سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ مَكِّيَّةٌ

وَهِيَ سِتٌّ وَثَلاَثُونَ آيَةً

( مَكِّيَّة )

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله عزَّ وجلَّ : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١)

(وَيْلٌ) رفع بالابتداء والخبر قوله (لِلْمُطَفِّفِينَ) ، ولو كان في غير القرآن لجاز

" ويلاً " للمطففين ، على معنى جعل اللّه لهم ويلاً ، والرفع أجود في القراءة

لأن  قد ثبت لهم هذا ، والويل كلمة تقال لكل من هو في عذاب

وهلكة ، والمطففون الذين ينقصون المكيال والميزان وإنما قيل للفاعل من هذا

مطفف ، لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان ، إلا الشيء الحقير الطفيف.

وإنما أخِذَ من طَفَّ الشيء وهو جانبه ، وقد فسر أمره في السورة فقال :

* * *

٢

(الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢)

 إذا اكتالوا من الناس استوفوا عَلَيْهم

الكيل وكذلك إذا اتَّزَنُوا استوفوا الوزن ، ولم يذكرا إذا اتَّزَنوا " لأن الكيل

والوزن بهما الشراء والبيع فيما يكال ويوزن.

* * *

٣

(وَإِذَا كَالُوهُمْ  وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣)

أي إذا كالوا لهم  وزنوا لهم يخسرون ، أي ينقصون في الكيل

والوزن ، ويجوز في اللغة يَخْسِرون.

يقال : . أخسَرَتُ الميزان وخَسَرتُه ، ولا أعلم أحداً قرأ في هذا الموضع يَخْسرون ، ومن " تأول معنى " كَالُوهُم " كالوا لههم لم يجز أن يقف على كالوا حتى يصلها بِ (هم) ، فيقول (كالُوهُم) (١).

__________

(١) قال السَّمين :

  كَالُوهُمْ  وَّزَنُوهُمْ  : رُسِمتا في المصحفِ بغير ألفٍ بعد الواوِ في الفعلَيْن ، فمِنْ ثَمَّ اختلفَ الناسُ في « هم » على وجهين ، أحدهما : هو ضميرُ نصبٍ ، فيكونُ مفعولاً به ، ويعودُ على الناس ، أي : وإذا كالُوا الناسَ ،  وَزَنوا الناسَ . وعلى هذا فالأصلُ في هذَيْن الفعلَيْن التعدِّي لاثنين ، لأحدِهما بنفسِه بلا خِلافٍ ، وللآخرِ بحرفِ الجرِّ ، ويجوزُ حَذْفُه . وهل كلٌّ منهما أصلٌ بنفسِه ،  أحدُهما أصلٌ للآخر؟ خلافٌ مشهورٌ . والتقدير : وإذا كالوا لهم طعاماً  وَزَنُوه لهم ، فحُذِف الحرفُ والمفعولُ المُسَرَّح . وأنشد الزمخشريُّ :

٤٥١٣ ولقد جَنَيْتُكَ أَكْمُؤاً وعَساقِلاً . . . ولقد نَهْيْتُك عَن بناتِ الأَوْبَرِ

أي : جَنَيْتُ لك . و

الثاني : أنه ضميرُ رفعٍ مؤكِّدٍ للواو . والضميرُ عائدٌ على المطففينِ ، ويكونُ على هذا قد حَذَفَ المَكيلَ والمَكيلَ له والموزونَ والموزونَ لهُ . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ رَدَّ هذا ، فقال : « ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ ضميراً مرفوعاً للمطفِّفين؛ لأنَّ الكلامَ يَخْرُجُ به إلى نَظْم فاسدٍ ، وذلك أنَّ  : إذا أخذوا من الناسِ اسْتَوْفُوا ، وإذا أعطَوْهم أَخْسَروا . فإنْ جَعَلْتَ الضميرَ للمطفِّفين انقلبَ إلى قولِك : إذا أخذوا من الناسِ اسْتَوْفَوْا ، وإذا تَوَلَّوا الكيلَ  الوزنَ هم على الخصوص أَخْسَروا ، وهو كلامٌ مُتَنَافِرٌ؛ لأنَّ الحديثَ واقعٌ في الفعل لا في المباشر ».

