سُورَةُ الطَّلَاقِ مَدَنِيَّةٌ

وَهِيَ اثْنَتَا عَشَرَةَ آيَةً

(مدنية)

بِسْمِ اللّه الرَّحْمن الرَّحِيمِ

١

قوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللّه رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّه وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّه فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللّه يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (١)

هذا خطاب للنبي عليه السلام والمؤمنون داخلون معه في الخطاب.

ومعناه إن أردتم الطلاق كما قال : (إذَا قمْتمْ إلى الصَّلَاةِ) معناه إذا أرَدْتم

القيام إلَى الصلاة.

و (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ).

فطلاق السنة المجْتَمَع عَلَيْه في قول مَالِك أَن يطلق الرجل امْرَأَته طَاهِراً

من غير جماع تطليقة واحدة ، ثم يتركها إذا أراد المقام على فراقها ثَلَاثَ

حِيَض ، فإذا طعنت في الحيضة الثالثة فلا يملك رجعتها ، ولكن إن شاء

وشاءت أن يجددا نكاحاً جَدِيداً كان ذلك لهما لأن معنى :

(لَعَلَّ اللّه يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)

أَي بعد الطلاق الواحد.

فإذا طلقها ثلاثاً في وقت واحد فلا معنى في

(لَعَلَّ اللّه يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا).

وإنما تفسيره الرجعة ، أعني إذا وقع الثلاث في وقت واحدٍ ، وهذا قول مالك - رحمه اللّه -

وقال أهل العراق إن طلقها طاهراً من غير جماع ثم أوقع عند كل حيضة تطليقة فهو أيضاً عندهم طلاق السنة ، وأن فعل ما قال مالك فهو عندهم سنة أيْضاً.

وقال الشافعي إذا طلَّقها طَاهِراً من غير جماع فهو مطلق للسنة أيضاً طلق واحدة  ثلاثاً ، وهذا يسقط معه إذا كان ثلاثاً .

 (لَعَلَّ اللّه يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا).

وقد جاء التشديد فيمن تعدى طلاق السنة ، فقال :

(ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

وقال : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّه فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).

يعني بحدود اللّه حدود طلاق السنة وما ذَكَرَ مع الطلاق.

و (وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ).

ويقرأ (مُبَيَّنَةٍ).

فجعل للمطلقات السكنى ، وقيل إن خروجهن من بُيوتهِنَّ فاحشة.

وقيل الفاحشة المبينة الزنا.

ودليل هذا القول  (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ) ، يعني الزنا . وقيل أَيضاً : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) زنا  سَرق  شربُ خَمْر.

وقيل كل ما يجب فيه الحد فهو فاحشة.

* * *

٢

(وَمَنْ يَتَّقِ اللّه يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)

معناه يجعل له مخرجاً من الحرام إلى الحلال ، وقيل أيضاً من النار إلى

الجنَّة ويرْزُقْه مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبْ مَعْنَاهُ - وَاللّه أَعْلَمُ - أنه إذا اتقَى اللّه وآثَرَ الحلال والصبر على أهله إن كان ذَا ضَيْقَةٍ فتح اللّه عليه ورزقه من حيث لا يحتسب.

وجائز أن يكون إذا اتقى اللّه في طلاقه ، وآثر ما عند اللّه وجرى في

ذلك على السُّنَّةِ رزقه اللّه أهلاً بَدَل أهله.

٣

و (إِنَّ اللّه بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللّه لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (٣)

(إِنَّ اللّه بَالِغٌ أَمْرَهُ)

وتقرأ (بَالِغُ أَمْرِهِ) ، أي إِن اللّه بالغ ما يُرِيدُ.

وقرئت إنَّ اللّه بَالِغ أمْرُهُ ، على رفع الأمر بِبَالِغ ، أَي إنَّ اللّه يبلغ أَمره وينفذ.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (قَدْ جَعَلَ اللّه لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا).

وقَدَراً ، أَي ميقاتاً وَأَجَلًا.

* * *

٤

و (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللّه يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (٤)

قيل في بعض التفسير إِنهم سألوا فقالوا : قد عرفنا عدةَ التي تحيض.

فما عدةُ التي لا تحيض والتي لم تحض ؟

فقيل إن ارتبتم ، أي إذا ارتبتم فعدتهن ثَلَاثَةُ أشْهُرٍ.

