( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (١)
قرئت بإدغام النون في الواو ، وقرئت بتبيين النون عند الواو.
وقرئت نُونَ والقلم - بفتح النون.
وَالَّذِي اختارَ إِدْغام النون في الواو كانت الواو ساكنة متحركة.
لأن الذي جاء في التفسير يُبَاعِدُهَا من الإسكان والتبْيين ، لأن من
أسكنها وبينها فإنما يجعلها حرفَ هجاء والذي يدغِمُهَا فجائز أن يَدغمها وهي مفتوحة (١).
وجاء في التفسير أن " نُون " الحوتُ التي دُحِيت عَلَيْهَا سَبْعُ الأرضين
وجاء في التفسير أيضاً أن النون الدواة ، ولم يجئ في التفسير كما فسرت
حروف الهجاء - ، والِإسْكان لا يَجوز أن يكون فيه إلَّا حرف هجاء.
وجاء في التفسير أن أول ما خلق اللّه القلم ، فقال له : اكتب ، فقال :
أيْ ربِّ ، وما أكتب ؟ قال : القدر ، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ، وجرى فيما جرى به القلم (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ).
* * *
و (وَمَا يَسْطُرُونَ).
معناه : وما تكتب الملائكة.
* * *
و (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢)
__________
(١) قال السَّمين :
ن : ك ص والقرآن [ ص : ١ ] وجوابُ القسمِ الجملةُ المنفيةُ بعدَها . وزعم قومٌ أنه اسمٌ لحُوتٍ وأنه واحد النِّينان . وقومٌ أنه اسمُ الدَّواةِ ، وقومٌ أنه اسمٌ لوحٍ مكتوبٍ فيه . قال الزمخشري : « وأمَّا قولُهم هو الدَّواةُ فما أدري : أهو وَضْعٌ لغويٌّ أم شرعيٌّ ، ولا يَخْلو إذا كان اسماً للدَّواةِ مِنْ أنْ يكونَ جنساً عَلَماً ، فإن كان جنساً فأين الإِعرابُ والتنوينُ؟ وإن كان عَلَماً فأين الإِعراب؟ وأيهما كان فلا بُدَّ له مِنْ مَوْقِع في تأليفِ الكلامِ؛ لأنَّك إذا جَعَلْتَه مُقْسَماً به وَجَبَ إنْ كان جنساً أَنْ تَجُرَّه وتُنَوِّنَه ، ويكونُ القَسَم بدَواة مُنكَّرةٍ مجهولةٍ ، كأنه قيل : ودَواةٍ والقلم ، وإنْ كان عَلَمَاً أَنْ تَصْرِفَه وتَجرَّه ، لا تصرِفه وتفتحَه للعلميِّةِ والتأنيثِ ، وكذلك التفسيرُ بالحوتِ : إمَّا أَنْ يُرادَ به نونٌ من النينانِ ، يُجْعَلَ عَلَماً للبَهَموتِ الذي يَزْعُمون ، والتفسيرُ باللَّوْح مِنْ نورٍ ذَهَبٍ والنهر في الجنةِ نحوُ ذلكَ » . وهذا الذي أَوْرَده أبو القاسم مِنْ محاسِنِ علمِ الإِعرابِ ، وقَلَّ مَنْ يُتْقِنُه.
وقرأ العامَّةُ : « ن » ساكنَ النونِ كنظائرِه . وأدغم ابنُ عامر والكسائيُّ وأبو بكرٍ عن عاصمٍ بلا خلافٍ ، وورش بخلافٍ عنه النونَ في الواو ، وأظهرها الباقون ، ونُقِلُ عَمَّنْ أدغمَ الغُنَّةُ وعَدَمُها . وقرأ ابن عباس والحسن وأبو السَّمَّال وابنُ أبي إسحاق بكسرِ النونِ وسعيد بن جبير وعيسى بخلافٍ عنه بفتحِها ، فالأُولى على التقاءِ الساكنين . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ مجروراً على القَسَم ، حَذَفَ حرفَ الجرِّ وبقي علمُه كقولِهم : « اللّه لأفعلَنَّ » لوجهَيْن ، أحدُهما : أنَّه مختصُّ بالجلالةِ المعظَّمة ، نادرٌ فيما عداها . و
الثاني : أنه كان ينبغي أَنْ يُنَوِّنَ . ولا يَحْسُنُ أَنْ يُقال : هو ممنوعُ الصَّرْفِ اعتباراً بتأنيث السورة ، لأنه كان ينبغي أَنْ لا يَظْهَرَ فيه الجرُّ بالكسرة ألبتَّةََ.
