( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (١)
يعنى بالبلد ههنا مكة ، والمعنى أقسم بهذا البلد.
و " لا " أدخلت توكيداً كما قال عزَّ وجلَّ : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ). وقرئت (لأقْسِمُ بهذا البلد).
تكون اللام لامَ القسَم والتوكيد ، وهذه القراءة قليلة.
وهي في العربية بعيدة لأن لام القسم لا تدخل على الفعل المستقبل إلا معه النون ، تقول لأضربن زيداً ، ولا يجوز لأضرِبُ تريد الحال.
وزعم سيبويه والخليل أن هذه اللام تدخل مع أن
فاستغنى بها في باب إن ، تقول إني لأحِبُّكَ.
* * *
ومعنى : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (٢)
أُحِلَّتْ مَكًةُ للنبي عليه السلام ساعة من النهار ، ولم تحل لأحد قبله ولا
لأحَدٍ بعده ، ومعني أُحِلَّتْ له أُحِلَّ لَه صَيْدُهَا وأن يختلى خلالها وأن يعضد
شجرها.
يقال : رَجلْ حِلٌّ وَحَلال وَمُحَلٌّ ، وكذلك رجل حرام وحِرْم وَمحْرِمٌ (١).
* * *
و (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (٣)
جاء في التفسير أن معناه آدم وولده ، وجاء معناه أيضاً كل والد وكل
مولودٍ.
__________
(١) قال السَّمين :
وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد : فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ الجملةَ اعتراضيةٌ على أحد معنَييْن : إمَّا على معنى أنه تعالى أَقْسَمَ بهذا البلدِ وما بعدَه على أنَّ الإِنسانَ خُلِقَ في كَبَدٍ واعتُرِض بينهما بهذه الجملةِ ، يعني ومن المكابَدَةِ أنَّ مثلَكَ على عِظَمِ حُرْمَتِك يُسْتَحَلُّ بهذا البلدِ كما يُسْتَحَلُّ الصَّيْدُ في غير الحَرَمِ ، وإمَّا على معنى أنَّه أَقْسَم ببلدِه على أنَّ الإِنسان لا يَخْلُوا مِنْ مَقاساةِ الشدائِد . واعْتُرِض بأَنْ وَعَدَه فتحَ مكة تَتْميماً للتسلية ، فقال : وأنت حِلٌّ به فيما تَسْتَقْبِلُ تصنعُ فيه ما تريدُ من القَتْلِ والأَسْرِ ، ف « حِلٌّ » بمعنى حَلال ، قال معنى ذلك الزمخشري . ثم قال : « فإنْ قلتَ أين نظيرُ قولِه » وأنت حِلٌّ « في معنى الاستقبال؟ قلت : قوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ [ الزمر : ٣٠ ] ومثلُه واسعٌ في كلامِ العبادِ تقول لمن تَعِدُهُ الإِكرامَ والحِباء : أنت مُكَرَّمٌ مَحْبُوٌّ ، وهو في كلامِ اللّه تعالى أوسعُ؛ لأنَّ الأحوال المُسْتَقْبَلَةَ عنده كالحاضرِةَ المشاهَدَةِ ، وكفاك دليلاً قاطِعاً على أنه للاستقبالِ ، وأنَّ تفسيرَه بالحالِ مُحالٌ ، أنَّ السورةَ بالاتفاقِ مكيةٌ ، وأين الهجرةُ عن وقتِ نزولِها فما بالُ الفتحِ؟ وقد ناقشه الشيخ بما لا يَتَّجِهُ ، ورَدَّ عليه قولَه الإِجماعَ على نزولِها بمَكةَ بخلافٍ حكاه ابنُ عطية.
الثاني من الوجَهْين الأوَّلَيْن . أنَّ الجملةَ حاليةٌ ، أي : لا أُقْسِمُ بهذا البلدِ وأنت حالٌّ بها لعِظَمِ قَدْرِك ، أي : لا يُقْسِمُ بشيءٍ وأنت أحَقُّ بالإِقسام بك منه . وقيل : لا أٌقْسِم به وأنت مُسْتَحَلٌّ فيه ، أي : مُسْتَحَلٌّ أَذاك . وتقدَّم الكلام في مثلِ » لا « هذه المتقدِّمةِ فِعْلَ القسمِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
و (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (٤)
هذا جواب القسم ، أقسم بهذه الأشياء (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) ، أي يكابد أمره في الدنيا والآخرة.
