(مدنية)
بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (سَبَّحَ للّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١)
قال قوم : التسبيح آثار الصنعة في السَّمَاوَاتِ وفي الأرضِ ومن فيهما
وكذلك فسروا (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) ، وهذا خطأ ، التسبيحِ تمجيد اللّه وتنزيهه من السوء ودليل ذلك
(وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْيِيحَهُمْ) فلو كان التسبيح آثارَ الصّنعة لكانَتِ مَعقوله ، وكانوا يفقهونها.
ودليل هذا القول أيضاً (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) ، فلو كان تسبيحها آثار الصنعة لم يكن في قوله (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) فائدة.
* * *
و (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢)
أي يحي الموتى يوم القيامةِ ، وُيميتُ الأحياء في الدنيا.
ويكون يُحْيِي وَيُمِيتُ : يُحْيِي النطف التي إِنَّمَا هي مَوَات ، وَيُمِيتُ الأحياء.
ويكون موضع (يُحْيِي وَيُمِيتُ) رَفْعاً على معنى هو يُحْيِي وَيُمِيتُ.
ويجوز أن يكون نصباً على معنى له ملك السَّمَاوَات والأرض مُحْيياً ومُمِيتاً
قادِراً.
وقوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣)
تأويله هو الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء ، والظاهر العالم بما
ظهر والباطن العالم بما بطن ، كما تقول : فلان يُبْطُنُ أمر فُلانٍ ، أي يعلم دِخْلَةَ أمْرِه.
(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
لا يخفى عليه شيء
* * *
وقوله تعالى : (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤)
تأويله يعلم ما يدخل في الأرض من مَطَرٍ وَغَيْرِه.
(وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا) من نبات وغيره.
(وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ) من رزق ومطر وملك.
(وَمَا يَعْرُجُ فِيها).
أي ما يصعد إليها من أعمال العباد ، وما يَعْرُج مِنَ الملائكة.
* * *
(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٦)
معناه يدخل الليل في النهار بأن ينقص من الليل ويزيد في النَّهَارِ.
وكذلك (وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) ينقص من النهارَ ويزيد في الليْلِ وهو مثل
(يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ).
* * *
و (آمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧)
معناه صَدقوا بأن اللّه واحد وأن محمداً رسوله.
(وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ).
أي أنفقوا مما مَلككم ، فأنفقوا فِي سَبِيلِ اللّه وَمَا يُقَربُ مِنْهُ.
* * *
و (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّه وَللّه مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللّه الْحُسْنَى وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠)
تأويله وأي شيء لكم في ترك الِإنفاق فيما يقرب من اللّه وأنتم مَيِّتونَ
تَارِكُونَ أمْوَالَكُم.
و (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا).
لأن من تقدم في الِإيمان باللّه وبرسوله عليه السلام وصَدَّقَ به فهو أفضل
مِمنْ أتى بعدَه بالِإيمان والتصديق ، لأن المتقدِّمينَ نالهم من المشقة أكثر مما
نال مَنْ بَعْدَهُمْ ، فكانت بصائرهم أيضاً أنفذ.
وقال : (وَكُلًّا وَعَدَ اللّه الْحُسْنَى).
إلا أنه أعلم فضل السابق إلى الِإيمان على المتأخر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّه قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١)
(فَيُضَاعِفُهُ لَهُ)
ويقرأ (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ) - بالنصب ، فمن نصب فعلى جواب الاستفهام
بالفاء ، ومن رفع فعلى العطف على يقرض ، ويكون على الاستئناف على
معنى فهو يضاعفه له.
ومعنى (يُقْرِضُ) ههنا يفعَل فعلاً حسناً في اتِّباع أمر اللّه وطاعته.
والعرب تقول لكل من فعل إليها خيراً : قد أحَسْنَتَ قَرْضِي ، وقد
أقرضتني قرضاً حَسَناً ، إذا فعل به خيراً.
