بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عَر وَجَلً : (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١)
" أن " في موضع نصب بـ (أَرْسَلْنَا) ، لأنَّ الأصْلَ بأن أَنْذِرْ قَوْمَكَ ، فلما أسقطت الباء أفضى الفِعْلُ إلى " أن " فنصبها
وقد قال قوم يُرتَضَى عِلْمُهُمْ إن موضع مِثْلِها جَر وإن سقطت الباء.
لأن " أن " يحسن معها سقوط الباء . ولا تسقط من المصدر
الباء ، لأنك لو قلت : إني أرسلتك بالإنْذَارِ والتهدد لم يُجِزْ أن تقول إني
أَرْسَلْتُك الإنذار والتهدُّدَ ، ولو قلت إني أرسلتك بأن تُنْذِرَ وأن تهدد لجاز وإني أرسَلْتُكَ أن تنذر وأن تهدِّدَ.
وأصل الِإنذار في اللغة الِإعلام بما يخاف منه فيحذر ، وأن لا يتعرض
له ويجوز أن يكون " أَن " تفسير لما أُرْسِلَ بِهِ.
فيكون : إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَيْ أَنْذِرْ قَومَكَ.
* * *
(قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللّه وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣)
أرسل اللّه نوحاً وجميع الأنبياء بالأمر بعبادته وإيثار تقواه وطاعة رسله.
* * *
و (أَنِ اعْبُدُوا اللّه وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣)
(يَغْفِرْ) جزم جواب الأمر (أعْبُدُوا اللّه) واتقوه وأطيعوني يغفر لكم من
ذنوبكم ، والنحويون البصريون كلهم ما خلا أبا عمرو بن العلاء لا يدغِمُونَ
الراء في اللام ، لا يجيزون يَغْفِر لَّكُمْ ، وأبو عمرو بن العلاء يرى الإدغام
جائزاً.
وزعم الخليل وسيبويه أن الراء حرف مكرر متى أدغم في اللام ذهب
التكرير منه ، فاختل الحرف ، والمسموع من العرب وقرأه القراء إظهار الراء.
(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللّه إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤)
ومعنى (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ههنا - يغفر لكم ذنوبكم
ودخلت "مِنْ " تختص الذنوب من سائر الأشياء ، لم تدخل لتَبْعيض الذنُوب ، ومثله قوله (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ).
معناه اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ليس الرجس ههنا
بعض الأوثان.
و (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللّه إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ).
معناه اتقوا اللّه وأطيعون يؤخركم عن العذاب ، أي يؤخركم فتموتوا غير
ميتة المُسْتَأْصَلِين بِالعَذَابِ.
ثم قال : (إِنَّ أَجَلَ اللّه إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ)
معناه إذا جاء الأجل في الموت لا يؤخر بعذاب كان باستئصال.
* * *
(جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (٧)
قيل إنهم كانوا يسدُّون آذانهم ويغطون وجوههم لئلا يسمعوا قَوْلَه.
وليبالغوا في الإعراض عنه بتغطية الوجوه.
و (وَأَصَرُّوا) أقاموا ولم ينووا توبة منه.
(وَاسْتَكْبَرُوا) أخذتهم العزة من اتباع نوح والدليل على ذلك
(أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ).
* * *
و (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (٨)
أي دعوتهم مظهراً لهم الدعوة.
و " جِهَارًا " منصُوبٌ مصدر موضوع موضع
الحال.
دعوتهم مجاهراً بالدعاء إلى توحيد اللّه وتقواه.
* * *
(ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ ، لَهًمْ إسْرَاراً).
أي خَلَطْتُ لَهُمْ دُعَاءَهم في العلانيةَ بدعاء السر.
فقلت : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا).
أي استدعوا مَغْفِرَةَ رَبِّكُمْ.
* * *
(يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (١١)
وقيل إِنهم كانوا قد أجدبوا فَاعْلَمَهُم أن إيمانهم باللّه يجمع لهم مَعَ
الحظِّ الوافِرِ في الآخرة.
