بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الْحَمْدُ للّه الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١)
واللّه المحمُود فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وحمده فِي الآخرة يدل عليه
قول أهل الجنة : (الْحَمْدُ للّه الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ) أي أورثنا أرض الجنةِ.
* * *
وقوله تعالى : (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢)
أي ما يدخل في الأرض وما يخرج منها.
ما يدخل في الأرض من قَطْرٍ وغيره ، وما يخرج منها من زرع وغيره.
(وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا).
ما يَصْعَدُ فِيها ، يقال عرج يَعْرج إذا صَعَدَ ، والمعارج - الدَّرَجُ -
من هذا ، ويقال : عَرِج يَعْرِج ، إذا صار ذَا عَرَجٍ ، وَعَرَجَ يَعْرُج إذَا غَمَزَ
من شيء أصابه .
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٣)
الساعة التي يبعث فيها الخَلَقُ ، أنهم قالوا : لَا نُبْعَثُ.
فقال اللّه تعالى :
(قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ).
بالخَفْضِ في (عَالِمِ) صفة للّه عزَّ وجلَّ ، ويقرأ بالرفع من وجهين.
أحدهما الابتداء ، ويكون : عَالِمُ الغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ).
ويكون " لَا يَعْزُبُ عَنْهُ " هو خَبَر عالم الغَيْبِ.
ويرفع على جهة المدح للّه عزَّ وجلَّ.
هو عالم الغيب ويجوز النصبُ ولم يُقْرأْ به على معنى
اذْكُرْ عالمَ الغيب ، ويقرأ علَّامُ الغيوب وعلَّامَ الغيبِ جَائزٌ.
ويقرأ (لا يعزِب عنه) بِكَسْرِ الزاي ، يقال : عَزَب عَنِي يَعْزُبُ ويعْزِبُ
إذَا غَابَ.
* * *
(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
اللام دخَلت جواباً ل (قُلْ بَلَى وَرَبِي لَتَأْتِينكُمْ) للمجازاة
أي من أجل المجازاة بالثواب والعقاب.
و (أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).
بيَّن اللّه أَن جزاءَهم المغفرةُ وهي التغطيةُ على الذنُوب.
* * *
و - جل وعلا - : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥)
ويقرأ (مُعاجِزين) وَمُعاجزين في مَعْنَى مُسَابقين ، ومن قرأ مُعَجِّزِينَ
ْفمعناه أنهم يُعَجِّزوُنَ من آمن بها ، ويَكُونُ في معنى مُثبِّطِينَ وهو معنى
تعجيزهم من آمن بها .
و (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ).
(أَلِيمٍ)
بالخفض نعت للزجْزِ ، (أليمٌ) نعت للعذاب.
* * *
وقوله تعالى : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦)
ههنا علماء إليهود الذين آمَنُوا بالنبي عليه السلام ، منهم كعبُ
الأحبار وعبدُ اللّه بنُ سلام ، أي وَلِيَرى ، وموضع " يرى ، عطف على
(ليجزي)
و (الْحَقَّ) منصوب . خبر ليرى الذي
و " هُوَ " ههنا فصل يدل على أن الذي بعدها ليس بنعتٍ ، ويسميه الكوفيون العماد.
" لا تدخل " هو " عماداً إلا في المعرفة وما أشبهها ، وقد بيَّنَّا ذلك فيما
مَضَى.
والرفع جائز في قوله (هُوَ الْحَقُّ).
* * *
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧)
هذا قول المشركين الذين لا يؤمنون بالبعث ، يقول بعضهم
لبعض : هل ندلكم على محمد الذي يزعم أنكم مبعوثون بعد أنْ
تكونوا عظاماً وتراباً ورفاتاً وفي هذه الآية نظر في العربية لطيف.
ونحن نشرحه إن شاء اللّه.
(إِذَا) في موضع نَصْب بِـ (مُزِّقْتُمْ) ولا يمكن أَنْ يَعْمل فيها (جَدِيدٍ)
لأن ما بعد (أن) لا يعمل فيما قبلها.
والتأويل هل ندلكم على رجل يقول لكم إنكم إذا مزقتم تبعثونَ ، ويكون " إذا " بمنزلة " إن " الجزاء ، يعمل فيها الذي يليها.
قال قيس بن الخطيم :
إذَا قصُرتْ أسْيافُنا كان وَصْلُها . . . خطانا إلى أعدائنا فنضاربُ
يكون وصلها ، الدليل على ذلك جزم " فَنُضَارِبْ ".
ويجوز أن يكون العامل في " إذا " مضمراً ، يدل عليه (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)
ويكون هل ندلكم على رجل يُنَبئكُمْ يقول لكم إذا
مزقتم بعثتم ، إنكم لفي خلق جديد ، كما قالوا : (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَا تُراباً وَعِظَاماً أَئِنَا لَمَبْعُوثُونَ).
فإذا يجوز أنْ تكون منصوبة بفعل يدل عليه " إنَا لَمَبْعُوثُونَ "
ولا يجوز " أنكُمْ لَفِي خلق جديد " بالفتح ، لأن اللام إذا جاءت لم يجز إلا كسر إن (١).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩)
أي ألم يَتَأمَّلُوا ويعْلَمُوا أن الذي خلق السماء والأرض قادر على
أن يبعثهم ، وقَادِرٌ أن يخسف بِهِمُ الأرْضَ يسقط السماء عليهم
كِسَفاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ).
أي إن في ذلك عَلَامة تَدلَّ مَنْ أَنَابَ إلى اللّه ورجع إليه وتأمَّل ما
خلق على أنه قادر على أن يحيي الموتى.
* * *
وقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠)
__________
(١) قال السَّمين :
إِذَا مُزِّقْتُمْ : « إذا » منصوبٌ بمقدرٍ أي : تُبْعَثون وتُجْزَوْن وقتَ تمزيقكم لدلالةِ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ عليه.