والذي يذهب إليه مالك ، واللغةُ تدل عليه أن معناه إِن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض مثلها فعدتها ثلاثة أشهُرٍ ، وذلك بعد أن تترك تسعة أشْهُرٍ بمقدار الحمل ، ثم تعتد بعد ذلك

ثلاثة أشهر ، فإن حاضت في هذه الثلاثة الأشْهُرِ تمت ثلاث حِيَض.

وجائز أن يتأخر هذا الحيض فيكون كلما قاربت أن تخرج من الثلاثة حاضت ، فهذا مذهب مالك وهو الذي يروى عن عمر رحمه اللّه.

وقال أهل العراق تترك ولو بلغت في ذلك أكثر من ثلاثين سنةً ولو بلغت

إلى السبعين ، يعنون حتى تبلغ مبلغ من لا يحيض ، وقالوا : ولو شاء اللّه

لابتلاها بأكثر من ذلك ، وكذلك في

(وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) معناه عند مالك معناه إِن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر ، واليائسة عند مالك وغيره بإجماع التي قد يئست من المحيض فلا ارتياب في أمرها أنها لا تحيض تعتد ثلاثة أشهر.

ولم يأتِ في القرآن النَّصُّ عَلَى ذلك ، ولكن في القرآن دليل عليه

وأنا أبَيِّنُه إن شاء اللّه.

فأمَّا الصغيرة التي لا يُوطأ مثلها فإن دخل بها ووطئها مكانَهُ فإنما عقرها (١).

ولا عدةَ عند مالك عليها ، إلا أن يكون مثلها يَسْتقيم أَن يُوطَأ وإنما هي عنده

في عداد من لم يُدخَلْ بها.

والذي في القرآن يدل على أن اليائسة التي لا يُرتاب فيها يجب أن تعتد ثلاثة أشهر ل (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ)

فمعناه واللائي لَا يَحِضْن فعدتهن ثلاثة أَشْهُرٍ ، فقياس اللائي لا يحضن قياس اللائي لم يحضن

__________

(١) قال في اللسان :

وفي الحديث فيما روى الشعبي ليس على زانٍ عُقْرٌ أَي مَهْر وهو للمُغْتَصَبةِ من الإِماء كمَهْرِ المثل للحُرَّة وفي الحديث فأَعْطاهم عُقْرَها قال العُقْرُ بالضم ما تُعْطاه المرأَة على وطء الشبهة وأَصله أَن واطئ البِكْر يَعْقِرها إِذا اقْتَضَّها فسُمِّيَ ما تُعْطاه للعَقْرِ عُقْراً ثم صار عامّاً لها وللثيّب وجمعه الأَعْقارُ. اهـ (لسان العرب. ٤ / ٥٩١)

فلم يحتج إلى ذكر ذلك.

وإذا كان عدة المرتاب بها ثلاثة أشهر فالتي لا يرتاب بها أولى بذلك.

قوله تعالى : (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).

معناه أجلهن في الانقطاع فيما بينهن وبين الأزواج أن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.

* * *

٦

و (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (٦)

(مِنْ وُجْدِكُمْ)

ويقرأ (من وِجْدِكم) ، يقال وَجَدْتً في المال وُجْداً ، أَي صرت ذا مالٍ.

وَوِجداً وَجِدَةً ، وَوَجَدْتُ الضَّالَّةَ وِجْدَاناً وَوَجَدْتُ على فلانٍ وَجْداً ، ووجَدْت عليه مَوْجِدَةً.

فأوجب اللّه تعالى السُّكْنَى حتى تنقضِيَ العِدةُ.

والسكنى والنفقة على الزوج إذا طلق طلاق السنة إلى أن تأتي ثلاث حِيَضٍ ، فإذا أَبَتَّ الطلاقَ قبل انقضاء العِدةِ فعليه النفقة والسكنى في قول أهل العراق ، وعليه السكنى في مذهب مالك والشافعي ، فأما الحاملِ فعليه النفقة لها ، وذا في القرآن نص بقوله تعالى :

(وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).

و (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ).

أي فأعطوهن أجْرَةَ رِضَاعهنَّ.

(وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ).

قيل في التفسير إنه الكسوةُ والدِّثَار، والمعروف - واللّه أعلم - أن لا

يقصِّر الرجلُ في نفقة المرضع التي ترضع ولَدَه إذا كانت هي والدتَه لأن

الوالدَةَ أَرأف بولدها من غيرها به ، فلا تقصرُ في رضاعه والقيام بشأنه ، فحق

كل واحد منهما أن يأتمر في الولد بمعروف.

(وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) .

