سُورَةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ

مَكِّيَّةٌ وَهِيَ ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ آيَةً

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله عَر وَجَلً : (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١)

" أن " في موضع نصب بـ (أَرْسَلْنَا) ، لأنَّ الأصْلَ بأن أَنْذِرْ قَوْمَكَ ، فلما أسقطت الباء أفضى الفِعْلُ إلى " أن " فنصبها

وقد قال قوم يُرتَضَى عِلْمُهُمْ إن موضع مِثْلِها جَر وإن سقطت الباء.

لأن " أن " يحسن معها سقوط الباء . ولا تسقط من المصدر

الباء ، لأنك لو قلت : إني أرسلتك بالإنْذَارِ والتهدد لم يُجِزْ أن تقول إني

أَرْسَلْتُك الإنذار والتهدُّدَ ، ولو قلت إني أرسلتك بأن تُنْذِرَ وأن تهدد لجاز وإني أرسَلْتُكَ أن تنذر وأن تهدِّدَ.

وأصل الِإنذار في اللغة الِإعلام بما يخاف منه فيحذر ، وأن لا يتعرض

له ويجوز أن يكون " أَن " تفسير لما أُرْسِلَ بِهِ.

فيكون  : إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَيْ أَنْذِرْ قَومَكَ.

* * *

٢

(قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللّه وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣)

أرسل اللّه نوحاً وجميع الأنبياء بالأمر بعبادته وإيثار تقواه وطاعة رسله.

* * *

٣

و (أَنِ اعْبُدُوا اللّه وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣)

(يَغْفِرْ) جزم جواب الأمر (أعْبُدُوا اللّه) واتقوه وأطيعوني يغفر لكم من

ذنوبكم ، والنحويون البصريون كلهم ما خلا أبا عمرو بن العلاء لا يدغِمُونَ

الراء في اللام ، لا يجيزون يَغْفِر لَّكُمْ ، وأبو عمرو بن العلاء يرى الإدغام

جائزاً.

وزعم الخليل وسيبويه أن الراء حرف مكرر متى أدغم في اللام ذهب

التكرير منه ، فاختل الحرف ، والمسموع من العرب وقرأه القراء إظهار الراء.

٤

(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللّه إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤)

ومعنى (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ههنا - يغفر لكم ذنوبكم

ودخلت "مِنْ " تختص الذنوب من سائر الأشياء ، لم تدخل لتَبْعيض الذنُوب ، ومثله قوله (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ).

معناه اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ليس الرجس ههنا

بعض الأوثان.

و (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللّه إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ).

معناه اتقوا اللّه وأطيعون يؤخركم عن العذاب ، أي يؤخركم فتموتوا غير

ميتة المُسْتَأْصَلِين بِالعَذَابِ.

ثم قال : (إِنَّ أَجَلَ اللّه إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ)

معناه إذا جاء الأجل في الموت لا يؤخر بعذاب كان  باستئصال.

* * *

٧

 (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (٧)

قيل إنهم كانوا يسدُّون آذانهم ويغطون وجوههم لئلا يسمعوا قَوْلَه.

وليبالغوا في الإعراض عنه بتغطية الوجوه.

و (وَأَصَرُّوا) أقاموا ولم ينووا توبة منه.

(وَاسْتَكْبَرُوا) أخذتهم العزة من اتباع نوح والدليل على ذلك

(أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ).

* * *

٨

و (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (٨)

أي دعوتهم مظهراً لهم الدعوة.

و " جِهَارًا " منصُوبٌ مصدر موضوع موضع

الحال.

 دعوتهم مجاهراً بالدعاء إلى توحيد اللّه وتقواه.

* * *

(ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ ، لَهًمْ إسْرَاراً).

أي خَلَطْتُ لَهُمْ دُعَاءَهم في العلانيةَ بدعاء السر.

فقلت : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا).

أي استدعوا مَغْفِرَةَ رَبِّكُمْ.

* * *

١١

(يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (١١)

وقيل إِنهم كانوا قد أجدبوا فَاعْلَمَهُم أن إيمانهم باللّه يجمع لهم مَعَ

الحظِّ الوافِرِ في الآخرة.