ولا يجوز أن يكونَ العاملُ « يُنَبِّئكم » لأن التنبئةَ لم تقعْ ذلك الوقتَ . ولا « خَلْقٍ جديدٍ » لأنَّ ما بعد « إنَّ » لا يعمل فيما قبلها . ومَنْ تَوَسَّعَ في الظرف أجازه . هذا إذا جَعَلْنا « إذا » ظرفاً مَحْضاً . فإنْ جَعَلْناه شرطاً كان جوابُها مقدراً أي : تُبْعَثون ، وهو العاملُ في « إذا » عند جمهور النحاة.
وجَوَّز الزجَّاج والنحاس أن يكون معمولاً ل « مُزِّقْتُمْ » . وجعله ابنُ عطية خطأً وإفساداً للمعنى . قال الشيخ : « وليس بخطأ ولا إفسادٍ . وقد اخْتُلف في العامل في » إذا « الشرطية ، وبَيَّنَّا في » شرح التسهيل « أنَّ الصحيحَ أنَّ العامَل فيها فعلُ الشرط كأخواتِها من أسماء الشرط » . قلت : لكنَّ الجمهورَ على خلافِه . ثم قال الشيخ : « والجملةُ الشرطيةُ يُحتمل أَنْ تكونَ معمولة ل » يُنَبِّئُكم « لأنه في معنى : يقول لكم إذا مُزِّقْتُمْ : تُبْعَثُون . ثم أكَّد ذلك ب إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ . ويُحتمل أن يكون إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ مُعلِّقاً ل » يُنَبِّئكم « سادًّا مَسَدَّ المفعولين ، ولولا اللام لفُتِحَتْ » إنَّ « وعلى هذا فجملةُ الشرطِ اعتراضٌ . وقد منع قومٌ التعليقَ في » أعلم « وبابِها ، والصحيحُ جوازُه . قال :
حَذارِ فقد نُبِّئْتُ إنكَ لَلَّذيْ . . . سَتُجْزَى بما تَسْعَى فتسعدَ تَشْقَى
وقرأ زيد بن علي بإبدالِ الهمزةِ ياءً . وعنه » يُنْبِئُكم « من أَنْبأ كأكرم.
ومُمَزَّقٌ فيه وجهان ، أحدهما : أنه اسمُ مصدرٍ ، وهو قياسُ كلِّ ما زاد على الثلاثة أي : يجيءُ مصدرُه وزمانُه ومكانُه على زِنَةِ اسم مفعولِه أي : كلَّ تمزيق . و
الثاني : أنه ظرفُ مكانٍ . قاله الزمخشري ، أي : كلَّ مكانِ تمزيقٍ من القبورِ وبطون الوَحْشِ والطير . ومِنْ مجيءِ مُفَعَّل مجيءَ التفعيلِ
ألَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ القوافِيْ . . . فلا عِيَّاً بهنَّ ولا اجْتِلابا
أي : تَسْريحي . والتَّمْزِيق : التخريقُ والتقطيع . يُقال : ثوب مُمَزَّق ومَمْزوق . ويُقال : مَزَقه فهو مازِقٌ ومَزِقٌ أيضاً . قال :
أتاني أنهم مَزِقُون عِرْضِيْ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال الممزق العبدي - وبه سُمِّي المُمَزَّق :
فإنْ كنتُ مأكولاً فكن خيرَ آكلٍ . . . وإلاَّ فأدْرِكْني ولَمَّا أُمَزَّقِ
أي : ولما أُبْلَ وأُفْنَ.
و » جديد « عند البصريين بمعنى فاعِل يقال : جَدَّ الشيءُ فهو جادُّ وجديد ، وعند الكوفيين بمعنى مفعول مِنْ جَدَدْتُه أي : قَطَعْتُه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠)
فقلْنا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ، وَتُقْرأ أُوَبِي معه ، على معنى
عودي في التسبيح معه كلما عاد فيه.
ومن قرأ (أَوِّبِي مَعَه) فمعناه رَجعِي مَعَه ، يقال آب يؤوب إذَا رَجَع ، وكل ومعنى رَجِّعِي مَعَه سَبِّحي معه ورَجِّعي
التسبيح معه.
وَالطيْرَ - والطَّيْرُ ، فالرفع من جهتين.
إحداهما أن يكون نسقاً على ما في (أَوِّبِي) ، يَا جِبَالُ رجِّعي التسبيح أنت والطيْرُ ، ويجوز أِنِ يكون مرفوعاً عل البَدَل.
: يا جبال ويا أيُهَا الطيرُ (أَوِّبِي مَعَه).
والنصْب مِنْ ثَلاثِ جَهاتٍ :
أن يكونَ عطفاً على " ولقد آتينا داود مِنَا فَضْلاً والطيرَ "
أي وسَخرْنَا له الطيْرَ . حَكى ذلك أبو عبيدة
عن أبي عمرِو بنِ العلاء ، ويجوز أن يكون نصباً على النداء.
: يا جبال أوِّبي مَعَهُ والطيْرَ ، كأنَّه قال دعونا الجبال والطير ، فالطير
معطوف على مَوْضِع الجِبَالِ في الأصل ، وكل منادى - عند البصريين
كلهم - في موضع نصبٍ.
وقد شرحنا حال المضموم في النداء ، وأن المعرفة مبني عَلَى الضم.
ويجوز أن يكون " والطيْرَ " نصب على معنى " مع " كما تقول : قمت وزيداً ، أي قمت مع زيدٍ ، فالمعنى (أَوِّبِي مَعَه) ومع الطير (١).
* * *
وقوله عز وجل : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١)
أي : جعلناه لَيِّناً.
وَأَوَّل مَنْ عَمل الدرُوع دَاودُ ، وكان ما يُسْتجنُّ به مِنَْ الحديد إنما كانَ قِطَعَ حَدِيدٍ نحو هذه الجَواشِنَ.
__________
(١) قال السَّمين :
« أَوِّبِيْ » العامَّةُ على فتحِ الهمزةِ وتشديدِ الواوِ ، أمراً من التَّأْوِيْب وهو التَّرجِيْع . وقيل : التسبيحُ بلغةِ الحبشة . والتضعيفُ يحتملُ أَنْ يكونَ للتكثيرِ . واختار الشيخ أَنْ يكونَ للتعدِّي . قال : « لأنهم فَسَّروه ب رَجِّعي معه التسبيحَ » . ولا دليلَ؛ لأنه تفسيرُ معنى . وقرأ ابنُ عباس والحسنُ وقتادة وابن أبي إسحاق « أُوْبي » بضمِّ الهمزةِ وسكونِ الواو أمراً مِنْ آب يَؤُوْبُ أي : ارْجِعي معه بالتسبيح.
