سُورَةُ الشُّورَى مَكِّيَّةٌ

 وَهِيَ ثَلاَثٌ وَخَمْسُونَ آيَةً

حم عسق ، ( مَكِّيَّة )

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

قوله عزَّ وجلَّ : (حم (١) عسق (٢)

قد بيَّنَّا حروف الهجاء ، وجاء في التفسير أن هذه الحروفَ اسم من

أسماء اللّه ، ورويت حم سق - بغير عين - والمصاحف فيها العين بائنة.

* * *

٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللّه الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣)

وقرئت يُوحَى ، وقرئت نُوحِي إِليك وإلى الذين من قبلك بِالنونِ (١).

وجاء في التفسير أن " حم عسق " قد أوحِيَتُ إِلى كل نَبِي قبلَ محمد - صلى اللّه عليه - وعليهم أجمعين.

وموضع الكاف من " كذلك " نصبٌ.

 مثل ذلك يوحى إِليك.

فمن قرأ يوحِي بالياء ، فاسم اللّه عزَّ جل رفع بفعله وهو يُوحِي.

وَمَنْ قَرأَ . يُوحَى إليك فاسم اللّه مبين عما لمَ يسم فاعله ، ومثل هذا من الشعْرِ.

لِيُبْكَ يزيدٌ ضارِعٌ لخُصُومةٍ . . . ومُخْتبِطٌ مما تُطِيحُ الطَّوائِحُ

فبين من ينبغي أن يبكيه.

ومن قرأ نُوحي إليك بالتون جعل نوحي إخباراً عن اللّه - عزَّ وجلَّ -.

ورفع (اللّه) بالابتداء وجعل (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) خبراً عن (اللّه) ، وإن شاء كان

__________

(١) قال السَّمين :

  كَذَلِكَ يوحي  : القُراء على « يُوْحي » بالياء مِنْ أسفلَ مبنياً للفاعلِ ، وهو اللّه تعالى . « والعزيزُ الحكيمُ » نعتان . والكافُ منصوبةُ المحلِّ : إمَّا نعتاً لمصدرٍ ،  حالاً مِنْ ضميرِه أي : يوحي إيحاءً مثلَ ذلك الإِيحاءِ . وقرأ ابنُ كثير - وتُروى عن أبي عمروٍ - « يُوْحَى » بفتحِ الحاءِ مبنياً للمفعول . وفي القائمِ مَقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : ضميرٌ مستترٌ يعود على « كذلك » لأنه مبتدأٌ ، والتقدير : مثلُ ذلك الإِيحاءِ يُوْحَى هو إليك . فمثلُ ذلك مبتدأٌ ، ويُوْحى هو إليك خبرُه .

الثاني : أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ « إليك » ، والكافُ منصوبُ المحلِّ على الوجهَيْن المتقدِّمَيْن . الثالث : أنَّ القائمَ [ مَقامَه ] الجملةُ مِنْ  « اللّه العزيزُ » أي : يُوْحَى إليك هذا اللفظُ . وأصولُ البَصْريين لا تساعِدُ عليه؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونُ فاعلةً ولا قائمةً مقامَه.

وقرأ أبو حيوةَ والأعمشُ وأبانٌ « نُوْحي » بالنون ، وهي موافقةٌ للعامَّةِ . ويُحتمل أَنْ تكونَ الجملةُ مِنْ  « اللّه العزيزُ » منصوبةَ المحلِّ مفعولةً ب « نُوْحي » أي : نُوحي إليك هذا اللفظَ . إلاَّ أنَّ فيه حكايةَ الجملِ بغيرِ القولِ الصريحِ . و « نُوْحي » على اختلافِ قراءاتِه يجوزُ أَنْ يكونَ على بابه من الحالِ  الاستقبالِ ، فيتعلَّقَ   وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ  بمحذوفٍ لتعذُّرِ ذلك ، تقديرُه : وأوحَى إلى الذين ، وأَنْ يكونَ بمعنى الماضي . وجيْءَ به على صورةِ المضارعِ لغَرَضٍ وهو تصويرُ الحالِ.

 « اللّه العزيزُ » يجوزُ أَنْ يرتَفِعَ بالفاعليةِ في قراءةِ العامَّةِ ، وأَنْ يرتفعَ بفعلٍ مضمرٍ في قراءةِ ابنِ كثير ، كأنه قيل : مَنْ يُوْحيه؟ فقيل : اللّه ، ك  يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال  [ النور : ٣٦ ] ، و

٣٩٦٤ لِيُبْكَ يزيدُ ضارِعٌ . . . . . . . . . . . .

وقد مرَّ ، وأَنْ يرتفعَ بالابتداءِ ، وما بعدَه خبرُه ، والجملةُ قائمةٌ مَقامَ الفاعلِ على ما مَرَّ ، وأَنْ يكون « العزيزُ الحكيمُ » خبَريْن  نعتَيْن . والجملةُ مِنْ   لَهُ مَا فِي السماوات  خبرٌ أولُ  ثانٍ على حَسَبِ ما تقدَّم في « العزيزُ الحكيمُ ».

وجوَّز أبو البقاءِ أَنْ يكونَ « العزيز » مبتدأً و « الحكيمُ » خبرَه ،  نعتَه ، و  لَهُ مَا فِي السماوات  خبرَه . وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهرُ تَبَعيَّتُهما للجلالة . وأنت إذا قلتَ : « جاء زيدٌ العاقلُ الفاضلُ » لا تجعلُ العاقل مرفوعاً على الابتداء . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صفة للّه - عزَّ وجلَّ - يرتفع كما يرتفع اسم اللّه ، ويكون

الخبر (لَهُ مَا في السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأرْضِ).

* * *

٥

 (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥)

(تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَنْفَطِرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ)

وقرئت مِمَّنْ فَوْقَهُن ، وقرئت (يَتَفَطَّرْنَ) ، ومعنى يَنْفَطِرنَ ويتفطرن

يَنْشَقِقْن ، ويَتَشَققْنَ ، فالمعنى - واللّه أعلم - أي تكاد السَّمَاوَاتُ ينفطرن من

فوقهن لعظمة اللّه. لأنه لما قال : (وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ).

قال : تكاد السَّمَاوَات ينفطِرْنَ لعَظمِتِه ، وكذلك - ينفطرن ممن فوقَهِن ، أي من عظمة من فوقَهُن.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ).