قال الشاعر :
وإِذا جُوزِيتَ قَرْضاً فاجْزِه . . . إِنما يَجْزِي الفَتَى ليْسَ الجَمَلْ
إذا أسدي إليك معروف فكافئ عليه.
* * *
و (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢)
(يَوْمَ) منصوب ب (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) في ذلك اليوم .
ومعنى : (يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ).
أي بمعنى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ، وهو علامة أيديهم الصالحة.
(يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) ، أي بلغنا به إِلى جَنَتِك.
* * *
وقوله تعالى : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (١٣)
وقرئت (أنْظِرُونا) - بقطع الألف ووصلها -
فمن قال : (انْظُرُونَا) فهو من نظر ينظر ، معناه انتظرونا.
ومن قال : (أنْظِرُونا) - بالكسر - فمعناه - أَخِّرونا.
وقد قيل إنَ مَعْنَى " أنْظِرونا " انتظرونا أيضاً.
وأنْشَدَ القائل بيت عمرو بن كلثوم :
أَبا هِنْدٍ فلا تَعْجَلْ علينا . . . وأَنْظِرْنا نُخَبِّرْكَ اليَقِينا
و (قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا).
تأويله لا نور لَكم عندنا.
و (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ).
أي ما يلي المؤمنين ففيه الرحمة ، وما يلي الكافرين ظاهره يأتيهم مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللّه وَغَرَّكُمْ بِاللّه الْغَرُورُ (١٤)
معنى (فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) اسْتَعْمَلُتُموهَا في الفِتْنَةِ ، وتربصتم بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم - والمؤمنين الدوائر.
(وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ).
أي ما كنتُمْ تَمنَّونَ من نزول الدوائر بالمؤمنين.
(حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللّه).
أي حتى أنزل اللّه نَصْرَهُ عَلَى نَبِيِّهِ والمؤمنين.
(وَغَرَّكُمْ بِاللّه الْغَرُورُ).
أيْ غَرَّكُمُ الشَيْطَانُ ، وهو الغرور على وَزْن الفَعُول ، وَفَعُول من أسماء
المبالغة ، تقول : فلان أكول إذا كانَ كثير الأكل وضروبٌ إذَا كانَ كثير
الضرْبِ ، ولذلك قيل للشيطان : الغرور لأنه يَغُرُّ ابنَ آدم كثيراً ، فإذا غرَّ مرة واحدةً فهو غارٌّ ، ويصلح غارٌّ للكثير ، فأمَّا غَرُورُ فلا يصلح لِلْقَلِيْلِ ، وقرئت (الغُرُورُ) وهو كل ما غرَّ من متاع الدنيا.
ومعنى (ارْتَبْتُمْ) غَلَّبْتُمُ الشكَّ على اليقين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)
هي أوْلَى بِكُمْ لما أسْلَفْتُمْ من الذُنُوبِ ، ومثل ذلك قول الشاعر :
فَعَدَتْ كِلا الفَرْجَيْن تَحْسِبُ أَنه . . . مَوْلَى المَخافَةِ خَلْفُها وأَمامُها
مثل ذلك . أي مولى المخافة خلفها وأمامها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّه وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (١٦)
(وَمَا نَزَّلَ مِنَ الْحَقِّ)
ويقرأ (وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) - بالتخفيف.
وقوله (يَأْنِ) من أنَى يَأني ، ويقال آن يئين.
وفي هذا ومعناه " حَانَ يَحِينُ ".
وهذه الآية - واللّه أعلم - نزلت في طائفة من المؤمنين حُثوا عَلَى الرِّقَّة
والرحمةِ والخشوع.
فأما من كان ممن وصفه - عزَّ وجلَّ - بالخضوع والرقة
والرحمة فطائفة من المؤمنين فوق هؤلاء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ)
وقرئت بالتاء ، - تكونوا -
(فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ).
أي لا تكونوا كالذين لما طالت عليهم المدة قَسَتْ قُلُوبُهُمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (اعْلَمُوا أَنَّ اللّه يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧)
معناه أن إحياء الأرض بعد موتها دليل على توحيد اللّه ، ومن آياته
الدالة على ذلك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللّه قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨)
بتشديد الصَّاد ، معناه أن المتَصَدِّقين والمتصدِّقَاتِ.