وأمَّا الفتحُ فيحتمل ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ يكونَ بناءً ، وأُوْثِر على الأصلِ للخفَّةِ كأينَ وكيفَ .
الثاني : أَنْ يكونَ مجروراً بحرف القسمِ المقدَّرِ/ على لغةٍ ضعيفة . وقد تقدَّم ذلك في قراءةِ « فالحقِّ والحقِّ » [ ص : ٨٤ ] . بجرِّ « الحقِّ » ، ومُنِعَتِ الصَّرْفَ ، اعتبارٌ بالسورة ، والثالث : أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ محذوفٍ ، أي : اقرؤوا نونَ ، ثم ابتدأ قَسَماً بقولِه « والقلمِ » ، يكونَ منصوباً بعد حَذْفِ حرفِ القسم ك
٤٢٩٠ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فذاكَ أمانةَ اللّه الثِّريدُ
ومُنعَ الصَّرْفَ لِما تقدَّم ، وهذا أحسنُ لعَطْفِ « والقلمِ » على مَحَلِّه.
وَمَا يَسْطُرُونَ « ما » موصولةٌ اسميةٌ حرفية ، أي : والذي يَسْطُرونه مِنَ الكُتُب ، وهم : الكُتَّابُ الحَفَظُة من الملائكة وسَطْرِهم . والضميرُ عائدٌ على مَنْ يُسَطِّرُ لدلالةِ السياقِ عليه . ولذِكْرِ الآلةِ المُكْتَتَبِ بها . وقال الزمخشري : « ويجوزُ أَنْ يُرادَ بالقلمِ أصحابُه ، فيكون الضميرُ في » يَسْطُرون « لهم » يعني فيصيرُ ك كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ [ النور : ٤٠ ] تقديرُه : كذي ظُلُماتٍ ، فالضميرُ في « يَغْشاه » يعود على « ذي » المحذوف.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
هذه مسألة من أبواب النحو ، تحتاج ، إلى تبيين.
(أنت) هو اسم (ما) ، و (بِمَجْنُونٍ) الخبر ، و (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ)
موصول بمعنى النفي.
: انتفى عنك الجنون بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ، كما تقول : أنت بنعمة اللّه
فَهِمٌ ، وما أنت بنعمة اللّه جاهل.
وتأويله : فارقك الجهل بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ، وهذا جواب لقولهم :
(وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦).
* * *
(وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣)
أي : غير مَقطوع ، وجاء في التفسير : غير محسوب.
* * *
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)
قيل : على الإسلام ، وقيل : على القرآن.
والمعنى - واللّه أعلم - أَنت على الخلق الذي أَمرك اللّه به في القرآن.
* * *
(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦)
معنى المفتون : الذي قد فُتِنَ بالجنون.
قال أبو عبيدة ، معنى الباء الطرح ، : أيكم المفتون.
قال : ومثله قول الشاعر :
نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
قال معناه : نرجو الفرج . وليس كذلك.
: نرجو كشف ما فيه نحن بالفرج ، نرجو النصر بالفرج.
والباء في (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) لا يجوز أن تكون لغواً.
وليس هذا جائزاً في العربية في قول أحد من أهلها.
وفيه قولان للنحويين :
قالوا : المفتون ههنا بمعنى الفتون ، المصادر تجيء على المفعول.
تقول العرب : ليس لهذا معقول . أي عقل . وليس له
معقود رأي ، بمعنى عقد رأى.
وتقول : دعه إلى ميسور . بمعنى : إلى يسر.
فالمعنى : فستبصر وييصرون بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ.