« والطيرَ » العامَّةُ على نصبِه وفيه أوجهٌ ، أحدها : أنه عطفٌ على محلِّ « جبالُ » لأنَّه منصوبٌ تقديراً .
الثاني : أنه مفعولٌ معه . قاله الزجاج . ورُدَّ عليه : بأنَّ قبلَه لفظةَ « معه » ولا يَقْتَضي العاملُ أكثرَ مِنْ مفعولٍ معه واحدٍ ، إلاَّ بالبدلِ العطفِ لا يُقال : « جاء زيدٌ مع بكرٍ مع عمروٍ » . قلت : وخلافُهم في تقضية حالَيْنِ يَقْتضي مجيئَه هنا . الثالث : أنه عطفٌ على « فضْلاً » قاله الكسائيُّ . ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : آتيناه فضلاً وتسبيحَ الطيرِ . الرابع : أنه منصوبٌ بإضمار فعلٍ أي : وسَخَّرْنا له الطيرَ ، قاله أبو عمروٍ.
وقرأ السُّلَمِيُّ والأعرج ويعقوب وأبو نوفل وأبو يحيى وعاصم في رواية « والطيرُ » بالرفع . وفيه أوجهٌ : النسقُ على لفظ « جبالُ » . وأُنْشِد
٣٧٢٣ ألا يا زيدُ والضَّحاكُ سِيْرا . . . فقد جاوَزْتُما خَمَرَ الطريقِ
بالوجهين . وفي عَطْفِ المعرَّفِ بأل على المنادى المضمومِ ثلاثةُ مذاهبَ .
الثاني : عطفُه على الضميرِ المستكنِّ في « أوِّبي » . وجاز ذلك للفَصْل بالظرفِ . والثالث : الرفعُ على الابتداءِ ، والخبرُ مضمرٌ . أي : والجبالُ كذلك أي : مُؤَوَّبَةٌ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
و " أن " ههنا ، في تأويل التفسير كأنَّه قيل : وألَنا له الحديد أن أعمل
سابغاتٍ ، بمعنى قلنا له : اعمل سابِغَاتٍ ، ويكون في معنى لأن
يعمل سابغات . وتصل إن بلفظ الأمر ، ومثل هذا من الكلام أَرْسَلَ إليه
أَنْ قُمْ إليَّ ، أي قال قم إلى فلانٍ ، ويكون بمعنى أرسل إليه بأن يقوم
إلى فلانٍ.
ومعنى " سَابِغَاتٍ " دروع سابغات فذكر الصفة لأنها تدل على
الموصوف ، ومعنى السابغ الذي يغطي كل شيء يكون عليه حتى
يَفْضُل.
(وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ).
السَّردُ في اللغة تقدمة شيء إلى شيء تأتي به مُنَسَّقاً بَعْضُه في
إثْر بَعْض مُتَتَابِعاً فمنه سَرَدَ فلان الحدِيثَ ، وقيل في التفسير : السَّرْدُ
السَّمْرُ والسَّتْر والخلق وقيل هو أَنْ لاَ يَجْعَل المِسْمَارَ غليظاً والثقبَ
دَقيقاً ، ولا يجعلَ المسمارَ دَقِيقاً ، والثقبَ واسِعاً فَيتقَلْقَلْ وَيَنْخَلِع
وينقصفُ.
قَدِّرْ في ذلك أي اجْعَلْهُ عَلَى القصد وقدر الحاجة.
والذي جاء في التفسير غَيْرُ خارج عن اللغة لأن السَّمْرَ تقدِيمُكَ
طرف الحلقة إلى طرفها الآخر ، وزعم سيبويه أن قول العرب : رجل
سَرَنْدِيٌّ مشتق من السَّردِ ، وذلك أن معناه الجريء ، قال : والجرِيء
الذي يمضي قُدُماً .
وتفسير : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) - جعلناه ليِّناً كالخُيُوط يطاوعه حَتى عَمِلَ
الدروعَ.
* * *
وقوله تعالى : (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (١٢)
النصب في الريح هو الوجه وقراءة أكثر القراء ، على معنى
وسَخَّرْنَا لسلَيمانَ الريح ، ويجوز الرفع ولسليمان الريح غدوها شهرٌ.
والرفع على مَعْنَى ثبتت له الريح ، وهو يؤول في إلى معنى
سخرنا الريح ، كما أنك إذا قلت : للّه الحمد فتأويله استقر للّه
الحمدُ ، وهُوَ يرجعُ إلى معنى أحمدُ اللّه الحمْدَ.
و (غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ).
أي غدوها مَسيرةُ شَهْرٍ ، وكذلك روَاحُها.
وكان سليمان يجلس على سريره هو وأصحابه فتسير بهم الريح بالغداة مسيرة شهر ، وتسيرُ بالعَشِي مَسِيرَة شَهْرٍ.
(وأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ).
القطر النحَاسُ ، وهو الصُّفرُ ، فأُذيب مذ ذاك وكان قبلَ سليمانَ لَا
يذُوبُ.
(وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ).
موضع " مَنْ " نصب ، سخرنا له من الجن مَنْ يعمَلُ.
ويجوز أن يكون موضع " مَنْ " رفعاً.
ويكون فيما أعطيناه من الجنِّ (مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْه بإذْنِ رَبِّه)
أي بأمْر رَبِّه.
(وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا).
أي من يعدل.
ثم بَيَّن ما كانوا يعملون بين يَدَيْه فقال :
(يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (١٣)
المحراب الذي يصَلَّى فيه ، وأشرف موضع في الدارِ وفي البيت
يقال له المحراب.
(وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ).
أكثر القرَّاء على الوقف بغير يا وكان الأصل الوقفَ بالياء ، إلا
أن الكسرة تنوب عنها ، وكانت بغير ألف ولام الوقف عليها بغير ياء.
