(مدنية)
بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللّه لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (١)
أَي وقد غفر اللّه لك ذلك التحريم.
وجاء في التفسير أن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - شرب عسلاً عند زينب بنت جحش فأجمعت عائشة وحفصة على أن يقولا له : إنَّا نَشَمُّ منك رِيحَ المغافير ، والمغافير صمغ متغير الرائحة.
وقيل في التفسير إنه بَقْلَة (١) ، فلما صار إلى كل واحدة منهما قالت له : إني أَشَمُّ منك ريح المغافير فحرَّم النبي - عليه السلام - على نفسه شرب العسل ، وقيل إنه حلف على ذلك.
وجاء في التفسير - وهو الأكثر - أن النبي - عليه السلام - خلا في يوم
لعائشة مع جاريته أم إبراهيم ، وكان يقال لها مارية القبطية فوقفت حفصة على ذلكِ ، فقال لها رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - لا تُعْلِمِي عَائِشَةَ ذلك ، فقالت له لَسْتُ أفعل.
وحَرَّمَ مَارِية على نفسه.
وقيل إنه حلف مع ذلك أيضاً ، فأعلمت حفصة عائشة الخبر واستكتمتها إيَّاه ، فأطلع اللّه نبيَّه على ذلك فقال اللّه عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللّه عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣)
(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا)
يعني حفصة.
موضع " إذ " نِصْبٌ ، كأنه فال : واذكر (إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا) يعني حفصة.
(فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) ، أي فلما خَبَّرت به عائشةَ.
__________
والمغافير : بقلة صمغة متغيرة الرائحة ، فيها حلاوة.
واحدها مَغْفُور.
(وَأَظْهَرَهُ اللّه عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ).
وقًرِئَتْ (عَرَفَ بعضَه) بتخفيف الراء.
وأعلم اللّه أن التحريم على هذا التفسير لا يحرم.
فقال لنبيه عليه السلام :
(لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللّه لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ).
فلم يجعل اللّه لنبيه أن يُحَرِّمَ إلا ما حَرَّمَ اللّه ، فعلى هذين التفسيرين
ليس لأحد أن يحرِّم ما أحلَّ اللّه ، فقال اللّه : (قَدْ فَرَضَ اللّه لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ).
يعني الكفَّارة ، لأنه قد روىِ أنه مع ذلك التحريم حَلَفَ.
وقال قومٌ إن الكفَّارةَ كفَّارةُ التحريم.
فَأمَّا (عَرَّفَ بَعْضَهُ).
فتأويله أنه عرف بعضه حفصة ، (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ)
جاء في التفسير أنه لما حرم مارية أخبر حفصة أنه يملك مِن بعده أبو بكر
وعمر ، فعرفها بعضَ ما أفشت من الخبر ، وأعرض عن بعض.
فإن النبى - صلى اللّه عليه وسلم - قد عرف كل ما كان أَسَره.
والِإعراض لا يكون إلا عما يعرف.
وتأويل هذا في اللغة حَسَن بَيِّنٌ.
معنى (عَرفَ بَعْضَه) جازى عليه ، كما تقول لمن تتوعده : قَدْ عَلِمتُ مَا عَمِلْتَ وَقَد عَرَفْتُ ما صَنَعْتَ.
وتأويله فسأجازيك عليه ، لا أنك تقصد إلى أنك قد علمت فقط.
ومثله قول اللّه عز وجل : (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّه).
فتأويله يعلمه اللّه ويجازي عليه ، فإن اللّه يعلم كل ما يُفعَل.
ومثله قوله تعالى : (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّه مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ)
واللّه يعلم ما في قلوب الخلق أجمعين.
ومثله (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧).
ليس الفائدة أنه يرى ما عمل ، إنما يرى جزاء مَا عَمِلَ.
فقيل إن النبي - صلى اللّه عليه وسلم -طلَّق حفصة تطليقة واحدةً فكان ذلك جزاءها عنده .
فذلك تأويل (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ).
أي جازى على بعض الحديث.
وكانت حفصة ، صَوَّامةً قوَّامَةً فأمره اللّه تعالى أن يراجعها فراجعها.