وفيه قول آخر : بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ بالفرقة التي أنت فيها ، فرقة الكفار التي فيها أبو جهل والوليد بن المغيرة المخزومي ومن أشبههم.
فالمعنى على هذا : فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون.
أفي فرقة الإسلام أم في فرقة الكفر.
* * *
و (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩)
أي : ودُّوا لو تصانعهم في الدين فيصانعونك.
* * *
و (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (١٠)
فعيل من المهانة ، وهي القلة.
ومَعناه ههنا القلة في الرأي والتمييز.
* * *
و (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١)
الهَمَّاز الذي يغتاب الناس.
* * *
و (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢)
معناه : كان يمنع أهله وَوَلده ولحمته من الِإسلام.
وجاء في التفسير أنه الوليد بن المغيرة المخزومي ، وكان موسراً كثير المال ، وكان له عشرة بنين فكان يقول لهم وللحمته : من أسلم منكم منعته رفدي.
* * *
و (مُعْتَدٍ أَثِيمٍ).
أي متجاوز في الظلم ، وأثيم : أي أثيم بربه ، أي أثيم باعتدائه وذنبه .
قوله عزَّ وجلَّ : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (١٣)
جاء في التفسير أن العُتُل ههنا الشديد الخصومة ، وجاء في التفسير أنه
الجافي الخلق اللئيم الضريبة ، وهو في اللُّغَةِ الغليظ الجافي.
والزنيم جاء في اللغة أنه الملزق في القوم وليس منهم ، قال حسَّانُ بن
ثابت الأنصاري.
وَأَنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ في آل هَاشِمٍ . . . كما نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ القَدَحُ الفَرْدُ
وقيل إن الزنيم الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها ، والزنمتان
المعلقتان عند حلوق المِعْزَى.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (١٤)
وقرئت على لفظ الاستفهام ، والمعنى معنى التوبيخ.
وَمَوْضِعُ " أنْ " نَصبٌ على وجهين :
على معنى أَلِأنْ كان ذا مال وبنين يَقُولُ ، (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آياتُنَا).
فيكون " أن " نصْباً بمعنى قال ذلك لأن كان ذا مال وبنين ، أي جعل مجازاة
النَعَمِةِ التي خُوِّلَهَا في المال والبنين والكفر بآياتنا.
وَإِذَا جَاءَتْ ألِفُ الاسْتِفْهام فهذا هو القول لا يصلح غيره.
وقيل في التفسير : ولا تطع كل حلاف مهين أن كان ذا مال وبنين
أي لَا تُطعْهُ لِيَسَارِه وعَدَدِه.
(إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥)
(وأساطيرُ) مرفوعة بإضمار هي ، إذا تتلى عليه آياتنا
قال هي أساطير الأولين.
وواحد الأساطير أسطورة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦)
معناه سَنَسِمُهُ عَلَى أنفه ، والخرطوم الأنف ، ومعنى سنسمه سنجعل له في
الآخرة العلم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوهِهِمْ.
وجائز - واللّه أعلم - أذا يفرده بِسمَةٍ لمبالغته في عداوة النبي عليه السلام . فيخصُّ من التشويه بما يتبين به من غيره كما كانت عداوته لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - عداوةً يُتَبَين بها من غيره.
* * *
و (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (١٧)
والجنَّة : البستان ، وهؤلاء قوم بناحية اليمن كان لهم أب يتصدق من جنته على المساكين ، فجاء في التفسير أنه كان يأخذ منها قوت سنته ، ويتصدق
بالباقي
وجاء أيضاً أنه كان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل ، وما كان في أسفل
الأكداس ، وما أخطاه القطاف من العنب وما خرج عن البساط الذي يبسط
تحت النخلة إذا صُرِمَتْ ، فكان يجتمع من ذلك شيء كثير ، فقال بنوه :
نحن جماعة ، وإن فعلنا بالمساكين ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر فحلفوا
لَيَصْرِمُنَّهَا بِسُدْفة من الليل.
قال اللّه عزَّ وجلَّ : (وَلَا يَسْتَثْنونَ).