مَعنَى (يُسَبِّحُونَ) يعظمون اللّه وينزهونه عن السوء

(وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) من المؤمنين.

ولا يجوز أن يكون يَسْتَغْفِرُونَ لكل من في الأرض ، لأن اللّه تعالى قال فِي الكفار : (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّه وَالمَلَائِكَةِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ)

ففي هذا دليل على أن الملائكة إنما يستغفرون للمؤمنين ، ويدل

على ذلك قوله في سورة المُؤمِن : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا).

* * *

٧

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧)

(أُمَّ الْقُرَى) مكة ، وموضع (وَمَنْ حَوْلَهَا) نصب.

 لتنذر أهل أم القرى ومن حولها ، لأن البلد لا يعقل.

ومثل هذا (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا).

و (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ).

أي يوم يبعث الناس جَميعاً ، ثم أَعلم مَا حَالُهم في ذَلِكَ اليوم فقال :

(فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ).

٨

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَلَوْ شَاءَ اللّه لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٨)

ارتفع (الظَّالِمُونَ) بالابتداء.

و (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (٣١).

الفصل بين هذا والأول أن أَعد لهم فِعل فنصب (الظالمين) بفعل مضمر يفسره

ما ظهر ،  وَأوعد الظالمين أعد لهم عذاباً أليماً.

* * *

١١

و (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)

(جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا).

أي خلق الذكَرَ والأنْثَى مِنَ الحَيَوانِ كُلِّهِ.

و (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ).

أي يُكَثركم بِجَعْلِهِ منكم وَمنَ الأنْعَامِ أزواجاً.

و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).

هذه الكاف مؤكَدة ، والمعنى ليس مثله شيء ، ولا يجوز أن يقال :

 مثلَ مثلِهِ شيء ، لأن من قال هذا فقد أثبت المثل للّه تعالى عن ذلك

عُلُوًّا كَبيراً (١).

* * *

١٣

 (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللّه يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣)

روي في التفسير أن أول من أتى بتحريم البنات والأخَوَات والأمهات نوح.

(وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى).

أي وشرع لكم ما وصى به إبراهيم وموسى وعيسى.

وقوله عزَّ وَجَل : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).

__________

(١) قال السَّمين :

  فَاطِرُ  : العامَّةُ على رفعِه خبراً ل « ذلكم »  نعتاً ل « ربِّي » على تَمَحُّضِ إضافتِه . و « عليه توكَّلْتُ » معترضٌ على هذا ،  مبتدأ ، وخبرُه « جَعَلَ لكم »  خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هو . وزيد بن علي : « فاطرِ » بالجرِّ نعتاً للجلالةِ في  « إلى اللّه » ، وما بينهما اعتراضٌ  بدلاً مِن الهاء في « عليه »  « إليه ».

وقال مكيٌّ : « وأجاز الكسائيُّ النصبَ على النداء » . وقال غيرُه : على المدح . ويجوزُ في الكلامِ الخفضُ على البدلِ من الهاءِ في « عليه » . قلت : قد قرأ بالخفضِ زيدُ بن علي . وأمَّا نصبُه فلم أحفَظْه قراءةً.

 « يَذْرَؤُكُمْ فيه » يجوزُ أَنْ تكونَ « في » على بابِها . والمعنى : يُكَثِّرُكُمْ في هذا التدبير ، وهو أنْ جَعَلَ للناسِ والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذُكورِهم وإناثِهم التوالُدُ . والضميرُ في « يَذرَؤُكم » للمخاطبين والأنعامِ . وغَلَّب العُقلاءَ على غيرِهم الغُيَّبِ . قال الزمخشري : « وهي/ من الأحكامِ ذاتِ العلَّتَيْن » . قال الشيخ : « وهو اصطلاحٌ غريبٌ ، ويعني : أنَّ الخطابَ يُغَلَّبُ على الغَيْبة إذا اجتمعا » . ثم قال الزمخشريُّ : « فإنْ قلت : ما معنى يَذْرَؤُكم في هذا التدبيرِ؟ وهلا قيل يَذْرَؤُكم به . قلت : جُعِل هذا التدبيرُ كالمَنْبَع والمَعدِنِ للبَثِّ والتكثيرِ . ألا تَراك تقول : للحَيَوان في خلق الأزواج تكثير ، كما قال تعالى :  وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ  [ البقرة : ١٧٩ ] . و

الثاني : أنها للسببية كالباء أي : يُكَثِّرُكم بسبِبه . والضميرُ يعودُ للجَعْلِ  للمخلوقِ ».

  لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ  في هذه الآيةِ أوجهٌ ، أحدُها - وهو المشهورُ عند المُعْرِبين - أنَّ الكافَ زائدةٌ في خبرِ ليس ، و « شيءٌ » اسمُها . والتقدير : ليس شيءٌ مثلَه . قالوا : ولولا ادِّعاءُ زيادتِها لَلَزِمَ أَنْ يكونَ له مِثْلٌ . وهو مُحالٌ؛ إذ يَصيرُ التقديرُ على أصالةِ الكاف : ليس مثلَ مثلِه شيءٌ ، فنفى المماثلةَ عن مثلِه ، فثبَتَ أنَّ له مثْلاً ، لا مثلَ لذلك المَثَلِ ، وهذا مُحالٌ تَعالى اللّه عن ذلك.

وقال أبو البقاء : « ولو لم تكنْ زائدةً لأَفْضَى ذلك إلى المُحال؛ إذ كان يكونُ  : أنَّ له مِثْلاً وليس لمثلِه مِثْلٌ . وفي ذلك تناقضٌ؛ لأنَّه إذا كان له مِثْلٌ فلِمِثْله مِثْلٌ وهو هو ، مع أنَّ إثباتَ المِثْلِ للّه تعالى مُحالٌ » . قلت : وهذه طريقةٌ غريبةٌ في تقريرِ الزيادةِ ، وهي طريقةٌ حسنةٌ فيها حُسْنُ صناعةٍ.

و

الثاني : أنَّ مِثْلاً هي الزائدةُ كزيادتِها في قوله تعالىبِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ  [ البقرة : ١٣٧ ] . قال الطبري : « كما زِيْدَتِ الكافُ في

٣٩٦٦ وصَالياتٍ كَكَما يُؤَثْفَيْنْ . . .