* * *
و (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللّه فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّه هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (٤)
يعني به عائشة وحفصة.
ومعنى (صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) . عدلت قلوبكما وزاغت عن الصدق.
و (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّه هُوَ مَوْلَاهُ).
أي تتعاونا عليه ، فإن اللّه هو مولاه أي هو يتولى نصرته ،.
(وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ).
جاء في التفسير أن صالح المؤمنين أبو بكر وعمر ، وجاء أَيضاً في
التفسير أن صَالِح المؤمنين عمر ، وقيل إن صالحي المؤمنين خيار
المسلمين.
و " صَالِح " ههنا ينوب عن الجمع كما تقول : يَفْعَل هَذَا الخَيِر من
الناس تريد كل خَير.
(وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ).
في معنى ظهَرَاء ، أي والملائكة أيضاً نصَّارٌ للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - (١).
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (٥)
(يُبْدِلَهُ)
وقرئت (يُبَدِّلَهُ) ، بتشديد الدال وفتح الباء ، وُيُبَدِّلَهُ للتَكْثِيرِ ، وَكِلَاهمَا جَيِّدٌ وقد قرئ به.
* * *
و (قَانِتَاتٍ).
جاء في التفسير مطيعاتٍ ، والقُنُوتُ القِيامُ بما يقرب إلى اللّه - عزَّ وجلَّ -.
__________
(١) قال السَّمين :
إِن تَتُوبَآ : شرطٌ وفي جوابِه وجهان ، أحدهما : هو قولُه « فقد صَغَتْ » والمعنى : إن تتوبا فقد وُجِدَ منكم ما يُوْجِبُ التوبةَ ، وهو مَيْلُ قلوبِكما عن الواجبِ في مخالفةِ رسولِ اللّه صلَّى اللّه عليه وسلَّم في حُبِّ ما يُحِبُّه وكراهةِ/ ما يكرهه . وصَغَتْ : مالَتْ ، ويَدُلُّ له قراءةُ ابنِ مسعودٍ « فقد راغَتْ » . و
الثاني : أن الجوابَ محذوفٌ تقديرُه : فذلك واجبٌ عليكما ، فتابَ اللّه عليكما ، قاله أبو البقاء . وقال : « ودَلَّ على المحذوفِ فقد صَغَتْ؛ لأن إصغاءَ القلبِ إلى ذلك ذنبٌ » . وهذا الذي قاله لا حاجةَ إليه ، وكأَنَّه زَعَمَ أنَّ مَيْلَ القلبِ ذنبٌ فكيف يَحْسُنُ أَنْ يكونَ جواباً؟ وغَفَلَ عن الذي ذكرْتُه في صحةِ كَوْنِه جواباً . و « قلوبُكما » مِنْ أفصحِ الكلامِ حيث أوقه الجمعَ موقعَ المثنى ، استثقالاً لمجيءِ تثنيتَيْن لو قيل : قلباكما . وقد تقدَّم تحريرُ هذا في آيةِ السَّرِقةِ في المائدة ، وشروطُ المسألةِ وما اختلف الناس فيه . ومِنْ مجيءِ التثنيةِ
٤٢٧٨ فتخالَسا نَفْسَيْهما بنوافِذٍ . . . كنوافِذِ العُبْطِ التي لا تُرْقَعُ
والأحسنُ في هذا البابِ الجمعُ ، ثم الإِفرادُ ، ثم التثنيةُ ، وقال ابن عصفور : « لا يجوز الإِفراد إلاَّ في ضرورة ك
٤٢٧٩ حمامةَ بَطْنِ الواديَيْنِ تَرَنَّمي . . . سَقاكِ مِنْ الغُرِّ الغوادِي مَطيرُها
وتبعه الشيخُ ، وغلَّط ابنَ مالك في كونِه جَعَلَه أحسن من التثنيةِ . وليس بغلطٍ للعلة التي ذكرها ، وهي كراهةُ توالي تثنيتَيْن مع أَمْنِ اللَّبْس.
و إِن تَتُوبَآ فيه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطابِ ، والمرادُ أُمَّا المؤمنين بنتا الشيخَيْن عائشةُ وحفصةُ رضي اللّه عنهما وعن أبوَيْهما.