فحلفوا ولم يقولوا : إن شاء اللّه ، فلما كان الوقت الذي اتَعَدُوا فِيه بِسُدْفة
غَدَوْا إلى جنتهم ليصرموها.
* * *
قوله تعالى : (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (١٩)
أي أرسل عليها عذاباً من السماء فاحترقت كُلها.
* * *
(فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠)
أي فأصبحت كالليل سواداً.
* * *
(فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (٢٢)
أي إن كنتم عازمين على صرام النخل.
* * *
(فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (٢٣)
أي يسرون الكلام بينهم بأن : (لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ).
والتخافِتُ إسرار الكلام.
* * *
(وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (٢٥)
من قولهم : حاردت السنة إذا منعت خيرها.
وقيل على غَضبٍ (١).
فأما الحرد الذي هو القصد فأنشدوا فيه :
أَقْبَل سَيْلٌ جاء مِنْ أَمْرِ اللّه . . . يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلَّهْ
__________
(١) قال السَّمين :
على حَرْدٍ قَادِرِينَ : يجوزُ أَنْ يكونَ « قادرين » حالاً من فاعل « غَدَوْا » . و « على حَرْدٍ » متعلِّقٌ به ، وأَن يكونَ « على حَرْدٍ » هو الحالَ ، و « قادرين » : إمَّا حالٌ ثانيةٌ ، وإمَّا حالٌ مِنْ ضميرِ الحالِ الأولى.
والحَرْدُ فيه أقوال كثيرة ، قيل : الغضبُ والحَنَقُ . وأُنْشد للأشهب ابن رُمَيْلة :
٤٣٠٤ أُسُوْدُ شَرىً لاقَتْ أُسُودَ خَفِيَّةٍ . . . تَساقَوْا على حَرْدٍ دماءَ الأساوِدِ
قيل : ومثلُه قولُ الآخرِ :
٤٣٠٥ إذا جِيادُ الخيل جاءتَ تَرْدي . . . مملوءَةً مِنْ غَضَبٍ وحَرْد
عَطَفَ لَمَّا تغايرَ اللفظان ك
٤٣٠٦ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأَلْفى قولَها كَذِباً ومَيْنا
وقيل : المَنْعُ . مِنْ حارَدَتِ الإِبلُ : قَلَّ لَبَنُها ، والسَّنَةُ : قَلَّ مَطَرُها ، قاله أبو عبيد والقُتبيُّ . ويقال : حَرِدَ بالكسر يَحْرَدُ حَرْداً ، وقد تُفْتح فيقال : حَرَداً ، فهو حَرْدانُ وحارِدٌ . يقال : أسدٌ حارِدٌ ، ولُيوث حَوارِدُ . وقيل : الحَرْدُ والحَرَدُ الانفرادُ . يُقال : حَرَدَ بالفتح ، يَحْرُد بالضم ، حُروداً وحَرْداً وحَرَداً : انعزل ، ومنه كوكبٌ حارِدٌ ، أي : منفردٌ . قال الأصمعي : « هي لغةُ هُذَيْل » . وقيل : الحَرْدُ القَصْدُ . يقال : حَرَد يَحْرِدُ حَرْدَك ، أي : قَصَدَ قَصْدَك ، ومنه :
٤٣٠٧ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يَحْرِدُ حَرْدَ الجنَّةِ المُغِلَّهْ
وقد فُسِّرت الآيةُ الكريمةُ بجميعِ ما ذَكَرَتْ . وقيل : الحَرْدُ اسمُ جنَّتِهم بعينِها ، قاله السُّدي . وقيل : اسم قَرْيتِهم ، قاله الأزهري . وفيهما بُعْدٌ بعيدٌ . و « قادرين » : إمَّا مِنْ القُدْرَةِ ، وهو الظاهرُ ، وإمَّا مِن التقدير وهو التضييقُ ، أي : مُضَيِّقين على المساكينِ . وفي التفسيرِ قصةٌ توضِّحُ ما ذكرْتُ «.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
أي يقصد قَصْدَ الجنةِ المغلَّةِ.