تقول : هذه جواب ، فأدْخِلَت الألف واللام وترك الكلام على ما كان
عليه قَبْلَ دخولِهِمَا.
والجوابي جمعُ جَابية ، والجابية الحوض الكبير
قال الأعشى :
كجابية السيج العراقي تَفْهَقُ
أن يعملون له جفانه كالحياض العظام التي يجمع فيها الماء.
(وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ) : ثابتات.
(اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا).
" شكراً " منتصب على وَجْهَيْن :
أحدهما اعملوا للشكر ، أي اشكروا
اللّه على ما آتاكم . ويكون (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) على معنى اشكروا
شكراً.
* * *
وقوله تالى : (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (١٤)
المنسأة العصا ، وإنما سُمِّيَتْ منسأة لأنها يُنْسَأُ بها (١)
ومعنى يُنْسَأُ بها يطرد بها ويؤخر بها ، فلما توفي سليمان توفي وهو متكئ عليها
- على عصاه - فلم يعلم الجنُّ بموته حتى أكلت الأرضَةُ العصا.
حَتَّى خرَّ.
(فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ) مَوْتَهُ ، (أن لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ ما لبثوا فِي الْعَذَابِ المُهِينِ).
ْالمعنى لأنهم لو كانوا يعلمون ما غاب عَنْهُم مَا عَمِلُوا مُسخرِين.
إِنَّمَا عَمِلُوا وهم يظنون أنه حَيٌّ يقف عَلَى عَمَلِهِمْ.
وقال بعضهم تبينت الإنسُ الجِن أن لو كانوا يعلمون الغَيْبَ.
ويجوز أن يكون تبينت الجِن أن لو كانوا يعلمون الغَيْبَ ، والجن تتبيَّنُ أَنها لا تعلمُ الغَيْبَ ، فكانَتْ تُوهِمُ أنها تعلم الغَيْبَ فَتَبَيَّنَتْ أنه قد بأن للناس أنَّها لَا تَعْلَمُ ، كما تَقُولُ للذي يدعي عندَكَ الباطِلَ إذا تبينت له : قد بينت أن الذي
يقول بَاطِل ، وهو لم يزل يعلم ذلك ولكنك أردت أن توبخَهُ وَأَنْ تُعْلِمَهُ
أنك قد علمت بطلان قوله.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥)
ويقرأ " مَسْكِنِهِمْ " بفتح الكاف وكسرها ، ويقرأ مَسَاكِنِهم ويقرأ لِسَبَأ
__________
(١) قال السَّمين :
وَقُرئ « مَنْسَأَتَه » بفتح الميم مع تحقيقِ الهمزةِ ، وإبدالِها ألفاً ، وحَذْفِها تخفيفاً ، و « مِنْسَاْءَتَه » بزنة مِفْعَالَتَه كقولهم : مِيْضَأَة ومِيْضاءَة وكلُّها لغاتٌ.
وقرأ ابنُ جُبَيْر « مِنْ سَأَتِه » فَصَل « مِنْ » وجَعَلَها حَرفَ جَرٍّ ، وجَعَل « سأَتِه » مجرورةً بها . والسَّأَةُ والسِّئَةُ هنا العصا . وأصلُها يَدُ القوسِ العليا والسفلى يقال : سَاةُ القوسِ مثلُ شاة ، وسِئَتُها ، فَسُمِّيَتِ العصا بذلك على وجهِ الاستعارة . والمعنى : تأكلُ مِنْ طَرَفِ عصاه . ووجهُ ذلك كما جاء في التفسير : أنه اتَّكأ على عصا خضراءَ مِنْ خَرُّوب ، والعصا الخضراءُ متى اتُّكِئ عليها تَصيرُ كالقوسِ في الاعوجاجِ غالباً . وساة فَعَلة ، وسِئَة : فِعلة نحو : قِحَة وَقَحة ، والمحذوفُ لامُهما.
وقال ابن جني : « سَمَّى العَصا ساءة لأنها تَسُوء ، فهي فَلَة ، والعينُ محذوفةٌ » قلت : وهذا يَقْتضي أَنْ تكون القراءة بهمزةٍ ساكنةٍ ، والمنقولُ أن هذه القراءةَ بألفٍ صريحة ولأبي الفتح أَنْ يقولَ : أصلُها الهمزُ ، ولكن أُبْدِلَتْ.
و « دابَّةُ الأرضِ » فيه وجهان ، أظهرُهما : أنَّ الأرضَ هذه المعروفةُ . والمرادُ بدابَّةِ الأرضِ الأَرَضَةُ دُوَيْبَّةٌ تأكُل الخَشَبَ .
الثاني : أن الأرضَ مصدرٌ لقولك : أرَضَتِ الدابةُ الخشبةَ تَأْرِضُها أَرْضاً أي : أكلَتْها . فكأنه قيل : دابَّةٌ الأكل . يُقال : أرَضَتِ الدابَّةُ الخشبةَ تَأْرِضها أَرْضاً فأَرِضَتْ بالكسر تَأْرَض هي بالفتح أرَضاً بالفتح أيضاً نحو : أكَلَت القوادحُ الأسنانَ تأكلُها أكلاً فأَكِلت هي بالكسر تَأْكَلُ أَكَلاً بالفتح . ونحوُه أيضاً : جَدَعْتُ أنفَه جَدْعاً فجَدِع هو جَدَعاً بفتح عين المصدر . وبفتح الراء قرأ ابن عباس والعباس بن الفضل وهي مقويةُ المصدرية في القراءة المشهورة . وقيل : الأرضَ بالفتح ليس مصدراً بل هو جمع أَرَضَة ، وعلى هذا يكونُ من باب إضافةِ العامِّ إلى الخاصِّ لأنَّ الدابَّةَ أعمُّ من الأَرَضة وغيرِها من الدوابِّ.