الخِصْب والغِنَى في الدنيا.

و (مِدْرَارًا) : كثيرة الدَّر ، أي كثيرة المطر.

* * *

١٢

(وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (١٢)

يعطيكم زينة الدنيا وهي المال والبنون.

* * *

(وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) : أَي بساتين.

* * *

١٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ للّه وَقَارًا (١٣)

قيل : مَا لكم لَا تَخَافُونَ للّه عَظَمةً ، وقيل لا ترجون عاقبة ، وحقيقته

- واللّه أعلم - مالكم لا ترجون عاقبة الإيمان فتوحدون اللّه وقد جعل لكم في - أنفسكم آية تدل على توحيده من خلقه إياكم ، ومن خلق السَّمَاوَاتِ والأرضِينَ والشمس والقمر فقال :

* * *

١٤

(وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (١٤)

أي طوراً بعد طورٍ ، نقلكم من حالٍ إلى حال ومن جِهَةٍ من الخلق إلى

جهة - خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ، ثم جعل

المضغة عظْماً ، وكسا العظم لحماً ثُمَّ قَررَهُمْ فقال :

١٥

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللّه سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (١٥)

و (طباقاً) مَنْصوبٌ على جهتين :

إحداهما مطَابِقَةً طِباقاً.

والأخرى من نعت (سَبْعَ) أيْ خَلَق سبعاً ذات طباق.

* * *

١٦

(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (١٦)

قال أهل العربية : يجوز أن يكون في السماء الدنيا

وقيل (فِيهِنَّ) لأنهن كالشيء الوَاحِد.

وجاء في التفسير أن وجه الشمس يضيء لأهل الأرض من

ظَهْرها وقَفَاهَا ويضيء لأهل السَّمَاوَات وكذلك القمر.

* * *

١٧

(وَاللّه أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (١٧)

و (نَبَاتًا) محمول في المصدر على  ، لأن معنى " أنبتكم " جعلكم

تنبتون نباتاً والمصدر على لفظ أنبتكم إنباتاً ونباتاً أبلغ في .

* * *

٢٠

 (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (٢٠)

أي طرقاً بَيِّنَةً.

* * *

٢١

و (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (٢١)

(وَوُلْدُهُ) ويقرأ : (وَوَلَدُهُ).

والوَلَدُ والولد بمعنى واحِدٍ ، مثل العَرَب والعُرْب ، والعجم والعُجْم.

* * *

٢٢

وقوله (وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (٢٢)

يقال : مكر كبير وكُبَّار وكِبار في معنى واحد.

* * *

٢٣

(وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (٢٣)

وقُرِئَتْ (وُدًّا) - بضم الواو -.

(وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا)

هذه خمسة أصنام كانَتْ في قَوْمِ نُوح يعبدونها.

ثُمَّ صَارَتْ إلَى العَرَبِ

فكان وَدّ لكلب ، وكان سُواع لِهَمَدَان ، وكان يَغُوث لمذحج ، وكان نَسْر لحمَير

وقرئت (يَغُوثاً وَيَعُوقاً).

ويغوث ويعوق لا ينْصَرِفَان لأنَّهُمَا في وزن الفعل وهما معرفتان.

والقراءة التي عليها القراء والمصحف ترك الصرف.

وليس في يغوث ويعوق ألف في الكتاب ، ولذلك لا ينبغي أن يقرأ : إلا بترك الصرف.

والذين صرفوا جعلوا هذين الاسمين الأغلب عليهما كما الصرف إذ كان أصل الأسماء عندهم الصرْفَ ،  جعلوهما نَكِرةً وإن كانا معرفتين ، فكأنهم قالوا : ولا تذرون صنماً من أصنامكم ، ولا ينبغي أن يقرأ بها لمخالفتها المصحف (١).

* * *

٢٥

قوله ت (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّه أَنْصَارًا (٢٥)

ويقرأ (مما خطاياهم) ، وخطيئة يجمع على خطايا . وخطيئات.