وَإِن تَظَاهَرَا أصلُه تتظاهرا فأَدْغَمَ ، وهذه قراءة العامَّةِ ، وعكرمةُ » تتظاهرا « على الأصل ، والحسن وأبو رجاء ونافع وعاصم في روايةٍ عنهما بتشديد الظاء والهاء دون ألف وأبو عمروٍ في روايةٍ » تظاهرا « بتخفيف الطاء والهاء ، حَذَفَ إحدى التاءَيْن وكلُّها بمعنىً المعاونة مِن الظهر لأنه أقوى أعضاءِ الإِنسانِ وأجلُّها.
هُوَ مَوْلاَهُ يجوزُ أَنْ يكونَ » هو « فصلاً ، و » مَوْلاه « الخبرَ ، وأن يكونَ مبتدأً ، و » مَوْلاه « خبرُه ، والجملةُ خبرُ » إنَّ «.
وَجِبْرِيلُ يجوزُ أَنْ يكون عطفاً على اسمِ اللّه تعالى ورُفِعَ نظراً إلى محلِّ اسمِها ، وذلكَ بعد استكمالِها خبرَها ، وقد عَرَفْتَ مذاهبَ الناسِ فيه ، ويكونَ » جبريلُ « وما بعده داخلَيْن في الولايةِ لرسول اللّه صلَّى اللّه عليه وسلَّم ، ويكونَ جبريلُ ظهيراً له بدخولِه في عمومِ الملائكةِ ، ويكونَ » الملائكة « مبتدأً و » ظهيرٌ « خبرَه ، أُفْرِدَ لأنه بزنةِ فَعيل . ويجوزُ أَنْ يكونَ الكلامُ تمَّ عند » مَوْلاه « ويكونُ » جبريل « مبتدأ ، وما بعده عَطْفٌ عليه.
و « ظهيرٌ » خبرُ الجميع ، فتختصُّ الولايةُ باللّه ، ويكون « جبريل » قد ذُكر في المعاونةِ مرَّتين : مرةً بالتنصيصِ عليه ، ومرةً بدخولِه في عموم الملائكةِ ، وهذا عكس ما في البقرة مِنْ مَن كَانَ عَدُوّاً للّه وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ فإنه ذكر الخاصَّ بعد العامِّ تشريفاً له ، وهنا ذُكِر العامُّ بعد الخاصِّ ، لم يَذْكُرِ الناسُ إلاَّ القسمَ الأول.
و وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ الظاهرُ أنه مفردٌ ، ولذلك كُتب بالحاء دونَ واوِ الجمع . وجَوَّزوا أن يكونَ جمعاً بالواو والنون ، حُذِفَتْ النونُ للإِضافة ، وكُتِبَ دون واوٍ اعتباراً بلفظه لأنَّ الواوَ ساقطةٌ لالتقاء الساكنين نحو : وَيَمْحُ اللّه الباطل بالشورى : ٢٤ ] و يَدْعُ الداع سَنَدْعُ الزبانية [ العلق : ١٨ ] إلى غيرِ ذلك ، ومثل هذا ما جاء في الحديثِ : « أهلُ القرآن أهلُ اللّه وخاصَّتُه » قالوا : يجوز أن يكونَ مفرداً ، وأن يكونَ جمعاً ك شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا [ الفتح : ١١ ] وحُذِفَتِ الواوُ لالتقاء الساكنين لفظاً ، فإذا كُتِب هذا فالأحسنُ أَنْ يُكتبَ بالواوِ لهذا الغرضِ ، وليس ثَمَّ ضرورةٌ لحَذْفِها كما مَرَّ في مرسوم الخط.
وجَوَّزَ أبو البقاء في « جبريلُ » أن يكونَ معطوفاً على الضمير في « مَوْلاه » يعني المستتَر ، وحينئذ يكون الفصلُ بالضميرِ المجرورِ كافياً في تجويزِ العطفِ عليه . وجوَّز أيضاً أَنْ يكونَ مبتدأ و « صالحُ » عطفٌ عليه . والخبرُ محذوفٌ أي : مَواليه.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقوله تعالى : (سَائِحَاتٍ).
