( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ (١) اللّه الصَّمَدُ (٢)
بتنوين أحَدٍ ، وقرئت بترك التنوين " أَحَدُ اللّه الصَّمَدُ "
وقرئت بإسكان الدال . وحذف التنوين.
أما حذف التنوين ، فلالتقاء السَّاكنين أيضاً ، إلا أنه
سكون (١) السَّاكنين ، فمن أسكن أراد الوقف ثم ابتدأ فقال : (اللّه الصَّمَدُ)
وأما (هُوَ) ، فإنما هو كناية عن ذِكْرِ اللّه عزَّ وجلَّ.
الذي سألتم تبيين نِسْبَته (هُوَ اللّه).
و (أَحَدٌ) مرفوع على معنى هو أحد هو اللّه فهو مبتدأ ويجوز أن يكون
" هو " للأمر كما تقول هو زَيد قَائِمٌ ، أي الأمر زيد قائم.
والمعنى الأمر اللّه أَحَدٌ (٢).
* * *
و (اللّه الصَّمَدُ (٢)
روِيَ في التفسير أن المشركين قالوا للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - انسب لنا ربك ، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (٤).
وتفسير (الصَّمَد) السَيد الذي ينتهي إليه السُّؤدَدُ
قال الشاعر :
__________
(١) بياض بالأصل.
(٢) قال السَّمين :
قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ : في « هو » وجهان ، أحدهما : أنه ضميرٌ عائدٌ على ما يفْهَمُ من السياقِ ، فإنه يُرْوى في الأسباب : أنَّهم قالوا لرسولِ اللّه صلَّى اللّه عليه وسلم : صِفْ لنا ربَّك وانْسُبْه . وقيل : قالوا له : أمِنْ نُحاس هو أم مِنْ حديدٍ؟ فنَزَلَتْ . وحينئذٍ يجوزُ أَنْ يكونَ « اللّه » مبتدأً ، و « أَحَدٌ » خبرُه . والجملةُ خبرُ الأولُ . ويجوزُ أَنْ يكونَ « اللّه » بدلاً ، و « أحدٌ » الخبرَ . ويجوزُ أَنْ يكونَ « اللّه » خبراً أوَّلَ ، و « أحدٌ » خبراً ثانياً . ويجوزُ أَنْ يكونَ « أحدٌ » خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هو أحدٌ . و
الثاني : أنَّه ضميرُ الشأنِ لأنه موضعُ تعظيمٍ ، والجلمةُ بعدَه خبرُه مفسِّرِةٌ.
وهمزةُ « أحد » بدلٌ من واوٍ ، لأنَّه من الوَحْدة ، وإبدالُ الهمزةِ من الواوِ المفتوحةِ . وقيل : منه « امرأةٌ أناة » من الونى وهو الفُتورُ . وتقدَّم الفرقُ بين « أحد » هذا و « أحد » المرادِ به العمومُ ، فإنَّ همزةُ ذاك أصلٌ بنفسِها . ونَقَل أبو البقاءِ أنَّ همزةَ « أحد » هذا غيرُ مقلوبةٍ ، بل أصلٌ بنفسِها كالمرادِ به العمومُ ، والمعروفُ الأولُ . وفَرَّق ثعلب بين « واحد » وبين « أحد » بأنَّ الواحدَ يدخُلُه العَدُّ والجمعُ والاثنان ، و « أحَد » لا يَدْخُلُه ذلك . ويقال : اللّه أحدٌ ، ولا يقال : زيدٌ أحدٌ؛ لأنَّ للّه تعالى هذه الخصوصيةَ ، وزَيْدٌ له حالاتٌ شتى . ورَدَّ عليه الشيخُ : بأنَّه يُقال : أحد وعشرونَ ونحوه فقد دخلَه العددُ « أنتهى . وقال مكي : » إنَّ أَحَدَاً أصلُه وَأَحَد ، فأُبْدِلَتِ الواوُ همزةً فاجتمع ألفان ، لأنَّ الهمزةَ تُشْبه الألفَ ، فحُذِفَتْ إحداهما تخفيفاً «.
