(مَدَنية) وقيل الصحيح ( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١)
(المشركين) في موضع جر عطف على أهل الكتاب ، لم يكن
الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين.
و (مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ).
أي لم يكونوا منفكين من كفرهم ، ومعنى منفكين منتهين عن كفرهم.
* * *
وقوله (رَسُولٌ مِنَ اللّه يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (٢)
(رَسُولٌ مِنَ اللّه يَتْلُو)
يرتفع على ضربين :
أَحَدهُما على البَدَلَ مِنَ (الْبَيِّنَةُ).
حتى يأتيهم رسول من اللّه.
والضرب الثاني على تفسير (الْبَيِّنَةُ) ، و (الْبَيِّنَةُ) (رَسُولٌ مِنَ اللّه يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً).
أي مطهرة من الأدناس والباطل ، قال اللّه عزَّ وجلَّ : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤).
* * *
و (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣)
أي كتب غير ذات عوج مستقيمة تُبَيِّنُ الحقَّ من الباطل على الاستواء
والبرهان.
* * *
قوله . : (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤)
أي ما تفرقوا في ملكهم وكفرهم بالنبي عليه السلام إلا من بعد أن تبينُوا
أنه الذي وعدوا به في التوراة والإنجيل.
* * *
(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥)
أي يعبدونه مُوحِّدين له لا يعبدون معه غيره
(حُنَفَاءَ) على دين إبراهيم ودين محمد عليه السلام.
(وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ).
أي يؤمنوا مع التوحيد بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم - ويقيموا شرائعه.
(وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).
أي وذلِكَ دين الأمة الْقَيِّمَةِ بالحق فيكون ذلك دين الملَّةِ المستقيمة.
* * *
و (أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦)
القراءة (الْبَرِيَّةِ) بترك الهمزة.
وقد قرأ نافع (البريئة) بالهمز ، والقُرَّاء غيرُهُ مجمعُونَ على ترك الهمز ، كما أجمعوا في النبي ، والأصل البريئة ، إلا أن الهمزة خففت لكثرة الاستعمال . يقولون : هذا خيرُ البريِّةِ وشرُّ البريَّةِ وما في البريَّة مِثْلُه ، واشتقاقهُ من برأ اللّه الخلق.
وقال بعضهم : جائز أن يكون اشتقاقها من البَرَا وهو التراب ، ولو كان كذلك لما قرأوا البريئة بالهمز.
والكلام برأ اللّه الخلق يبرؤهم ، ولم يحك أحد براهم يبريهم ، فيكون اشتقاقه
من البَرَا وهو التراب (١).
* * *
و (جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨)
(جَنَّاتُ عَدْنٍ)
أي جَنَّاتُ إقامة.
__________
(١) قال السَّمين :
البرية : قرأ نافعٌ وابن ذَكْوان « البَريئة » بالهمزِ في الحرفَيْن ، والباقون بياءٍ مشدَّدةٍ . واخْتُلِف في ذلك الهمز ، فقيل : هو الأصلُ ، مِنْ بَرَأ اللّه الخَلْقَ ابتدأه واخترعَه فيه فعليةٌ بمعنى مَفْعولةٌ ، وإنما خُفِّفَتْ ، والتُزِمَ تحفيفُها عند عامَّةِ العربِ . وقد ذَكَرْتُ أنَّ العربَ التزمَتْ غالباً تخفيفَ ألفاظٍ منها : النبيُّ والخابِيةَ والذُّرِّيَّة والبَرِيَّة . وقيل : بل البَرِيَّةُ دونَ همزةِ مشتقةٌ مِنْ البَرا ، وهو الترابُ ، فهي أصلٌ بنفسِها ، فالقراءتان مختلفتا الأصلِ متفقتا . إلاَّ أنَّ ابنَ عطيةَ غَضَّ مِنْ هذا فقال : « وهذا الاشتقاقُ يَجْعَلُ الهمزةَ خطأً وهو اشتقاقٌ غيرُ مَرْضِيّ » انتهى . يعني أنَّه إذا قيل بأنَّها مشتقةٌ من البَرا وهو الترابُ فمَنْ أين يجيْءُ في القراءةِ الأخرى؟ وهذا غيرُ لازم لأنهما قراءتان مُسْتقلَّتان ، لكلٍ منهما أصلٌ مستقلٌ ، فقيل : مِنْ بَرَأَ ، أي : خَلَق ، وهذه مِنْ البَرا؛ لأنَّهم خُلِقوا مِنْه ، والمعنى بالقراءتين شيءٌ واحدٌ ، وهو جميعُ الخَلْقِ . ولا يُلْتَفَتُ إلى مَنْ ضَعَّف الهمزَ من النحاةِ والقُرَّاءِ لثبوتِه متواتِراً.
وقرأ العامَّةُ « خيرُ البَرِيَّة » مقابلاً لشَرّ . وعامر بن عبد الواحد « خِيارُ » وهو جمع خَيِّر نحو : جِياد وطِياب في جمع جَيِّد وطَيِّب ، قاله الزمخشري.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).