وقولِ الآخر :

٣٩٦٧ - فصُيِّروا مثلَ كعَصْفٍ مَأْكُوْلْ . . . وهذا ليس بجيدٍ؛ لأنَّ زيادةَ الأسماءِ ليسَتْ بجائزةٍ . وأيضاً يصيرُ التقديرُ ليس ك هو شيءٌ ، ودخولُ الكافِ على الضمائرِ لا يجوزُ إلاَّ في شعرٍ.

الثالث : أنَّ العربَ تقولُ « مثلُكَ لا يَفْعَلُ كذا » يعْنُون المخاطبَ نفسَه؛ لأنَّهم يُريدون المبالغةَ في نَفْيِ الوصفِ عن المخاطب ، فينفونَها في اللفظِ عن مثلِه ، فَيَثْبُتُ انتفاؤُها عنه بدليلِها . ومنه قول الشاعر :

٣٩٦٨ على مِثْلِ ليلى يَقْتُل المرءُ نفسَه . . . وإنْ باتَ مِنْ ليلى على اليأس طاويا

وقال أوس بن حجر :

٣٩٦٩ ليس كمثلِ الفتى زُهَيْرٍ . . . خَلْقٌ يُوازِيه في الفضائلِ

وقال آخر :

٣٩٧٠ سَعْدُ بنُ زيدٍ إذا أبصرْتَ فضلَهُمُ . . . فما كمِثْلِهِمْ في الناسِ مِنْ أَحَدِ

قال ابن قتيبة : « العرب تُقيم المِثْلَ مُقامَ النفسِ فتقول : مثلي لا يُقال له هذا ، أي : أنا لا يُقال لي » . قيل : و [ نظيرُ ] نسبةُ المِثْل إلى مَنْ لا مِثْل له قولُك : فلانٌ يدُه مبسوطةٌ تريد أنه جَوادٌ ، ولا نَظَرَ في الحقيقة إلى اليد ، حتى تقولُ ذلك لمَنْ لا يَدَ له كقولِه تعالىبَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ  [ المائدة : ٦٤ ].

الرابع : أَنْ يُرادَ بالمِثْلِ الصفةُ ، وذلك أنَّ المِثْلَ بمعنى المَثَلَ والمَثَلُ الصفةُ ، كقولِه تعالى :  مَّثَلُ الجنة  [ الرعد : ٣٥ ] فيكونُ  : ليس مِثْلُ صفتِه تعالى شيءٌ من الصفات التي لغيرِه ، وهو مَحْمَلٌ سهلٌ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

تفسير  (ما وَصى بِهِ إبْرَاهِيمَ) - وموضع " أن " يجوز أن يكونَ نَصْباً

وَرَفْعاً وَجَرَّا.

فالنصْبُ على معنى شرع لكم أن أقيموا الدِّينَ.

والرفع على معنى هو أن أقيموا الدِّينَ ، والجر على البدل من الباء ، والجر أَبْعَدُ هذه الوُجُوه ، وجائز أن يكونَ أن أقيموا الدِّينَ تفسيراً لما وصى به نوحاً ولقوله (والذي أوحينا إليك) ول (وما وَصيْنَا بِهِ إبرَاهِيم).

فيكون  : شرع لكم وَلمَنْ قبلكم إقامة الدِّينِ وَتَركَ الفرقة ، وشرع الاجتماع على اتباع الرسُلِ

* * *

١٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤)

أي وما تفرق أهل الكتاب إلا عَنْ علْم بأن الفرقة ضَلاَلَةٌ ولكنهم فعلوا

ذلك بغياً أي للبغي.

و (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ).

أي لَجُوزُوا بأعمالهم ، والكلمة هي تأجيله الساعة ، يدل على ذلك

 (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ).

* * *

١٥

و (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللّه مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللّه رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللّه يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥)

(فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ).

معناه فإلى ذلك فادع واستقم أي إلى إقامَةِ الدِّين (فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللّه مِنْ كِتَابٍ).

أي آمَنْتُ بكتب اللّه كُلِّهَا ، لأن الذين تفرقوا آمنوا ببعض الكتب وكفروا

ببعض.

* * *

١٧

و (اللّه الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧)

(الْمِيزَان) العدل

(وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ).

إنما جاز (قَرِيبٌ) لأن تأنيث الساعة غير تأنيث حقيقي ، وهو بمعنى لعل

البعث قريب ، ويجوز أن يكون على معنى لعَل مجيء السَّاعَةِ قريب.

١٨

(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (١٨)

أي يستعجل بها من يظن أنه غير مبعوث.

و (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا).

لأنهم يعلمون أنهم مبعوثون مُحَاسبُون.

(أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ).

أي الذين تدخلهم المرية والشك في الساعة ، فيمارون فيها ويجحدون

كونها (لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) ، لأنهم لو فكروا لعلموا أن الذي أنشاهم وخلقهم من تراب ثم من نطفة ثم من عَلَقةٍ إلى أن بَلَغُوا مَبَالِغَهُمْ ، قادر على إنشائهم

وبعْثِهِمْ.

* * *

٢٠

وقوله جلَّ وعزَّ : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠)

جاء في التفسير أن معناه مَنْ كان يُرِيدُ عمل الآخرة.

فالمعْنَى - واللّه أعلم - أنه من كان يريد جَزاءَ عمل الآخرة نزِدْ له في حرثه ، أي نوفقه ، ونضاعف له الحسنات.

ومن كان يُريدُ حرث الدنيا ، أي مَنْ كَانَ إنما يقْصِدُ إلى الحظِّ من

الدنيا وهو غير مؤمن بالآخرة نؤته من الدنيا أي نرزُقه من الدنيا لا أنه يُعطَى

كل ما يريدُهُ وإذا لم يؤمن بالآخرة فلا نصيب له في الخير الذي يصل إليه من

عمل الآخرة.

* * *

٢٢

و (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢)

أي تراهم مشفقين من ثواب ما كسبوا ، وثواب ما كسبوا النار.

(وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ) أي وثواب كسْبِهِمْ وَاقِعٌ بِهِمْ .

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

أي : والظالِمُونَ لهم النار ، والمؤمنون لهم الجنة.

* * *

٢٣

و (ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللّه عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللّه غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣)

يقرأ : يُبَشِّرُ ويَبْشرُ ، وُيبْشِرُ

و (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).

