( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١)
(وَيْلٌ) رفع بالابتداء والخبر قوله (لِلْمُطَفِّفِينَ) ، ولو كان في غير القرآن لجاز
" ويلاً " للمطففين ، على معنى جعل اللّه لهم ويلاً ، والرفع أجود في القراءة
لأن قد ثبت لهم هذا ، والويل كلمة تقال لكل من هو في عذاب
وهلكة ، والمطففون الذين ينقصون المكيال والميزان وإنما قيل للفاعل من هذا
مطفف ، لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان ، إلا الشيء الحقير الطفيف.
وإنما أخِذَ من طَفَّ الشيء وهو جانبه ، وقد فسر أمره في السورة فقال :
* * *
(الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢)
إذا اكتالوا من الناس استوفوا عَلَيْهم
الكيل وكذلك إذا اتَّزَنُوا استوفوا الوزن ، ولم يذكرا إذا اتَّزَنوا " لأن الكيل
والوزن بهما الشراء والبيع فيما يكال ويوزن.
* * *
(وَإِذَا كَالُوهُمْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣)
أي إذا كالوا لهم وزنوا لهم يخسرون ، أي ينقصون في الكيل
والوزن ، ويجوز في اللغة يَخْسِرون.
يقال : . أخسَرَتُ الميزان وخَسَرتُه ، ولا أعلم أحداً قرأ في هذا الموضع يَخْسرون ، ومن " تأول معنى " كَالُوهُم " كالوا لههم لم يجز أن يقف على كالوا حتى يصلها بِ (هم) ، فيقول (كالُوهُم) (١).
__________
(١) قال السَّمين :
كَالُوهُمْ وَّزَنُوهُمْ : رُسِمتا في المصحفِ بغير ألفٍ بعد الواوِ في الفعلَيْن ، فمِنْ ثَمَّ اختلفَ الناسُ في « هم » على وجهين ، أحدهما : هو ضميرُ نصبٍ ، فيكونُ مفعولاً به ، ويعودُ على الناس ، أي : وإذا كالُوا الناسَ ، وَزَنوا الناسَ . وعلى هذا فالأصلُ في هذَيْن الفعلَيْن التعدِّي لاثنين ، لأحدِهما بنفسِه بلا خِلافٍ ، وللآخرِ بحرفِ الجرِّ ، ويجوزُ حَذْفُه . وهل كلٌّ منهما أصلٌ بنفسِه ، أحدُهما أصلٌ للآخر؟ خلافٌ مشهورٌ . والتقدير : وإذا كالوا لهم طعاماً وَزَنُوه لهم ، فحُذِف الحرفُ والمفعولُ المُسَرَّح . وأنشد الزمخشريُّ :
٤٥١٣ ولقد جَنَيْتُكَ أَكْمُؤاً وعَساقِلاً . . . ولقد نَهْيْتُك عَن بناتِ الأَوْبَرِ
أي : جَنَيْتُ لك . و
الثاني : أنه ضميرُ رفعٍ مؤكِّدٍ للواو . والضميرُ عائدٌ على المطففينِ ، ويكونُ على هذا قد حَذَفَ المَكيلَ والمَكيلَ له والموزونَ والموزونَ لهُ . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ رَدَّ هذا ، فقال : « ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ ضميراً مرفوعاً للمطفِّفين؛ لأنَّ الكلامَ يَخْرُجُ به إلى نَظْم فاسدٍ ، وذلك أنَّ : إذا أخذوا من الناسِ اسْتَوْفُوا ، وإذا أعطَوْهم أَخْسَروا . فإنْ جَعَلْتَ الضميرَ للمطفِّفين انقلبَ إلى قولِك : إذا أخذوا من الناسِ اسْتَوْفَوْا ، وإذا تَوَلَّوا الكيلَ الوزنَ هم على الخصوص أَخْسَروا ، وهو كلامٌ مُتَنَافِرٌ؛ لأنَّ الحديثَ واقعٌ في الفعل لا في المباشر ».
