بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مكية ما خلا ثلاث آيات نزِلت بالمدينة ، وهي من آخرها
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ . . . ) إلى آخرها.
وقيل إن
الصحيح أنها مدنية كلها.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢)
خلقكم في بطون أمهاتكم كفاراً ومؤمنين ، وجاء في التفسير أن يحيى
عليه السلام خلق في بطن أُمِّه مؤمناً ، وخلق فرعون في بطن أُمِّه كافراً ، ودليل ما في التفسير قوله عزَّ وجلَّ : (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّه يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّه وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩).
فأعلم اللّه يُعالى أنه مخلوق كذلك ، وجائز أن يكون
(خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)
أي مؤمن بأن اللّه خلقه وكافِر بأن اللّه خلقه.
ودليل ذلك أقوله سبحانه ، : (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩).
وقال : (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (٣٧).
* * *
و (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣)
ويقرٍأ (صِوَرَكم) بكسر الصادِ ، وصُورَة يجمِع صُوَراً مثل غُرْفَةَ وَغُرَف.
ورُشْوَة ورُشى ، ويجمع أيضاً صِوَر مثل رِشْوة وَرِشَى وفُعَل وفِعَل أختان ، قالوا
حٌلًى وحِلًى ، ولِحىً وَلُحىً جمع لحية.
ومعنى (أَحسَنَ صُورَكم) خلقكم أحسن الحَيَوَانِ كلِّه.
والدليل على ذلك أن الإنسان لا يُسَرُّ بأن يكون صورته على غير
صورة الآدميين ، فالإنسان أحسن الحيوان.
وقيل أيضاً فأحسن صوركم من أَرَادَ اللّه أَن يكون أبيض كان أبيض ، ومن أراد أنْ يكون أَسودَ كان أَسْوَدَ ومن أَراد أَن يكون دَمِيماً كان دَمِيماً تاماً كان تامًّا.
فأحسن ذلك - عزَّ وجلَّ - وأَتى من كل صورةِ بكل صنف على إرادته.
* * *
و (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٥)
أي وذاقوا في الدنيا عظيم السطوات وَلَهُمْ في الآخرةِ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
ثم أعلم اللّه عزَّ وجلَّ بِمَ نَزَلَ بِهِمْ ذَلِكَ فقال :
(ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللّه وَاللّه غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦)
فأعلم اللّه - عزَّ وجلَّ - أنه نزل بهم العذاب في الدنيا وأنه ينزلً بِهِمْ في
الآخرة بكفرهم.
* * *
و (فَآمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨)
أي وبالقرآن الذي هو نًورٌ وكتابٌ مبِينٌ.
* * *
و (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللّه وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)
(يَوْمَ) مَنصوبٌ بقوله (لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ) يوم الجمع.
ويوم التغابن يومَ يغبن أَهلُ الجنَّةِ أَهلَ النَّارِ ، ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة من كان في دُونِ مَنْزِلَتِه.
وضرب ذلك مثلاً للشَراءِ والبيعِ كما قال : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَرَسُولِهِ)
وقال في موضع آخر : (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (١٦).
وذلك في الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضلالة بالهدى .
و (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللّه وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللّه يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١)
معناه إلا بِأمر اللّه ، وقيل أَيضاً إلا بعلم اللّه.
و (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللّه يَهْدِ قَلْبَهُ).
وَيُسَلِّمُ في وقت المصيبة لأمر اللّه يهد قلبه يجعله مهتدياً.
وقُرِئت (يَهْدَ قلبُه) ، تَأويل هَدَأَ قَلْبُه يهدأ إذا سكن ، ويكون على طرح الهِمزة ، ويكون في الرفع يَهْدَا قلبه - غير مهموز - وفي - الجزم : مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّه يَهْدَ قَلْبُهُ ، بطرح الألف للجزم ، ويكون التأويل إذا سَلَّمَ لأمر اللّه سَكَنَ قَلْبُه.
* * *
و (فَاتَّقُوا اللّه مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦)
هذه رخصة ل (اتَّقُوا اللّه حَقَّ تُقَاتِهِ).
و (وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ)
أَي قدموا خَيراً لأنفسكم من أموالكم.
(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ).
ويجوز (ومن يُوَقَّ شُحَّ نَفْسِهِ) ، ولا أعلم أحداً قرأ
بها فلا تقرأن بها إلَّا أن تثبت رواية في قراءتها.
(فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
معناه الظافرون بالفَوْزِ والخَيْرِ.
* * *
(إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ).
جاء في التفسير أن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - لَمَّا أَمر بالهجرة مِنْ مَكة إلى المدينة أَرَادَ قَومٌ الهِجْرَةَ فقال لهم أَزْوَاجُهُم وأَوْلَادُهُمْ : قد صبرنا لكم على مفارقة الدين ، ولا نصبر لكم على مفارقتكم ومفارقة الأموال والمساكن فأعلم اللّه تعالى أن من كان بهذه الصورة فهو عَدُوٌّ ، وإن كان وَلَداً كانت زوجة.
ثم أمر عزَّ وجل بالعَفْو والصَّفْح فقال :
(وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ).
ثم أَعلم أن الأموال والأولاد مما يفتتن به فقال :
(إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللّه عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥)
(فَاتَّقُوا اللّه مَا اسْتَطَعْتُمْ).
أي ما أمكنكم الجهاد والهجرة مع النبي - صلى اللّه عليه وسلم - فَلاَ يَفْتننكُمْ الميل إلى الأموال والأوْلَادِ عن ذلك.
* * *
(إِنْ تُقْرِضُوا اللّه قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّه شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧)
فَاقترض عزَّ وجلَّ مما رزق وأعطى تفضلاً وامتحاناً.
(وَاللّه شَكُورٌ حَلِيمٌ).
يَشْكُر لكم ما عملتم وَيحْلُم عنكم عند استِحقَاقِكم العقوبَةَ على ذنوبِكمْ.
* * *
(عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
يعلم ما تُكُِّه الصدورُ " مما لا تعلمه الحفظة ، ويعلم ما تسقط من وَرَقَةٍ
وما قَطَر مِنْ قَطْرِ المَطَرِ .