سُورَةُ تَبَّتْ مَكِّيَّةٌ

وَهِيَ خَمْسُ آياَتٍ

( مَكِّيَّة )

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله عزَّ وجلَّ : (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١)

معناه خسرت يدا أبي لهب ، وتب : أي خسر.

وجاء في التفسير أن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - دعا عمومته وقدم إليهم صحفة فيها طعام فقالوا : أحدنا وحده يأكل الشاة وإنما قدم إلينا هذه الصحفة ، فأكلوا منها جميعاً ولم ينقص منها إلا الشيء اليسير ، فقالوا : مالنا عندك إن اتبعناك ، قال : لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم ، وإنما تتفاضلون في الدين ، فقال أبو لهب : تبًّا لك ألهذا دعوتنا !؟

فأنزل اللّه عز وجل : (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)

* * *

٢

و مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (٢)

المفسرون قالوا : ما كسب هاهنا ولده.

موضع (ما) رفع ،  مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وكسبه.

* * *

٣

(سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (٣)

أي : وولده سيصلى ناراً ذات لهب.

ويقرأ : (سَيُصْلَى نَارًا).

* * *

٤

(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤)

(حَمَّالَةُ الْحَطَبِ)

ويقرأ (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) - بالنصب - وامرأته رفع من وجهين :

أحدهما العطف على ما في " سَيُصْلَى " ،  سيصلى هو وامرأته ويكون (حَمَّالَةُ الْحَطَبِ) نعتا لها.

ومن نصب فعلى الذم ، والمعنى : أعني (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ).

ويجوز رفع (وَامْرَأَتُهُ) على الابتداء ، و (حَمَّالَةُ) من نعتها ، ويكون الخبر :

(فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ).

خبر الابتداء.

__________

(١) قال السَّمين :

  تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ  : أي : خَسِرَتْ ، وتقدَّم تفسيرُ هذه المادةِ في سورة غافر في   إِلاَّ فِي تَبَابٍ  [ غافر : ٣٧ ] ، وأسند الفعلَ إلى اليدَيْنِ مجازاً لأنَّ أكثرَ الأفعالِ تُزاوَلُ بهما ، وإنْ كانَ المرادُ جملةَ المَدْعُوِّ عليه . و « تَبَّتْ » دعاءٌ ، و « تَبَّ » إخبارٌ ، أي : قد وقع ما دُعِيَ به عليه . كقول الشاعر :

٤٦٦٨ جَزاني جَزاه اللّه شرَّ جَزائِه . . . جزاءَ الكِلابِ العاوياتِ وقد فَعَلْ

ويؤيِّده قراءةُ عبد اللّه « وقد تَبَّ » والظاهرُ أنَّ كليهما دعاءٌ ، ويكونُ في هذا شَبَهٌ مِنْ مجيءِ العامِّ بعد الخاصِّ؛ لأنَّ اليَدَيْن بعضٌ ، وإن كان حقيقةُ اليدَيْن غيرَ مرادٍ ، وإنما عَبَّر باليدَيْنِ؛ لأن الأعمال غالِباً تُزاوَلُ بهما.

وقرأ العامة « لَهَبٍ » بفتح الهاء . وابنُ كثيرٍ بإسكانِها . فقيل : لغتان بمعنىً ، نحو النَّهْر والنَّهَر ، والشَّعْر والشَّعَر ، والنَّفَر والنَّفْر ، والضَّجَر والضَّجْر . وقال الزمخشري : « وهو مِنْ تغييرِ الأعلامِ ك » شُمْس ابن مالك « بالضم ، يعني أنَّ الأصلَ شَمْسِ بفتح الشين فَغُيِّرَتْ إلى الضَمِّ ، ويُشير بذلك لقولِ الشاعر :

٤٦٦٩ وإنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقاصِدٌ بِهِ . . . لابنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بنِ مالكِ

وجَوَّزَ الشيخُ في » شُمْس « أَنْ يكونَ منقولاً مِنْ » شُمْس « الجمع مِنْ  » أذنابُ خيلٍ شُمْسٍ « فلا يكونُ من التغيير في شيءٍ . وكنى بذلك : إمَّا لالتهابِ وجنَتَيْه ، وكان مُشْرِقَ الوجهِ أحمرَه ، وإمَّا لِما يَؤُول إليه مِنْ لَهَبِ جنهمَ ، كقولِهم : أبو الخيرِ وأبو الشَّرِّ لصُدورِهما منه . وإمَّا لأنَّ الكُنيةَ أغلبُ من الاسم ،  لأنَّها أَنْقصُ منه ، ولذلك ذكرَ الأنبياءَ بأسمائِهم دون كُناهم ،  لُقْبحْ اسمِه ، فإنَّ اسمَهِ » عبد العزى « فعَدَلَ إلى الكُنْية ، وقال الزمخشري : » فإنْ قلتَ : لِمَ كَناه والكُنيةُ تَكْرُمَةٌ؟ ثم ذكَرَ ثلاثةَ أجوبةٍ : إمَّا لشُهْرَتِه بكُنْيته ، وإمَّا لقُبْحِ اسمِه كما تقدَّم ، وإمَّا لأنَّ مآلَه إلى لهبِ جهنمِ « . انتهى . وهذا يقتضي أنَّ الكنيةَ أشرفُ وأكملُ لا أنقصُ ، وهو عكسُ قولٍ تقدَّمَ آنفاً.