الخِصْب والغِنَى في الدنيا.
و (مِدْرَارًا) : كثيرة الدَّر ، أي كثيرة المطر.
* * *
(وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (١٢)
يعطيكم زينة الدنيا وهي المال والبنون.
* * *
(وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) : أَي بساتين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ للّه وَقَارًا (١٣)
قيل : مَا لكم لَا تَخَافُونَ للّه عَظَمةً ، وقيل لا ترجون عاقبة ، وحقيقته
- واللّه أعلم - مالكم لا ترجون عاقبة الإيمان فتوحدون اللّه وقد جعل لكم في - أنفسكم آية تدل على توحيده من خلقه إياكم ، ومن خلق السَّمَاوَاتِ والأرضِينَ والشمس والقمر فقال :
* * *
(وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (١٤)
أي طوراً بعد طورٍ ، نقلكم من حالٍ إلى حال ومن جِهَةٍ من الخلق إلى
جهة - خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ، ثم جعل
المضغة عظْماً ، وكسا العظم لحماً ثُمَّ قَررَهُمْ فقال :
(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللّه سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (١٥)
و (طباقاً) مَنْصوبٌ على جهتين :
إحداهما مطَابِقَةً طِباقاً.
والأخرى من نعت (سَبْعَ) أيْ خَلَق سبعاً ذات طباق.
* * *
(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (١٦)
قال أهل العربية : يجوز أن يكون في السماء الدنيا
وقيل (فِيهِنَّ) لأنهن كالشيء الوَاحِد.
وجاء في التفسير أن وجه الشمس يضيء لأهل الأرض من
ظَهْرها وقَفَاهَا ويضيء لأهل السَّمَاوَات وكذلك القمر.
* * *
(وَاللّه أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (١٧)
و (نَبَاتًا) محمول في المصدر على ، لأن معنى " أنبتكم " جعلكم
تنبتون نباتاً والمصدر على لفظ أنبتكم إنباتاً ونباتاً أبلغ في .
* * *
(لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (٢٠)
أي طرقاً بَيِّنَةً.
* * *
و (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (٢١)
(وَوُلْدُهُ) ويقرأ : (وَوَلَدُهُ).
والوَلَدُ والولد بمعنى واحِدٍ ، مثل العَرَب والعُرْب ، والعجم والعُجْم.
* * *
وقوله (وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (٢٢)
يقال : مكر كبير وكُبَّار وكِبار في معنى واحد.
* * *
(وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (٢٣)
وقُرِئَتْ (وُدًّا) - بضم الواو -.
(وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا)
هذه خمسة أصنام كانَتْ في قَوْمِ نُوح يعبدونها.
ثُمَّ صَارَتْ إلَى العَرَبِ
فكان وَدّ لكلب ، وكان سُواع لِهَمَدَان ، وكان يَغُوث لمذحج ، وكان نَسْر لحمَير
وقرئت (يَغُوثاً وَيَعُوقاً).
ويغوث ويعوق لا ينْصَرِفَان لأنَّهُمَا في وزن الفعل وهما معرفتان.
والقراءة التي عليها القراء والمصحف ترك الصرف.
وليس في يغوث ويعوق ألف في الكتاب ، ولذلك لا ينبغي أن يقرأ : إلا بترك الصرف.
والذين صرفوا جعلوا هذين الاسمين الأغلب عليهما كما الصرف إذ كان أصل الأسماء عندهم الصرْفَ ، جعلوهما نَكِرةً وإن كانا معرفتين ، فكأنهم قالوا : ولا تذرون صنماً من أصنامكم ، ولا ينبغي أن يقرأ بها لمخالفتها المصحف (١).
* * *
قوله ت (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّه أَنْصَارًا (٢٥)
ويقرأ (مما خطاياهم) ، وخطيئة يجمع على خطايا . وخطيئات.
وقَد فسَّرنَا ذلك فيما سلف من الكتاب.
* * *
(وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦)
(دَيَّارًا) في معنى أحد . يُقَال ما في الدار أحَدٌ وما بها دَيَّارٌ.
وأصْلهَا دَيْوَار ، [فَيْعَال] فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى.
وإنما دعا عليهم نوح عليه السلام لأنَّ اللّه جَل - وَعَلَا أوحى إليه (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ).
* * *
قوله تعالى : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (٢٨)
(وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا)
قالوا بيتي مَسْجداً ، وإن شئت ، أسكنت الياء وإن شئت فتحتها.
* * *
و (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا).
معناه إلا تباراً ، والتبار الهلاك ، وكل شيء أهلك فقد تبر ، ولذلك سُمِّيَ
كلُّ مكَسَّرٍ تبرا.
__________
(١) قال السَّمين :
وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً : يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ عَطْفِ الخاص على العام إنْ قيل : إنَّ هذه الأسماءَ لأصنامٍ ، وأن لا يكونَ إنْ قيل : إنها أسماءُ رجالٍ صالحينَ على ما ذُكر في التفسير . وقرأ نافع « وُدّاً » بضم الواوِ ، والباقون بفتحها ، وأُنْشِدَ بالوَجْهَيْن قولُ الشاعر :
٤٣٤٤ حَيَّاكَ وَدٌّ فإنَّا لا يَحِلُّ لنا . . . لَهْوُ النساءِ وإنَّ الدين قد عزما
وقول الآخر :
٤٣٤٥ فحيَّاكِ وَدٌّ مِنْ هُداكِ لفِتْيَةٍ . . . وخُوْصٍ بأعلى ذي فُضالةَ مُنْجِدِ
وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ قرأهما العامَّةُ بغير تنوين . فإن كانا عربيَّيْن فالمنعُ من الصَرْف للعلميَّةِ والوزن ، وإن كانا أعجميَّيْن فللعلميَّةِ والعُجْمة . وقرأ الأعمش : « ولا يَغُوْثاً ويَعُوْقاً » مصورفَيْن . قال ابن عطية : « وذلك وهمٌ : لأنَّ التعريفَ لازمٌ ووزنَ الفعل » انتهى . وليس بوهمٍ لأمرَيْن ، أحدهما : أنه صَرَفَهما للتناسُبِ ، إذ قبله اسمان منصرفان ، وبعده اسمٌ منصرفٌ ، كما صُرِفَ « سلاسل » . و
الثاني : أنه جاء على لغةِ مَنْ يَصْرِفُ غيرَ المنصرِف مطلقاً . وهي لغةٌ حكاها الكسائيُّ.
ونقل أبو الفضل الصَّرْفَ فيهما عن الأشهبِ العُقَيْليِّ ثم قال : « جَعَلهما فَعُولاً؛ فلذلك صرفهما ، فأمَّا في العامَّة فإنهما صفتان من الغَوْث والعَوْق » . قلت : وهذا كلامٌ مُشْكِلٌ . أمَّا « فَعُولاً » فليس بصحيحٍ ، إذ مادةُ « يغث » و « يعق » مفقودةٌ . وأمَّا « صفتان من الغَوْث والعَوْق » فليس في الصفاتِ ولا في الأسماءِ « يَفْعُل » والصحيحُ ما قَدَّمْتُه . وقال الزمخشري : « وهذه قراءةٌ مُشْكِلة؛ لأنهما إنْ كانا عربيَّيْنِ أعجميَّيْنِ ففيهما مَنْعُ الصَّرْفِ ، ولعله قَصَدَ الازدواجَ فصرَفهما . لمصادفتِه أخواتِهما منصرفاتٍ : وَدَّاً وسُوعاً ونَسْراً » . قال الشيخ : « كأنه لم يَطَّلعْ على أنَّ صَرْفَ ما لا ينصرفُ لغةٌ ».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).