( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (١)
هذا قسم وجوابه : (قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا).
ومعناه لَقَدْ أَفْلَحَ ولكن اللام حذفت لأن الكلامَ طَالَ فصار طوله عوضا منها ومعنى (وضحاها) وَضِيائِها.
وقيل ضحاها النهار ، وقرأ الأعمش وأصْحَابُهُ ضحاها وتلاها وطحاها بالفتح ، وقرأوا باقي السُّورة بالكسر.
وقرأ الكسائي السورة كلها بالإمالة.
وقرأها أبو عمرو بن العلاء بين اللفظين.
وهذا الذي يسميه الناس الكسر ليس بكسر صحيح ، يسميه الخليل
وأبو عمرو الِإمَالَةَ ، وإنما كسر من هذه الحروف ما كان منها من ذوات الياء ليدلوا على أن الشيء من ذوات الياء.
ومن فتح ضحاها وَتَلَاهَا وطحاها فلأنه من ذوات الواو ، ومن كسر فلأن ذوات الواو كلها إذا رد الشيء إلى ما لم يسم
فاعله انتقل إلى الياء ، تقول قد تُلِيَ وَدُحِيَ وَطُحِيَ.
* * *
و (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (٢)
معناه حين تلاها ، وقيل حين - استدار فكان يتلو الشمس في الضياء
والنور.
* * *
و (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (٣)
قالوا معناه إذَا جَلَّى الظلمة ، وإن لم يكن في الكلام ذكر الظلمة فالمعنى
يدل عليها كما تقول : أصبحت باردة ، تريد أصبحت غُداتنا بَارِدة
وقيل : (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا) إذا بين الشمس لأنها تبين إذا انبسط النهار.
* * *
و (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (٥)
معناه والسماء وبنائها ، وكذلك (وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا) معناه والأرض
وطحوها.
وكذلك : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧)
وقيل معنى " ما " ههنا معنى (مَنْ)
والسماء والذي بناها.
ويحكى عن أهل الحجاز " سُبْحَانَ مَا سَبَّحْتُ لَهُ " أي سبحان الذي سبحت ، وَمَنْ سَبَّحْتُ له.
فأقسم اللّه - عزَّ وجلَّ - بهذه الأشياء العظام من خلقه لأنها تدل
على أَنه واحِدٌ والذي ليس كمثله شيء (١).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨)
قيل علمها طريق الفجور وطَرِيقَ الهدى.
والكلام على أن أَلهَمَها التقوى ، وفقَهَا للتقوى ، وألْهَمَها فُجورَهَا خذلها ، واللّه أعلم.
* * *
و (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩)
أي قد أفلحت نفسٌ زَكاهَا اللّه.
* * *
( وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (١٠)
خابت نَفْسٌ دَسَّاهَا اللّه.
ومعنى (دَسَّاهَا) جعلها قليلة خَسِيسَةً.
والأصل دَسَّسَهَا ، ولكن الحروف إذا اجتمعت من لفظٍ واحِدٍ أُبدَل من أحدها ياء.
قال الشاعر :
تَقَضِّيَ البَازِي إِذا البَازِي كَسَرْ
__________
(١) قال السَّمين :
وَمَا بَنَاهَا : وما بعدَه ، فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ « ما » موصولةٌ بمعنى الذي ، وبه استشهد مَنْ يُجَوِّزُ وقوعَها على آحادِ أولي العلم؛ لأنَّ المرادَ به الباري تعالى ، وإليه ذهب الحسنُ ومجاهدٌ وأبو عبيدةَ ، واختاره ابن جرير . و
الثاني : أنها مصدريةٌ ، أي : وبناءِ السماء ، وإليه ذهبَ الزجَّاج والمبرد ، وهذا بناءً منهما على أنها مختصةٌ بغيرِ العقلاءِ ، واعْتُرِضَ على هذا القولِ : بأنَّه يَلْزَمُ أَنْ يكونَ القَسَمُ بنفسِ المصادر : بناءِ السماء وطَحْوِ الأرضِ وتَسْويةِ النفس ، وليس المقصودُ إلاَّ القَسَمَ بفاعلِ هذه الأشياءِ وهو الرَّبُّ تبارك وتعالى . وأُجِيب عنه بوجهَيْن ، أحدُهما : يكونُ على حَذْفِ مضافٍ ، أي : وربِّ - باني - بناءِ السماء ونحوه . و
الثاني : أنه لا غَرْوَ في الإِقسام بهذه الأشياء كما أَقْسم تعالى بالصبح ونحوه.