معناه فليرضع الوالد غير والِدَةِ الصبِى ، وهذا خبر في مَعْنى الأمْرِ لأن

لفظ . . (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) لفظ الخبر ومعناه فليرضع.

ومثله في لفظ الخبر ومعنى الأمر

(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ)

معناه ولْيُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ.

* * *

٧

 (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللّه لَا يُكَلِّفُ اللّه نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللّه بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (٧)

أَمَرَ أهل التوسِعَةِ أن يُوَسِّعوا على نسائهم المرْضِعَاتِ أَوْلَادَهنَّ على قدر

سعتِهن.

(وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللّه).

أي مَن كان رزقه بمقدار القوت فلينفق على قدر ذلك ، كما قال :

(عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ).

(لَا يُكَلِّفُ اللّه نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا)

أي إلا ما أعطاها.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (سَيَجْعَلُ اللّه بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا).

أعلم اللّه المؤمنين أنهم وَإن كانوا في حالٍ ضَيِّقَةٍ ، وقيل كان الغالب

على أكثرهم في ذلك الوقت في عهد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - الفقر والفاقةُ فأعلمهم عز وجل أنه سَيوسِرُ المسلمون - ففتح اللّه عليهم بعد ذلك وجعل يُسراً بعد عُسْرٍ.

* * *

٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (٨)

أي عجلنا لها العذاب ، وَمَعناه : عتا أهلها فحاسبنا أهلها وَعَذَّبْنَاهُم.

* * *

٩

و (فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (٩)

أَي ثِقْلَ عاقبةَ أَمرها .

(وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا)

يعني في الآخرة وهو

١٠

 (أَعَدَّ اللّه لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللّه يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللّه إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (١٠)

يعني بعد ذلك الذي نزل بِهِم في الدنيا.

ثم وعظ اللّه هذه الأمَّةَ في تصديق النبي عليه السلام ، واتباع أَمْره

وأعلم أنه قد بعث رسوله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور فقال :

(فَاتَّقُوا اللّه يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا).

ومعنى أولي الألباب أصحاب العقول ، وواحد أولي الألباب ذُو لُبٍّ أَي

ذو عَقْلً.

١١

(قَدْ أَنْزَلَ اللّه إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (١٠) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللّه مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللّه وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللّه لَهُ رِزْقًا (١١)

(رَسُولًا) مَنْصوبٌ على ثلاثَةِ أوجه :

أجوَدُهَا أن يكون  (قَدْ أَنْزَلَ اللّه إِلَيْكُمْ ذِكْرًا) دليلاً على إضمار أَرْسَلَ رَسُولَاَ يتلو عليكم.

ويجوز أن يكون يعني بقوله (رَسُولًا) النبي عليه السلام.

ويكون (رَسُولًا) ، منصوباً بقوله (ذِكراً).

يكون  قد أنزل اللّه اليكم ذِكراً (رَسُولًا) ذَا ذِكْرٍ رسولًا يتلو ، ويكون (رَسُولًا) بَدَلاً مِنْ ذِكرٍ ، ويكون يعنى به جبريل عليه السلام.

ويكون دليل هذا القول قوله يعنى به جبريل عليه السلام : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ) (١).

ومعنى : (مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان لأن

أدلة الكِفر مظلمَة غَير بَيِّنَةٍ ، وأدلة الإسلام واضحة بيِّنَة.

 (قَدْ أَحْسَنَ اللّه لَهُ رِزْقًا).

أي رزقه اللّه الجنة التي لا ينقطع نعيمها ، ولا يزول.

ثم ذكر - جلَّ وعزَّ -

ما يدلُّ على توحيده فقال :

__________

(١) قال السَّمين :

  رَّسُولاً  : فيه أوجهٌ ، أحدُها وإليه ذهب الزجَّاج والفارسي أنه منصوبٌ بالمصدرِ المنونِ قبلَه؛ لأنه يَنْحَلُّ لحرفٍ مصدري وفعلٍ ، كأنه قيل : أن ذَكرَ رسولاً ، والمصدرُ المنوَّنُ عاملٌ كقولِه تعالى :   إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً  [ البلد : ١٤ ] و