ويقرأ (إِنَّ الْمُصَدِّقِينَ وَالْمُصَدِّقَاتِ) بالتخفيف ، ومعناه إن المؤمنين والمؤمنات مِمنْ صدَّق اللّه ورسولَهُ فآمن بما أتى به النبي - صلى اللّه عليه وسلم -.
و (وَأَقْرَضُوا اللّه قَرْضًا حَسَنًا).
أي تصدَّقوا من مال طيِّبٍ.
(يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ).
أي يضاعف لهم ما عملوا ، ويكون ذلك التضعيف أجْراً كريماً.
* * *
و (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللّه وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١٩)
(الصِّدِّيقُونَ)
على وزن " الفعِيلينَ " وأحدهم صِدِّيقٌ وهو اسم للمبَالَغَةِ في الفِعْلِ
تقول : رجل " صِدِّيقٌ " كثير التصديق وكذلك رجل سكِّيت كثير السُّكوتِ.
فالمعنى إنَّ المُؤمِنَ المصَدِّقَ باللّه ورسُلِهِ هو المبالغ في الصِّدْقِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ).
يصلح أن يكون كلاماً مسْتَانفاً مرفوعاً بالابتداء ، فيكون
" والشُهَدَاءَ عِنْدَ رَبِّهِمْ لهم أجرهم ونورهم.
والشهداء هم الأنبياء ، ويجوز أن يكون " والشهداء " نسقا على ما قبله ، فيكون أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ
وأولئك هم الشهداء عند رَبِّهِمْ ، ويكون (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ)
للجماعة من الصديقين والشهداء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللّه وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (٢٠)
(كَمَثَلِ)
الكاف في موضع رفع من وجهين :
أحَدُهُما أن تكون صفة فيكون : " إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم مَثلُ غيثٍ ، وهو المطر ويكون رفعها عَلَى خَبرٍ بَعْدَ خَبَرٍ ، على معنى أن الحياة الدنيا وزينتَها مَثْلُ غَيْثٍ أعجب الكفار نباته.
والكفار ههنا له تفسيران :
أحدهما أنه الزرْعُ ، وإذا أعجب الزُرَّاعَ نبَاتُه مع علمهم به ، فهو في غاية ما يستحسن ، ويكون الكفَّار ههنا الكفَّار باللّه ، وهم أشد إعجاباً بزينة الدُّنْيَا من المؤمنين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا).
معنى (يَهِيجُ) يأخذ في الجفاف فَيَبْتَدِئ به الصُّفْرَةِ.
(ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا).
أي متحطماً متكَسِّراً ذاهِباً.
وضرب اللّه هذا مثلاً لزوال الدنيا.
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللّه وَرِضْوَانٌ).
ويقرأ (ورُضْوان) ، وقد روينا جميعاً عن عاصم - بالضم والكسر - فمعناه
فمغفرة لأولياء اللّه وعذاب لأعدائه.
* * *
وقوله (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّه وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١)
سابقوا بالأعمال الصالحة .
وقيل إن الجَنات سَبْع ، وقيل أرْبَع لقوله (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦)
وقوله بعد ذلك (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (٦٢).
وقيل عرضها ولم يذكر طولها - واللّه أعلم - وإنما ذِكْرُ عَرْضِها هَهنا تمثيل للعِبَادِ بِمَا يَفْعَلونَه ويقَعُ فِي نفوسِهم ، وأكبر ما يقع في نفوسهم مقدار السَّمَاوَاتِ والأرضِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ فَضْلُ اللّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ).
وهذا دليل أنه لا يدخل أحَدٌ الجنَّةَ إِلًا بفضل اللّه.