أي إلا أن تودوني في قرابتي.

وجاء في التفسير عن ابن عباس رحمه اللّه أنه قال : ليس حي من قريش إلا وللنبي - صلى اللّه عليه وسلم - فيه قرابة ، وروي أن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - قال لقريش : أنتم قرابتي وأول من أجابني وأَطَاعَنِي ، وروي أن الأنصار أتت النبي - صلى اللّه عليه وسلم - فقالت : قد هدانا اللّه بك وأنْتَ ابن أختنا ، وأتوه بنفقة يستعين بها على ما ينوبه ، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ : (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).

قال أبو إسحاق : وَنَصْبُ (الْمَوَدَّةَ) أن يكون بمعنى استثناء ليس من الأول.

لا على معنى أسالكم عليه أجراً المودة في القُرْبَى ، لأن الأنبياء صلوات اللّه

عليهم لا يسألون أجراً على تبليغ الرسالة ، والمعنى - واللّه أعلم - ولكنني

أذكركم الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى.

 (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا).

أي من يعمل حسنة نضاعِفْها له (١).

(إِنَّ اللّه غَفُورٌ شَكُورٌ).

غفور للذنوب قبول للتوبة مثيب عليها.

* * *

٢٤

وقوله - عزَّ وجلَّ - : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللّه يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللّه الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٢٤)

__________

(١) قال السَّمين :

قوله « إلاَّ المودَّةَ » فيها قولان ، أحدهما : أنَّها استثناءٌ منقطعٌ؛ إذ ليسَتْ من جنسِ الأَجْرِ . و

الثاني : أنه متصلٌ أي : لا أسألُكم عليه أجراً إلاَّ هذا . وهو أَنْ تَوَدُّوا أهلَ قرابتي ولم يكنْ هذا أجراً في الحقيقةِ؛ لأنَّ قرابتَه قرابتُهم فكانت صلتُهم لازمةً لهم في المروءةِ ، قاله الزمخشري . وقال أيضاً : « فإنْ قلت : هلاَّ قيل : إلاَّ مودةَ القُرْبَى ،  إلاَّ المودةَ للقُرْبى . قلت : جُعِلوا مكاناً للمودَّةِ ومَقَرًّا لها كقولِك : لي في آل فلان مَوَدَّة ، وليست » في « صلةً للمودةِ كاللامِ إذا قلتَ : إلاَّ المودةَ للقربى ، إنما هي متعلقةٌ بمحذوفٍ تَعَلُّقَ الظَرفِ به في قولك : » المالُ في الكيس « ، وتقديرُه : إلاَّ المودةَ ثابتةً في القُرْبَى ومتمكنةً فيها » . قلت : وأحسنُ ما سَمِعْتُ في معنى هذه الآيةِ حكايةُ الشعبيِّ قال : أَكْثَرَ الناسُ علينا في هذه الآيةِ فكتَبْنا إلى ابن عباس نسألُه عنها . فكتب : أنَّ رسولَ اللّه صلَّى اللّه عليه وسلَّم كان أوسطَ الناسِ في قريش ، ليس بطنٌ مِنْ بطونهم إلاَّ قد وَلَدَه ، فقال اللّه تعالى : قل لا أسألُكم عليه أَجْراً إلاَّ أن تَوَدُّوني في قَرابتي منكم فارْعَوْا ما بيني وبينكم فصَدِّقوني.

وقال أبو البقاء : « وقيل : متصلٌ أي/ : لا أسألكم شيئاً إلاَّ المودةَ » . قلت : وفي تأويلِه متصلاً بما ذَكَر ، نظرٌ لمجيئه ب « شيء » الذي هو عامٌّ ، وما مِنْ استثناءٍ منقطع إلاَّ ويمكن تأويلُه بما ذَكَر ، ألا ترى إلى قولِك : « ما جاءني أحدٌ إلاَّ حمارٌ » أنه يَصِحُّ : ما جاءني شيءٌ إلاَّ حماراً.

وقرأ زيد بن علي « مَوَدَّة » دون ألفٍ ولام.

  نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً  العامَّةُ على « نَزِدْ » بالنون للعظمة . وزيد ابن علي وعبدُ الوارث عن أبي عمروٍ « يَزِدْ » بالياءِ مِنْ تحتُ أي : يَزِدِ اللّه . والعامَّةُ على « حُسْناً » بالتنوين مصدراً على فُعْل نحو : شُكْر . وهو مفعولٌ به . وعبدُ الوارث عن أبي عمرو « حُسْنى » بألفِ التأنيث على وزنِ بُشْرَى ورُجْعَى وهو مفعولٌ به أيضاً . ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ك فُضْلَى ، فيكونَ وصفاً لمحذوف أي خَصْلَةً حسنى . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

معناه فإن يشأ اللّه يُنْسِكَ ما أتاك ، كذلك قال قتادة.

ويجوز (فَإِنْ يَشَإِ اللّه يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) يربط على قلبك بالصبر على أذاهم وعلى قولهم (افترى على اللّه كَذِباً).

(ويمحو اللّه الباطل) ، الوقوف عليها (ويمحوا) بواو وألف لأن  واللّه يمحو الباطل على كل حال ، وكتبت في المصحف بغير واو لأن الواو تسقط في اللفظ لالتقاء السَّاكنين ، فكتبت على الوصل.

ولفظ الواو ثابت ، والدليل عليه (ويحق الحق بكلماته) ، أي ويمحو اللّه الشرك ويحق الحق بما أنزله من كتابه على لسان نبيِّهِ عليه السلام.

* * *

٢٦

و (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (٢٦)

 ويجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

* * *

٢٨

قوله عزَّ وجلَّ : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨)

ويقرأ (قَنِطُوا) بكسر النون ، يقال قَنط يقنِطُ ، وقَنِطَ يَقْنَطُ إذا - يئس.

ويروى أن عمر قيل له قد أَجْدَبَتِ الأرض وَقَنِط الناسُ فقال : مُطِرُوا

إذَنْ ، لهذه الآية.

* * *

٣٠

و (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (٣٠)

(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا . . . ).

وهي في مصحف أهل المدينة (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) - بغَيرِ فَاء - ، وكذلك

يقرأونها خلا أَبَا جَعفر فإنه يثبت الفاء وهي في مصاحف أهل العراق بالفاء.

