سُورَةُ قُرَيْشٍ مَكِّيَّةٌ

وَهِيَ أَرْبَعُ آياَتٍ

( مَكِّيَّة )

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله عزَّ وجلَّ : (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١)

فيه ثلاثة أوجه : (لإِلافِ قُرَيْشٍ) ، و (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ) ، ووجه ثالث " لِإِلْفِ

قُرَيْش).

وقد قرئ بالوجهين الأولين (١).

* * *

٢

و (إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (٢)

يجوز فيه ما جاز في " لِايلَافِ " إلا أَنه قد قرئ في هذها إلْفِهِمْ "

و " إيلافهم " ويجوز إلَافِهم . وهذه اللام قال النحويون فيها ثلاثة أوجه ، قيل هي موصولة بما قبلها ،  فجعلهم كعصف مأكول لإلف قريش.

أي أهلك اللّه أصحاب الفيل لتبقى قريش وما قَد ألفُوا من رحلة الشتاء والصيف.

وقال قوم : هذه لام التعجب فكان  اعجبوا لإيلاف قريش.

وقال النحويون الذين ترتضى عربيتهم : هذه اللام معناها متصل بما بعد

فليعبدوا ، والمعنى فليعبد هؤلاء ربَّ هذا البيت لِإِلْفِهِمْ رحلة الشتاء

والصيف.

والتأويل أن قريشاً كانوا يرحلون في الشتاء إلى الشام وفي الصيف إلى

__________

(١) قال السَّمين :

  لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ  : في متعلَّقِ هذه اللامِ ، أوجهٌ ، أحدُها : أنه ما في السورةِ قبلَها مِنْ قولِه  فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ  [ قريش : ٥ ] . قال الزمخشري : « وهذا بمنزلةِ التَّضْمينِ في الشِّعْرِ » وهو أَنْ يتعلَّقَ معنى البيتِ بالذي قبلَه تَعَلُّقاً لا يَصِحُ إلا‍َّ به ، وهما في مصحفِ أُبَي سورةٌ واحدٍ بلا فَصْلٍ . وعن عُمَرَ أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب وفي الأولى بسورةِ « والتين » انتهى . وإلى هذا ذهبَ أبو الحسنِ الأخفشُ إلاَّ أنَّ الحوفيَّ قال : « ورَدَّ هذا القولَ جماعةٌ : بأنَّه لو كان كذا لكان » لإِيلافِ « بعضَ سورةِ » ألم تَرَ « وفي إجماعِ الجميعِ على الفَصْلِ بينهما ما يدلُّ على عَدَمِ ذلك »

الثاني : أنَّه مضمرٌ تقديرُه : فَعَلْنا ذلك ، أي : إهلاكَ أصحابِ الفيل لإِيلافِ قريش . وقيل : تقديرُه اعْجَبوا . الثالث : أنه قولُه « فَلْيَعْبُدوا ».

وإنما دَخَلَتْ الفاءُ لِما في الكلامِ مِنْ معنى الشرطِ ، أي : فإنْ لم يَعْبُدوه لسائرِ نِعَمِه فَلْيَعْبدوه لإِيلافِهم فإنَّها أَظْهَرُ نعمِهِ عليهم ، قاله الزمخشري وهو قولُ الخليلِ قبلَه.

وقرأ ابن عامر « لإِلافِ » دونَ ياءٍ قبل اللامِ الثانيةِ ، والباقون « لإِيلافِ » بياءٍ قبلَها ، وأَجْمَعَ الكلُّ على إثبات الياءِ في الثاني ، وهو « إيلافِهِمْ » ومِنْ غريبِ ما اتَّفَق في هذَيْن الحرفَيْنِ أنَّ القرَّاءَ اختلفوا في سقوطِ الياءِ وثبوتِها في الأولِ ، مع اتفاقِ المصاحفِ على إثباتِها خَطَّاً ، واتفقوا على إثباتِ الياءِ في الثاني مع اتفاقِ المصاحفِ على سقوطِها فيه خَطَّاً ، فهو أَدَلُّ دليلٍ على أنَّ القُرَّاءَ مُتَّبِعون الأثَر والروايةَ لا مجرَّدَ الخطِّ.