* * *
(فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦)
(فَلَمَّا رَأَوْهَا)
مُحْتَرِقَةً.
(قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) ، أي قد ضللنا طريق جَنتِنَا ، أي ليست هذه ، ثم
عَلِمُوا أَنَّهَا عُقُوبَةٌ فقالوا :
* * *
(بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧)
أي حُرِمْنَا ثَمَرَ جنتنا بمنعنا المساكين.
* * *
(قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (٢٨)
(أَوْسَطُهُمْ) أعدلهم من (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)
أي عَدْلاً.
(لَوْلَا تُسَبِّحُونَ).
قال لهم : استثنوا في يمينكم ، لأنهم أقسموا لَيَصْرِمُنَّهَا مصبحين
ولم يستثنوا.
ومعنى التسبيح ههنا الاستثناء ، وهو أَنْ يَقول : إن شاء اللّه.
فإذا قال قائل التسبيح أن يقول : سبحان اللّه ، فالجَوابُ فِي ذلكَ أن كل
ما عظمت اللّه به فهو تسبيح ، لأن التسبيح في اللغة فيما جاء عن النبي عليه
السلام تنزيه اللّه عن السوء.
فالاستثناء تعظيم اللّه والإقرار بأنه لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَفعل فِعْلاً إلا بمشيئتِهِ - عزَّ وجلَّ.
فالمعنى في (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ).
إنا بلونا أهل مكة حين دعا عليهم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - فقال : اللّهمِ اشدد وطأتك على مُضَرَ واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ، فابتلاهم اللّه بالجرب والهلاك وذَهَابِ
الأقواتِ كما بلى أصحاب هذه الجنة باحتراقِها وذهاب قوتهم منها.
* * *
و (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦)
هذه الألف ألف الاستفهام ، ومجازها ههنا التوبيخ والتقرير.
وجاء في التفسير أن بعض كفار قُرَيْش قال : إن كان ما يذكرون أن لهم في الآخرة حَقًا ، فإن لنا في الآخرة أكبر منه كما أنا في الدنيا أفضل منهم . فوبخهم اللّه فقال :
(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ).
وكذلك : (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).
معناه على أي أحوال الكفر تخرجون حُكمَكُمْ.
* * *
(أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (٣٨)
أي أعندكم كتاب من اللّه عزَّ وجلَّ أن لكم لما تخيرونَ.
* * *
(أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (٣٩)
(أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ)
معناه مؤكدة
(إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ).
أي حَلِفٌ على ما تَدَّعُونَ في حكمكم .
(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (٤٠)
والزعيمِ الكفيل والضَامِنِ.
والمعنى سلهم أَيُّهُمْ كَفَلَ بِذَلِكَ.
* * *
(أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢)
أي فليأتوا بشركائهم يوم القِيَامةِ.
ومعنى (يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) في اللغة يُكشَفُ عن الأمر الشديد.
قال الشاعر :
قد شمرت عن ساقها فشُدُّوا . . . وجدَّت الحرب بكم فَجِدُّوا
والقوس فيها وترٌ عُردُّ.
وجاء في التفسير عن أحمد بن عبد اللّه بن أحمد بن حَنْبَل قال ثنا أبي.
قال ثنا محمد بن جَعْفَرٍ يعني غندر ، عن شعبة عن مغيرة عن إبراهيم قال.
قال ابن عباس في (يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) عن الأمر الشديد.
وقال ابنُ مَسْعُودٍ : يكشف الرحمن عن ساقه.
فأما المؤمنون فيخرون له سُجَّداً
وأما المنافقون فتكون ظهورهم طبقاً طبقاً كان فيها السفافيد.
فهذا ما روينا في التفسير وما قاله أهل اللغة.
قال أبو إسحاق : هذا تأويل قوله (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خَاشِعَةً أبْصَارُهُمْ).
يعنى به المنافقُونَ .
و (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (٤٣)
(تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ)
معناه تَغشاهم ذِلَّةٌ.
(وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (٤٣)
يعنى به في الدنيا.