وقرأ عبد اللّه وأُبَيُّ اللّه أحدٌ دونَ » قُلْ « وقرأ النبي صلَّى اللّه عليه وسلَّم » أحدٌ « بغيرِ » قل هو « وقرأ الأعمش : » قل هو اللّه الواحد «.
وقرأ العامَّةُ بتنوين » أحدٌ « وهو الأصلُ . وزيد بن علي وأبان ابن عثمان وابن أبي إسحاق والحسن وأبو السَّمَّال وأبو عمروٍ في روايةٍ في عددٍ كثيرٍ بحذف التنوين لالتقاء الساكنين ك
٤٦٧٥ عمرُو الذي هَشَمَ الثَّريدَ لقومِه . . . ورجالُ مكةَ مُسْنِتُون عِجافُ
وقال آخر :
٤٦٧٦ فأَلْفَيْتُه غيرَ مُسْتَعْتِبٍ . . . ولا ذاكرَ اللّه إلاَّ قليلا
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
لَقَدْ بَكَّرَ النَّاعي بِخَيْريْ بَني أَسَدْ . . . بعمرو بن مَسْعودٍ وبالسَّيدِ الصَّمَدْ
وقيل الصمد الذي لا جوف له ، وقيل الصمد الذي صَمَدَ له كل شيءٍ
والذي خلق الأشياء كلها ، لا يستغنى عنه شيء وكلها تدل على وحدانيته وهذه الصفات كلها يجوز أن تكون للّه عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (٤)
فيها أربعة أوجه في القراءة.
(كُفُواً) بضم الكاف والفاء ، وكُفْواً بضم الكاف وسكون الفاء
وكِفْواً " بكسر الكاف وسكون الفاء.
وقد قرئ بها.
وكِفَاء بكسر الكاف.
والكَفْء - بفتح الكاف وسكون الفاء اسم . لم يقرأ بها.
وفيها وجه آخر لا يجوز في القراءة.
ويقال فلان كُفءُ فلان مثل كُفِيّ فلان (١).
جاء في الحديث أن (قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ)
تعدل بثلث القرآن ، و (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) تعدل ربع القرآن.
و (إِذَا زُلْزِلَتِ) تعدل نصف القرآن.
__________
(١) قال السَّمين :
الصمد : فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبَضِ والنَّقَضِ . وهو السَّيِّدُ الذي يُصْمَدُ إليه في الحوائجِ ، أي : يُقْصَدُ ولا يَقْدِرُ على قضائِها إلاَّ هو . وأنشد :
٤٦٧٧ ألا بَكَّرَ النَّاعي بخَيْرِ بني أسدْ . . . بعَمْرِو بن مسعودٍ وبالسَّيِّد الصَّمَدْ
وقال الآخر :
٤٦٧٨ عَلَوْتُه بحُسامٍ ثم قُلْتُ له . . . خُذْها حُذَيْفُ فأنتَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ
وقيل : الصَّمَدُ : هو الذي لا جَوْفَ له ، ومنه
٤٦٧٩ شِهابُ حُروبٍ لا تَزال جيادُه . . . عوابِسَ يَعْلُكْنَ الشَّكِيْمَ المُصَمَّدا
وقال ابن كعب : تفسيرُه ما بعده مِنْ « لم يَلِدْ ولم يُوْلَدُ » وهذا يُشْبِهُ ما قالوه في تفسير الهَلوع . والأحسنُ في هذه الجملة أَنْ تكون مستقلةً بفائدةِ هذا الخبرِ . ويجوز أنْ يكونَ « الصَّمَدُ » صفةً . والخبرُ في الجملةِ بعده ، كذا قيل : وهو ضعيفٌ ، من حيث السِّياقُ ، فإنَّ السِّياقَ يَقْتضي الاستقلالَ بأخبارِ كلِّ جملةٍ.