فأمَّا قراءةُ ابنِ عامرٍ ففيها وجهان ، أحدُهما : أنه مصدرٌ ل أَلِف ثلاثياً يُقال : أَلِفْتُه إلافاً ، نحو : كتبتُه كِتاباً ، يُقال : أَلِفْتُه إلْفاً وإلافاً . وقد جَمَعَ الشاعرُ بينَهما في

٤٦٤٧ زَعَمْتُمْ أنَّ إخْوَتَكُمْ قُرَيْشٌ . . . لهم إلْفٌ وليس لكُمْ إلافُ

و

الثاني : أنَّه مصدرُ آلَفَ رباعياً نحو : قاتَلَ قِتالاً . وقال الزمخشري : « أي : لمُؤالَفَةِ قريشٍ ».

وأمَّا قراءةُ الباقين فمصدرُ آلَفَ رباعياً بزنةِ أَكْرَم يقال : آلَفْتُه أُوْلِفُه إيْلافاً . قال الشاعر :

٤٦٤٨ مِنَ المُؤْلِفاتِ الرَّمْلِ أَدْماءُ حُرَّةٍ . . . شعاعُ الضُّحى في مَتْنِها يَتَوضَّحُ

وقرأ عاصمٌ في روايةٍ « إإْلافِهم » بمهزتين : الأولى مسكورةٌ والثانية ساكنةٌ ، وهي شاذَّةٌ ، لأنه يجب في مثلِه إبدالُ الثانية حرفاً مجانساً كإِيمان . ورُويَ عنه أيضاً بِهَمْزَتين مَكْسورَتَيِن بعدهما ياءٌ ساكنةٌ . وخُرِّجَتْ على أنه أَشْبَعَ كسرةً الهمزةِ الثانية فتولَّد منها ياءٌ ، وهذه أَشَذُ مِنْ الأولى ونَقَلَ أبو البقاء أشَذَّ منها فقال : « بهمزةٍ مكسورةٍ بعدها ياءٌ ساكنةٌ ، بعدها همزةٌ مسكورةٌ ، وهو بعيدٌ . ووَجْهُها أنه أشبعَ الكسرةَ فنشَأَتْ الياءُ ، وقَصَد بذلك الفصلَ بين الهمزتَيْن كالألفِ في  أَأَنذَرْتَهُمْ  [ البقرة : ٦ ].

وقرأ أبو جعفر « لإِلْفِ قُرَيْشٍ » بزنة قِرْد . وقد تقدَم أنه مصدرٌ لأَلِفَ ك

٤٦٤٩ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . لهم إلْفٌ وليس لكم إلافُ

وعنه أيضاً وعن ابن كثير « إلْفِهم » وعنه أيضاً وعن ابن عامر « إلا فِهِمْ » مثل : كِتابهم . وعنه أيضاً « لِيْلافِ » بياءٍ ساكنةٍ بعد اللامِ؛ وذلك أنه لَمَّا أبدل الثانيةَ حَذَفَ الأولى على غير قياسٍ . وقرأ عكرمةُ « لِتَأْلَفْ قُرَيْش » فعلاً مضارعاً وعنه « لِيَأْلَفْ على الأمر ، واللامُ مكسورةٌ ، وعنه فَتْحُها مع الأمرِ وهي لُغَيَّةٌ.

وقُرَيْش اسمٌ لقبيلةٍ . قيل : هم وَلَدُ النَّضْرِ بنِ كِنانَةَ ، وكلُّ مَنْ وَلَدُه النَّضْرُ فهو قُرَشِيٌّ دونَ كِنانةَ ، وهو الصحيحُ وقيل : هم وَلَدُ فِهْرِ بن مالك ابن النَّضْر بنِ كِنانةَ . فَمَنْ لم يَلِدْه فِهْرٌ فليس بقُرَشيٍّ ، فوقع الوِفاقُ على أنَّ بني فِهْرٍ قرشيُّون . وعلى أنًَّ كنانةَ ليسوا بقرشيين . ووقع الخلافُ في النَّضْر ومالكٍ.