وقُرئ : » يدا أبو لَهَبٍ « بالواوِ في مكانِ الجرِّ . قال الزمخشري : » كما قيل : عليُّ بن أبو طالب ، ومعاويةُ بنُ أبو سفيان ، لئلا يتغيَّرَ منه شيءٌ فيُشْكِلَ على السامعِ ول فَلِيْتَةَ بنِ قاسمٍ أميرِ مكة ابنان ، أحدُهما : عبدِ اللّه بالجرِّ ، والآخرُ عبدَ اللّه بالنصب « ولم يَختلف القُرَّاءُ في   ذاتَ لَهَب  أنها بالفتح . والفرقُ أنها فاصلةٌ فلو سَكَنَتْ زال التَّشاكلُ.

  مَآ أغنى  : يجوزُ في « ما » النفيُ والاستفهامُ ، وعلى الثاني تكون منصوبةَ المحلِّ بما بعدَها التقدير : أيُّ شيء أغنى المالُ؟ وقُدِّم لكونِه له صَدْرُ الكلامِ.

  وَمَا كَسَبَ  يجوز في « ما » هذه أَنْ تكونَ بمعنى الذي ، فالعائد محذوفٌ ، وأَنْ تكونَ مصدريةً ، أي : وكَسْبُه ، وأَنْ تكونَ استفهاميةً يعني : وأيَّ شيءٍ كَسَبَ؟ أي : لم يَكْسَبْ شيئاً ، قاله الشيخُ ، فجعل الاستفهامَ بمعنى النفيِ ، فعلى هذا يجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً ، ويكونَ  على ما ذَكَرَ ، وهو غيرُ ظاهرٍ وقرأ عبد اللّه : « وما اكْتَسَبَ ».

  سيصلى  العامَّةُ على فتحِ الياءِ وإسكانِ الصادِ وتخفيفِ اللامِ ، أي : يصلى هو بنفسِه . وأبو حيوةَ وابنُ مقسمٍ وعباسٌ في اختيارِه بالضمِّ والفتحِ والتشديدِ . والحسن وأبن أبي إسحاق بالضمِّ والسكون.

اهـ (الدُّرُّ المصُون).

وجاء في التفسير.

(حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) أنها أم جميل وأنها كانت تمشي بالنميمة

قال الشاعر :

مِن البِيضِ لم تُصْطَدْ على ظَهْرِ لأْمَةٍ . . . ولم تَمْشِ بينَ الحَيِّ بالحَطَبِ الرَّطْبِ

أي بالنميمة.

وقيل إنها كانت تحمل الشوك ، شوك العضاة فتطرحه في طريق النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وأصحابه.

* * *

٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥)

الجَيِّد العنق.

وقيل في التفسير : (حبل مِنْ مَسَدٍ). سلسلة طولها سَبْعُونَ ذراعاً.

يعنى أنها تسلك في السلسلة سبعون ذراعاً.

والمسد في لغة العرب الحبل إذا كان من ليفِ المُقْلِ ، وقد يقال لما كان من أدبار الإبل من الحبال مَسَدٌ.

قال الشاعِرُ :

وَمَسَدٍ أُمِرَّ مِنْ أَيَانُقِ (١).

__________

(١) قال السَّمين :

  وامرأته حَمَّالَةَ الحطب  : قراءةُ العامَّةِ بالرفع على أنهما جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ سِيْقَتْ للإِخبار بذلك . وقيل : « وامرأتُه » عطفٌ على الضميرِ في « سَيَصْلى » ، سَوَّغَه الفصلُ بالمفعولِ . و « حَمَّالةُ الحطبِ » على هذا فيه أوجهٌ : كونُها نعتاً ل « امرأتهُ » . وجاز ذلك لأن الإِضافةَ حقيقيةٌ؛ إذا المرادُ المضيُّ ،  كونُها بياناً  كونُها بدلاً لأنها قريبٌ مِنْ الجوامدِ لِتَمَحُّضِ إضافتِها ،  كونُها خبراً لمبتدأ مضمرٍ ، أي : هي حَمَّالةُ . وقرأ ابنُ عباس « ومُرَيَّتُهُ » و « مْرَيْئَتُهُ » على التصغير ، إلاَّ أنَّه أقَرَّ الهمزةَ تارةً وأبدلَها ياءً ، وأدغم فيها أخرى.