قال الشيخ : « ولا تنافُرَ فيه بوجهٍ ، ولا فرقَ بين أَنْ يؤكَّد الضميرُ  لا يُؤَكَّد ، والحديثُ واقعٌ في الفعل . غايةُ ما في هذا أنَّ متعلقَ الاستيفاء وهو على الناس مذكورٌ ، وهو في  كَالُوهُمْ  وَّزَنُوهُمْ  محذوفٌ للعلم به؛ لأنه من المعلوم أنهم لا يُخْسِرون ذلك لأنفسهم » . قلت : الزمخشريُّ يريدُ أَنْ يُحافظَ على أنَّ  مرتبطٌ بشيئَيْن : إذا أخذوا مِنْ غيرِهم ، وإذا أَعْطَوْا غيرَهم ، وهذا إنما يَتِمُّ على تقديرِ أَنْ يكونَ الضميرُ منصوباً عائداً على الناس ، لا على كونِه ضميرَ رفعٍ عائداً على المطفِّفين ، ولا شكَّ أن هذا  الذي ذكَره الزمخشريُّ وأرادَه أَتَمُّ وأَحسنُ مِنْ  الثاني . ورجَّح الأوّلَ سقوطُ الألفِ بعد الواوِ ، ولأنه دالٌّ على اتصالِ الضميرِ ، إلاَّ أنَّ الزمخشري استدركه فقال : « والتعلُّقُ في إبطالِه بخطِّ المصحفِ وأنَّ الألفَ التي تُكتب بعد واوِ الجمع غيرُ ثابتةٍ فيه ، ركيكٌ لأنَّ خَطَّ المصحفِ لم يُراعِ في كثيرٍ منه حَدَّ المصطلحِ عليه في علمِ الخطِّ ، على أني رأيْتُ في الكتب المخطوطةِ بأيدي الأئمة المُتْقِنين هذه الألفَ مرفوضةً لكونِها غيرَ ثابتةٍ في اللفظِ والمعنى جميعاً؛ لأنَّ الواوَ وحدَها مُعْطِيَةٌ معنى الجَمْع ، وإنما كُتِبت هذه الألفُ تَفْرِقَةً بين واوِ الجمعِ وغيرِها في نحو قولِك : » هم [ لم ] يَدْعُوا « ، و » هو يَدْعُو « ، فمَنْ لم يُثْبِتْها قال :  كافٍ في التفرقةِ بينهما ، وعن عيسى بنِ عمرَ وحمزةَ أنَّها يرتكبان ذلك ، أي : يجعلان الضميرَيْن للمطففين ، ويقفان عند الواوَيْن وُقَيْفَةً يُبَيِّنان بها ما أرادا ».

ولم يَذْكُر فعلَ الوزنِ أولاً؛ بل اقتصر على الكيلِ ، فقال : « إذا اكْتالوا » ولم يَقُلْ :  اتَّزَنوا ، كما قال ثانياً :  وَزَنُوهم . قال الزمخشري : « كأنَّ المطفِّفين كانوا لا يأخذون ما يُكال ويُوْزَنُ إلاَّ بالمكاييلِ دون الموازينِ لتمكُّنهم بالاكتيالِ من الاستيفاءِ والسَّرِقَةِ؛ لأنَّهم يُدَعْدِعُون ويَحْتالون في المَلْء ، وإذا أَعْطَوْا/ كالُوا ووزَنوا لتمكُّنِهم من البَخْسِ في النوعَيْن جميعاً ».

 « يُخْسِرون » جوابُ « إذا » وهو مُعَدَّىً بالهمزة . يقال : خَسِرَ الرجلُ ، وأَخْسَرْتُه أنا ، فمفعولُه محذوفٌ ، أي : يُخْسِرون الناسَ مَتاعَهم.

اهـ (الدُّرُّ المصُون).

ومن الناس من يجعل " هم " توكيداً لما في كالوا ، فيجوز أن تقف فتقول : وإذا كالوا ، والاختيار أن تكون " هم " في موضع نصب ، بمعنى كالوا لهم . ولو كانت على معنى كالوا ، ثم جاءت " هم " توكيداً ، لكانَ في المصحف ألف مثبْة قَبلَ (همْ).

* * *

٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥)

يعنى يوم القيامة ، أي إنهم لو ظنوا أنهم يبعثون ما نَقصوا في الكيل

والوزن.