قال الشيخ : « ولا تنافُرَ فيه بوجهٍ ، ولا فرقَ بين أَنْ يؤكَّد الضميرُ لا يُؤَكَّد ، والحديثُ واقعٌ في الفعل . غايةُ ما في هذا أنَّ متعلقَ الاستيفاء وهو على الناس مذكورٌ ، وهو في كَالُوهُمْ وَّزَنُوهُمْ محذوفٌ للعلم به؛ لأنه من المعلوم أنهم لا يُخْسِرون ذلك لأنفسهم » . قلت : الزمخشريُّ يريدُ أَنْ يُحافظَ على أنَّ مرتبطٌ بشيئَيْن : إذا أخذوا مِنْ غيرِهم ، وإذا أَعْطَوْا غيرَهم ، وهذا إنما يَتِمُّ على تقديرِ أَنْ يكونَ الضميرُ منصوباً عائداً على الناس ، لا على كونِه ضميرَ رفعٍ عائداً على المطفِّفين ، ولا شكَّ أن هذا الذي ذكَره الزمخشريُّ وأرادَه أَتَمُّ وأَحسنُ مِنْ الثاني . ورجَّح الأوّلَ سقوطُ الألفِ بعد الواوِ ، ولأنه دالٌّ على اتصالِ الضميرِ ، إلاَّ أنَّ الزمخشري استدركه فقال : « والتعلُّقُ في إبطالِه بخطِّ المصحفِ وأنَّ الألفَ التي تُكتب بعد واوِ الجمع غيرُ ثابتةٍ فيه ، ركيكٌ لأنَّ خَطَّ المصحفِ لم يُراعِ في كثيرٍ منه حَدَّ المصطلحِ عليه في علمِ الخطِّ ، على أني رأيْتُ في الكتب المخطوطةِ بأيدي الأئمة المُتْقِنين هذه الألفَ مرفوضةً لكونِها غيرَ ثابتةٍ في اللفظِ والمعنى جميعاً؛ لأنَّ الواوَ وحدَها مُعْطِيَةٌ معنى الجَمْع ، وإنما كُتِبت هذه الألفُ تَفْرِقَةً بين واوِ الجمعِ وغيرِها في نحو قولِك : » هم [ لم ] يَدْعُوا « ، و » هو يَدْعُو « ، فمَنْ لم يُثْبِتْها قال : كافٍ في التفرقةِ بينهما ، وعن عيسى بنِ عمرَ وحمزةَ أنَّها يرتكبان ذلك ، أي : يجعلان الضميرَيْن للمطففين ، ويقفان عند الواوَيْن وُقَيْفَةً يُبَيِّنان بها ما أرادا ».
ولم يَذْكُر فعلَ الوزنِ أولاً؛ بل اقتصر على الكيلِ ، فقال : « إذا اكْتالوا » ولم يَقُلْ : اتَّزَنوا ، كما قال ثانياً : وَزَنُوهم . قال الزمخشري : « كأنَّ المطفِّفين كانوا لا يأخذون ما يُكال ويُوْزَنُ إلاَّ بالمكاييلِ دون الموازينِ لتمكُّنهم بالاكتيالِ من الاستيفاءِ والسَّرِقَةِ؛ لأنَّهم يُدَعْدِعُون ويَحْتالون في المَلْء ، وإذا أَعْطَوْا/ كالُوا ووزَنوا لتمكُّنِهم من البَخْسِ في النوعَيْن جميعاً ».
« يُخْسِرون » جوابُ « إذا » وهو مُعَدَّىً بالهمزة . يقال : خَسِرَ الرجلُ ، وأَخْسَرْتُه أنا ، فمفعولُه محذوفٌ ، أي : يُخْسِرون الناسَ مَتاعَهم.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
ومن الناس من يجعل " هم " توكيداً لما في كالوا ، فيجوز أن تقف فتقول : وإذا كالوا ، والاختيار أن تكون " هم " في موضع نصب ، بمعنى كالوا لهم . ولو كانت على معنى كالوا ، ثم جاءت " هم " توكيداً ، لكانَ في المصحف ألف مثبْة قَبلَ (همْ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥)
يعنى يوم القيامة ، أي إنهم لو ظنوا أنهم يبعثون ما نَقصوا في الكيل
والوزن.
* * *
و (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦)
(يَوْمَ) منصوب بقوله (مَبْعُوثُونَ)
ألا يظنون أنهم يبعثون يوم القيامة.