وقيل : (فِي كَبَدٍ) أي خلق منتصباً يمشي على رِجْلَيْه وسائر الأشياء والحيوان غير منتصبة.
وقيل (فِي كَبَدٍ) خَلْقُ الإنسان في بَطْنِ أمَهِ ورأسه قِبَلَ رأسِها ، فإذا أرادت الولادة انقلب الرأس إلى أسفل.
* * *
وقوله (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥)
هذا جاء في التفسير أنه رجل كان شديداً جدًّا ، وكان يبسط له الأديم
العكاظِي فيقوم عليه فيهد فلا يخرج من تحت رجليه إلا قطعاً من شدتِه ، وكان يقال له كلدة فقيل : أيحسب لشدته أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ وأنه لا يبعث.
وقيل أن لن يَقْدِرَ عليه اللّه عزَّ وجلَّ لأنه كان لا يؤمن بالبعث.
* * *
(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (٦)
وقرئت (أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا) ، ويُقْرأَ لُبَّدًا).
ومعنى " لُبَد " كثير بعضه قَدْ لُبِّدَ بِبَعْض ، وفُعَل للكثرةِ ، يقال : رجل حُطَم : إذا كان كثير الحطم.
ومن قرأ لُبَّداً فَهو جمع لاَبِدٍ.
* * *
(أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧)
أي أيحسب أن لم يحص عليه ما أنفق ، وفي الكلام دليل على أنه
ادعَى أنه أنفق كثيراً لم ينفعهُ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)
أي ألم نَفعل به ما يُسسْتَدلُّ به على أن اللّه قَادرٌ على أن يبعثه وأن
يحصِيَ عليه ما يعمله.
* * *
(وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)
الطريقين الْوَاضِحَيْن ، النجد المرتفع من الأرْضِ ، فالمعنى ألم نعرْفه
طريق الخير وَطَرِيقَ الشرِّ بَيِّنَيْنِ كبيان الطريقين العَالِيَيْنِ.
* * *
وقوله (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١)
فلم يقتحم العقبة كما قال : (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلًى).
ولم يذكر " لا " إلا مَرةٍ وَاحِدَةً ، وقلما يتكلم العرب في مثل هذا المكان إلا بلا مَرتين أكثر ، لا تكاد تقول : لا حَيَّيتَني تريد مَا حَيَّيْتَنِي.
فإن قلت : لاحَييْتَني ولا زُرْتَني صَلَح.
ْوالمعنى في (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) موجود أن " لا " ثانية كأنَّها في الكلام
لأن (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا)
تدل على معنى فلا اقتحم العقبة ولا آمن.
* * *
وقرئت : (فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤)
وقرئت (فَكَّ رَقَبَةً) ، ( أَطْعَمَ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ).
وكلاهما جائز ، فمن قال (فَكُّ رَقَبَةٍ) فالمعنى اقتحام العقبة فك رقبة إطعام ، ومن قرأ (فَكَّ رَقَبَةً) فهو محمول على (١).
والمسغبة المجاعة.
