( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(سَبَّحَ للّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١)
قد فسرنا ما في (سَبَّحَ للّه).
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (٢)
الأصل " لما " فحذفت الألف لأن ما واللام كالشيء الواحد ، فكثر
استعمال " ما " واللام في الاستفهام ، فإذا وقفت عليها قلت : لمه ولا يوقف عليها في القرآن بها لئلا يخالف المصحف.
وينبغي للقارئ أنْ يَصِلَها.
وهذا قيل لهم لأنهم قالوا : لو علمنا مَا أحَبُّ الأعمال إلى اللّه
- عزَّ وجلَّ - لأصبناه ولو كان فيه ذَهَابُ أنفسنا وأمْوَالِنَا فأنزل اللّه - عزَّ وجلَّ - : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)
إلى (وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ).
فلما كانَ يوم أحُدٍ تولَّى من تَوَلَّى عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - حتى كسرت رَبَاعيته وَشُجَّ في وَجْهِهِ أنزل اللّه - عزَّ وجلَّ - :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللّه أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (٣)
(أنْ تَقُولُوا) في موضع رفِع.
و (مَقْتاً) نصبٌ على . التمييز ، كَبُرَْ قولكم ما لا تَفعلون مَقْتاً عند اللّه ، ثم أعلم اللّه - عزَّ وجلَّ - ما الذي يحبه فقال :
(إِنَّ اللّه يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (٤)
أي بنيان لاصق بعضُه بِبَعْض لا يغادر بَعْضُه بَعْضاً.
فأعلم اللّه - عزَّ وجلَّ - أنه يحب من يثبت في الجهاد في سبيله ويلزم
مَكَانَهُ كَبُيُوتِ البناء المرْصُوصِ.
ويجوز - واللّه أعلم - أن يكون عني أن تستوي نِياتُهُمْ في حَرْبِ عَدُوهِمْ حتى يكونوا في اجتماع الكلمةِ ومُوَالَاةِ بعضهم بعضاً كالبنيانِ المرصوص.
* * *
و (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللّه إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللّه قُلُوبَهُمْ وَاللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٥)
قد بينَّا في سورة الأحْزاب ما كان آذوه به.
(فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللّه قُلُوبَهُمْ).
أي عدَلُوا عنِ الحق وانصرفوا عنه فأضلَّهم اللّه وَصَرَفَ قُلوبَهُمْ.
و (وَاللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)
معناه لا يهدي من سبق في علمه أنَّهُ فَاسِقٌ.
* * *
و (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّه إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦)
موضع (إِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) و (إذ قال موسى) جميعاً نصب.
اذكر إذ قال موسى ، واذكر إذ قال عيسى ابنُ مريم.
أي اذْكر لقومِكَ وأُمَّتِكَ قَصةَ مُوسَى وعيسى وما كان عاقبة من آمَنَ بِهِمَا وعاقبة من كفر وآذى الأنبياءَ.
و (لِلْحَوَارِيينَ).
قيل إن الحواريين سموا بذلك لبياض ثيابِهِمْ ، وقيل كانوا قصَّارِينَ.
والحَوارِيُّونَ خُلْصَان الأنْبِيَاءِ وصَفْوَتُهُمْ ، والدليل على ذلك قول النبي - صلى اللّه عليه وسلم - :
الزبيرُ ابنُ عَمَّتِي وحَوَاريِّي مِنْ أُمَّتِي.
وأصحاب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - حواريُّون.
وتأويل الحوارِيين في اللغة الذين أخلَصُوا ونُقُّوا من كُل عَيْبِ ، وكذلك الدقيق الحوارَى من هذا ، إنما سُمِّيَ لأنَّه يُنَقى من لُبَابِ البُرِّ وخالِصِه . وتأويله في الناس أنه الذي إذَا رُجِعَ في اختياره مَرة بعد مَرةٍ وُجِدَ نقيًّا مِنَ العُيُوب.
فأصل التحوير في اللغة من حَارَ يحورُ ، وهو الرجوع والترجيعُ.
فهذا تأويله - واللّه أعلم.
و (مَنْ أنْصَارِي إلى اللّه).
أي من أنْصَارِي مع اللّه ، وقال قوم مَنْ أنْصَارِي إلى نَصْرِ اللّه.
وقال الشاعر :
ولَوْحُ ذِراعَيْنِ في بِرْكةٍ . . . إِلى جُؤْجُؤٍ رَهِلِ المَنْكِبِ
الكاهل مع جؤجؤ رهل الْمنْكِب.
* * *
وقو له : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللّه)
وأكثر القراءة كونوا أنصارَ اللّه ، وهو الاختيار لقولهم نحن أنْصَارُ اللّه.
لأن الآيتين في جواب كونوا أنصاراً للّه ، نحن أنصَارُ اللّه.