« فلمَّا خَرَّ » الظاهر أنَّ فاعلَه ضميرُ سليمان عليه السلام . وقيل : عائدٌ على الباب لأنَّ الدابَّةَ أكلَتْه فوقع . وقيل : بل أكلَتْ عَتَبَةَ البابِ ، وهي الخارَّة . ونُقِل ذلك في التفسير ، وينبغي أَنْ لا يَصِحَّ؛ إذ كان يكون التركيبُ خرَّتْ بتاءِ التأنيث . و :
٣٧٣٢ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أَبْقَل إبْقالَها
ضرورةٌ نادرٌ . وتأويلُها بمعنى العُوْد أَنْدَرُ منه.
« تَبَيَّنَتْ » العامَّةُ على بنائِه للفاعلِ مسنداً للجنِّ . وفيه تأويلاتٌ ، أحدُها : أنه على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : تبيَّن أَمْرُ الجنِّ أي : ظهر وبان . و « تبيَّن » يأتي بمعنى بان لازماً ، ك
٣٧٣٣ تَبَيَّنَ لي أنَّ القَماءَةَ ذِلَّةٌ . . . وأنَّ أَعِزَّاءَ الرجالِ طِيالُها
فلمَّا حُذِفَ المضافُ ، وأقيم المضافُ إليه مُقامَه ، وكان ممَّا يجوز تأنيثُ فعلِه ، أُلْحِقَتْ علامةُ التأنيثِ.
و أَن لَّوْ كَانُواْ بتأويلِ المصدرِ مرفوعاً بدلاً من الجنِّ . والمعنى : ظهر كَوْنُهم لو عَلِموا الغيبَ لَما لَبِثوا في العذاب أي : ظَهَرَ جَهْلُهُمْ .
الثاني : أنَّ « تبيَّن » بمعنى بانَ وظَهَر أيضاً . و « الجنُّ » فاعلٌ . ولا/ حاجةَ إلى حَذْفِ مضاف و أَن لَّوْ كَانُواْ بدلٌ كما تقدَّم تحريرُه . والمعنى : ظهر للجن جَهْلُهم للناسِ؛ لأنهم كانوا يُوْهِمُون الناسَ بذلك ، كقولك : بان زيدٌ جهلُه.
الثالث : أنَّ « تَبَيَّن » هنا متعدٍّ بمعنى أَدْرك وعَلِم ، وحينئذٍ يكون المرادُ بالجنِّ ضَعَفَتَهم ، وبالضميرِ في « كانوا » كبارَهُمْ ومَرَدَتَهم ، و أَن لَّوْ كَانُواْ مفعولٌ به ، وذلك أنَّ المَرَدَةَ والرؤساءَ من الجنِّ كانوا يُوْهِمون ضعفاءَهم أنهم يَعْلمون الغيبَ . فلمَّا خَرَّ سليمان عليه السلامَ مَيِّتاً ، مكثوا بعده عاماً في العملِ ، تبيَّنَتِ السَّفَلَةُ من الجنِّ أنَّ الرؤساءَ منهم لو كانوا يعلمون الغيبَ كما ادَّعَوْا ما مكثوا في العذابِ . ومِنْ مجيءِ « تَبَيَّن » متعدِّياً بمعنى أَدْرك
٣٧٣٤ أفاطِمُ إنِّي مَيِّتٌ فَتَبَيَّني . . . ولا تَجْزَعي كلُّ الأنامِ يموتُ
أي : تَبَيَّني ذلك.
وفي كتاب أبي جعفر ما يَقْتضي أنَّ بعضَهم قرأ « الجنَّ » بالنصب ، وهي واضحةٌ أي : تبيَّنت الإِنسُ الجنَ . و أَن لَّوْ كَانُواْ بدلٌ أيضاً من « الجن » . وقرأ ابن عباس ويعقوب « تُبُيِّنَتِ الجنّ » على البناءِ للمفعولِ ، وهي مؤيِّدَةٌ لِما نَقَله النحاسُ . وفي الآيةِ قراءاتٌ كثيرةٌ أَضْرَبْتُ عنها لمخالفتِها السَّوادَ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
- بالفتح وترك الصرف - وَلِسَبإٍ . فمن فتح وترك الصرْفَ فلأنه جَعَلَ
سَبأ اسم قبيلة ، وَمَنْ صرف وكسر ونوَّنَ جعل سبأ اسْماً للرجُل واسماً
للحيِّ وكل جائز حَسَن.
(آيَةٌ جَنَّتَانِ).
(آيَةٌ) رفع اسم كان ، وَ (جَنَّتَانِ) رفع على نوعين ، على أنه بدَل من آيةٍ
وعلى إضمارٍ كأنَّه لما قيل آية ، قيل الآية جَنَّتَانِ ، والجَنتَانِ
البُسْتَانَانِ.
فكان لهم بستانان ، بستان يَمْنَةً ، وبُسْتَان يَسْرَة.
(كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ).
قيل لهم : كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) . على معنى هذه بلدة طيبة.
(وَرَبٌّ غَفُورٌ) على معنى واللّه رَبٌّ غَفُورٌ.
* * *
(فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦)
: أعرضوا عن أمر اللّه.
(فَأرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِم).
والعَرِم فيه أقوال قال أَبو عبيدة جمع عَرِمَةٍ ، وهي السِّكْرُ
والمُسَنَّاة وقيل العَرِمُ اسمُ الوَادِي ، وقيل العَرِمُ ههنا اسم الجُرَذ
الذي ثقب السِّكْر علَيْهِم ، وهو الذي يقال له الخُلْدُ.
وقيل : العَرِمُ المطر الشديد ، وكانوا في نِعْمةٍ وكانت لهم جِنَان يمنَةً وَيَسْرةً ، وكانت المرأة تخرج على رَأسها الزَّبِيلُ فتعمل بيديها وتسير بين ذلك الشجر
فيسقط في زبيلها ما تحتاج إليه من ثمار ذَلِكَ الشَجَرِ ، فلم يَشْكُرُوا.
فبعث اللّه عليهم جُرَذاً ، وكان لهُم سِكْر فيه أبوابٌ ، يفتحون ما
يحتاجون إليه من الماء ، فثقب ذلك الجرذ حتى نقب عَلَيْهم فَغَرَّق
تينك الجنتين.
(وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ).
آيْ بِهَاتَيْنِ الجنتَينِ المَوْصُوفتين.
(جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ).
وأُكْل خَمْطٍ - الضَمُّ والإسكان في الكافِ جَائِزَانِ ، ويقرأ ذَوَاتَيْ
أكُل خمطٍ وذواتي أُكْل خمْطٍ . ومعنى خمط : يقال الكل نبت قد أَخَذ
طَعْماً من مرارة حتى لا يمكن أكله خَمْط.
وفي كتاب الخليل الخمطُ شَجَرُ الأرَاكِ
وقد جاء في التفسير أَن الخَمْطَ الأراك وأكله ثمَرهُ.
قال اللّه عزَّ وجلَّ : (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ) (١).
* * *
(ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (١٧)
" ذلك " في موضع نَصْبٍ ، جزيناهم ذلك بكفرهم.
(وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ).
وتقرأ وهل يُجَازَى ، ويجوز وهل وَهَلْ يُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ، وَهَذَا مِما
يُساَلُ عَنْهُ.
يقال : اللّه - عَزً وَجَلً - يُجازي الكَفُورَ وغيرَ الكَفُورِ.
والمعنى في هذه الآية أن المؤمن تُكَفَرُ عنه السيئَات ، والْكَافِرَ يحبطُ عمله فيجازى بكل سوء يعمله قال اللّه عَزَ وَجَل : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّه أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)
__________
(١) قال السَّمين :
سَيْلَ العرم : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه من باب إضافةِ الموصوفِ لصفتِه في الأصلِ ، إذ الأصلُ : السَّيْلُ العَرِمُ . والعَرِمُ : الشديدُ . وأصله مِنَ العَرامَةِ ، وهي الشَّراسَةُ والصعوبةُ . وعَرِمَ فلانٌ فهو عارِمٌ وعَرِمٌ . وعُرامُ الجيش منه .
الثاني : أنه من بابِ حَذْفِ الموصوفِ وإقامة صفتِه مُقامه . تقديرُه : فأَرْسَلْنا عليهم سَيْلَ المطرِ العَرِم الجُرذ العرم أي الشديد الكثير . الثالث : أنَّ العَرِمَ اسمٌ للبناءِ الذي يُجْعَلُ سَدَّاً . وأُنْشد :
٣٧٣٧ مِنْ سبأ الحاضرينَ مَأْرِبَ إذْ . . . يَبْنُون مِنْ دونِ سَيْلِه العَرِما
أي البناء القويُّ . الرابع : أنَّ العَرِمَ اسمٌ للوادي الذي كان فيه الماءُ نفسُه . الخامس : أنه اسمٌ للجُرَذِ وهو الفَأْر . قيل : هو الخُلْدُ . وإنما أُضيفَ إليه لأنه تَسَبَّبَ عنه إذ يُرْوى في التفسيرِ : أنه قَرَضَ السِّكْرَ إلى أن انفتح عليهم فغرِقوا به . وعلى هذه الأقوال الثلاثةِ تكون الإِضافةُ إضافةً صحيحةً مُعَرِّفة نحو : غلام زيد أي : سيل البناء ، سيل الوادي الفلاني ، سيلُ الجُرَذِ . وهؤلاء هم الذين ضَرَبَتْ بهم العربُ في المثل للفُرْقةِ فقالوا : « تَفَرَّقوا أَيْدِي سبأ وأيادي سبأ ».
قوله « » بجنَّتَيْهم جَنَّتَيْن « قد تقدَّم في البقرة أن المجرورَ بالباء هو الخارج ، والمنصوبَ هو الداخلُ؛ ولهذا غَلِط مَنْ قال من الفقهاء : » فلو أبدل ضاداً بظاءٍ بَطَلَتْ صلاتُه « بل الصواب أَنْ يُقال : ظاءً بضادٍ.
» أُكُلٍ خَمْطٍ « قرأ أبو عمرو على إضافة » أُكل « غير المضاف إلى » خَمْط « . والباقون بتنوينه غيرَ مضافٍ وقد تقدم في البقرةِ أنَّ ابنَ عامرٍ وأبا عمرو والكوفيين يضمون كاف » أكل « غير المضاف لضمير المؤنثةِ ، وأن نافعاً وابن كثير يُسَكِّنونها بتفصيل هناك تقدَّمَ تحريرُه ، فيكونُ القرَّاءُ هنا على ثلاثِ مراتبَ ، الأولى : لأبي عمروٍ » أُكُلِ خَمْط « بضم كاف » أُكُلٍ « مضافاً ل » خَمْطٍ « . الثانية : لنافعٍ وابن كثير تسكينُ كافِه وتنوينِه . الثالثة : للباقين ضَمُّ كافِه وتنوينه . فَمَنْ أضافَ جَعَلَ » الأكل « بمعنى الجنى والثمر . والخَمْطُ قيل : شجرُ الأَراك . وقيل : كلُّ شجرٍ ذي شَوْكٍ . وقيل : كلُّ نَبْتٍ أَخَذَ طعماً مِنْ مرارة . وقيل : شجرةٌ لها ثَمَرٌ تشبه الخَشْخاشَ لا يُنْتَفَعُ به.
وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ معطوفان على » أُكُل « لا على » خَمْط « لأنَّ الخَمْطَ لا أُكُلَ له . وقال مكي : » لَمَّا لم يَجُزْ أَنْ يكونَ الخمطُ نعتاً للأكل؛ لأنَّ الخَمْطَ اسمُ شجرٍ بعينه ، ولا بدلاً لأنه ليس الأولَ ولا بعضَه ، وكان الجنى والثمرُ من الشجر ، أُضيف على تقدير « مِنْ » كقولِك : هذا ثوبُ خَزّ « . ومَنْ نَوَّنَ جَعَلَ خَمْطاً وما بعدَه : إمَّا صفةً لأُكُل.
قال الزمخشري : « وُصِفَ الأُكُلَ بالخَمْط ، كأنه قيل : ذواتَيْ أُكُلٍ بَشِعٍ » . قال الشيخُ : « والوصفُ بالأسماءِ لا يَطَّردُ ، وإنْ كان قد جاء منه شيءٌ نحو قولهم : مررْتُ بقاع عَرْفَجٍ كلِّه » .
