سُورَةُ الْفَتْحِ مَدَنِيَّةٌ

‏ وَهِيَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً

(مَدنيةٌ) كلها بِإِجْمَاعٍ

بسم اللّه الرحمن الرَّحيم

١

قوله - عزَّ وجلَّ - : (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١)

جاء في التفسير أنه فتحُ الحُديبية ، وَكان هذا الفتح عَن غَير قتالٍ قيل

إنه كان عن تراضٍ بين القوم.

والحُدَيْبيَةُ بئرٌ فسمي المكان باسم البئر.

والفتح إنما هُوَ الطفَرُ بالمكان والمدينةِ والقَرْيَةِ ، كان بحرب  بغَيْر حُرْبٍ ،

كان دخول عَنْوَةٍ  صُلْح ، فَهوَ فتحٌ لأن الموضع إِنما يكون مُنْغَلِقاً فإذا صار

في اليَدِ فَهُوَ فتحُ.

ومعنى (فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) - وَاللّه أعلَمُ - هو الهداية إلى الِإسْلاَمِ.

وجاء في التفسير : قضينا لكَ قضاء مُبِينًا أي حكمنا لك بإظهار دين الِإسلام

والنصرة على عدوك.

وأكثَر ما جاء في التفسير أنه فتح الحُدَيْبِيةِ ، وكان في فتح الحديبية آية

عظيمة من آيات النبي - صلى اللّه عليه وسلم - ، وذلك أنها بئر فاسْتُقِيَ جميعُ ما فيها من الماء حتى نَزَحَت ولم يبق فيها ماء ، فتمضمض رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - ثم مَجَّهُ فيها فدرت البئر بالماء حتى شَرِبَ جميع من كان مع النبي - صلى اللّه عليه وسلم -.

وليس يخرج هذا من معنى فتحنا لك فتحاً مبيناً أنه يُعْنَى به الهداية إلى الِإسْلاَم ، ودليل

٢

ذلك قوله (لِيَغْفِرَ لَكَ اللّه مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٢)

فالمعنى فتحنا لك فتحاً في الدين لتَهْتَدِيَ بِهِ أنت والمُسْلِمونَ.

* * *

٣

ومعنى (وَيَنْصُرَكَ اللّه نَصْرًا عَزِيزًا (٣)

نَصْراً نَصْراً ذا عِزٍّ لا يقع معه ذُلٌّ.

ثم أعلم عن أسباب فتح الدين على نبيه عليه السلام فقال :

* * *

٤

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَللّه جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللّه عَلِيمًا حَكِيمًا (٤)

أي أسْكَنَ قُلوبَهم التعظيم للّه ولرسوله ، والوقار.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَللّه جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللّه عَلِيمًا حَكِيمًا).

تأويله - واللّه أعلم - أن جميع ما خلق اللّه في السَّمَاوَات والأرض جنود

له ، لأن ذلك كله يدل على أنه واحد وأنه لا يَقْدِرُ أحدٌ أنْ يأتِيَ بمثل شيء

واحد مما خلق اللّه في السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ.

ومن الدليل أيضاً على أن معنى  (إِنَّا فتحنا لك) أي إنَّا أرشدناك

إلى الإِسلام وفتحنا لك أمر الدينِ

٦

قوله عزَّ وجلَّ : (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللّه ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللّه عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٦)

كانوا يظنون أن لن يَعودَ الرسول والمؤمِنونَ إلى أهْليهم أبداً وَزينَ ذلك

في قلوبِهِمْ ، فجعل اللّه دائرة السَّوْءِ عَليْهم.

ومن قرأ " ظَنَّ السُّوءِ " فهو كما ترى أيْضاً.

قال أبو إسحاق : وَلاَ أعْلَمُ أحداً قَرأ بِهَا ، وقد قيل أيضاً إنه قرِئ بِهِ.

وزعم الخليل وسيبويه أن معنى السوء هِهنا الفساد.

والمعنى : الظانين باللّه ظَنَّ الفَسَادِ ، وهو ما ظَنُّوا أن الرسول عليه السلام ومن معه لا يَرْجِعونَ .

قال اللّه تعالى : (عَلَيْهِمْ دَائِرَة السَّوْءِ) أي الفساد والهلاك يقع بهم

(وَغَضِبَ اللّه عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).

* * *

٧

(وَللّه جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللّه عَزِيزًا حَكِيمًا (٧)

تفسيره مثل الأول.

(وَكَانَ اللّه عَزِيزًا حَكِيمًا) عَالِياً حَكيماً فِيما دَبَّرَهُ.