* * *
و (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (٤٤)
ومثله : (ذَرْني ومن خَلَقْتُ وَحِيداً) ، معناه لا تَشْغَلْ قَلْبَكَ بِهِ ، كِلْهُ إليَّ
فإني أُجازيه.
ومثله قول الرجل : ذرني وإياه . وليس أنه مَنَعه بِهِ ولكن تأويله
كِلْهُ إليَّ فَإنِي أَكْفِيكَ أَمْرَه.
* * *
و (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨)
يعني : يونس عليه السلام.
* * *
(إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ)
أي مملوء غَمًّا وكرباً.
* * *
و (لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩)
والمعنى أنه قد نبذ بالعراء وهو غير مذموم ، ويدل على ذلك أن النعمة
قد شَمِلته.
* * *
و (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠)
هذا تخليصٌ له من الذَّم ، والعراء المكان الخالي
قال الشاعر :
رَفَعْتُ رِجلاً لا أَخافُ عِثارَها . . . ونَبَذْتُ بالبَلَدِ العَراء ِثيابي
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١)
وقرئت (ليزهقونك) - بالهاء - ولكن هذه تخالف المصحف أعني الهاء
والقراءة على ما وافق المصحف (١).
وهذه الآية تحتاج إلى فصل إبانةٍ في اللغة
فأمَّا ما رُوِيَ في التفسير
__________
(١) قال السَّمين :
لَيُزْلِقُونَكَ : قرأها نافعٌ بفتح الياءِ ، والباقون بضمِّها . فأمَّا قراءةُ الجماعةِ فمِنْ أَزْلَقَه ، أي : أَزَلَّ رِجْلَه ، فالتعديةُ بالهمزةِ مِنْ زَلَق يَزْلِقُ . وأمَّا قراءةُ نافع فالتعديةُ بالحركةِ يقال : زَلِقَ بالكسر وزَلَقْتُه بالفتح . ونظيرُه : شَتِرَتْ عَيْنُه بالكسرِ ، وشَتَرها اللّه بالفتح ، وقد تقدَّم لذلك أخواتٌ . وقيل : زَلَقه وأَزْلَقه بمعنى واحدٍ . ومعنى الآية في الاصابةِ بالعينِ . وفي التفسير قصةٌ . والباءُ : إمَّا للتعديةِ كالداخلةِ على الآلةِ ، أي : جعلوا أبصارهم كالآلةِ المُزْلِقَةِ لك ، كعَمِلْتُ بالقَدوم ، وإمَّا للسببيةِ ، أي : بسبب عيونِهم .
لَمَّا سَمِعُواْ الذكر مَنْ جَعَلْها ظرفيةً جَعَلها منصوبةً ب « يُزْلِقُونك » ، ومَنْ جعلها حرفاً جَعَلَ جوابَها محذوفاً للدلالةِ ، أي : لَمَّا سَمِعوا الذِّكْرَ كادوا يُزْلِقونك ، ومَنْ جَوَّزَ تقديمَ الجوابِ قال : هو هنا متقدِّمٌ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
فروي أن الرجل من العرب كان إذا أراد أن يعتان شيئا . أي يصيبَه بالعين تجوع ثلاثة أيام ، ثم يقول للذي يريد أن يعتانه : لَا أَرَى كاليوم إبلاً شاءً ما أراد.
لَمْ أَرَ كإبل أَراها اليوم إبلًا فكان يصيبها بالعين بهذا القول.
فقالوا للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - لما سمعوا منه الذكر كما كانوا يقولون لما يريدون أَنْ يُصِيبوه بالعين.
فأما مذهب أهل اللغة فالتأويل عندهم أنه من شدة إبغَاضِهِم لك
وعدوانهم يكادون بِنَظَرهم نَظَر البغضاء أن يضروك ، وهذا مستعمل في
الكلام ، يقول القائل : نظر إليَّ نظراً يكاد يَصْرَعنِي بِهِ ، ونظراً يكاد يأكلني فيه.
وتأويله كله أنه نظر إليَّ نظراً لو أمكنه معه أكلي أَن يَصْرَعَنِي لفعَلَ.
وهذا بين واضح ، واللّه أعلم .