جاء في التفسير عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أن السائحين هم الصائمونَ ، وهو مما في الكتب الأولى.
وقال أهل اللغة : إنما قيل للصائم سائح لأن الذي يسيح متعَبِّدٌ
ولا زاد مَعَه ، فحين يجد الزاد يطعَمُ ، والصائم كذلك يَمْضِي النهار ولا يَطعَمُ
شيئاً فلشبهه به سُمِّيَ سَائِحاً.
* * *
و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللّه مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٦)
(قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا).
معناه خذوا أنفسكم وأهليكم بما يَقَرِّبُ من اللّه - جلَّ وعزَّ - وجنبوا
أنفسكم وَأَهْليكم المعاصي.
ومعنى (قُوا أَنْفُسَكُمْ) أي : وقُّوا أَنْفُسَكُمْ (١)
وجاء في التفسير : رَحم اللّه رَجُلاً قال : يا أهلاه صَلَاتَكُمْ صيامكم مِسْكينكم يتيمكم جيرانكم.
معناه ألزموا واحفظوا صلاتكم وهذه الأشياء المذكورة ، ادُّوا فرض اللّه
فيها.
وفي الحديث لعل اللّه يجمعهم معه في الجنَّة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقُودُهَا النَّاسُ والحِجَارَةُ).
جاء في التفسير أنها حجارة الكبريت.
والوَقُود بفتح الواو ما تُوقَدُ به النَّارُ من حَطبٍ وغَيْرِهِ ، يقال وقدت النار وُقُوداً - بضم الواو -.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّه تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللّه النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّه تَوْبَةً)
بفتح النون ، وتقرأ (نُصُوحاً) - بضم النُون -
فمن فتح فعلى صفة التوبة.
ومعناه توبة بالغة في النصح ، وفَعُول من أسماء الفاعلين
التي تستعمل للمبالغة في الوصف ، تقول رجل صبورٌ وَشَكُورٌ ، وتوبة نَصُوحٌ.
وَمَنْ قَرأ (نُصُوحاً) - بضَم النُّونِ - فمعناه يَنصَحُونَ بهذا نُصُوحاً.
يقال : نصحت له نُصْحاً ونصاحَةً ونصوحاً.
__________
(١) قال السَّمين :
قوا أَنفُسَكُمْ : أمرٌ من الوِقايةِ فوزنُه « عُوا » لأن الفاءَ حُذِفَتْ لوقوعِها في المضارع بين ياءٍ وكسرةٍ ، وهذا محمولٌ عليه ، واللامُ حُذِفَتْ حَمْلاً له على المجزوم ، بيانه أنَّ أصلَه اِوْقِيُوا كاضْرِبوا فحُذِفَتِ الواوُ التي هي فاءٌ لِما تقدَّمَ ، واستثْقِلَتِ الضمةُ على الياء فحُذِفَتْ ، فالتقى ساكنان ، فحُذِفَتْ الياءُ وضُمَّ ما قبل الواوِ لتصِحَّ . وهذا تعليلُ البَصْريين . ونقل مكيٌّ عن الكوفيين : أنَّ الحذفَ عندهم فرقاً بين المتعدي والقاصر فحُذِفت الواوُ التي هي فاءٌ في يَقي ويَعِدُ لتعدِّيهما ، ولم تُحْذَفْ من يَوْجَل لقُصوره . قال : « ويَرِدُ عليهم نحو : يَرِمُ فإنه قاصرٌ ومع ذلك فقد حذفوا فاءَه » . قلت : وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ يَوْجَل لم تَقَعْ فيه الواوُ بين ياءٍ وكسرةٍ لا ظاهرةٍ ولا مضمرةٍ . فقلت : « ولا مضمرة » تحرُّزاً مِنْ يَضَعُ ويَسَعُ ويَهَبُ.
و « ناراً » مفعولٌ ثانٍ . و وَقُودُهَا الناس صفةٌ ل « ناراً » وكذلك « عليها ملائكةٌ » . ويجوزُ أَنْ يكونَ الوصفُ وحدَه عليها و « ملائكةٌ » فاعلٌ به . ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً لتخصُّصِها بالصفة الأولى وكذلك لاَّ يَعْصُونَ اللّه .