ولو قرئت " يَوْمِ يقوم الناس "
بكسر يوم لكان جَيِّداً على معنى ليوم يقوم الناس.
ولو قرئت بالرفع لَكَانَ جَيِّداً يومُ يقوم الناسُ ، على معنى ذلك يوم يقوم الناس ، ولا يجوز القراءة إلا بما قرأ به القراء
(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) - بالنصب - لأن القراءة سنة ، ولا يجوز أن تخالف
بما يجوز في العربية.
* * *
و (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧)
(كَلَّا) رَدعٌ وتنبيه.
ليس الأمر على ما هم عليه ، فليرتدعوا عَنْ ذَلِكَ
و (فِي سِجِّينٍ) زعم أهل اللغة أن سِجِّينَ فِعِّيل من السجْنِ ،
كتابهم في حبس ، جعل ذلك دَلالة على خساسة مَنْزِلَتِهِمْ.
وقيل (فِي سِجِّينٍ) في حسابٍ ، وفِي سِجِّينٍ في حجر من الأرْضِ السابِعَةِ (١).
* * *
و (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (٨)
أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت وَلَا قَوْمُك ، ثم فسر فقال :
* * *
(كِتَابٌ مَرْقُومٌ (٩)
أي مكتوب.
__________
(١) قال السَّمين :
لَفِي سِجِّينٍ : اختلفوا في نون « سِجِّين » . فقيل : هي أصليةٌ . اشتقاقهُ من السِّجْنِ وهو الحَبْسُ ، وهو بناءُ مبالغةٍ ، فسِجِّين من السَّجْنِّ كسِكِّير من السُّكْر . وقيل : بل هي بدلٌ من اللامِ ، والأصلُ : سِجِّيْل ، مشتقاً من السِّجِلِّ وهو الكتابُ . واختلفوا فيه أيضاً : هل هو اسمُ موضعٍ ، اسمُ كتابٍ مخصوصٍ؟ وهل هو صفةٌ عَلَمٌ منقولٌ مِنْ وصفٍ كحاتِم . وهو مصروفٌ إذ ليس فيه إلاَّ سببٌ واحدٌ وهو العَلَمِيَّةُ ، وإذا كان اسمَ مكانٍ ، فقوله « كتابٌ مَرْقُوْمٌ » : إمَّا بدلٌ منه ، خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، وهو ضميرٌ يعودُ عليه ، وعلى التقديرَيْن فهو مُشْكِلٌ؛ لأنَّ الكتابَ ليس هو المكانَ فقيل : التقدير : هو مَحَلُّ كتابٍ ، ثم حُذِفَ المضافُ . وقيل : التقديرُ : وما أدراك ما كتابُ سِجِّين؟ فالحذفُ ، إمَّا مِنْ الأولِ ، وإمَّا مِنْ
الثاني : وأمَّا إذا قُلْنا : إنه اسمٌ ل « كتاب » فلا إشكال.
وقال ابن عطية : « مَنْ قال : إنَّ سِجِّيناً موضعٌ فكتابٌ مرفوعٌ ، على أنه خبرُ » إنّ « والظرفُ الذي هو » لفي سِجِّين « مُلْغَى ، ومَنْ جعله عبارةً عن الخَسارة ، فكتابٌ خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، التقدير : هو كتابٌ ، ويكونُ هذا الكلامُ مفسِّراً لِسِجِّين ما هو؟ » انتهى ، وهذا لا يَصِحُّ ألبتَّةَ؛ إذ دخولُ اللامِ يُعَيِّنُ كونَه خبراً فلا يكونُ مُلْغى . لا يقال : اللامُ تَدْخُلُ على معمولِ الخبرِ فهذا منه فيكونُ مُلْغى؛ لأنه لو فُرِضَ الخبرُ وهو « كتابٌ » عاملاً صفتُه عاملةٌ وهو « مرقوم » لامتنعَ ذلك . أمَّا مَنْعُ عملِ « كتابٌ » فلأنَّه موصوف ، والمصدرُ الموصوفُ لا يعمل . وأمَّا امتناعُ عملِ « مرقومٌ » فلأنَّه صفةٌ ، ومعمولُ الصفةِ لا يتقدَّمُ على موصوفِها . وأيضاً فاللامُ إنما تدخُلُ على معمولِ الخبر بشرطِه ، وهذا ليس معمولاً للخبرِ ، فتعيَّنَ أَنْ يكونَ الجارُّ هو الخبرَ ، وليس بملغى . وأمَّا قولُه ثانياً « ويكون هذا الكلامُ مفسِّراً لسِجِّين ما هو » فمُشْكِلٌ؛ لأنَّ الكتابَ ليس هو الخسَارَ الذي جُعِلَ الضميرُ عائداً عليه مُخْبِراً عنه ب « كتابٌ ».
وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : قد أخبر اللّه تعالى عن كتاب الفجار بأنه في سِجِّين وفَسَّر سِجِّيناً ب » كتاب مرقوم « فكأنه قيل : إنَّ كتابَهم في كتابٍ مرقوم فما معناه؟ قلت : » سِجِّين « كتابٌ جامعٌ ، هو ديوانُ الشرِّ دَوَّن اللّه فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفَرَةِ والفَسَقَةِ من الجنِّ والإِنسِ ، وهو كتابٌ مَسْطورٌ بَيِّنُ الكِتابةِ ، مَعْلَمٌ يَعْلَمُ مَنْ رآهُ أنه لا خَيْرَ فيه فالمعنى : أنَّ ما كُتِبَ مِن أعمالِ الفُجَّارِ مُثْبَتٌ في ذلك الديوانِ ، ويُسَمَّى سِجِّيلاً فِعِّيلاً من السَّجْلِ وهو الحَبْسُ والتضييق؛ لأنه سببُ الحِبْسِ والتضييق في جهنم » انتهى.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣)
أساطير أباطيل ، واحدها أسطورة مثل أحدوثة وَأحادِيث.
* * *
و (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)
(كَلَّا)
وتفسيرها تفسير التي قبلها.
(بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) بإدغام اللام في الراء وتفخيم الألف.
وقد قرئت بل ران - بإمالة الألف والراء إلى الكسر.
وقرئت بلْ ران بإظهار اللام والإدغام ، والِإدغام أجود لقرب اللام من الراء ، ولغلبة الراء على اللام.
وإظهار اللام جائز إلا أن اللام من كلمة ، والراء من كلمة أخرى.
وران بمعنى غطى عَلَى قُلُوبِهِمْ ، يقال : ران على قلبه الذنب يَرينُ رَيْناً إذا غشي على قلبه.
ويقال غان على قلبه يغينُ غَيْناً.
والغَيْنُ كالغيم الرقيق ، والريْن كالصدأ يغشى على القلب.
* * *
وقوله جل ثناؤه : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥)
وفي هذه الآية دليل على أن اللّه يُرَى في الآخرة ، لولا ذلك لما كان في
هذه الآية فائدة ، ولا [خسَّت] منزلة الكفار بأنهم يحجبون عن اللّه - عزَّ وجلَّ -
وقال تعالى في المؤمنين : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣).
فأعلم اللّه عزَّ وجلَّ أن المؤمنين ينظرون إلى اللّه ، وأن الكفارَ يُحْجَبُونَ عَنْه
* * *
(ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (١٦)
ثم بعد [حجبهم] عن اللّه يدخلِون النار وَلاَ يخرجُونَ عنها خَالِدِين فيها.
* * *
(ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧)
أي كنتم تكذبون بالبعث والجنة والنَّارِ . ثم أَعْلَمَ - عزَّ وجلَّ - أين محل
كتاب الأبرار وما لهم من النعيم فرفع كتابهم على قدر مرتبتهم كما سَفَل
وخسَّس كتاب الفجار فقال :
* * *
(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨)
أَي أعلى الأمكنة (١).