واخْتُلِفَ في اشتقاقِه على أوجه ، أحدها : أنه من التَّقَرُّشِ وهو التجمُّعُ سُمُّوا بذلك لاجتماعِهم بعد افتراقِهم . قال الشاعر :

٤٦٥٠ أبونا قُصَيُّ كان يدعى مُجَمِّعاً . . . به جَمَّعَ اللّه القبائلَ مِنْ فِهْرِ

و

الثاني : أنه من القَرْشِ وهو الكَسْبُ . وكانت قريشٌ تُجَّاراً . يقال : قَرَشَ يَقْرِشُ أي : اكتسب . والثالث : أنه مِنْ التفتيش . يقال قَرَّشَ يُقَرِّشُ عني ، أي : فَتَّش . وكانت قريشٌ يُفَتِّشون على ذوي الخُلاَّنِ ليَسُدُّوا خُلَّتَهم . قال الشاعر :

٤٦٥١ أيُّها الشامِتُ المُقَرِّشُ عنا . . . عند عمروٍ فهَلْ له إبْقاءُ

وقد سأل معاويةُ ابنَ عباس . فقال : سُمِّيَتْ بدابةٍ في البحرِ يقال لها : القِرْش ، تأكلُ ولا تُؤكَل ، وتَعْلو ولا تعلى وأنشد قولَ تُبَّعٍ :

٤٦٥٢ وَقُرَيْشٌ هي التي تَسْكُنُ البَحْ . . . رَ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا

تأكلُ الغَثَّ والسَّمينَ ولا تَتْ . . . رُكُ فيها لذي جناحَيْنِ رِيشا

هكذا في البلادِ حَيُّ قُرَيْشٍ . . . يأكلونَ البلادَ أكْلاً كَميشا

ولهم آخِرَ الزمان نَبيٌّ . . . يُكْثِرُ القَتْلَ فيهمُ والخُموشا

ثم قريشٌ : إمَّا أَنْ يكونَ مصغراً مِنْ مزيدٍ على الثلاثةِ ، فيكونَ تصغيرُه تصغيرَ ترخيمٍ . فقيل : الأصلُ : مُقْرِش . وقيل : قارِش ، وإمَّا أَنْ يكونَ مُصَغَّراً مِنْ ثلاثيٍّ نحوَ القَرْشِ . وأجمعوا على صَرْفِه هنا مُراداً به الحيُّ ولو أُريد به القبيلةُ لا متنعَتْ مِنْ الصرفِ كقولِ الشاعر :

٤٦٥٣- غَلَبَ المَساميحَ الوليدُ سَماحةً . . . وكفى قُرَيْشَ المُعْضِلاتِ وسادَها

قال سيبويه في مَعَدّ وقُرَيْش وثَقِيْف وكِنانةَ : » هذه للأحياءِ « وإنْ جعلَتها اسماً للقبائلِ فهو جائزٌ حَسَنٌ ».

اهـ (الدُّرُّ المصُون).

اليمن فيمتارون ، وكانوا في الرحلتين آمنين والناس يتخطفون ، وكانوا إذا

عرض لهم عارض قالوا نحن أهل حرم اللّه فلا يتعرض لهم.

فأعلم اللّه سبحانه أن من الدلالة على وحدانيته ما فعل بهؤلاء لأنهم ببلد لا زرع فيه وأنهم فيه آمنون.

قال اللّه - جل ثناؤه - (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللّه يَكْفُرُونَ (٦٧).

أي يؤمنون بالأصنام ويكفرون باللّه - عزَّ وجلَّ - الذي أنعم عليهم بهذه النِّعْمَةِ ، فأمرهم بعبادته وحده لأِنْ آلَفَهُم هاتين الرحلتين.

* * *

٤

(الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤)

وكانوا قد أصابتهم شدة حتى أكلوا الميتة والجيف.

(وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ).

آمنهم من أن يخافوا في الحرم ، ومِن أَنْ يخافوا في رحلتهم يقال :

أَلِفْت المكان آلفه إلفاً ، وآلفت المكان بمعنى ألفت ، أولفهُ إيلافاً .