* * *

٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٨)

أي شاهداً على أمتِك يوم القيامة.

وهذه حال مُقَدَّرَة أي مبشَراً بالجنة من عمل خَيْراً ومنْذِراً مَنْ عَمِل

شرَّا بالنَّارِ.

* * *

٩

(لِتُؤْمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٩)

الخطاب للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - وخطاب للنَاس وَلأمَّتِه.

والمعنى يَدُل على ذلك.

ويجوز (لِيُؤْمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ) . وقَدْ قرِئ بهمَا جميعاً.

وجائز أن يكون (لِتُؤْمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ) خِطَاباً للمومِنينَ وللنَّبي جَميعاً.

لأن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - قد آمن باللّه وبآياته

وكتُبه ورسلِه.

وقوله (شاهداً) حال مقدرة ، أي يكون يوم القِيَامَةِ ، والبشارة والِإنذار

حال يكون النبي - صلى اللّه عليه وسلم - ملابساً لها في الدنيا لمن شاهده فيها من أمَّتِه ، وحال مُقدرة لمن يأتي بعده من أمَّتِه إلى يوم القيامَةِ مِمنْ لم يشاهده.

يَعْنِي بقوله مُقدَّرة أن الحال عنده في وقت الِإخإر عَلَى ضَرَبَيْن.

حال ملَابسة يَكونُ المُخْبِر ملَابِساً لها في حين إِخْبارِه.

وَحَالٌ مُقَدَّرَةٌ لأن تلابَسَ فى ثانٍ مِنَ الزَمَانِ.

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ).

معنى (تُعَزِّرُوهُ) تنصروه ، يقال : عَزَّرْته أُعَزِّرهُ ، أي نصرته مَرةً بعْدُ مرةٍ.

وجاء في التفسير لتنصروه بالسيْفِ ويجوز وَلِتَعْزروه ، يقال : عَزَرْتُه أعْزرُه عَزْراً ، وعَزَّرْته أُعَزِّرهُ عَزْراً وتعْزِيراً . ونصرة النبي - صلى اللّه عليه وسلم - هي نُصْرَة اللّه عَزَّ وجلَّ.

(وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا).

فهذه الهاءُ تَرْجِع عَلَى اللّه عَزَّ وَجَلَّ.

ومعنى يُسبحون اللّه ، أي يُصلُّون له . والتسبِيح في اللًغَةِ تعظِيم اللّه وتنزيهه عن السوءِ.

* * *

١٠

و (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللّه يَدُ اللّه فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللّه فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (١٠)

أي أخذكَ عَلَيْهم البَيْعَةَ عَقْدٌ للّه عزَّ وجلَّ عَلَيْهم.

ومعنى (يَدُ اللّه فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)

يحتمل ثلاثة أوجُهٍ :

منها وَجْهَانِ جاءا في التفسير ، أحدُهما يَدُ اللّه في الوَفَاء فَوْقَ أيْدِيهم.

وجاء أيْضاً يد اللّه في الثواب فوق أيْدِيهم.

والتفسير - واللّه أعلم - يد اللّه في المِنَّةِ عَلَيْهِمْ في الهِدَايَةِ فوق أيْدِيهِمْ في الطاعة.

و (فَمَنْ نَكَثَ فَإنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ).

والنكث في اللغةِ نقضُ مَا تَعْقِده ، وما تُصْلِحه.

وجاء في التفسير : ثلاثة أشياء تَرجِعُ عَلى أهلِهَا.

أحدُهَا النكث . والبغي والمكر.

قال اللّه - عزَّ وجلَّ - (إِنَّما بَغْيُكُم عَلَى أنْفُسِكم).

والمكْرُ قال اللّه عزَّ وجلَّ : (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)

و (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللّه فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).

(فَسَنُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)

ويقرأ (فَسَيُؤتيه أجْراً عظيماً).

ويقرأ عَلَيْهِ اللّه ، وعَلَيهُ اللّه.

وقد فسرنا مثل هذا فيما سلف.

* * *

١١

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللّه شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا  أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١١)

(فَاسْتَغْفِرْ لَنَا) بإظهار الراء عند اللَامِ ، وقد رُوِيت عَنْ أبِي عَمْروٍ فاستغفِلَّنَا بالإدغام ، وكذلك في قوله يَغْفِلَّكًمْ.

ولا يُجيزُ سيبويه والخليل إدغام الراء في اللام.