وقرأ بعضُهم « وأَهْلوكم » وخُرِّجَتْ على العطفِ على الضمير المرفوع ب « قُوا » وجَوَّزَ ذلك الفصلُ بالمفعولِ . قال الزمخشري بعد ذِكْرِهِ القراءةَ وتخريجَها : « فإنْ قلتَ : أليس التقديرُ : قُوا أنفسَكم ، ولْيَقِ أَهْلوكم أنفسكم؟ قلت : لا . ولكن المعطوفَ في التقديرِ مقارنٌ للواو ، و » أنفسَكم « واقعٌ بعده كأنَّه قيل : قُوا أنتم وأهلوكم أنفسَكم لمَّا جَمَعْتَ مع المخاطبِ الغائبَ غَلَّبْته [ عليه ] فجعَلْتَ ضميرَهما معاً على لفظِ المخاطبِ » . وتقدَّم الخلافُ في واو « وقود » ضماً وفتحاً في البقرة.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وجاء في التفسير أن التوبة النَّصُوحُ التي لا يعاود التائب مَعَها المعْصِيةَ.
وقال بعضهم التي لا ينوي معها معاودة المعصية.
و (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللّه النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ).
(يَوْمَ) منصوبٌ ب (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللّه النَّبِيَّ).
أي في هذا اليوم.
والقراءة النصب في (وَيُدْخِلَكُمْ) عطف على (أنْ يُكَفِّرَ)
ولو قرئت بالجزم لكانَ وَجْهاً ، يكون محمولا على موضع (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) لأن عسى من اللّه واجبة ، قال اللّه تعالى :
(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (٨٢).
* * *
و (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا).
أما إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يُطْفَأ سأَلوا اللّه أَنْ يُتَمِّمَ لهم نورهم.
* * *
و (ضَرَبَ اللّه مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللّه شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠)
أعلم اللّه عزَّ وجلَّ أن الأنبياء لا يُغْنون عمَّن عمل بالمعاصي شيئاً.
وجاء في التفسير أن خيانتهما لم تكن في بغاء ، لأن الأنبياءَ لا يبتليهم
اللّه في نِسائِهم بفسادٍ ، وقيل إن خيانة امرأة لوط أنها كانت تدل على الضيف ، وخيانة امرأة نوح أنها كانت تقول : إنه مجنون - صلى اللّه عليه وسلم - وعلى أَنبيائه أجمعين.
فأما من زعم غير ذلك فمخطئ لأن بعض من تأول
(يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ).
ذهب إلى جنس من الفسَادِ.
يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ
والقراءة في هذا ((عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ) ، و (عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ).
وهما يرجعان إلى معنى وَاحدٍ.
وذلك أن تأويل (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) إِنَّهُ ذو عمل غيرِ صالح.
وكل من كفر فقد انقطع نسبه من أَهله المؤمنين ، لا يرثهم ولا يرثونه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَضَرَبَ اللّه مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١)
جاء في التفسير أن فرعون وَتَد لها أرْبَعةَ أَوْتادٍ وشدَّ بدنها ورجليها وجعل
على صدرها رَحًى ، وجعلها في الشمس ، وأن اللّه فرج لها فرأت بيتها في الجنة.
وجاء في التفسير أن الملائكة كانت تظلها بأجنحتها من الشمس.
* * *
و (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (١٢)
(وَكُتُبِهِ)
وقرئت (وَكِتَابِهِ).
(أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا)
جاء في التَفسير أنه يعنى به فرج ثوبها.
والعرب تقول للعفيف : هو نِقى الثَّوْبِ ، وهو طيب الحُجْزةِ ، تريد أَنهُ عفيف وأَنشدوا بيت النابغة الذبياني :
رِقاق النِّعالِ طَيِّب حُجُزاتهم . . . يُحَيَّوْن بالرَّيْحان يومَ السَّباسِب
فسروا " طَيِّب حُجُزاتهم " أنهم أَعِفَّاء.
وكذلك (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا)
أي في فرجِ ثوبها .