وكذلك قراءتهم ، وهو في العربية أجود لأن الفاء مجازاة جواب الشرط.

 ما تُصِبْكُمْ من مُصِيبَةٍ فبما كسبت أيديكم.

وقرئت (ويعْلَمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ) والنصب على إضمار أن (١) ، لأن قبلها جزاء ، تقول : ما تصنع أصنع مثله وأُكْرِمَكَ ، وإن شئت قلت وَأُكْرِمُكَ على وَأَنا أكرمك ، وإن شئت : وَأُكْرِمْكَ جزماً.

__________

(١) قال السَّمين :

  وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ  : قرأ نافعٌ وابنُ عامر برفعِه . والباقون بنصبِه . وقُرِئ بجزمِه أيضاً . فأمَّا الرفعُ فهو واضحٌ جداً ، وهو يحتملُ وجهين : الاستئنافَ بجملةٍ فعليةٍ ، والاستئنافَ بجملةٍ اسميةٍ ، فتُقَدِّرُ قبل الفعل مبتدأً أي : وهو يعلمُ الذين ، فالذين على الأول فاعلٌ ، وعلى الثاني مفعولٌ . فأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها أوجهٌ ، أحدُها : قال الزجَّاج : « على الصَّرْف » . قال : « ومعنى الصرفِ صَرْفُ العطف عن اللفظ إلى العطفِ على  » . قال : « وذلك أنَّه لَمَّا لم يَحْسُنْ عطفُ » ويعلَمْ « مجزوماً على ما قبلَه إذ يكونُ  : إنْ يَشَأْ/ يَعْلَمْ ، عُدِل إلى العطف على مصدرِ الفعلِ الذي قبلَه . ولا يتأتَّى ذلك إلاَّ بإضمار » أنْ « ليكونَ مع الفعلِ في تأويلِ اسم ».

الثاني : قولُ الكوفيين أنه منصوبٌ بواوِ الصرف . يَعْنُون أنَّ الواوَ نفسَها هي الناصبةُ لا بإضمارِ « أنْ » ، وتقدَّم معنى الصرف.

الثالث : قال الفارسيُّ - ونقله الزمخشري عن الزجاج - إن النصب على إضمار « أنْ »؛ لأنَّ قبلها جزاءً تقول : « ما تصنعْ أصنعْ وأكرمَك » وإنْ شِئْتَ : وأكرمُك ، على وأنا أكرِمُك ، وإنْ شِئْتَ « وأكرمْك » جزْماً . قال الزمخشري : « وفيه نظرٌ؛ لِما أَوْردَه سيبويه في كتابه » قال : « واعلَمْ أنَّ النصبَ بالواوِ والفاء في  » إنْ تَأْتِني آتِك وأعطيكَ « ضعيفٌ ، وهو نحوٌ مِنْ

٣٩٧٨ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأَلْحَقُ بالحجازِ فَأَسْتريحا

فهذا لا يجوزُ ، لأنه ليس بحَدِّ الكلامِ ولا وجهِه ، إلاَّ أنه في الجزاء صار أقوى قليلاً؛ لأنه ليس بواجبٍ أنَّه يفعلُ ، إلاَّ أَنْ يكونَ من الأولِ فِعْلٌ ، فلمَّا ضارَعَ الذي لا يُوْجِبُهُ كالاستفهام ونحوِه أجازوا فيه هذا على ضَعْفِه » . قال الزمخشري : « ولا يجوزُ أَنْ تُحْمَلَ القراءةُ المستفيضةُ على وجهٍ ليس بحَدِّ الكلامِ ولا وجهِه ، ولو كانَتْ من هذا البابِ لَما أَخْلَى سيبويه منها كتابَه ، وقد ذَكَرَ نظائرَها مِن الآياتِ المُشْكِلة ».

الرابع : أَنْ ينتصِبَ عطفاً على تعليلٍ محذوفٍ تقديرُه : لينتقمَ منهم ويعلمَ الذين ، ونحوُه في العطفِ على التعليلِ المحذوفِ غيرُ عزيزٍ في القرآن . ومنه :  وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ  [ مريم : ٢١ ] وخَلَق اللّه السماواتِ والأرضَ بالحقِّ ، ولِتُجْزَى « قاله الزمخشري . قال الشيخ : » ويَبْعُدُ تقديرُه : لِيَنْتَقِمَ منهم؛ لأنه تَرَتَّبَ على الشرطِ إهلاكُ قومٍ ونجاةُ قومٍ فلا يَحْسُنُ لينتَقِمَ منهم . وأمَّا الآيتان فيمكنُ أَنْ تكونَ اللامُ متعلقةً بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه : ولنجعلَه آيةً للناسِ فَعَلْنا ذلك ، ولُتْجزَى كلُّ نفسٍ فَعَلْنا ذلك ، وهو - كثيراً - يُقَدِّرُ هذا الفعل مع هذه اللامِ إذا لم يكنْ فعلٌ يتعلَّقُ به « . قلت : بل يَحْسُنُ تقديرُ » لينتقمَ « لأنَّه يعودُ في  على إهلاكِ قومٍ المترتبِ على الشرط.

وأمَّا الجزمُ فقال الزمخشري : » فإنْ قلتَ : كيف يَصِحُّ  على جزم « ويعلَمْ »؟ قلت : كأنه قيل : إنْ يَشَأْ يَجْمَعْ بين ثلاثةِ أمور : إهلاكِ قومٍ ، ونجاةِ قومٍ ، وتحذيرِ آخرين « . وإذا قُرِئَ بالجزم فتُكْسَرُ الميمُ لالتقاءِ الساكنين. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

وروي عن علي رضي اللّه عنه عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أنه قال : إن اللّه أكرم من أن يَثْنيَ على عبده العُقوبَةَ ، أي إذا أصابته في الدنيا مصيبة بما كسبت يداه لم يثن عليه العقوبة في الآخرة.

وأما من قرأ : (وما أصابكم مِنْ مُصِيبَةٍ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكم ويعفو عن كثير)

أي لا يجازى على كثير مما كسبت أيديكم قي الدنيا ، وجائز أن يكون

(يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) فلا يجازى عليه في الدنيا ولا في الآخرة.

ومعنى : (مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ).