ولا يحكون هذه اللغة عن أحدٍ من العرب - ، ويذكرون أن إدغام الراء

في اللام غير جائز لأن الراء عندهم حرفٌ مَكرر ، فإذا أدغم في اللام بطل هذا الإشباع الذي فيه.

وأعلم اللّه عزَّ وجلَّ أن هؤلاء منافقون فقال :

(يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ).

١٢

وأعلم اللّه - عزَّ وجلَّ - أنهم تخلفوا عن الخروج مع النبي - صلى اللّه عليه وسلم - بظنِهم ظن السَّوءِ ، فأطلع اللّه نبيه على ذلك ، قال اللّه عزَّ وجلَّ : (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (١٢)

أي هالكين عند اللّه - عزَّ وجلَّ - فاسِدين في عِلْمِه.

وقوله عزَّ وجلَّ : (شَغلَتْنَا أمْوَالُنَا).

أي ليس لنا من يَقوم بها.

(وأهْلُونَا).

أي وشغلتنا أهلونا ، ليس لنا من يخلفنا فيهم ، ويجوز وأهلُنَا ، ولكن

القراءة المشهورة بالواو ، فمن قال وَأهلُونا فهو جمع أهل وأهلون ، ومن قال

وأهلنا فهو يتضمَّن الجماعة كُلها.

* * *

١٥

وقوله جلَّ وعزَّ : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللّه قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللّه مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٥)

يعنى ب (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللّه) - قوله عزَّ وجلَّ :

(فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا).

فأرادُوا أن يأتوا بما ينقض هذا . فأعلم اللّه عزَّ وجلَّ أنهم لا يعقلون ، ولا يقدرون على ذلك فقال : (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللّه مِنْ قَبْلُ).

ولو كان الكلام نهياً لقال : قل لا تَتَبِعُونا.

وقرئت : " يُرِيدُونَ أنْ يُبَدِّلُوا كَلِمَ اللّه).

فالْكَلِمُ جمع كلمة ، والكلام في موضع التَّكلِيم.

* * *

١٦

و (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ  يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللّه أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٦)

وقد قرئت ( يُسْلِموا) ، فالمعنى تقاتلونَهُمْ حتى يسلموا.

وإِلَّا أن يسلموا.

فإن قال قائِلٌ : قد قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - لهم :

(لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا)

فكيف جاز أن يقول : (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ  يُسْلِمُونَ).

فإنما قال - صلى اللّه عليه وسلم - ذلك لأن اللّه أعلمه أنَّهُمْ منافقون ، وأعلمه مع ذلك أنهم لا يُقَاتِلُونَ معَه.

وجاء في التفسير أنه عنِيَ ب (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ) بنو

حنيفة ، وأبو بكر رحمه اللّه ، قاتلهم في أيام مسيلمة.

وجاءً أيضاً هوازِن.

والمعنى أن كل من ظَاهِره الِإسلام فعلى أصحاب النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أن يدعوهم إلى الجهاد.

والصحابة لم يطْلَعُوا في وقت الجهاد على من يُقَاتِل ومن لا يُقَاتِل.

ولا على من ينافق ومن لا ينافق ، لأن الإظهار على ذلك من آيات الأنبياء

عليهم السلام.

وقد قيل : (إِلَى قَوْمٍ أوليَ بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي ، إلى فارس والروم ، وذلك

في أيام أبي بكر وعمَر رحمة اللّه عليهما وَمَنْ بَعْدَهم .

(فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللّه أَجْرًا حَسَنًا).

أي إن تبْتًم وتَركْتُم النِّفَاقَ وجَاهَدْتم . يُؤْتِكُمُ اللّه أَجْرًا حَسَنًا.

(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).

[وإن تولَّيتم فأقمتم على نفاقكم ، وأعرضتم عن الإِيمان والجهاد كما تولَّيتم على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعذِّبكم عذاباً أليماً] (١).

ثم أعلم عزَّ وجلَّ بخبر من أخلص نيَّتَهُ فقال :

* * *

١٨

(لَقَدْ رَضِيَ اللّه عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (١٨)

أي علم أنهم مًخْلِصون.

وجاء في التفسير أن الذين بايعوا تحت الشجرة كانوا ألفاً وأرْبَعَمائة.

وقيل ألفاً وخمسمائة ، وقيل ألفاً وثَلاثَمائةٍ وكانوا

بايعوا النبي - صلى اللّه عليه وسلم - على أن لا يوَلوُّا في القتال وَلَا يَهْرَبُوا ، وسُمِّيَتْ بيْعةَ الرضوانِ لقوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللّه عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)

وكانت الشجرةُ سَمُرَةً.

(فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا).

قيل إنه فتح خَيْبَر.

* * *

٢٠

(وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللّه عَزِيزًا حَكِيمًا (١٩) وَعَدَكُمُ اللّه مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٢٠)

وهذا التكرير تكرير في الوَعْدِ ، أي فعجَّلَ هذه يَعْني خَيْبَر.

(وَكَص ايْدِيَ النَّاسِ عَنْكًمْ وَلتَكًونَ آيةً للمؤمِنِينَ).

__________

(١) النصُّ مضطرب في الكتاب المطبوع ، وتمَّ ضبطه من زاد المسير فيما حكاه عن الزَّجَّاج. اهـ (زاد المسير. ٧ / ٤٣٢).

أي كف أيديَ الناس عَنْكمْ لَمَّا خرجوا وخلفوا عِيَالَهمْ بالمدينة حَفِظَ اللّه

عِيَالَهمْ وَبَيْضَتَهمْ ، وَقَد همَّت اليَهودُ بِهِمْ فَمَنَعهَم اللّه ذَلِكَ.

* * *

٢١

(وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللّه بِهَا وَكَانَ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (٢١)

 وعدكم اللّه مغانم أخرى (قَدْ أَحَاطَ اللّه بِهَا) ، قد علمها اللّه.

وهو مَا يَغْنَم المُسْلِموَن إِلَى أنْ لاَ يُقَاتِلَهمْ أحدٌ.

* * *

٢٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٢٢) سُنَّةَ اللّه الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّه تَبْدِيلًا (٢٣)

 لو قاتلك من لم يقاتلك لَنصِرْتَ عَلَيْهم ، لأن سنة اللّه النَصْر

لأوليائه وحِزْبه.

(سُنَّةَ اللّه الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّه تَبْدِيلًا (٢٣)

و (سُنَّةَ اللّه) منصوبة على المصْدَرِ ، لأن قوله (لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ) مَعناه سنَّ

اللّه خِذْلَانَهُمْ سُنَّةً ، وقد مر مثل هذا في  (كِتَابَ اللّه عَليهمْ).

وفي  (صُنْعَ اللّه) ، ولو قرئت " سُنَّةُ اللّه الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ " لكان

جيِّداً في العربيةِ.

 تلك سنة اللّه التي قد خَلَتْ مِنْ قَبْلُ ، ولكن لا أعلم

أحداً قرأ بها فلا تقرأنَّ بها.

* * *

٢٤

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (٢٤)

(مَكَة) لا تَنْصَرِفُ لأنَّها مؤنثَةٌ وهي مَعْرِفَة.

و (مِنْ بَعْدِ أن أظْفَرَكمْ عَلَيْهِمْ).

جاء في التًفْسِيرِ أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - أُتِيَ باثنتيْ عشر رَجُلًا أُخِذوا بلا عهد

ولا عقد فخلاهم النبي - صلى اللّه عليه وسلم - ومَنَّ عَلَيْهمْ ، وكان عاقبة ذلك أن سلِمَ للرجل مَنْ بَينَهُ وبينه قَرابةٌ وَمَن هُوَ مؤمِن أن يُصَابَ

٢٥

قال اللّه عزَّ وجلَّ : (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللّه فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (٢٥)

وموضع " أن " رفع بدل مِنْ (رِجَالٌ) ،  لولا أنْ تطأوا رجالاً مُؤْمِنينَ

ونساءً مؤمِنَاتٍ.

ثم قال : (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).

أي لو تَميَّزَ الكافِرُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ لأنزلنا بالكافرين ما يكون عَذَاباً لَهُمْ

فى الدنيَا.

وَمَعْنَى : (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ).

قيل : لولا أن يقتلوا منهم قوماً مؤمنين خطأً فَتَلزَمُكُم الديَاتُ

والمعنى - واللّه أعلم - لولا كراهة أنْ يَلحقكُمْ عَنتٌ بأن قتلتم من هو على دينكم إذ أنتم مختلِطُونَ بهم لعَذَبنا الذين كفروا مِنهُمْ عذاباً أليماً.

* * *

و (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ).

(الهَدْيَ) مَنْصُوبٌ سبق على الكاف والميم ،  وصَدُوا الهَدْيَ.

و (مَعكوفاً) مَحْبُوساً أنْ يبْلُغَ مَحِلًهُ.

(وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ) كما وَصَفْنَا لنَصَرْنَاكُمُ عَلَيْهم ، ولكن الذي مَنَع عن

ذلك كراهةُ وَطْءِ المؤمنين بالمكرُوه والقَتْلِ.