٤٢٧٥ بضَرْبٍ بالسيوفِ رؤوسَ قَوْمٍ . . . أَزَلْنا هامَهُنَّ عن المَقيلِ

الثاني : أنَّه جُعِل نفسُ الذِّكْرِ مبالغةً فأُبْدِل منه . الثالث : أنَّه بدلٌ منه على حَذْفِ مضافٍ مِنْ الأول تقديرُه : أنزل ذا ذكرٍ رسولاً . الرابع : كذلك ، إلاَّ أنَّ « رسولاً » نعت لذلك المحذوف . الخامس : أنه بدلٌ منه على حَذْفِ مضافٍ مِنْ الثاني ، أي : ذِكْراً ذِكْرَ رسول . السادس : أَنْ يكونَ « رسولاً » نعتاً ل ذِكْراً على حَذْفِ مضاف ، أي : ذِكْراً ذا رسولٍ ، ف « ذا رسول » نعتٌ لذِكْر . السابع : أَنْ يكونَ « رسولاً » بمعنى رسالة ، فيكونَ « رسولاً » بدلاً صريحاً مِنْ غير تأويل ،  بياناً عند مَنْ يرى جَرَيانه في النكراتِ كالفارسيِّ ، إلاَّ أنَّ هذا يُبْعِدُه  « يَتْلُو عليكم » ، لأنَّ الرسالةَ لا تَتْلوا إلاَّ بمجازٍ ، الثامن ، أَنْ يكونَ « رسولاً » منصوباً بفعلٍ مقدر ، أي : أرسل رسولاً لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه . التاسع : أَنْ يكونَ منصوباً على الإِغراء ، أي : اتبِعوا والزَمُوا رسولاً هذه صفتُه.

واختلف الناس في « رسولاً » هل هو النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم ،  القرآنُ نفسُه ،  جبريلُ؟ قال الزمخشري : « هو جبريلُ عليه السلام » أُبْدِل مِنْ « ذِكْراً » لأنه وُصِف بتلاوةِ آياتِ اللّه ، فكأنَّ إنزالَه في معنى إنزالِ الذِّكْرِ فصَحَّ إبدالُه منه « . قال الشيخ : » ولا يَصِحُّ لتبايُنِ المدلولَيْنِ بالحقيقة ، ولكونِه لا يكونَ بدلَ بعضٍ ولا بدلَ اشتمال « انتهى . وهذا الذي قاله الزمخشريُّ سبقه إليه الكلبيُّ . وأمَّا اعتراضُه عليه فغيرُ لازمٍ لأنه إذا بُوْلِغَ فيه حتى جُعِل نفسَ الذِّكْر كما تقدَّم بيانُه . وقُرىء » رسولٌ « على إضمار مبتدأ ، أي : هو رسول.

  لِّيُخْرِجَ  متعلِّقٌ إمَّا ب » أَنْزَل « ، وإمَّا ب » يَتْلو « وفاعِلُ يُخْرِج : إمَّا ضميرُ الباري تعالى المنَزِّل ،  ضميرُ الرسولِ ،  الذِّكرِ ، و » مَنْ يُؤْمِنْ « هذا أحدُ المواضعِ التي رُوْعي فيها اللفظُ أولاً ، ثم  ثانياً ، ثم اللفظُ آخِراً ، وقد تقدَّم ذلك في المائِدة . وقد تأوَّلَ بعضُهم هذه الآية [ وقال : ليس قولُه » خالدين « فيه ضميرٌ عائدٌ على » مَنْ « إنما يعود على مفعولِ » يُدْخِلْه « ، و » خالدين « حالٌ منه ، والعاملُ فيها » يُدْخِلْه « لا فِعْلُ الشرطِ ] . هذه عبارةُ الشيخِ ، وفيها نظرٌ؛ لأنَّ » خالدين « حالٌ مِنْ مفعول » يُدْخِلْه « عند القائلين بالقول الأول ، وكأنَّ إصلاحَ العبارة أَنْ يقالَ : حالٌ مِنْ مفعولِ » يُدْخِلْه « الثاني ، وهو » جناتٍ « والخلودُ في الحقيقةِ لأصحابِها ، وكان ينبغي على رأي البصريين أن يقال : خالدين هم فيها ، لجريان الوصفِ على غير مَنْ هو له.

اهـ (الدُّرُّ المصُون).

١٢

 (اللّه الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللّه قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (١٢)

ففي كل سماء وكل أرض خلق من خَلْقِه ، وأمر نافِذٌ مِن أَمْرِهِ.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

و (وَأَنَّ اللّه قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا).

(عِلْمًا) منصوب على المَصدر المؤكد ، لأن معنى

(وَأَنَّ اللّه قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)

أي قد علم كل شيء عِلْمًا.

ومثله : (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ)

ثم قال : (صُنْعَ اللّه) مُوكِّداً.

لأن معنى  (صُنْعَ اللّه) صَنَعَ اللّه الجبالَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ .