(مَدنية)
بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى : (سَبَّحَ للّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١)
افتتح اللّه السورة بذكر تقديسه وأن له أشياء تبرئُهُ من السُّوءِ ومثل ذلك
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ).
* * *
وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللّه فَأَتَاهُمُ اللّه مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (٢)
هَؤلَاءِ بنو النضير ، كان لهم عزَّ ومنعة مِنَ اليهود ، فظنَّ الناس أنهم لعزهم
وَمَنْعَتِهِمْ لا يخرجون من ديارِهِمْ ، وظنَّ بنو النضير أنَّ حُصُونَهمْ تمنعهم من
اللّه ، أي من أمر اللّه (فَأَتَاهُمُ اللّه مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ). -
كان بنو النضير لما دخل النبي عليه السلام المدينة عاقدوه ألَّا يكونوا
عليه ولا معه ، - فلما كان يوم أحد وظهر المشركون على المسلمين نكثوا
ودخلهم الريب ، وكان كعب ، بن الأشرف رئيساً لهم فخرج في ستين رَجُلًا إلى مكة وعاقد المشركين على التظاهر على النبي عليه السلام ، فأطلع اللّه نبيه عليه السلام على ذلك ، فلى ما صار إلى المدينة وَجَّهَ رسولُ اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - محمد بن مسلمة ليَقْتلَه ، وكان محمد بن مَسْلَمَةً رضيعاً لكعب ، فاستَأذَنَ محمد بن مسلمة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - في ، أن ينال منه [ليعتر] كعب بن الأشرف ، فجاءَهُ محمد
ومعه جماعة فاستنزله من منزله وأوهمه أنه قَدْ حُمِلَ عَلَيْهِ في أخذ الصدقَةِ مِنهُ
فلما نزل أخذ محمد بن مَسْلَمَةً بناصيته وكَبَّرَ ، فخرج أصحابه فقتلوه في
مكانِه ، وغَدَا رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - غازياً بني النَضِير فأناخ عليهم ، وقيل إنه غزاهم على حمار مخطومِ بليف ، فكان المؤمِنونَ يخربون من منازل بني النضير ليكون لهم أمكنة للقتال ، وكان بنو النضير يخربون منازلهم ليَسدُّوا بها أبْوابَ أزقتهم لِئَلَّا يُبْقَى علي المؤمنين ، فقذف اللّه في قلوبهم الرعْبَ (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ).
ومعنى إخرابها بأيدي المؤمنين أنهم عَرَّضُوهَا لِذَلك.
ففارقوا رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - على الجلاء من منازلهم وأن يحملوا ما استقلت به إبِلهمْ ما خلا الفضة والذهب ، فجلوا إلى الشام وطائفة منهم جلت إلى خيبر وطائفة إلى الحيرة ، وذلك
(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ).
وهو أول حَشْرٍ حُشِرَ إلى الشامِ - ثم يحشر الخلق يوم القيامةِ إلى الشامِ
ولذلك قيل لأول الحشر.
فجميع اليهود والنصارى يُجْلَوْنَ من جزيرة العَرَبِ.
وروي عن عمرَ أن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - قال :
" لأخْرِجَنَّ اليهُودَ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ ".
قال الخليل : جزيرة العرب مَعْدِنها وَمَسْكَنها ، وإنما قيل لها جَزِيرة العَرَبِ لأن
بحر الحبس وبحر فارس ودجلة والفرات قد أحاطت بها ، فَهِيَ أرضها
ومَعْدِنها.
قال أبو عبيدة : جزيرة العرب من [جَفْر] أبي موسى إلى اليَمَنِ في
الطول ومن رمل بَيْرِينَ إلى منقطع السماوة في العرض.
وقال الأصْمَعِى إلى أقصى عَدَن أبْيَن إلى أطراف اليمن حتى تبلغ أطرافَ بَوَادي الشام.
* * *
وقوله تعالى : (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللّه وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (٥)
أي ما قطعتم من نخلة - والنخل كله ما عدا البرني والعجوة يسميه أهل
المدينة الألْوَان ، وأصل لِينَةٍ لِوْنَهَ فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها فقيل لينة .
فأنكر بنو النضير قطع النخل فأعلم اللّه - عزَّ وجلَّ - أن ذلك بإذنه -
القطع والترك جميعاً.
(وليُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ).
بأن يريهم أموالهم يتحكم فيها المسلمون كيف أحبوا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا أَفَاءَ اللّه عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللّه يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦)
يعني ما أفاء اللّه على رسوله من بني النضير مما لم يوجفوا عليه خيلاً
ولا ركاباً - والركاب الإِبلُ والوَجِيفُ دون التقريب من السير ، يقال : وجف الفرس وأوجَفته ، والمعنى أنه لا شيء لكم فيه إنما هو لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - خالصاً يعمل فيه ما أحب ، وكذلك كل ما فتح على الأئمة مما لم يوجف المسلمون عليه خيلًا ولاركاباً.
* * *
و (مَا أَفَاءَ اللّه عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَللّه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللّه إِنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ (٧)
معنى (فللّه) أي له أن يأمركم فيه بما أحَبَّ.
(وَلِلرسُولِ وَلِذِي القُرْبَى).
يعني ذوي قرابات النبي - صلى اللّه عليه وسلم - لأنهم قد منعوا الصدقة فَجُعِلَ لهم حَق في الفيء.
(وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ).
* * *
و (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللّه وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللّه وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨)
بَيَّنَ مَن المَسَاكِينُ الذين لهم الحق فقال : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ).
* * *
و (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩)
يعني الأنصار .
(وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ)
يعني المهاجرين.
(يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)
أي يحب الأنْصَارُ المُؤْمِنِينَ.
(وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا).
أي لا يجد الأنصار في صدورهم حاجة مما يُعْطَى المهاجرونَ.
و (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ).
قال أبو إسحاق : ما أفاء اللّه على رسوله من أهل القرَى نحو خيبر.
وما أشْبَهَهَا ، فالأمر عند أهل الحجاز في قسمة الفيء أنه يُفَرَّق في هذه الأصْنَافِ المسمَّاة على قَدْرِ ما يراه الِإمام على التحري للصلاح في ذلك إن رأى الِإمام ذلك ، وإن رأى أنَّ صِنفاً من الأصناف يحتاج فيه إلى جميع الفيء صرف فيه في هذه الأصنافِ عَلى قَدْرِ مَا يَرَى.
* * *
(كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ).
يقرأ بضم الدال وفتحها - فالدُّولَة اسم الشيء الذي يتداول.
والدَّوْلَة الفِعْل والانتقال من حال إلى حالٍ.
وقرئت أيضاً (دُولَةٌ) - بالرفع -
فمن قرأ " كَيْلاَ يَكُونَ دُولَةٌ " فعلى أن يكون على مذهب التمام.
ويجوز أن يكون " دُولَةٌ " اسمَ يكونُ وخَبَرُها " بين الأغنياء ".
والأكثر (كيلا يكونَ دولةً بيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) على معنى كيلا يكون الفيء دولةٍ ، أي متداولًا.
و (وَمَا آتَاكَم الرسُولُ فَخُذوهُ).
أي من الفيء.
(وَمَا نَهَاكمْ عَنْهُ) أي عن أخذه (فَانْتَهوا).
* * *
قوله (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٠)
أي ما أفاء اللّه على رسوله من أهل القُرى فللّه ولرسوله ولهؤلاء
المسلمين وللذين يجيئون من بعدهم إلى يوم القيامة ، ما أقاموا على محبة
- أصحاب رسول اللّه عليه السلام.
ودليل ذلك (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ) في حال قولهم : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ . .). الآية.
فمن يترحم على أصحاب رسول اللّه ولم يكن في قلبه غِلٌ لهم أجمعين
فله حظٌّ فِي فَيْء المسلمين ، ومن شَتَمُهُمْ ولم يترحم عَلَيهم كان في قَلْبِهِ
غِلٌّ لَهُمْ فما جعل اللّه له حقًّا في شيء من فيء المسلمين.
فهذا نصُّ الكتَابِ بَيِّنٌ.
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللّه يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١١)
هُمْ إِخْوَانُهُمْ يَضُمُّهُمْ الكُفْرُ.
(لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللّه يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).
وقد بَانَ ذلك في أمر بني النضِير الذين عاقدهم المنافقون لأنهم أخرجوا
من ديارهم وأموالهم فلم يخرج معهم المنافقون ، وقُوتلُوا فلم ينصروهم.
فأظهر اللّه عزَّ وجلَّ كَذِبَهُمْ.
فإن قال قائل : ما وجه (وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ)
ثم قال : (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ).
قال أهل اللغة في هذا قولين : قالوا معناه أنهم لو تَعَاطَوْا نَصْرَهُمْ ، أي
ولئن نَصَرهُم مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ.
* * *
و (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (١٤)
وقرئت ( مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ) - على الوَاحِد - وقُرئت بتسكين الدال.
فمن قرأ (جُدُرٍ) فهو جمع جدار وجُدُرٍ مثل حمار وَحُمُرٍ.
ومن قرأ بتسكين الدال حذف الضمة لِثِقَلِهَا كما قالوا صُحْفٌ وَصُحُفٌ . ومن قرأ (جِدَارٍ) فهو الوَاحِد.
فأعلم اللّه عزَّ وجلَّ أنهم إذا اجتمعوا على قتالِكم لما قذف اللّه في قلوبهم مِنَ
الرُعبِ لا يبرزون لحربكم إنما يقاتلون متحصنين بالقرى والجُدْرانِ.
و (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى).
أي مختلفون لا تستوي قلوبهم ولا يتعاونون بِنيات مُجْتَمِعَة لأن اللّه -
- عزَّ وجلَّ - ناصر حزبه وخاذِل أعدائِه.
* * *
و (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٥)
مثل ما نال أهل بَدْرٍ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللّه رَبَّ الْعَالَمِينَ (١٦)
أي مثل المنافقين في غرورهم لبني النضِير وَقَوْلهِم لَهُمْ : (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) -
(كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ)
وهو - واللّه أعلم - يدل عليه (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ).
فكذلك المنافقون ، لَمَّا نَزَلَ ببني النضِيرِ ما نزل تبرأوا منهم.
وقد جاء في التفسير أن عابداً كان يقال له بَرْصِيصَا كان يُدَاوِي مِنَ
الجُنُونِ فداوى امرأة فأعَجَبته فأغواه الشيطان حتى وَقَعَ بها ثم قتلها - ثم تبرأ
منه الشيطان ، وفي الحديث طول ولكن هذا معناه.
* * *
و (فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (١٧)
وقرأ عبد اللّه بن مسعود أنهما في النار خَالِدَان فِيهَا ، وَهوَ في العربيةِ
جائز إلَّا أنه خلاف المصحف ، فمن قَالَ (خَالِدَيْن فيها) فنصب على الحال.
ومن قرأ (خالدان) فهو خبر أَنَّ.
والقراءة فَكانَ عَاقِبَتهُمَا على اسم كانَ ويكون
خبر كانَ أنهما في النار على معنى فكان عاقبتهما كَوْنَهُما في النَّارِ
ويقرأ فكان (عاقِبَتُهُمَا) والنصب أحسَنُ.
ويكون اسم كان (أَنَّهُمَا).
* * *
و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللّه إِنَّ اللّه خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨)
أي ليوم القيامَةِ ، وقُرِّبَ على الناسِ فجعل كأنه يأتي غَداً.
وأصل غَدٍ غَدْوٌ إلا أنه لم يأت في القرآن إلا بحذف الواو ، وقد تُكُلِّمَ به
بحذف الواو ، وجاء في الشَعْر بإثبات الواوِ وحَذْفِها.
قال الشاعر في إثباتها :
وما الناسُ إلاَّ كالدِّيارِ وأَهلِها . . . بها يومَ حَلُّوها وغَدْواً بَلاقِعُ
وقال آخر :
لا تَغْلُواها وادْلُواها دَلْوَا . . . إنَّ مَعَ اليَوْمِ أَخاه غَدْوَ
* * *
وقوله عزَّ وجل : (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللّه فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (١٩)
نسوا اللّه تركوا ذكره وما أمرهم به فترك اللّه ذكرهم بالرحمة والتوفيق.
* * *
و (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللّه وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)
ْأعلم اللّه عزَّ وجلَّ أن من شأن القرآن وعَظَمَتِهِ وَبَيانِه أنه لو جُعِلَ في
الجبل تمييز كما جعل فيكم وأنزل عليه القرآن لخشع وتصدَّع من خشية اللّه
ومعنى خشع تطأطأ وخضع ، ومعنى تصدَّع تشققَ.
وجائز أن يكون هذا عَلَى المَثَلِ ل (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ)
كما قَالَ - سبحانه - : (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (٨٩) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (٩٠).
* * *
و (هُوَ اللّه الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (٢٢)
هذا رد على أول السورة ، على (سَبَّحَ للّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(هُوَ اللّه الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ).
* * *
(هُوَ اللّه الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللّه عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣)
(الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ).
والقدوس الطاهر ومن هذا قيل : بيت المقدس أي بيت المكان الذي
يتطهر فيه من الذُنُوبِ.
و (السَّلَامُ).
اسم من أسماء اللّه عزَّ وجلَّ ، وقيل السلام الذي قد سَلِمَ الخلقُ من ظُلْمِهِ.
(الْمُؤْمِنُ).
الذي وَحَّد نَفْسَهُ ب (شَهِدَ اللّه أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
وقيل المؤمِنُ الذي أمِنَ الخلقُ من ظُلمِه.
و (العَزِيزُ).
أي الممتنِعُ الذي لا يغلبه شيء.
(الْمُهَيْمِنُ). -
جاء في التفسير أنه الشهيد، وجاء في التفسير أنه الأمين ، وزعم بَعْضُ
أهل اللغة أن الهاء بدل من الهمزة وأن أصله المؤيمِنُ ، كما قالوا : إِياك
وهِيَّاكَ ، والتفسير يشهد لهذا القول لأنه جاء أنه الأمِينُ ، وجاء أنه الشهِيدُ.
وتأويل الشهيد الأمين في شهادته.
و (الْجَبَّارُ).
تأويله الذي جبر الخلق على ما أراده من أمْرِه.
و (الْمُتَكَبِّرُ).
الذي تكبر عن ظلم عِبَادِه.
(سُبْحَانَ اللّه عَمَّا يُشْرِكُونَ)
تأويله تنزيه اللّه عن شركِهِمْ.
* * *
(هُوَ اللّه الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤)
وقد رويت رواية لا ينبغي أن تُقْرَأ ، رويت (الْبَارِئَ الْمُصَوِّرَ) بالنصب معناه الذي برأ آدم وصَوَّرَة.
و (لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى).
جاء في التفسير أنها تسعة وتسْعُون اسماً ، من أحصاها دَخَل الجنَّةَ
وجاء في التفسير أن اسم اللّه الأعظم اللّه ، ونحن نبيِّن هذه الأسماء واشتقاق ما ينبغي أن يبين منها إن شاء اللّه.
روى أبو هريرة الدوسي عن النبي عليه السلام قال إن للّه مائة اسم غير
واحِدٍ مَن أحصاها دخل الجنَّةَ.
وهو اللّه الواحد الرحمن الرحيم الأحَدُ الصمَدُ الفرد السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الحي القيوم العَلِى الكبير الغني الكريم الولي الحميد العليم اللطيف السميع البصير الودود الشكور
الظاهر البَاطِن الأول الآخر المبدئ البديع الملك القدوس الذَارِئ الفَاصِلُ الغَفُورُ المجيد الحليم الحفيظ الشهيد الربُّ
القدير التَّوَّاب الحافظ الكفيل القريبُ المجيب العَظيمُ الجليل العَفُوُّ الصَّفُوح
الحق المبين المعز المذل القوِي الشديد الحنَّان المَّان الفتاح الرؤوف القابض
الباسط الباعثُ الوَارِث الدَّيَّانُ الفاضل الرقيب الحسيب المتين الوكيل الزكي
الطاهر المحسن المجمل المبارك السُّبُّوح الحكيم البرُّ الرَّزاق الهادي المولى
النصير الأعلى الأكبر الوهاب الجواد الوفى الواسع الخلاَّق الوِتْر.
جاء في التفسير أن اسم اللّه الأعظم اللّه.
قال سيبويه : سألت الخليل عن هذا الاسم فقال :
الأصل فيه إله فأدخلت الألف واللام بدلًا من الهمزة.
وقال مرة أخْرَى : الأصل لَاهْ وأدْخِلَتِ الألف واللام لَازِمة.
وأما الرحمن الرحيم فالرحمن اسم اللّه خاصة لا يقال لغير اللّه رحمن ، ومعناه المبالغ في الرحَمَةِ وأرحم الراحمين - وَفَعْلانُ من بناء المُبَالَغَةِ ، تقول للشديد الامتلاء ملآنُ وللشديد الشبع شبعَانُ ، والرحيم اسم الفاعِلِ من رحم فَهُوَ رَحِيم ، وهو أيضاً للمبالغة والأحدُ أصله الوَحَدُ بمعنى الواحد ، وهو الواحد الذي ليس كمثله شيء.
والصَّمَدُ السيد الذي صَمَدَ له كل شيء ، أي قصد قَصْدَهُ.
وتأويل صمود كل شيء للّه أن في كل شيء أثر صنعة اللّه.
السلام الذي سلم الخلق من ظلمه ، وقد فَسَّرْنَا المؤمِن المهَيْمِن ، وفسرنا الجبار المتكبر.
والباريء الخالق ، تقول برأ اللّه الخلق يبرؤهم أي خلقهم ، والقيُّوم المُبَالِغُ في
القيام بكل ما خَلَقَ ، وما أراد ، والولي المتولي للمؤمنين اللطيف للخلق من
حيث لا يعلمون ولا يقدرون ، والودودُ المحب الشديد المحبَّةِ.
الشكور الذي يرجع الخير عنده ، الظاهر الباطن الذي يعلم مَا ظَهَرَ وَمَا بَطَن ، المبدئ الذي ابتدأ كل شيء من غير شيء ، والبديع الذي ابتدع الخلق على غير مثالٍ ، القدُوس قد رويت القَدُّوس بفتح القاف ، جاء في التفسير أنه المبارك ، ومن ذلك أرض مقدَّسَةٌ مباركة ، وقيل الطاهر أيضاً.
والمذرئ - مهموز - الذي ذرأ الخلق أي خلقهم ، والفاصل الذي فصل بين الحَقِّ والباطل ، والغفور الذي
يغفر الذنوب ، وتأويل الغفران في اللغة التغطيةُ على الشيء ومن ذلك المِغفَرُ
ما غطَيَ به الرأس.
المجيد الجميل الفعال ، والشهيد الذي لا يغيب عنه شيء.
والرَّبُّ مالك كل شيء والصَّفوح المتجاوز عَنِ الذُنُوبِ يصفح عنها.
الحَنَّانُ ذو الرحمة والتعطف المَنَّان الكثير المَنِّ على عباده بمُظَاهر النعم.
الفتاح الحاكم ، الدَّيَّانُ المجازي ، الرقيب الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء.
المتين الشديد القوة على أمْرِه ، الوكيل الذي يوكل بالقيام بجميع ما خلق.
والزكي الكثير الخير السُّبُّوح الذي بيَّن عن كل سِرٍّ ، الحليم الذي لا يعجل
بالعقوبة ، وكان الحلم على هذا تأخير العقوبة .