ثم أعلمهم أن ذلك المؤَدِّي إلى الجنَّةِ النَّارِ لَا يكون إلا بقضاء وَقَدَرٍ
فقال عزَّ وجلَّ :
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرٌ (٢٢)
أي مِنْ قَبل أن نَخْلقَهَا ، فما وقع في الأرض من جَدْبٍ نَقْصٍ وكذلك
ما وقع في النفوس من مرضٍ وموتٍ خسْرانٍ في تجارةٍ كسبِ خيرٍ شَرٍّ
فمكتوبٌ عند اللّه معلومٌ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللّه لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (٢٣)
فمن قرأ " أتاكُمْ " فمعناه جاءكم ، ومن قَرأ (آتَاكمْ) فمعْنَاه أعْطَاكم
ومعنى " تفرحوا " ههنا لا تفرحوا فَرَحاً شديداً تأشروا فيه وتبطروا ودليل ذلك : (وَاللّه لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).
فدل بهذا أنه ذم الفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر له ، فأمَّا الفرح
بنعمة اللّه والشكر عليها فغير مذمومِ.
وكذلك (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ).
أي لا تحزنوا حزناً يطغيكم حتى يخرجكم إلى أن تلزِموا أنْفسِكُم الهَلَكَةَ
ولا تعتدوا بثواب - اللّه ما تسلبونَه وَمَا فاتكم .
و (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللّه هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤)
ويقرأ (بالبَخَلِ) مثل الرُّشدِ والرَّشَد ، وهذا على ضربين :
أحَدُهمَا في التفسير أنهم الذين يبخلون بتعريف صفة النبي - صلى اللّه عليه وسلم - التي قد عرفوها في التوراة والإنجيل.
والوجه الثاني أنه لما حَثَّ على الصفَةِ ، أعلم أنَّ الًذِينَ يَبْخَلونَ
بها ويأمرون بالبخل بها ، فإن اللّه عزَّ وجل غني عنهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّه مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللّه قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥)
جاء في التفسير أن آدم عليه السلام هبط إلى الأرْضِ بالعلاة والمطرقة
والكلبتين . والعلاة هي التي يسميها الحدادونَ السِّنْدَانَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ).
أي : [يُمتَنع به] ، ويحارَبُ به.
(وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ).
يستعملونه في أدواتهم وما ينتفعون به من آنِيَتِهِمْ ، وجميع ما يتصرف
و (وَلِيَعْلَمَ اللّه مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ).
أي ليعْلَمَ اللّه من يقاتل مع رسَلِه في سُبُلِهِ.
وقد مر تفسيره ومعناه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللّه فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٧)
(ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا)
أي أتبعنا نوحاً وإبراهيم رسُلًا بعْدَهمْ.
(وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ).
جاء في التفسير أن الِإنجيل آتاه اللّه عيسى جمْلَةً واحدةً.
وقوله (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً).
ويجوز رآفة على وزن السماحة ، حكى أبو زيد أنه يقال : رَؤُفْت بالرجل
رَأفَةً ، وهي القِراءة.
وقد قرئَت ورآفَة .
و (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللّه).
هذه الآية صعبة في التفسير.
ومعناها - واللّه أعلم - يحتمل ضَربَيْن :
أحَدُهُمَا أن يكون في (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا) ابتدَعوا رهبانية كما
تقول : رأيت زيداً ، وعمراً أكرمتُه ، وتكون (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيهِمْ) معناه لم نكتبها عليهم ألبتَّةَ ، ويكون (إلا ابْتغَاءَ رضوان اللّه) بَدَلًا - من الهاء والألف ، فيكون ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رِضْوَانِ اللّه ، وابتغاءُ رضوان اللّه اتبَاعُ مَا أمَرَ بِه.
فَهذا - واللّه أعلم - وجه.
وفيها وجه آخر في (ابْتَدَعُوهَا).
جاء في التفسير أنَّهُمْ كانوا يَرَوْنَ من مُلُوكهم ما لا يَصْبِرُونَ عليهِ فاتخذوا
أسراباً وصَوَامِعَ.