كُفُواً أَحَدٌ : في نصبِه وجهان ، أحدُهما : أنه خبرُ « يكنْ » و « أحدٌ » اسمُها و « له » متعلِّقٌ بالخبر ، اي : ولم يكُنْ أحدٌ كُفُواً له . وقد رَدَّ المبردُ على سيبويهِ بهذه الآيةِ ، من حيث إنه يزعمُ أنه إذا تَقَدَّم الظرفُ كان هو الخبرَ ، وهنا لم يَجْعَلْه خبراً مع تقدُّمِه.
وقد رُدَّ على المبردِ بوجهَيْن ، أحدُهما : أنَّ سيبويهِ لم يُحَتِّمْ ذلك بل جَوَّزه . و
الثاني : أنَّا لا نُسَلِّم أن الظرفَ هنا ليس بخبرٍ بل هو خبرٌ ، ونصبُ « كُفُواً » على الحال على ما سيأتي بيانُه . وقال الزمخشري : « الكلامُ العربيُّ الفصيحُ أَنْ يؤخَّرَ الظرفُ الذي هو لَغْوٌ غيرُ مستقِرِّ ولا يُقَدَّمَ . وقد نَصَّ سيبويه في » كتابِه « على ذلك ، فما بالُه مُقَدَّماً في أَفْصَحِ كلامٍ وأَعْرَبِه؟ قلت : هذا الكلامُ إنما سِيْقَ لنَفْيِ المكافأةِ عن ذاتِ الباري تعالى ، وهذا مَصَبُّه ومَرْكَزُه هو هذا الظرفُ ، فكان لذلك أهمَّ شيءٍ وأَعْناه وأحقَّه بالتقديمِ وأَحْراه ».
و
الثاني : أَنْ يُنْصَبَ على الحال مِنْ « أحد » لأنَّه كان صفتَه فلمَّا تقدَّم عليه نُصِب حالاً ، و « له » هو الخبر . قاله مكي وأبو البقاء وغيرُهما . ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الضمير المستكِنِّ في الجارِّ لوقوعِه خبراً . قال الشيخ بعد أَنْ حكى كلامَ الزمخشري ومكي : « وهذه الجملةُ ليسَتْ من هذا البابِ وذلك أنَّ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ليس الجارُّ والمجرورُ فيه تامَّاً ، إنما ناقصٌ لا يَصْلُحُ أَنْ يكونَ خبراً ل » كان « بل هو متعلِّقٌ ب » كُفُواً « وقُدِّمَ عليه . التقدير : ولم يكنْ أحدٌ مكافِئاً له ، فهو في معنى المفعولِ متعلِّقٌ ب » كُفُواً « وتَقَدَّم على » كُفُواً « للاهتمامِ به ، إذ فيه ضميرُ الباري تعالى ، وتوسَّطَ الخبرُ وإنْ كان الأصلُ التأخيرَ؛ لأنَّ تأخيرَ الاسمِ هو فاصلةٌ فحَسُنَ ذلك.
وعلى هذا الذي قَرَّرْناه يَبْطُل إعرابُ مكي وغيرِه أنَّ » له « الخبرُ ، و » كُفُواً « حالٌ مِنْ » أحد « لأنه ظرفٌ ناقصٌ لا يَصْلُح أَنْ يكونَ خبراً . وبذلك يَبْطُل سؤالُ الزمخشريِّ وجوابُه . وسيبويه إنما تكلَّم في الظرفِ الذي يَصْلُحُ أَنْ يكونَ خبراً وأنْ لا يكون . قال سيبويه : » وتقول : ما كان فيها أحدٌ خيرٌ منك ، وما كان [ أحدٌ ] مثلُك فيها ، وليس أحدٌ فيها خيرٌ منك ، إذا جعلت « فيها » : مستقراً ، ولم تجعَلْه على قولك : فيها زيدٌ قائمٌ أَجْرَيْتَ الصفةَ على الاسم . فإن جَعَلْتَه على « فيها زيدٌ قائمٌ » نَصَبْتَ فتقول : ما كان فيها أحدٌ خيراً منك ، وما كان أحدٌ خيراً منك فيها ، إلاَّ أنَّكَ إذا أرَدْتَ الإِلْغاءَ فلكما أَخَّرْتَ المُلْغَى فهو أَحْسَنُ ، وإذا أرَدْتَ أَنْ يكونَ مستقرَّاً فكلما قَدَّمْته كان أحسنَ ، والتقديمُ والتأخيرُ والإِلغاءُ والاستقرارُ عربيٌُّ جيدٌ كثيرٌ قال تعالى : وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ وقال الشاعر :