وقال الزمخشري : « جُعِلَتْ مصدريةً وليس بالوجهِ لقولِه » فأَلْهمها « وما يؤدي إليه مِنْ فسادِ النظم . والوجهُ أَنْ تكونَ موصولةً ، وإنما أُوْثِرَتْ على » مَنْ « لإِرادة معنى الوصفية كأنه قيل : والسماءِ والقادرِ العظيم الذي بناها ، ونفس والحكيمِ الباهرِ الحكمةِ الذي سَوَّاها . وفي كلامهم : » سبحانَ ما سَخَّرَكُنَّ لنا « انتهى . يعني أنَّ الفاعلَ في » فألهمها « عائدٌ على اللّه تعالى فليكُنْ في » بناها « كذلك ، وحينئذٍ يَلْزَمُ عَوْدُه على شيءٍ وليس هنا ما يمكنُ عَوْدُه عليه غيرُ » ما « فتعيَّنَ أَنْ تكونَ موصولةً.
وقال الشيخ : » أمَّا « وليس بالوجهِ لقولِه » فَأَلْهمها « يعني مِنْ عَوْدِ الضمير في » فَأَلْهمها « على اللّه تعالى ، فيكونُ قد عاد على مذكورٍ وهو » ما « المرادُ به الذي . قال : » ولا يَلْزَمُ ذلك؛ لأنَّا إذا جَعَلْناها مصدريةً عاد الضميرُ على ما يُفْهَمُ مِنْ سياق الكلامِ ، ففي « بناها » ضميرٌ عائدٌ على اللّه تعالى ، أي : وبناها هو ، أي : اللّه تعالى ، كما إذا رأيتَ زيداً قد ضرب عَمْراً فتقول : « عجبتُ مِمَّا ضَرَبَ عمراً » تقديره : مِنْ ضَرْبِ عمروٍ هو ، كان حسناً فصيحاً جائزاً ، وعَوْدُ الضمير على ما يُفْهَمُ مِنْ سياقِ الكلامِ كثيرٌ و « وما يُؤدِّي إليه مِنْ فسادِ النظم » ليس كذلك ، ولا يُؤدِّي جَعْلُها مصدريةً إلى ما ذُكِرَ ، و « وإنما أُوْثِرَتْ » إلى آخره لا يُراد بما ولا بمَنْ الموصولتين معنى الوصفيةِ؛ لأنهما لا يُوْصفُ بهما بخلاف « الذي » فاشتراكُهما في أنَّهما لا يُؤَدِّيان معنى الوصفيةِ موجودٌ بينهما فلا تنفردُ به « ما » دون « مَنْ » و : وفي كلامِهم « إلى آخره تَأَوَّله أصحابُنا على أنَّ » سبحان « عَلَم و » ما « مصدريةٌ ظرفيةٌ » انتهى.