فابتدعوا ذلك ، فلما ألزمرا أنْفُسَهُم ذلك التطوع ودَخَلُوا فيه
لزمهم [إِتمامه] ، كما أن الِإنسان إذا جعل على نفسه صوماً لم يُفْتَرَض عليه لزمه أنْ يُتِمَّهُ.
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا).
على ضربين - واللّه أعلم - :
أحدهما أن يكونوا قصَّروا فيما ألزموه أنْفُسَهُم.
والآخر وهو أجود أن يكونوا حين بُعِثَ النبي - صلى اللّه عليه وسلم - فلم يؤمنوا به كانوا تاركين لطاعة اللّه ، فما رعوا تلك الرهبانية حق رعايتها . ودليل ذلك قوله عزَّ وجلَّ : (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ).
أي الذين آمنوا منهم بالنبي عليه السلام .
(وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)
أي كافرونَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨)
يعني (آمِنُوا بِرَسُولِهِ) ، صَدِّقُوا برسُوله.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ).
معناه يؤتكم نصيبين من رحمته ، وإنَّما اشتقاقه في اللغة من الكِفْل ، وهو
كساء يجعله الراكب تحته إذا ارتدف لئلا يسقط ، فتَأويله يؤتكم نصيبين
يحفظانكم من هلكة الْمَعَاصي.
(وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ).
كما قال عزَّ وجلَّ : (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أيْدِيهِمْ)
وهذه علامة المؤمنين في القيامة ، ودليل ذلك
(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ).
ويجوز أن يكون واللّه أعلم : (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ)
يجعل لهم سبيلاً واضحاً من الهدى تهتدون به.
* * *
و (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللّه وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
فعل اللّه بكم ذلك كما فعل بمن آمَن مِنْ أَهْلِ الكِتابِ لأنْ يَعْلَموا
و (لا) مؤكدة . و (أَلَّا يَقْدِرُونَ) (لا) ههنا يدل على الِإضمار في " أن " مع
تخفيف " أن " أنهم لا يقدرون ، أي لِيَعْلَمَ أهل الكتاب أنهم لاَ يَقْدِرُونَ على شيء من فضل اللّه (١).
__________
(١) قال السَّمين :
لِّئَلاَّ يَعْلَمَ : هذه اللامُ متعلقةٌ بمعنى الجملة الطلبية المتضمنةِ لمعنى الشرطِ ، إذ التقدير : إنْ تتقوا اللّه وآمنتم برسلِه يُؤْتِكم كذا وكذا ، لئلا يعلمَ . وفي « لا » هذه وجهان ، أحدهما : / وهو المشهورُ عند النحاةِ والمفسِّرين والمُعْرِبين أنها مزيدةٌ كهي في مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ [ الأعراف : ١٢ ] ، و أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ [ يس : ٣١ ] على خِلافٍ في هاتين الآيتين . والتقدير : أَعْلَمَكم اللّه بذلك ، ليعلمَ أهلُ الكتابِ عدمَ قدرتِهم على شيءٍ مِنْ فضلِ اللّه وثبوتَ أنَّ الفَضْل بيدِ اللّه ، وهذا واضح بَيَّنٌ ، وليس فيه إلاَّ زيادةُ ما ثبتَتْ زيادتُه شائِعاً ذائعاً.
و
الثاني : أنها غيرُ مزيدةٍ . والمعنى لئلا يعلمَ أهلُ الكتابِ عَجْزَ المؤمنين ، نقل ذلك أبو البقاء وهذا لفظُهُ ، وكان قد قال قبلَ ذلك : « لا » زائدة والمعنى : ليعلمَ أهلُ الكتابِ عَجْزَهم « وهذا غيرُ مستقيم؛ لأنَّ المؤمنين عاجزون أيضاً عن شيءٍ مِنْ فضل اللّه وكيف يعملُ هذا القائلُ بقولِه وَأَنَّ الفضل بِيَدِ اللّه ؛ فإنه معطوفٌ على مفعولِ العِلْمِ المنفيِّ فيصيرُ التقدير : ولئلا يعلمَ أهلُ الكتاب أنَّ الفضلَ بيد اللّه؟ هذا لا يستقيمُ نَفْيُ العِلْمِ به ألبتَّةَ ، فلا جرم كان قولاً مُطَّرحاً ذكَرْتُه تنبيهاً على فسادِه.