وقرأ العامةُ  حَمَّالَةُ  بالرفع . وعاصمٌ بالنصبِ فقيل : على الشَّتْم ، وقد أتى بجميلٍ مَنْ سَبَّ أمَّ جميل . قاله الزمخشري ، وكانت تُكْنَى بأمِّ جميل . وقيل : نصبٌ على الحالِ مِنْ « أمرأتُه » إذا جَعَلْناها مرفوعةً بالعطفِ على الضَّميرِ . ويَضْعُفُ جَعْلُها حالاً عند الجمهور من الضميرِ في الجارِّ بعدها إذا جَعَلْناه خبراً ل « امرأتُه » لتقدُّمها على العاملِ المعنويِّ . واستشكل بعضُهم الحاليةَ لِما تقدَّم من أنَّ المرادَ به المُضِيُّ ، فيتعرَّفُ بالإِضافةِ ، فكيف يكونُ حالاً عند الجمهور؟ ثم أجابَ بأنَّ المرادَ الاستقبالُ لأنَّه وَرَدَ في التفسير : أنها تحملُ يومَ القيامةِ حُزْمَةً مِنْ حَطَبِ النار ، كما كانت تحملُ الحطبَ في الدنيا.

وفي   حَمَّالَةَ الحطب  قولان . أحدُهما : هو حقيقةُ . و

الثاني : أنه مجازٌ عن المَشْيِِ بالنميمةِ ورَمْيِ الفِتَنِ بين الناس . قال الشاعر :

٤٦٧٠ إنَّ بني الأَدْرَمِ حَمَّالو الحَطَبْ . . . هُمُ الوشاةُ في الرِّضا وفي الغضبْ

وقال آخر :

٤٦٧١ مِنْ البِيْضِ لم تُصْطَدْ على ظَهْرِ لأْمَةٍ . . . ولم تَمْشِ بين الحَيِِّ بالحطبِ الرَّطْبِ

جَعَلَه رَطْباً تنبيهاً على تَدْخينه ، وهو قريبٌ مِنْ ترشيحِ المجازِ . وقرأ أبو قلابة  حاملةَ الحطبِ  على وزن فاعِلَة . وهي محتملةُ لقراةِ العامَّةِ . وعباس « حَمَّالة للحطَبِ » بالتنوين وجَرِّ المفعولِ بلامٍ زائدةٍ تقويةً للعاملِ ، كقولِه تعالى فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ  [ هود : ١٠٧ ] وأبو عمروٍ في روايةٍ « وامرأتُه » باختلاسِ الهاءِ دونَ إشباعٍ.

  فِي جِيدِهَا حَبْلٌ  : يجوزُ أَنْ يكونَ « في جيدِها » خبراً ل « امرأتُه » و « حبلٌ » فاعلٌ به ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ « امرأتُه » على كونِها فاعلة . و « حبلٌ » مرفوعٌ به أيضاً ، وأَنْ يكونَ خبراً مقدَّماً . و « حَبْلٌ » مبتدأٌ مؤخرٌ . والجملةُ حاليةٌ  خبر ثانٍ ، والجِيْدُ : العُنُق ، ويُجْمع على أجيادُ . قال امرؤ القيس :

٤٦٧٢ وجِيْدٍ كجِيْدِ الرِّئْمِ ليس بفاحِشٍ . . . إذا هي نَصَّتْهُ ولا بمُعْطَّلِ

و  مِّن مَّسَدٍ  صفةٌ ل « حَبْل » والمَسَدُ : لِيْفُ المُقْلِ : وقيل : اللِّيفُ مطلقاً . وقيل : هو لِحاءُ شَجَرٍ باليمن . قال النابغة :

٤٦٧٣ مَقْذُوْفَةٌ بِدَخِيْسِ النَّحْضِ بَازِلُها . . . له صريفٌ صَريفُ القَعْوِ بالمَسَدِ

وقد يكونُ مِنْ جلود الإِبل وأَوْبارِها . وأنشد :

٤٦٤٧ ومَسَدٍ أُمِرَّ مِنْ أَيانِقِ . . . ويقال : رجلٌ مَمْسود الخَلْق ، أي : شديدُه.

اهـ (الدُّرُّ المصُون).