الثاني : البدلُ مِنْ « أُكُل » قال أبو البقاء : « وجعل خَمْطاً أُكُلاً لمجاوَرَتِه إياه وكونِه سبباً له » . إلاَّ أنَّ الفارسيَّ رَدَّ كونَه بدلاً . قال : « لأنَّ الخَمْطَ ليس بالأُكُلِ نفسِه » . وقد تقدَّمَ جوابُ أبي البقاء . وأجاب بعضُهم عنه - وهو مُنْتَزَعٌ مِنْ كلام الزمخشري - أنه على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : ذواتَيْ أُكُلٍ أُكُلِ خَمْطٍ . قال : والمحذوفُ هو الأولُ في الحقيقةِ . قلت : وهو حسنٌ في . الثالث : أنه عطفُ بيانٍ ، وجعله أبو عليٍ أحسنَ ما في الباب . قال : « كأنَّه بَيَّنَ أنَّ الأُكُلَ هذه الشجرةُ » إلاَّ أنَّ عَطْفَ البيانِ لا يُجيزه البصريُّون في النكرات إنما يَخُصُّونه بالمعارفِ/.
« قليلٍ » نعتٌ ل « سِدْر » . وقيل : نعتٌ ل « أُكل » . وقال أبو البقاء : « ويجوز أَنْ يكونَ نعتاً ل » خَمْطٍ وأَثْلٍ وسِدْرٍ « . وقُرِئ » وأَثْلاً وشَيْئاً « بنصبهما عطفاً على جَنَّتَيْن . والأَثْلُ : شجرُ الطَّرْفاءِ ، ما يُشْبِهها . والسِّدرَ سِدْران : سِدْرٌ له ثمرةٌ عَفْصَةٌ لا تُؤْكَلُ ولا يُنْتَفَعُ بورقِه في الاغتسال وهو الضالُّ ، وسِدْرٌ له ثمرٌ يُؤْكَلُ وهو النَّبْقُ ، ويُغْتَسُل بورقِه . ومراد الآيةِ : الأولُ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقال : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللّه وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (٢٨).
فأعلم - جلَّ وعزَّ - أنه يحبط عمل الكافِرِ ، وأعْلَمَنا أن الحَسَنَاتِ يذهِبْنَ السيْئَاتِ ، وأن المؤمنَ تُكِفَرُ عنه سَيِّئَاتِه حَسَنَاتُه.
* * *
وقوله تعالى : (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (١٨)
هذا عطف على (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ)
(وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً).
فَكانوا لا يَحْتَاجُونَ من وادي سبأ إلى الشام إلى زَادٍ.
وقيل القُرَى التي باركنا فيها بَيْتُ المقْدِسِ ، وقيل أيضاً الشامُ.
فكانت القرى إلى كل هذه المواضِعِ من وادي سبأ متصلة.
* * *
(وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ).
جعلنا مَسِيرَهُمْ بمقدار حيث أرادُوا أَن يقيموا حَلُّوا بقرية آمِنينَ.
* * *
(فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)
(رَبَّنَا بَعِّدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)
ويقرأ (رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) ، ويقرأ (رَبَّنَا بَعَّدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) ، ويقرأ
(رَبَّنَا) - بالنصْبِ - بَعُدَ بَيْن أسفارنا - برفع بَيْن - ، ويقرأ بَيْن أسفارنا ، ويقرأ رَبُّنا بَاعَدَ بين أسْفَارِنَا (١).
(وَظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ)
فمن قرأ بَعُدَ بَيْنُ أَسْفارنا برفع بيْن ، فالمعنى بَعُدَ ما يتصِلُ
__________
(١) قال السَّمين :
رَبَّنَا : العامَّةُ بالنصبِ على النداء . وابن كثيرٍ وأبو عمروٍ وهشام « بَعِّدْ » بتشديدِ العَيْنِ فعلَ طلبٍ . والباقون « باعِدْ » طلباً أيضاً من المفاعلة بمعنى الثلاثي . وقرأ ابنُ الحنفية وسفيان بن حسين وابن السَّمَيْفع « بَعُدَ » بضم العين فعلاً ماضياً . والفاعلُ المَسِيْرُ أي : بَعُدَ المَسِيْرُ . و « بَيْنَ » ظرفٌ . وسعيد بن أبي الحسن كذلك إلاَّ أنَّه ضَمَّ نونَ « بين » جعله فاعلَ « بَعُدَ » ، فأخرجه عن الظرفية كقراءةِ « تَقَطَّع بينكُم » رفعاً . فالمعنى على القراءةِ المتضمِّنةِ للطلبِ يكونُ : أنهم أَشِرُوا وبَطِرُوا؛ فلذلك طلبوا بُعْدَ الأسفارِ . وعلى القراءة المتضمِّنة للطلبِ يكونُ : أنهم أَشِرُوا وبَطِرُوا؛ فلذلك طلبوا بُعْدَ الأسفارِ . وعلى القراءة المتضمِّنة للخبرِ الماضي يكونُ شكوى مِنْ بُعْدِ الأسفار التي طلبوها أيضاً.
وقرأ جماعةٌ كثيرةٌ منهم ابن عباس وابن الحنفية وعمرو بن فائد « ربُّنا » رفعاً على الابتداءِ ، « بَعِّدْ » بتشديد العين فعلاً ماضياً خبرُه . وأبو رجاءٍ والحسنُ ويعقوب كذلك إلاَّ أنه « باعَدَ » بالألف . والمعنى على هذه القراءة : شكوى بُعْدِ أسفارِهم على قُرْبها ودُنُوِّها تَعَنُّتاً منهم.