أمَّا ما رَدَّ به عليه مِنْ كونِه يعود على ما يُفْهَمُ من السِّياق فليس يَصْلُح رَدَّاً ، لأنه إذا دار الأمرُ بين عَوْدِه على ملفوظٍ به وبينَ غيرِ ملفوظٍ به فعَوْدُه على الملفوظِ به أولى لأنَّه الأصلُ . وأمَّا فلا تنفرد به « ما » دونَ « مَنْ » فليس مرادُ الزمخشري أنها تُوْصَفُ بها وصْفاً صريحاً ، بل مُرادُه أنها تقعُ على نوعِ مَنْ يَعْقل ، وعلى صفتِه ، ولذلك مَثَّل النَّحْويون ذلك ب فانكحوا مَا طَابَ [ النساء : ٣ ] ، وقالوا : تقديره : فانْكِحُوا الطيِّبَ مِنْ النساءِ ، ولا شكَّ أن هذا الحكمَ تَنْفَرِدُ به « ما » دون مَنْ . والتنكيرُ في « نفس » : إمَّا لتعظيمِها ، أي ، نفس عظيمة ، وهي نفسُ آدمَ ، وإمَّا للتكثيرِ ك عَلِمَتْ نَفْسٌ [ الانفطار : ٥ ].
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
قالوا معناه تقضض.
وقيل : قد أفلح مَنْ زَكَّى نفْسَه بالعمل الصالح.
* * *
و (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (١١)
أي بطغيانها ، وأصل (طَغْواها) طَغْيَهَا وَفَعْلَى إذا كانت من ذوات الياء
أبدلت في الاسم وَاواً ليفصُل بين الاسم والصفة ، تقول : هي التقوى ، وإنما
هي مِنْ أيقنتُ ، وهي التقوى وإنما هي من يقنت ، وقالوا : امرأةٌ خَزْياً لأنها
صفةٌ.
* * *
وقوله تعالى : (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّه نَاقَةَ اللّه وَسُقْيَاهَا (١٣)
(ناقةَ) مَنْصُوبٌ على معنى ذروا ناقة اللّه ، كما قال سبحانه :
(هَذِهِ نَاقَةُ اللّه لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّه) ، أي ذروا سقياها ، وكان للناقَةِ يَوْمٌ وَلَهُمْ يَوْمٌ في الشِّرْبِ.
* * *
(فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (١٤)
(فَكَذَّبُوهُ)
أي فلم يوقنوا أنهم يُعَذبُونَ حين قال لهم (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
* * *
(فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا).
معناه دَمْدَمَ عَلَيْهِمْ أطبق عليهم العَذَابَ ، يقال : دَمْدَمْتُ على الشيء إذا
أطبقت عليه ، وكذلك [دَمَمْتُ] عليه القبرَ وما أشبهه ، وكذلِكَ ناقة مَدْمُومَةٌ ، أي قد ألْبَسَها الشحم ، فإذا كررت الإطباق قُلْتَ دَمْدَمُتْ عليه (١).
* * *
و (وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (١٥)
أكثر ما جاء في التفسير لا يخاف اللّه تعالى تبعةَ ما أَنزل بِهِمْ ، وقيل لا
يخاف رَسُولُ اللّه صَالِحٌ عليه السلام الذي أرسل إليهم عُقْبَاهَا.
وقيل إذا انبعث أشقاها وهو لا يخاف عقباها.
__________
(١) قال السَّمين :
فَدَمْدَمَ : الدَّمْدَمَةُ . قيل : الإِطباقُ يُقال : دَمْدَمْتُ عليه القبرَ ، أي : أَطْبَقْتُه عليه . وقيل : الإِلزاقُ بالأرض . وقيل : الإِهلاكُ باستئصالٍ . وقيل : الدَّمْدَمَةُ حكايةُ صوتِ الهَدَّة ومنه : دَمْدَمَ في كلامه . ودَمْدَمْتُ الثوبَ : طَلَيْتُه بالصَّبْغ . والباءُ في « بذَنْبهم » للسببية.
فَسَوَّاهَا الضميرُ المنصوبُ يجوزُ عَوْدُه على ثمودَ باعتبار القبيلةِ كما أعادَه في قولِه « بَطَغْواها » ويجوزُ عَوْدُه على الدَّمْدَمَة والعقوبةِ ، أي : سَوَّاها بينهم ، فلم يَفْلَتْ منهم أحدٌ . وقرأ ابن الزبير « فَدَهْدَمَ » بهاءٍ بين الدالَيْن بدلَ الميم ، وهي بمعنى القراءةِ المشهورةِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).