* * *
ْو (يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (١٥)
معناه ذا قرابة ، تقول زيد ذو قرابتي وذو مقربتي ، وزيد قرابتي قبيح لأن
القرابة المصدر
قال الشاعر :
__________
(١) قال السَّمين :
وقرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائيُّ « فَكَّ » فعلاً ماضياً ، « ورقبةً » نصباً « أَطْعم » فعلاً ماضياً أيضاً . والباقون « فَكُّ » برفع الكاف اسماً ، « رقبةٍ » خَفْصٌ بالإِضافة ، « إطعامٌ » اسمٌ مرفوعٌ أيضاً . فالقراءةُ الأولى الفعلُ فيها بَدَلٌ مِنْ قولِه « اقتحمَ » فهو بيانٌ له ، كأنَّه قيل : فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعَمَ ، والثانيةُ يرتفع فيها « فَكُّ » على إضمار مبتدأ ، أي : هو فَكُّ رقبة إطعامٌ ، على معنى الإِباحة . وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ دلَّ عليه « فلا اقتحمَ » تقديرُه : وما أدراك ما اقتحامُ العقبة؟ فالتقدير : اقتحامُ العقبة فكُّ رَقَبَة إطعامٌ ، وإنما احْتيج إلى تقديرِ هذا المضافِ ليتطابقَ المفسِّر والمفسَّر . ألا ترى أنَّ المفسِّر - بكسرِ السين - مصدرٌ ، والمفسَّر - بفتحِ السينِ - وهو العقبةُ غيرُ مصدر ، فلو لم نُقَدِّرْ مضافاً لكان المصدرُ وهو « فَكُّ » مُفَسِّراً للعين ، وهو العقبةُ.
وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو رجاء « فَكَّ أطعمَ » فعلَيْن كما تقدَّم ، إلاَّ أنهما نصبا « ذا » بالألف . وقرأ الحسن « إطعامٌ » و « ذا » بالألفِ أيضاً وهو على هاتَيْنِ القراءتَيْن مفعولُ « أَطْعم » « إطعامٌ » و « يتيماً » حينئذٍ بدلٌ منه نعتٌ له . وهو في قراءةِ العامَّةِ « ذي » بالياء نعتاً ل « يوم » على سبيل المجاز ، وُصِفَ اليومُ بالجوع مبالغةً كقولهم : « ليلُك قائمٌ ونهارُك صائمٌ » والفاعلُ لإِطعام محذوفٌ ، وهذا أحدُ المواضعِ التي يَطَّرِدُ فيها حَذْفُ الفاعلِ وحدَه عند البصريين ، وقد بَيَّنْتُها مُسْتوفاةً وللّه الحمدُ.
والمَسْغَبَةُ : الجوعُ مع التعبِ ، وربما قيل في العطش مع التعب ، قال الراغب . يُقال منه : سَغِبَ الرجل يَسْغَبُ سَغْباً وسُغُوباً فهو ساغِبٌ وسَغْبانُ والمَسْغَبَةُ مَفْعَلَة منه ، وكذلك المَتْرَبَةُ من التراب . يقال تَرِب ، أي : افتقر حتى لَصِقَ جِلْدُه بالتراب . فأمَّا أَتْرَبَ بالألف فبمعنى استغنى نحو : أَثْرى ، أي : صار مالُه كالتراب وكالثرى والمَقْرَبَةُ أيضاً : مَفْعَلَة من القَرابة . وللزمخشري هنا عبارةٌ حلوة قال : « والمَسْغَبَةُ والمَقْرَبَةُ والمَتْرَبَةُ مَفْعَلات مِنْ سَغِبَ إذا جاع وقَرُبَ في النَّسَب وتَرِبَ إذا افتقر ».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
يَبْكِي عليه غَرِيبٌ ليس يَعْرِفُهُ . . . وذُو قَرَابَتهِ في الحَيِّ مَسْرُورُ
و (ذَا مَتْرَبةً).
يعنى أنه من فقره قد لصق بالتُّرَابِ.
* * *
و (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧)
معناه إذا فعل ذلك وكان عقد الإيمان ثم أقام على إيمانِه.
(وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
أي على طاعة اللّه ، والصبر عن الدخول في معاصيه ، ثم كان مع ذلك
مِنَ الَّذِينَ يتواصون (بالمرحمة) ، أولئك أصحاب اليمن على أنفسهم أي كانوا
ميامين على أنفسهم غير مشائيم.
* * *
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩)
أي هم المشائيم على أنفسهم ، نعوذ باللّه من النار.
* * *
و (عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠)
ويقرأ بغير هَمزٍ ، ومعناه مطبقة.
يقال آصَدْتُ البابَ وأوصدته إذا أطبقته .