ما لهم من مَعْدِلٍ ، ولا مِنْ مَنجى ، يقال حاص عنه إذا تنحى ، ويقال

حاض عنه في معنى حاص ، ولا يجوز أن يقرأ ما لهم من محيض ، وأن كان

 واحداً.

فأمَّا موضع (الذين) في  (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فيجوز أن يكون نصباً ، ويجوز أن يكون رفعاً.

فمن نصب فعلي معنى ويجيب اللّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

ومن رفع فعلى معنى يستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات للّه - عزَّ وجلَّ - أي لما يدعوهم اللّه إليه.

* * *

٣٧

و (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧)

موضع (الَّذِينَ) خفض صفة لقوله (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

و (كَبَائِرَ الْإِثْمِ) ، قال بعضهم كل ما وعد اللّه عليه النار فهو كبيرة.

وقيل الكبائر من أول سورة النساء من  (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ)

إلى  (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ).

وقد قيل : الكبائر الشرك باللّه ، وقتل النفس التي حرم اللّه ، وقذف المحصنات ، وعقوق الوالدين ، وأكل مال اليتيم ، والفرار من الزحف ، واستحلال الحرام.

* * *

٣٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨)

(الذين) في موضع خفض أيضاً ، على معنى وما عند اللّه خَيْرٌ وأبقى

للذين آمنوا وللذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة.

و (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ).

أي لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه ، وقيل إنه ما تشاور قوم قَط - إلا

هُدُوا لأحسن ما يحضرهم.

* * *

٣٩

(وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩)

جاء في التفسير أنهم كانوا يكرهون أَنْ يَذلوا أَنْفُسَهُم . فيجترئ عليهم

الفساق.

وروي أنها نزلت في أبي بكر الصديق.

فإن قال قائل : أهم محمودون على انتصارهِم أم لا ؟

قيل هم محمودون ؛ لأن من انتصر فأخذ بحقه ولم يجاوز في ذلك ما أمر اللّه به فلم يُسْرِفْ في القتل إن كان ولي دم ولا في قصاص فهو مطيع للّه عزَّ وجلَّ ، وكل مطيع محمود ، وكذلك من اجتنب المعاصي فهو محمود ، ودليل ذلك  (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (٣١).

* * *

٤٠

و (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّه إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠)

فالأولى (سيئة) في اللفظ والمعنى ، والثانية (سيئة) في اللفظ ، عاملها ليس

بمسيء ، ولكنها سميت سيئة لأنها مجازاة لسوء فإنما يجازي السوء بمثله.

والمجازاة به غيْرُ سيّئة توجب ذَنْباً ، وَإنَّمَا قيل لها سيئة ليعلم أَن الجَارِحَ

والجاني يُقْتَص مِنْهُ بمقدار جنايته.

وهذا مثل قوله تعالى : (فَمِن اعتدى عليكم فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) تأويله كافئوه بمثله ، وعلى هذا كلام العرب.

* * *

٤٣

و (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣)

أي الصابر يؤتى بصبره ثواباً فكل من زادت رغبته في الثواب فهو أتمُّ

عَزْم ، وقد قال بعض أهل اللغة إن معنى قوله تعالى : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أن منه القصاصَ والعفوَ.

فالعفو أحسنه (١).

* * *

٤٥

وقوله تعالى : (وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (٤٥)

(يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ).

يعني ينظرون إلى النار من طرف خَفِي ، قال بعضهم إنهم يُحْشرونَ

عُمْياً فيرونَ النارَ بِقُلوِبهِمْ إذا عُرِضُوا عَلَيْها ، وقيل ينظرونَ إليها مُسَارَقَة.

* * *

٤٧

وقوله عزَّ وجلَّ : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللّه مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧)

(مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ).

أي ليس لكم مَخلَصٌ من العَذَابِ ، ولا تَقْدِرُون أن تنكروا ما تقفون

عليه مِنْ ذُنُوبَكُمْ ولا ما يَنْزِلُ بِكُمْ مِنَ العَذَابِ.

* * *

٥٠

و (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (٤٩)  يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)

أي ويجعل ما يهبه من الولد ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا.

فمعنى (يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) أي يُقْرِنُهُمْ ، وكل اثنين يقترن أحدُهما بالآخر فهما زوجان ، كل واحد منهما يقال له زوج.

تقول : عندي زوجان من الخفاف ، يعني أن عندك من العدد

اثنين أي خُفيْن ، وكذلك المرأة وزوجها زوجان (٢).

و (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا).

أي يجعل المرأة عقيماً ، وهي - التي لا تَلِدُ ، وكذلك رَجُلُ عقيم أيْضاً لا

يولد له ، وكذلك الريح العقيم التي لا يكون عنها مطر وَلَا خيْر.

* * *

٥١

و (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّه إِلَّا وَحْيًا  مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ  يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١)

__________

(١) قال السَّمين :

  وَلَمَن صَبَرَ  : الكلامُ في اللام بَيِّنٌ كما تقدَّم . فإنْ جَعَلْتَها شرطيةً ف « إنَّ » جوابُ القسمِ المقدَّر ، وحُذِفَ جوابُ الشرطِ للدلالةِ عليه . وإنْ كانَتْ موصولةً كان « إنَّ ذلك » هو الخبرُ . وجَوَّز الحوفي وغيرُه أن تكونَ « مَنْ » شرطيةً ، وأنَّ ذلك جوابُها على حَذْفِ الفاء على حَدِّ حَذْفِها في البيت المشهور :

٣٩٧٩ مَنْ يَفْعَلِ الحَسَناتِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وفي الرابط قولان ، أحدُهما : هو اسمُ الإِشارةِ إذا أُريد به المبتدأُ ، ويكون حينئذٍ على حَذْفِ مضافٍ ، تقديره : إنَّ ذلك لَمِنْ ذوي عَزْمِ الأمور و

الثاني : أنه ضميرٌ محذوفٌ تقديرُه : لمِنْ عَزْمِ الأمورِ منه ، أوله . و « ولَمَنْ صَبَرَ » عطفٌ على  « ولَمَنِ انتصَرَ » . والجملةُ مِنْ  « إنما السبيلُ » اعتراضٌ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(٢) قال السَّمين :

  ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً  : حالٌ ، وهي حالٌ لازمةٌ ، وسَوَّغ مجيْئَها كذلك : أنَّها بعدما يجوزُ أَنْ يكونَ الأمرُ على خلافه؛ لأنَّ معنى « يُزَوِّجُهم » يَقْرِنُهم . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : لِمَ قَدَّم الإِناثَ أولاً على الذكورِ مع تقديمِهم عليهنَّ ، ثم رَجَعَ فقدَّمَهم؟ ولِمَ عَرَّف الذكورَ بعدما نَكَّر الإِناثَ؟ قلت : لأنَّه ذكر البلاءَ في آخر الآية الأولى ، وكفرانَ الإِنسان بنسيانِه الرحمةَ السابقةَ ، ثم عَقَّبَ بذِكْر مُلْكِه ومشيئتِه وذكرَ قسمةَ الأولادِ فقدَّم الإِناثَ؛ لأنَّ سياق الكلامِ أنه فاعلُ ما يشاءُ لا ما يشاؤه الإِنسانُ ، فكان ذِكْرُ الإِناثِ التي مِنْ جملة ما لا يَشاؤه الإِنسانُ أهمَّ ، والأهمُّ واجبُ التقديمِ ، ولِيَليَ الجنسَ الذي كانت العربُ تَعُدُّه بلاءً ، ذكر البلاء ، وأخَّر الذكورَ ، فلمَّا أَخّرهم تدارَك تأخيرَهم وهم أَحِقَّاءُ بالتقديم بتعريفَهم؛ لأنَّ تعريفَهم فيه تَنْويهٌ وتشهيرٌ ، كأنه قال : ويَهَبَ لمَنْ يشاءُ الفرسانَ الأعلامَ المذكورين الذين لا يَخْفَوْن عليكم ، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسَيْن حقَّه من التقديمِ والتأخيرِ ، وعَرَّفَ أنَّ تقديمَهن لم يكُنْ لتقدُّمِهنَّ ولكنْ لمقتضٍ آخر ، فقال : ذُكْراناً وإناثاً ، كما قال :  إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى  [ الحجرات : ١٣ ]  فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى  [ القيامة : ٣٩ ] . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

يقرأ ( يُرْسِلُ) برفع . (يُرْسِلُ)

و (فيوحِي) بإسكان الياء.

والتفسير أن كلام اللّه للبشر إما أن يكون برسالة مَلَكٍ إليْهِمْ كما أرسل إلى أنبيائه ،  من وراء حجاب كما كلم موسى عليه السلام ،  بإلهام يُلْهِمُهُمْ.

قال سيبويه : سَألت الخليلَ عن قوله تعالى ( يُرْسِلَ رَسُولًا) بِالنصْبِ.

فقال : (يُرْسِل) محمول على " أن يوحي " هذه التي في قوله أن يكلمَهُ اللّه.

قال لأن ذلك غير وجه الكلام لأنه يصرف  : ما كان لبشر أن يرسل اللّه رسولا ، وذلك غير جائز ، لأن ما نرسل محمول على وحي.

 ماكان لبشر أن يكلمه اللّه إلا بأن يوحي  أن يرسل.

ويجوز الرفع في (يُرْسِلُ) على معنى الحال ، ويكون  : ما كان

لبشر أن يكلمه اللّه إلا موحياً  مرسلاً رسولًا كذلك كلامُهُ إيَّاهُمْ.

قال الشاعر :

وخيل قد دَلَفْتُ لها بخيلٍ . . . تحية بينهم ضربٌ وجيعُ

ومثل  ( يُرْسِلَ) بالنصب قوله الشاعر :

ولولا رجالٌ من رِزامٍ أَعِزَّةٌ وآلُ سُبَيْعٍ  أََسُوءَكَ عَلْقَما

والمعنى  أن أسوءك.

وقال : ويجوز أن يرفع "  يرسلُ " على معنى  هو يرسلُ ، وهذا قول

الخليل وسيبويه وجميع من يوثق بعلمه (١).

* * *

٥٢

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢)

__________

(١) قال السَّمين :

  أَن يُكَلِّمَهُ اللّه  : « أَنْ » ومنصوبُها اسمُ كان وليس « خبرَ » « ما » . وقال أبو البقاء : « أَنْ والفعلُ في موضع رفعٍ على الابتداءِ وما قبلَه الخبرُ ،  فاعلٌ بالجارِّ لاعتمادِه على حرفِ النفي » وكأنه [ وَهِمَ في التلاوةِ ، فزعَم أنَّ القرآنَ : وما لبشَرٍ أَنْ يُكَلِّمه ] مع أنَّه يمكنُ الجوابُ عنه بتكلُّفٍ . و « إلاَّ وَحْياً » يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً أي : إلاَّ كلامَ وَحْيٍ . وقال أبو البقاء : « استثناءٌ منقطعٌ؛ لأنَّ الوَحْيَ ليس من جنس الكلام » وفيه نظرٌ لأنَّ ظاهرَه أنه مُفرَّغٌ ، والمفرَّغُ لا يُوْصَفُ بذلك . ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً في موضعِ الحال.

 «  يُرْسِل » قرأ نافعٌ « يُرْسِلُ » برفع اللامِ ، وكذلك « فيوحِيْ » فسَكَنَتْ ياؤُه . والباقون بنصبهما . فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها ثلاثة أوجهٍ ، أحدها : أنَّه رفعٌ على إضمارِ مبتدأ أي :  هو يُرْسِلُ .

الثاني : أنه عطفٌ على « وَحْياً » على أنَّه حالٌ؛ لأنَّ وَحْياً في تقديرِ الحال أيضاً ، فكأنه قال : إلاَّ مُوْحِياً  مرسِلاً . الثالث : أَنْ يُعْطَفَ على ما يتعلَّقُ به « من وراءه » ، إذ تقديرُه :  يُسْمِعُ مِنْ وراءِ حجاب ، و « وَحْياً » في موضعِ الحال ، عُطِف عليه ذلك المقدَّرُ المعطوفُ عليه «  يُرْسِلُ » . والتقدير : إلاَّ مُوْحِياً  مُسْمِعاً مِنْ وراءِ حجابٍ ،  مُرْسِلاً.

