون ذلك أخف في السؤال و أقل في المراجعة و العتاب لما عمله من صالح الأعمال . و قد يحتمل حديث أبي داود وجهاً آخر و هو : أن الملكين يأتيان جميعاً و يكون السائل أحدهما ، و إن تشاركا في الإتيان فيكون الراوي اقتصر على الملك السائل و ترك غيره لأنه لم يقل في الحديث أنه لا يأتيه إلى قبره إلا ملك واحد ، و لو قاله هكذا صريحاً لكان الجواب عنه ما قدمناه من أحوال الناس . و اللّه أعلم ، و قد يكون من الناس من يوقى فتنتهما و لا يأتيه أحد منهما على ما يأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى . و اختلفت الأحاديث أيضاً في كيفية السؤال و الجواب . و ذلك بحسب اختلاف أحوال الناس ، فمنهم من يقتصر على سؤاله عن بعض اعتقاداته ، و منهم من يسأل عن كلها فلا تناقص . و وجه آخر هو : أن يكون بعض الرواة اقتصر على بعض السؤال و أتى به غيره على الكمال . فيكون الإنسان مسؤولاً عن الجميع . كما جاء في حديث البراء المذكور و اللّه أعلم . و قول المسؤول : هاه هاه هي حكاية صوت المبهور من تعب أو جري أو حمل ثقيل . |