ويجوز أن يكون " نحن أنصار اللّه " جواباً لذلك.
وقرئت (وَاللّه مُتِمٌّ نُورَهِ) - (وَاللّه مُتِمُّ نُورِهِ) كلاهما جَيدٌ .
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ).
مَعْنَى (أَيَّدْنَا) قَوَّينَا ، واشتقاقه من الأيْدِ ، والأيْدُ القوَّةُ.
* * *
و (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢)
هذا جواب (تؤمنون باللّه وَرَسُوله وتُجَاهِدُونَ) لأن معناه معنى الأمْرِ.
آمنوا باللّه ورسوله وجاهدوا في سبيل اللّه بأموالكم وأنفسكم يغفر لكم
ذنوبكم.
أي إن فعلتم ذلك يغفر لكم.
والدليل على ذلك قراءة عَبْدُ اللّه بن مسعودٍ : آمِنُوا باللّه وَرَسولهِ ، وقد
غلِطَ بعض النحويين فقال : هذا جَوابُ " هل " ، وهذا غلط بين ، ليس إذا دلهم النبي على ما ينفعهم غفر اللّه لهم ، إنما يغفر اللّه لهم إذا آمنوا وجاهدوا.
فإنما هو جواب (تُومِنُونَ باللّه ورَسُوله وتجاهدون يغفر لكم).
فأمَّا جواب الاستفهام المجزوم فكقَولكَ هل جئتني بشيء أعطكَ مثله.
لو كنت جئتني أعطيتك ، وَإِنْ جئتني أعْطَيْتُكَ.
وكذلك " أين بيتك أزُرْكَ ".
* * *
و (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ).
أي في جنات إقامة وخلودٍ ، يقال عَدَنَ بالمكان إذَا أقام به.
* * *
و (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللّه وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣)
ولكم تجارة أخرى تحبونها وهي نصر من اللّه وفتح قريب.
وإن شئت كان رفعاً على البَدَلِ من (أُخْرَى).
يُدْخِلْكُمْ جَنًاتٍ ولكُمْ نَصْرٌ من اللّه وَفَتْحٌ قَرِيبٌ.
* * *
و (إِنِّي رَسُولُ اللّه إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ).
(مُصَدِّقًا) منصوب على الحال.
أي إِني رسول اللّه إليكم في حال
تصديقٍ لما تَقَدمَني من التوراة وفي حال تبشير برسول (يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ).
قُرِئَتْ بفتح الياء - مِنْ بَعْدِيَ - . وبإسكان الياء ، وحذْفِها من اللفظ
لالتقاء السَّاكنين ، وأَما في الكتاب فهي ثابتة . من بَعْدي اسمُه أحمد.
والاختيار عند سيبويه والخليل تحريك هذه الياء بالفتح.
فأمَّا من قرأ (يَغْفِر لكُمْ) - بإدغام الراء في اللام - فغير جائز في القراءة عند الخليل وسيبويه ، لأنه لا تدغَمُ الراء في اللام في قولهما.
وقد رُوَيتْ عن إمام عَظِيم الشأن في القِرَاءةِ.
وهُوَ أبو عمرو بن العلاء ، ولا أَحْسَبُه قرأ بها إلا وقد سمعها عن العَرَب.
زَعم سيبويه والخليل وجميع البصريين - مَا خَلَا أَبا عمرو أن اللامَ تُدْغَمُ في
الراءِ ، وأن الرَّاءَ لا تُدغَمُ في اللامِ.
وحجة الذين قالوا أن الراء لا تدغم في اللام أن الراء حرف مكرر قويٌّ
فَإذَا أدغمت الراء في اللام ذهب التكرير منها.
وَدَلِيلُهُمْ على أَن لَهَا فضلة عَلَى غَيْرِهَا في التمكن أَنَكَ لَا تميلُ ما كان على
مثال فاعل إذا كان في أَوله حَرْفٌ مِنْ حُرُوف الإطباقِ المسْتَعْلِيَةِ ، وهي سبعة أَحْرُفٍ منها أَربعة مطبقة وهي الصَّادُ والضَّاد والطَّاءُ والظَّاء.
وثلاثة مستعلية وهي : الخَاءُ والغَيْن والقاف.
لا تقول : هذا صالح ، بإمالة الصادِ ، إلى الكسر - فإن كان في مَوْضع
اللام رَاء جاز الكسر ، تقول : هذا صَارِم . ولا تقول : مَرَرْت بضَابَطٍ - بإمالة الضادِ - ولكن تقول : مَررت بضارِبِ ، فَتُسفِلَ الراءَ المكسورَة كَسْرَةَ الصاد والضادِ المطبقتين.
وهذا الباب انفرد به البَصْرِيونَ في النحو وليس للكوفيين ولا المدنيين
فيه شيء ، وهو باب الِإمالةِ .