وأمَّا الثانيةُ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يُعْطَفَ على المضمرِ الذي يتعلَّقُ به  مِن وَرَآءِ حِجَابٍ  إذ تقديرُه :  يُكَلِّمه مِنْ وراءِ حجابٍ . وهذا الفعلُ المقدَّر معطوفٌ على « وَحْياً » والمعنى : إلاَّ بوَحْي  إسماعٍ مِنْ وراءِ حجاب  إرسالِ رسولٍ . ولا يجوزُ أَنْ يُعَطفَ على « يكلِّمَه » لفسادِ  . قلت : إذ يَصيرُ التقديرُ : وما كان لبشَرٍ أن يُرْسِلَ اللّه رسولاً ، فَيَفْسُدُ لَفْظاً ومعنى . وقال مكي : « لأنَّه يَلْزَم منه نَفْيُ الرسلِ ونفيُ المُرْسَلِ إليهم ».

الثاني : أَنْ يُنْصَبَ ب « أنْ » مضمرةً ، وتكونَ هي وما نَصَبَتْه معطوفَيْن على « وَحْياً » و « وَحْياً » حالٌ ، فيكونَ هنا أيضاً [ حالاً : والتقدير : إلاَّ مُوْحِياً  مُرْسِلاً ] . وقال الزمخشري : « وَحْياً وأَنْ يُرْسِلَ مصدران واقعان موقعَ الحال؛ لأنَّ أَنْ يُرْسِلَ في معنى إرسالاً . و  مِن وَرَآءِ حِجَابٍ  ظرفٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أيضاً ، ك  وعلى جُنُوبِهِمْ  [ آل عمران : ١٩١ ] . والتقدير : وما صَحَّ أَنْ يُكَلَّم أحداً إلاَّ مُوْحياً  مُسْمِعاً مِنْ وراءِ حجاب  مُرسِلاً » . وقد رَدَّ عليه الشيخُ : بأنَّ وقوعَ المصدرِ موقعَ الحالِ غيرُ منقاسٍ ، وإنما قاسَ منه المبردُ ما كان نوعاً للفعلِ فيجوزُ : « أتيتُه رَكْضاً » ويمنعُ « أَتَيْتُه بكاءً » أي : باكياً.

وبأنَّ « أَنْ يُرْسِلَ » لا يقعُ حالاً لنصِّ سيبويه على أنَّ « أَنْ » والفعلَ لا يَقَعُ حالاً ، وإن كان المصدرُ الصريحُ يقع حالاً تقولُ : « جاء زيد ضَحِكاً » ، ولا يجوز « جاء أَنْ يضحكَ ».

الثالث : أنَّه عطفٌ على معنى « وَحْياً » فإنَّه مصدرٌ مقدَّرٌ ب « أنْ » والفعلِ . والتقديرُ : إلاَّ بأَنْ يوحيَ إليه  بأَنْ يُرْسِلَ ، ذكره مكي وأبو البقاء.

و   مِن وَرَآءِ حِجَابٍ  العامَّةُ على الإِفراد . وابنُ أبي عبلةَ « حُجُبٍ » جمعاً . وهذا الجارُّ يتعلَّقُ بمحذوفٍ تقديرُه يُكَلِّمَه مِنْ وراء حجاب . وقد تقدَّم أن هذا الفعلَ معطوفٌ على معنى وَحْياً أي : إلاَّ أَنْ يوحيَ  يكلِّمَه . قال أبو البقاء : « ولا يجوزُ أَنْ تتعلَّق » مِنْ « ب » يُكَلِّمَه « الموجودةِ في اللفظِ؛ لأنَّ ما قبل الاستثناءِ لا يعملُ فيما بعد إلاَّ » ، ثم قال : « وقيل : » مِنْ « متعلِّقةٌ ب » يُكلِّمه « لأنه ظرفٌ ، والظرفُ يُتَّسَعُ فيه » . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

أي فعلنا في الوحي اليك كما فعلنا بالرسل من قبلك.

وموضع (كَذَلِكَ) نصبٌ بقوله (أَوْحَيْنا).

ومعنى (رُوحاً مِن أمْرِنَا) ما نحيي به الخلق من أمرنا.

أي ما يُهْتَدَى به فيكون حيًّا.

و (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا)

ولم يقل جَعَلْنَاهُمَا لأن  ولكن جعلنا الكتاب نُوراً ، وهو دليل على

الإيمان.

و (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).

ويقرأ : (وَإِنَّكَ لتُهْدي) ، فمن قرأ (لَتَهْدِي) ، فالمعنى تهدي بما أوحينا إليك

إلى صراط مستقيم ، ويجوز أن يَكونَ (لَتُهْدَى) مخاطبة للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - وأُمَّتِه ، فيكون  وإنك وأمتك لتُهدَوْنَ إلى صراط مستقيم ، كما قال : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ)

فهو بمنزلة يا أيها الناس المؤمنون إذا طلقتم النساء (١).

* * *

٥٣

و (صِرَاطِ اللّه الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللّه تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)

(صِرَاطِ اللّه)

خفض بدل من (صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).

 وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطِ اللّه.

ويجوز (صِرَاطُ اللّه) بالرفع ، و (صِرَاطَ اللّه) بالنصب.

ولا أعلم أحدا قرأ بهما ولا بواحدة منهما ، فلا تقرأنَّ بواحدة منهما لأن القراءة سُنَّة . لا تخالف ، وإن كان ما يقرأ به جائزاً في النحو.

__________

(١) قال السَّمين :

  مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب  : « ما » الأولى نافيةٌ ، والثانيةُ استفهاميةٌ . والجملةُ الاستفهامية معلِّقَةٌ للدِّراية فهي في محلِّ نصبٍ لسَدِّها مَسَدَّ مفعولَيْنِ . والجملةُ المنفيةُ بأَسْرِها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الكافِ في « إليك » .  « جَعَلْنَاه » الضميرُ يعودُ : إمَّا ل « رُوْحاً » وإمَّا ل « الكتاب » وإمَّا لهما؛ لأنَّهما مَقْصَدٌ واحدٌ فهو ك  واللّه وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ  [ التوبة : ٦٢ ].

وقرأ ابن حوشب « لتُهْدَى » مبنياً للمفعول . وابن السَّمَيْفَع « لتُهْدي » بضم التاء وكسر الدال مِنْ أهْدَى.

 « نَهْدِي » يجوز أَنْ يكونَ مُسْتأنفاً ، وأن يكونَ مفعولاً مكرَّراً للجَعْل ، وأَنْ يكونَ صفةً ل « نُوْراً » . اهـ (الدُّرُّ المصُون).