وموضع (أَنْ يبلُغَ مَحِلَّه) منصوب عَلَى مَعْنى وصدوا الهَدْيَ محبوساً عن أنْ يبلُغَ مَحِلَّهُ.

* * *

٢٦

وقوله - عَزَّ وَجَلً - (فَأَنْزَلَ اللّه سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٢٦)

أَنْزَلَ اللّه عَلَيْهِم الوقار والهيبة.

(وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى).

جا في التفسير أن شعارَهم لا إله إِلا اللّه ، وكلمة التقوَى توْحِيد اللّه

والإِيمان برسوله عليه السلام.

(وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا).

أي كانوا أحق بها من غيرهم ، لأنَّ اللّه - جلَّ وعزَّ - اختارَ لنبيه - صلى اللّه عليه وسلم - ولدينه أهلَ الخَيْرِ ومُسْتَحِقيه ، ومن هو أولى بالهِدَايَة مِنْ غيره.

* * *

٢٧

و (لَقَدْ صَدَقَ اللّه رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللّه آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (٢٧)

رأى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - في منامه كأنَّهُ وأصْحابَهُ - رحمهم اللّه - يدخلون مكَة محلِّقِين ومُقَصِّرِين ، فَصَدَق اللّه رسوله الرؤيا فدخلوا على ما رأى.

وكانوا قد استبطأوا الدخُولَ.

ومعنى (إنْ شَاءَ اللّه) يخرج على وَجْهَيْن :

أحدهما إِن أمركم اللّه به.

ويجوز وهو حسن أن يكون " إن شَاءَ اللّه " - جرى على ما أمر اللّه به في

كل ما يُفعَلُ مُتَوَقعاً ، فقال : (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللّه).

* * *

٢٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّه وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللّه وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (٢٩)

وَصَفَهُم اللّه بِأن بعضَهُمْ مَتَحَنِّنٌ على بَعْضِ ، وأن عَليْهمِ السكينةَ

والوقَارَ ، وبعضهم يخلص المودةَ لبَعْضٍ ، وهم أشِداءُ عَلَى الكُفَارِ.

أشداء جمع شديدٍ ، والأصل أشدِدَاء ، نحو نصيب وأنْصِبَاء ، ولكن الدالَيْنِ تَحَركَتَا فأدْغِمتِ الأولى في الثانية ، ومثل هذا  (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّه بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ).

و (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ).

أي في وجوههم عَلَامَة السجودِ ، وهي علامة الخاشِعين للّه المصَلِّين.

وقيل يبعثون يَوْمَ القِيَامَةِ غرًّا مُحجَّلينَ من أثر الطُهُورِ ، وهذا يجعله اللّه لَهُمْ يَوْمَ القيامَةِ عَلامَة وهي السيماء يُبَين بها فَضْلَهمْ عَلَى غَيْرِهِمْ.

و (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ).

أي ذلك صفة محمد - صلى اللّه عليه وسلم - وأصحابه في التَورَاةَ ، ثم أعلم أنَّ صفَتَهم في الِإنجيل أيضاً.

(كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ).

معنى (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) أخرج نباته

(فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ) ، أي فَآزَرَ الصغارُ الكبارَ حتى استوى بعضه مع بعْض

(عَلَى سُوقِهِ) جمع ساقِ.

و (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ).

(الزُّرَّاعَ) محمد عليه السلام والدُّعاة إلى الِإسْلاَمِ وهم أصحَابًه.

و (وَعَدَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا).

(مِنْهم) فيه قولان :

أن تكون " مِنهم " ههنا تخليصاً للجنس من غيرِه كما

تقول : أنفقْ نَفَقَتَك منَ الدراهِمِ لَا مِنَ الدنَانِيرِ.

 اجعل نفقتك من هذا الجنس ، وكما قال : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) ، لا يريد أن بعضها - رجس وبعضها غير رِجْسٍ.

ولكن  اجتنبوا الرجس الذِي هُوَ الأوثانُ .

فالمعنى وعد اللّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات من أصحاب النبي - صلى اللّه عليه وسلم - المؤمنين أجراً عظيماً وفَضَّلَهُمْ اللّه على غيرهم لِسَابِقتِهم وَعَظَّم أجْرَهُمْ.

والوجه الثاني أن يكون  وعد اللّه الذين أقاموا منهم على الإيمَانِ

والعمل الصالح مَغْفِرةً وأجراً عظيماً .