* * *

٦

و (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦)

(يَوْمَ) منصوب بقوله (مَبْعُوثُونَ)

 ألا يظنون أنهم يبعثون يوم القيامة.

ولو قرئت " يَوْمِ يقوم الناس "

بكسر يوم لكان جَيِّداً على معنى ليوم يقوم الناس.

ولو قرئت بالرفع لَكَانَ جَيِّداً يومُ يقوم الناسُ ، على معنى ذلك يوم يقوم الناس ، ولا يجوز القراءة إلا بما قرأ به القراء

(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) - بالنصب - لأن القراءة سنة ، ولا يجوز أن تخالف

بما يجوز في العربية.

* * *

٧

و (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧)

(كَلَّا) رَدعٌ وتنبيه.

 ليس الأمر على ما هم عليه ، فليرتدعوا عَنْ ذَلِكَ

و (فِي سِجِّينٍ) زعم أهل اللغة أن سِجِّينَ فِعِّيل من السجْنِ ،

كتابهم في حبس ، جعل ذلك دَلالة على خساسة مَنْزِلَتِهِمْ.

وقيل (فِي سِجِّينٍ) في حسابٍ ، وفِي سِجِّينٍ في حجر من الأرْضِ السابِعَةِ (١).

* * *

٨

و (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (٨)

أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت وَلَا قَوْمُك ، ثم فسر فقال :

* * *

٩

(كِتَابٌ مَرْقُومٌ (٩)

أي مكتوب.

__________

(١) قال السَّمين :

  لَفِي سِجِّينٍ  : اختلفوا في نون « سِجِّين » . فقيل : هي أصليةٌ . اشتقاقهُ من السِّجْنِ وهو الحَبْسُ ، وهو بناءُ مبالغةٍ ، فسِجِّين من السَّجْنِّ كسِكِّير من السُّكْر . وقيل : بل هي بدلٌ من اللامِ ، والأصلُ : سِجِّيْل ، مشتقاً من السِّجِلِّ وهو الكتابُ . واختلفوا فيه أيضاً : هل هو اسمُ موضعٍ ،  اسمُ كتابٍ مخصوصٍ؟ وهل هو صفةٌ  عَلَمٌ منقولٌ مِنْ وصفٍ كحاتِم . وهو مصروفٌ إذ ليس فيه إلاَّ سببٌ واحدٌ وهو العَلَمِيَّةُ ، وإذا كان اسمَ مكانٍ ، فقوله « كتابٌ مَرْقُوْمٌ » : إمَّا بدلٌ منه ،  خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، وهو ضميرٌ يعودُ عليه ، وعلى التقديرَيْن فهو مُشْكِلٌ؛ لأنَّ الكتابَ ليس هو المكانَ فقيل : التقدير : هو مَحَلُّ كتابٍ ، ثم حُذِفَ المضافُ . وقيل : التقديرُ : وما أدراك ما كتابُ سِجِّين؟ فالحذفُ ، إمَّا مِنْ الأولِ ، وإمَّا مِنْ

الثاني : وأمَّا إذا قُلْنا : إنه اسمٌ ل « كتاب » فلا إشكال.

وقال ابن عطية : « مَنْ قال : إنَّ سِجِّيناً موضعٌ فكتابٌ مرفوعٌ ، على أنه خبرُ » إنّ « والظرفُ الذي هو » لفي سِجِّين « مُلْغَى ، ومَنْ جعله عبارةً عن الخَسارة ، فكتابٌ خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، التقدير : هو كتابٌ ، ويكونُ هذا الكلامُ مفسِّراً لِسِجِّين ما هو؟ » انتهى ، وهذا لا يَصِحُّ ألبتَّةَ؛ إذ دخولُ اللامِ يُعَيِّنُ كونَه خبراً فلا يكونُ مُلْغى . لا يقال : اللامُ تَدْخُلُ على معمولِ الخبرِ فهذا منه فيكونُ مُلْغى؛ لأنه لو فُرِضَ الخبرُ وهو « كتابٌ » عاملاً  صفتُه عاملةٌ وهو « مرقوم » لامتنعَ ذلك . أمَّا مَنْعُ عملِ « كتابٌ » فلأنَّه موصوف ، والمصدرُ الموصوفُ لا يعمل . وأمَّا امتناعُ عملِ « مرقومٌ » فلأنَّه صفةٌ ، ومعمولُ الصفةِ لا يتقدَّمُ على موصوفِها . وأيضاً فاللامُ إنما تدخُلُ على معمولِ الخبر بشرطِه ، وهذا ليس معمولاً للخبرِ ، فتعيَّنَ أَنْ يكونَ الجارُّ هو الخبرَ ، وليس بملغى . وأمَّا قولُه ثانياً « ويكون هذا الكلامُ مفسِّراً لسِجِّين ما هو » فمُشْكِلٌ؛ لأنَّ الكتابَ ليس هو الخسَارَ الذي جُعِلَ الضميرُ عائداً عليه مُخْبِراً عنه ب « كتابٌ ».

وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : قد أخبر اللّه تعالى عن كتاب الفجار بأنه في سِجِّين وفَسَّر سِجِّيناً ب » كتاب مرقوم « فكأنه قيل : إنَّ كتابَهم في كتابٍ مرقوم فما معناه؟ قلت : » سِجِّين « كتابٌ جامعٌ ، هو ديوانُ الشرِّ دَوَّن اللّه فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفَرَةِ والفَسَقَةِ من الجنِّ والإِنسِ ، وهو كتابٌ مَسْطورٌ بَيِّنُ الكِتابةِ ،  مَعْلَمٌ يَعْلَمُ مَنْ رآهُ أنه لا خَيْرَ فيه فالمعنى : أنَّ ما كُتِبَ مِن أعمالِ الفُجَّارِ مُثْبَتٌ في ذلك الديوانِ ، ويُسَمَّى سِجِّيلاً فِعِّيلاً من السَّجْلِ وهو الحَبْسُ والتضييق؛ لأنه سببُ الحِبْسِ والتضييق في جهنم » انتهى.

اهـ (الدُّرُّ المصُون).

١٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣)

أساطير أباطيل ، واحدها أسطورة مثل أحدوثة وَأحادِيث.

* * *

١٤

و (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)

(كَلَّا)

وتفسيرها تفسير التي قبلها.

(بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) بإدغام اللام في الراء وتفخيم الألف.

وقد قرئت بل ران - بإمالة الألف والراء إلى الكسر.

وقرئت بلْ ران بإظهار اللام والإدغام ، والِإدغام أجود لقرب اللام من الراء ، ولغلبة الراء على اللام.

وإظهار اللام جائز إلا أن اللام من كلمة ، والراء من كلمة أخرى.

وران بمعنى غطى عَلَى قُلُوبِهِمْ ، يقال : ران على قلبه الذنب يَرينُ رَيْناً إذا غشي على قلبه.

ويقال غان على قلبه يغينُ غَيْناً.

والغَيْنُ كالغيم الرقيق ، والريْن كالصدأ يغشى على القلب.

* * *

١٥

وقوله جل ثناؤه : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥)

وفي هذه الآية دليل على أن اللّه يُرَى في الآخرة ، لولا ذلك لما كان في

هذه الآية فائدة ، ولا [خسَّت] منزلة الكفار بأنهم يحجبون عن اللّه - عزَّ وجلَّ -

وقال تعالى في المؤمنين : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣).

فأعلم اللّه عزَّ وجلَّ أن المؤمنين ينظرون إلى اللّه ، وأن الكفارَ يُحْجَبُونَ عَنْه

* * *

١٦

(ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (١٦)

ثم بعد [حجبهم] عن اللّه يدخلِون النار وَلاَ يخرجُونَ عنها خَالِدِين فيها.

* * *

١٧

(ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧)

أي كنتم تكذبون بالبعث والجنة والنَّارِ . ثم أَعْلَمَ - عزَّ وجلَّ - أين محل

كتاب الأبرار وما لهم من النعيم فرفع كتابهم على قدر مرتبتهم كما سَفَل

وخسَّس كتاب الفجار فقال :

* * *

١٨

(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨)

أَي أعلى الأمكنة (١).

__________

(١) قال السَّمين :

  لَفِي عِلِّيِّينَ  : هو خبر « إنَّ » . وقال ابنُ عطية هنا كما قال هناك ، ويُرَدُّ عليه بما تقدَّم . وعِلِّيُّون جمع عِلِّيّ ،  هو اسمُ مكانٍ في أعلى الجنة ، وجَرَى مَجْرَى جمع العقلاء فرُفع بالواوِ ونُصِبَ وجُرَّ بالياء مع فوات شرطِ العقل . وقال أبو البقاء : « واحدُهم عِلِّيّ وهو الملك . وقيل : هي صيغةُ الجمع مثلَ عشرين » ثم ذكر نحواً مِمَّا ذَكرَهُ في « سِجِّين » مِنْ الحَذْفِ المتقدِّم . وقال الزمخشري : « عِلِّيُّون : عَلَمٌ لديوانِ الخبر الذي دُوِّن فيه كلُّ ما عَمِلَتْه الملائكةُ وصُلَحاءُ الثقلَيْنِ ، منقولٌ مِنْ جَمْع » عِلِّيّ « فِعِّيل من العُلُو ك » سِجِّين « مِنْ السَّجْن » ، سُميِّ بذلك : إمَّا لأنه سببُ الارتفاعِ ، وإمَّا لأنه مرفوعٌ في السماءِ السابعةِ « . قلت : وتلك الأقوالُ الماضيةُ في » سِجِّين « كلُّها عائدةٌ هنا.

اهـ (الدُّرُّ المصُون).

١٩

(وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (١٩)

وإعراب هذا الاسم كإعراب الجمع لأنه على لفظ الجمع ، كما تقول

هذه قِنِسْرُونَ ، ورأيت قِنِسْرِين ، وقال بعض النحويين : هذا جمع لما لا

يُحَدُّ وَاحِده ، نحو ثَلَاثُون وَأَرْبَعونَ ، فثلاثون كان لفظه لفظ جمع ثَلَاثٍ.

وكذلك قول الشاعر :

قَدْ شَرِبَتْ إِلاَّ الدُّهَيْدِهِينَا . . . قُلَيِّصَاتٍ وأُبَيْكِريِنَا

يعني أن الإبل قَدْ شَرِبَت الأجمع الدهْدَاةِ ، والدهداة حاشية الإبل كان

قليصات وأبيكرين ، ودهيدهين جمع ليس واحده محدوداً معلوم العَدَدِ.

والقول الأول قول أكثر النحويين وأَبْيَنُها.

* * *

٢٣

و (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣)

الأرائك : واحدها أريكة ، وهي الأسِرَّة في الحجال.

* * *

٢٥

و (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥)

الرحيق الشراب الذي لاَ غِشَّ فيه ، قَالَ حَسَّان :

يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ البَريصَ عليهمُ . . . بَرَدى يُصَفَّقُ بالرحِيقِ السَّلْسَل

ومعنى (مَخْتُومٍ) : في انقطاعه خاصة - ثم بَيَن فَقَالَ :

* * *

٢٦

(خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (٢٦)

شربوا هذا الرحيق فَنِيَ ما في الكأس وانقطع الشرْبُ ، انختم ذلك بطعم

المسك ورائحته.

* * *

٢٨

(وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨)

تأتيهم من علو عيناً تنسم عليهم من الغرف ، فعيناً في هذا القول

منصوبة مَفْعولةٌ ، كما قال : ( إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيمًا).

ويجوز أن يكون (عَيْنًا) منصوبة بقوله يَسْقَوْنَ عيناً ، أي مِنْ عَيْنٍ.

ويجوز أن يكون عيناً منصوباً على الحال ، ويكون (تَسْنِيم) معرفة

و (عَيْنًا) نكرة.

* * *

٣٠

و (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (٣٠)

هؤلاء جماعة من كفار قرَيش كان يَمُرُّ بِهِمْ من قَدُمَ إسلامُه مع النبي - صلى اللّه عليه وسلم - علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، وغيره - رحمهم اللّه فيعيرونَهُمْ بالإسلام على وجه السخْرِية مِنْهمْ.

* * *

٣١

(وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١)

معجبيين بما هم فيه يَتَفكَّهوَنَ بذكرهم.

* * *

٣٣

(وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (٣٣)

أي ما أرسل هؤلاء القوم على أصحاب النبي - صلى اللّه عليه وسلم - يحفظون عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ.

* * *

٣٤

(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤)

يعني يوم القيامةِ.

* * *

٣٦

(هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)

أي هل جُوزُوا بِسُخْرِيَتهمْ بالمؤمِنينَ في الدنيا.

ويقرأ هَثُّوِّبَ ، بإدغام اللام في الثاء .