وقَد فسَّرنَا ذلك فيما سلف من الكتاب.

* * *

٢٦

(وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦)

(دَيَّارًا) في معنى أحد . يُقَال ما في الدار أحَدٌ وما بها دَيَّارٌ.

وأصْلهَا دَيْوَار ، [فَيْعَال] فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى.

وإنما دعا عليهم نوح عليه السلام لأنَّ اللّه جَل - وَعَلَا أوحى إليه (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ).

* * *

٢٨

قوله تعالى : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (٢٨)

(وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا)

قالوا بيتي مَسْجداً ، وإن شئت ، أسكنت الياء وإن شئت فتحتها.

* * *

و (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا).

معناه إلا تباراً ، والتبار الهلاك ، وكل شيء أهلك فقد تبر ، ولذلك سُمِّيَ

كلُّ مكَسَّرٍ تبرا.

__________

(١) قال السَّمين :

  وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً  : يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ عَطْفِ الخاص على العام إنْ قيل : إنَّ هذه الأسماءَ لأصنامٍ ، وأن لا يكونَ إنْ قيل : إنها أسماءُ رجالٍ صالحينَ على ما ذُكر في التفسير . وقرأ نافع « وُدّاً » بضم الواوِ ، والباقون بفتحها ، وأُنْشِدَ بالوَجْهَيْن قولُ الشاعر :

٤٣٤٤ حَيَّاكَ وَدٌّ فإنَّا لا يَحِلُّ لنا . . . لَهْوُ النساءِ وإنَّ الدين قد عزما

وقول الآخر :

٤٣٤٥ فحيَّاكِ وَدٌّ مِنْ هُداكِ لفِتْيَةٍ . . . وخُوْصٍ بأعلى ذي فُضالةَ مُنْجِدِ

  وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ  قرأهما العامَّةُ بغير تنوين . فإن كانا عربيَّيْن فالمنعُ من الصَرْف للعلميَّةِ والوزن ، وإن كانا أعجميَّيْن فللعلميَّةِ والعُجْمة . وقرأ الأعمش : « ولا يَغُوْثاً ويَعُوْقاً » مصورفَيْن . قال ابن عطية : « وذلك وهمٌ : لأنَّ التعريفَ لازمٌ ووزنَ الفعل » انتهى . وليس بوهمٍ لأمرَيْن ، أحدهما : أنه صَرَفَهما للتناسُبِ ، إذ قبله اسمان منصرفان ، وبعده اسمٌ منصرفٌ ، كما صُرِفَ « سلاسل » . و

الثاني : أنه جاء على لغةِ مَنْ يَصْرِفُ غيرَ المنصرِف مطلقاً . وهي لغةٌ حكاها الكسائيُّ.

ونقل أبو الفضل الصَّرْفَ فيهما عن الأشهبِ العُقَيْليِّ ثم قال : « جَعَلهما فَعُولاً؛ فلذلك صرفهما ، فأمَّا في العامَّة فإنهما صفتان من الغَوْث والعَوْق » . قلت : وهذا كلامٌ مُشْكِلٌ . أمَّا  « فَعُولاً » فليس بصحيحٍ ، إذ مادةُ « يغث » و « يعق » مفقودةٌ . وأمَّا  « صفتان من الغَوْث والعَوْق » فليس في الصفاتِ ولا في الأسماءِ « يَفْعُل » والصحيحُ ما قَدَّمْتُه . وقال الزمخشري : « وهذه قراءةٌ مُشْكِلة؛ لأنهما إنْ كانا عربيَّيْنِ  أعجميَّيْنِ ففيهما مَنْعُ الصَّرْفِ ، ولعله قَصَدَ الازدواجَ فصرَفهما . لمصادفتِه أخواتِهما منصرفاتٍ : وَدَّاً وسُوعاً ونَسْراً » . قال الشيخ : « كأنه لم يَطَّلعْ على أنَّ صَرْفَ ما لا ينصرفُ لغةٌ ».

اهـ (الدُّرُّ المصُون).