وقراءةُ العامَّةِ » لئلا « بكسر لام كي وبعدها همزةٌ مفتوحةٌ مخففةٌ . وورش يُبْدِلها ياءً مَحْضَة وهو تخفيفٌ قياسيٌّ نحو : مِيَة وفِيَة ، في : مئة وفئة . ويدلُّ على زيادتِها قراءةُ عبد اللّه وابن عباس وعكرمةَ والجحدري وعبد اللّه بن سلمة » لِيَعْلَم « بإسقاطِها ، وقراءةُ حطان ابن عبد اللّه » لأَنْ يعلمَ « بإظهار » أَنْ « . والجحدري أيضاً والحسن » لِيَنَّعَلَمَ « وأصلُها كالتي قبلها لأَنْ يعلم ، فأبدل الهمزةَ ياءً لانفتاحِها بعد كسرة ، وقد تقدم أنه قياسٌ كقراءة ورش » لِيَلاَّ « ثم أَدْغَمَ النون في الياء . قال الشيخ : » بغير غُنَّة كقراءة خلف أَن يَضْرِبَ [ البقرة : ٢٦ ] بغيرِ غُنَّة « انتهى . فصار اللفظ لِيَنَّعْلَمَ . و » بغير غنَّة « ليس عَدَمُ الغنَّةِ شرطاً في صحة هذه المسألةِ ، بل جاء على سبيل الاتفاقِ ولو أَدْغَمَ بُغنَّةٍ لجاز ذلك فسقوطُها في هذه القراءاتِ يؤيِّد زيادتها في المشهورةِ.
وقرأ الحسن أيضاً فيما رَوَى عنه أبو بكر ابن مجاهد » لَيْلاً يَعْلَمَ « بلام مفتوحةٍ وياءٍ ساكنةٍ كاسم المرأة ورفعِ الفعلِ بعدها . وتخريجُها : على أنَّ أصلَها : لأَنْ لا ، على أنها لامُ الجرِّ ولكنْ فُتِحَتْ على لغةٍ معروفة ، وأنشدوا :
٤٢٣٧ أُريدُ لأَنْسَى ذِكْرَها . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بفتح اللام ، وحُذِفَت الهمزةُ اعتباطاً ، وأُدْغمت النونُ في اللام فاجتمع ثلاثة أمثالٍ فثَقُلَ النطقُ به فأبدلَ الوسطَ ياءً تخفيفاً ، فصار اللفظُ » لَيْلا « كما ترى ورُفِع الفعل؛ لأنَّ » أَنْ « هي المخففةُ لا الناصبةُ ، واسمُها على ما تقرَّر ضميرُ الشأنِ ، وفُصِل بينها وبين الفعلِ الذي هو خبرُها بحرفِ النفي.
وقرأ الحسن أيضاً فيما روى عنه قطرب « لِيْلا » بلام مكسورة وياءٍ ساكنةٍ ورفع الفعل ، وهي كالتي قبلها في التخريج . غايةُ ما في الباب أنه جاء بلامٍ مكسورةٍ كما في اللغة الشهيرة . ورُوي عن ابن عباس « لكي يعلَمَ » ، و « كي يعلم » وعن عبد اللّه « لكيلا » وهذه كلُّها مخالِفةٌ للسوادِ الأعظمِ ولسوادِ المصحف.
وقرأ العامَّةُ أَنْ لا يَقْدِرُون بثوبت النون على أنَّ « أَنْ » هي المخففة وعبد اللّه بحَذْفِها على أَنَّ « أَنْ » هي الناصبة وهذا شاذٌّ جداً؛ لأنَّ العِلْمَ لا تقع بعده الناصبةُ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).