٤٦٨٠ ما دامَ فيهِنَّ فَصِيْلٌ حَيَّاً . . . انتهى كلامُ سيبويه . قال الشيخ : « فأنت ترى كلامَه وتمثيلَه بالظرف الذي يَصْلُح أَنْ يكونَ خبراً . ومعنى قولِه » مستقرَّاً « أي : خبراً للمبتدأ لكان . فإن قلتَ : فقد مَثَّل بالآية . قلت : هذا أوقَع مكيَّاً والزمخشريَّ وغيرَهما فيما وقعوا فيه ، وإنما أراد سيبويه أنَّ الظرفَ التامَّ وهو في
ما دامَ فيهِنَّ فَصِيلٌ حَيَّاً . . . أُجْري فَضْلةً لا خبراً كما أنَّ » له « في الآية أُجْرِي فَضْلَةً فجعلَ الظرفَ القابلَ أن يكونَ خبراً كالظرفِ الناقصِ في كونِه لم يُستعمل خبراً . ولا يَشُكُّ مَنْ له ذِهْنٌ صحيحٌ أنه لا ينعقدُ كلامٌ مِنْ » له أحد « بل لو تأخَّرَ » كُفُو « وارتفع على الصفةِ وقد جَعَل » له « خبراً لم ينعقِدْ منه كلامٌ . بل أنت ترى أنَّ النفيَ لم يتسلَّطْ إلاَّ على الخبرِ الذي هو » كُفُواً « والمعنى : لم يكنْ أحدٌ مكافِئَه » انتهى ما قاله الشيخ.
و « ولا يَشُكُّ أحدٌ » إلى آخره تَهْوِيلٌ على الناظرِ . وإلاَّ ف « هذا الظرفُ ناقصٌ » ممنوعٌ؛ لأنَّ الظرفَ الناقصَ عبارةٌ عَمَّا لم يكُنْ في الإِخبارِ به فائدةٌ ، كالمقطوعِ عن الإِضافة ، ونحوِ « في دارٍ رجلٌ » وقد نَقَلَ عن سيبويه الأمثلَةَ المتقدمةَ نحو : « ما كان فيها أحدٌ خيراً منك » ، وما الفرق بين هذا وبين الآيةِ الكريمة؟ وكيف يقول هذا وقد قال سيبويهِ في آخرِ كلامهِ : « والتقديمُ والتأخيرُ والإِلغاء والاستقرارُ عربيٌّ جيدٌ كثيرٌ »؟
وقرأ العامَّةُ بضمِّ الكافِ والفاء . وسَهَّل الهمزةَ الأعرجُ وشيبةُ ونافعٌ في روايةٍ . وأسكنَ الفاءَ حمزةُ ، وأبدل الهمزةَ واواً وقفاً خاصة . وأبدلها حفصٌ واواً مطلقاً . والباقون بالهمزِ مطلقاً . وقد تقدَّم الكلامُ على هذا في أوائِل البقرةِ في هُزُواً [ البقرة : ٦٧ ].
وقرأ سليمان بن علي بن عبد اللّه بن عباس « كِفاءٌ » بالكسر والمدِّ ، أي : لا مِثْلَ له . وأُنْشِدَ للنابغة :
٤٦٨١ لا تَقْذِفَنِّي برُكْنٍ لا كِفاءَ له . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ونافعٌ في رواية « كِفا » بالكسر وفتح الفاء مِنْ غير مَدّ ، كأنه نَقَلَ حركةَ الهمزةِ وحَذَفَها . والكُفْءُ : النظيرُ . وهذا كفْءٌ لك ، أي : نظيرُكَ والاسم الكَفاءة بالفتح.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).