__________
(١) قال السَّمين :
لَفِي عِلِّيِّينَ : هو خبر « إنَّ » . وقال ابنُ عطية هنا كما قال هناك ، ويُرَدُّ عليه بما تقدَّم . وعِلِّيُّون جمع عِلِّيّ ، هو اسمُ مكانٍ في أعلى الجنة ، وجَرَى مَجْرَى جمع العقلاء فرُفع بالواوِ ونُصِبَ وجُرَّ بالياء مع فوات شرطِ العقل . وقال أبو البقاء : « واحدُهم عِلِّيّ وهو الملك . وقيل : هي صيغةُ الجمع مثلَ عشرين » ثم ذكر نحواً مِمَّا ذَكرَهُ في « سِجِّين » مِنْ الحَذْفِ المتقدِّم . وقال الزمخشري : « عِلِّيُّون : عَلَمٌ لديوانِ الخبر الذي دُوِّن فيه كلُّ ما عَمِلَتْه الملائكةُ وصُلَحاءُ الثقلَيْنِ ، منقولٌ مِنْ جَمْع » عِلِّيّ « فِعِّيل من العُلُو ك » سِجِّين « مِنْ السَّجْن » ، سُميِّ بذلك : إمَّا لأنه سببُ الارتفاعِ ، وإمَّا لأنه مرفوعٌ في السماءِ السابعةِ « . قلت : وتلك الأقوالُ الماضيةُ في » سِجِّين « كلُّها عائدةٌ هنا.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (١٩)
وإعراب هذا الاسم كإعراب الجمع لأنه على لفظ الجمع ، كما تقول
هذه قِنِسْرُونَ ، ورأيت قِنِسْرِين ، وقال بعض النحويين : هذا جمع لما لا
يُحَدُّ وَاحِده ، نحو ثَلَاثُون وَأَرْبَعونَ ، فثلاثون كان لفظه لفظ جمع ثَلَاثٍ.
وكذلك قول الشاعر :
قَدْ شَرِبَتْ إِلاَّ الدُّهَيْدِهِينَا . . . قُلَيِّصَاتٍ وأُبَيْكِريِنَا
يعني أن الإبل قَدْ شَرِبَت الأجمع الدهْدَاةِ ، والدهداة حاشية الإبل كان
قليصات وأبيكرين ، ودهيدهين جمع ليس واحده محدوداً معلوم العَدَدِ.
والقول الأول قول أكثر النحويين وأَبْيَنُها.
* * *
و (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣)
الأرائك : واحدها أريكة ، وهي الأسِرَّة في الحجال.
* * *
و (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥)
الرحيق الشراب الذي لاَ غِشَّ فيه ، قَالَ حَسَّان :
يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ البَريصَ عليهمُ . . . بَرَدى يُصَفَّقُ بالرحِيقِ السَّلْسَل
ومعنى (مَخْتُومٍ) : في انقطاعه خاصة - ثم بَيَن فَقَالَ :
* * *
(خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (٢٦)
شربوا هذا الرحيق فَنِيَ ما في الكأس وانقطع الشرْبُ ، انختم ذلك بطعم
المسك ورائحته.
* * *
(وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨)
تأتيهم من علو عيناً تنسم عليهم من الغرف ، فعيناً في هذا القول
منصوبة مَفْعولةٌ ، كما قال : ( إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيمًا).
ويجوز أن يكون (عَيْنًا) منصوبة بقوله يَسْقَوْنَ عيناً ، أي مِنْ عَيْنٍ.
ويجوز أن يكون عيناً منصوباً على الحال ، ويكون (تَسْنِيم) معرفة
و (عَيْنًا) نكرة.
* * *
و (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (٣٠)
هؤلاء جماعة من كفار قرَيش كان يَمُرُّ بِهِمْ من قَدُمَ إسلامُه مع النبي - صلى اللّه عليه وسلم - علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، وغيره - رحمهم اللّه فيعيرونَهُمْ بالإسلام على وجه السخْرِية مِنْهمْ.
* * *
(وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١)
معجبيين بما هم فيه يَتَفكَّهوَنَ بذكرهم.
* * *
(وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (٣٣)
أي ما أرسل هؤلاء القوم على أصحاب النبي - صلى اللّه عليه وسلم - يحفظون عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ.
* * *
(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤)
يعني يوم القيامةِ.
* * *
(هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)
أي هل جُوزُوا بِسُخْرِيَتهمْ بالمؤمِنينَ في الدنيا.
ويقرأ هَثُّوِّبَ ، بإدغام اللام في الثاء .