وقُرِئ « بُوعِدَ » مبنياً للمفعول . وإذا نصَبْتَ « بينَ » بعد فعلٍ متعدٍّ مِنْ هذه المادةِ في إحدى هذه القراءاتِ سواءً كان أمراً أم ماضياً فجعله الشيخ منصوباً على المفعول به لا ظرفاً . قال : « ألا ترى إلى قراءةِ مَنْ رفع كيف جَعَلَه اسماً »؟ قلت : إقرارُه على ظرفيَّتِه أَوْلَى ، ويكون المفعولُ محذوفاً ، تقديره : بَعِّدِ السيرَ بينَ أسفارِنا . ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ « بَعُدَ » بضم العين « بينَ » بالنصب ، فكما تُضْمِرُ هنا الفاعلَ وهو ضميرُ السَّيْرِ كذلك تُبْقي هنا « بينَ » على بابِها ، وتَنْوي السيرَ . وكان هذا أَوْلى؛ لأنَّ حَذْفَ المفعولِ كثيرٌ جداً لا نِزاع فيه ، وإخراجُ الظرفِ غير المتصرِّفِ عن ظرفيتِه فيه نزاعٌ كثيرٌ ، وتحقيقُ هذا والاعتذارُ عن رفعِ « بينكم » مذكورٌ في الأنعام.
وقرأ العامَّةُ « أَسْفارِنا » جمعاً . وابن يعمر « سَفَرِنا » مفرداً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
بِسَفَرِنَا ، ومن قرأ بَعُدَ بين أسْفارنا فالمعنى بَعُدَ ما بين أسفارنا ، وَبَعُد
سيْرنا بين أَسْفَارِنا ، ومن قرأ باعِدْ فعلى وجه المسألَةِ ، ويكون
أنهم سئموا الرَّاحَةَ وبطِرُوا النعمَةَ ، كما قال قوم موسى : (ادْعُ لَنَا رَبِّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ ) - إلى (الذي هُوَ أدنى بالَّذِي هُوَ خَير).
(وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ).
أي فرقناهم في البلاد لأنهم لما أذهب اللّه بِجَنتَيْهِمْ وغرق
مَكانَهُم تبدَّدُوا في البلاد فصارت العَرَبُ تتمثل بِهم في الفرقَةِ فتقول :
تفرقوا أيْدِيَ سبَأ ، وأيادي سَبَأ
قال الشاعِرِ :
مِنْ صَادِرٍ وَارِدٍ أَيْدي سَبَا.
وقال كثير :
أيادي سبا يا عز ما كنت بعدكم . . . فلم يحل للعينين بعدك منظر
* * *
(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠)
(وَلَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ)
ويقرأ (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) - برفع إبْلِيسَ ونصب الظن.
وصدقه في ظَنَه أَنًهُ ظَن - بهم إذا أغْوَاهم اتبَعوه فوجدهم كذلك فقال :
(فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ).
فمن قال (صَدَّقَ) نَصَبَ الظن لأنه مفعولٌ بِهِ ، ومن خَفَّفَ فقال " صَدَق " نصب الظنَّ مصدراً
على معنى صدق عليهم إبليس ظَنًّا ظَنَّه ، وصدق في ظنه.
وفيها وجهان آخرانِ ، أحدهما ولقد صدق عليهم إبليسُ ظنُّهُ ، ظَنه بدل من إبْلِيسَ ، كما قال تعالى : (يَسْالُونَكَ عَنِ الشَهْرِ الحَرَامِ قِتَال فِيهِ).
ويجوز وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنُّهُ ، على معنى صدق ظن إبليسَ باتباعِهم إيَّاهُ وقد قُرِئ بهما.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١)
أي ما كان له عليهم من حجة كما قال : (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ).
(إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ).
أي إلا لنعلم ذلك علمَ وقوعه مِنْهُمْ ، وهو الذي يُجَازَوْنَ عَلَيْه.
واللّه يعلم الغيبَ وَيَعْلَمُ مَنْ يؤمن مِمن يَكْفُر قبلَ أَنْ يؤمِنَ المؤمنُ
ويكفُرَ الكافِرُ ولكن ذلك لا يُوجِبُ ثواباً وَلَا عقَاباً ، إنما يثابون
ويعاقبون بما كانوا عَامِلينَ.
و (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللّه لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢)
يعني أن الذين يزعمون أنهم شركاء اللّه مِنَ المَلَائكة وَغَيْرِهِمْ لاَ
شِرْكَ لهم ولا مُعينَ للّه عزَّ وجلَّ فيما خَلَق.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣)
(أَذِنَ لَهُ)
بضم الهمزة وفتحها ، ويكون لمني أذَن لَه.
أي ، لمن أذن اللّه له أن يشفع ، ويجوز إلا لمن أذن أن يُشْفَعَ له فيكون " من "
للشافعين ، ويجوز أَنْ يكونَ للمَشْفُوعَ لَهُمْ.
والأجود أن يكون للشافعين ، ل (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ).
لأن الذين فزع عن قلوبهم ههنا الملائكةُ ، وتقرأ حتى إذَا فَزَّعَ
عن قُلُوِبهِمْ - بفتح الفاء - وقرأ الحسن : حَتَّى إذَا فَرَغَ عَنْ قُلُوبِهِمْ -
بالراء غيرَ المعجمة وبالغين المعجمة - ومعنى فُزعَ كُشِفَ الفَزَعُ عَنْ
قُلُوبِهِمْ وَفَزَّعَ عن قلوبِهِمْ كشفَ اللّه الفَزَع عن قُلُوبهِمْ ، وقراءة
الحسن ، فُرِّغَ تَرْجع إلى هذا لأنهما فَرغتْ من الفَزَع.
وتفسير هذا أن جبريل عليه السلام كان لِما نزل إلى محمد - صلى اللّه عليه وسلم - بالْوَحْي ظنت الملائكة أَنَه نزل لِشيءٍ من أمر الساعَةِ فَتَفَزعَتْ لِذَلِكَ ، فلما انكشف عنها الفَزَعُ : (قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ).
فسألت لأيَ شيءٍ ينزل جبريل.
(قَالُوا الْحَقَّ).
أي قالوا قال الحق ، ولو قرئت - قَالُوا الْحَقُّ لكان وَجْهاً . يكون
قالوا هو الحق (١).
* * *
(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللّه وَإِنَّا إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٤)
روي في التفسير أن وإنا لعلى هدى وإنكم لفي ضلال
مبين ، وهذا في اللغة غير جائز ولكنه في التفسير يُؤول إلى هذا
. إنا لعلى هدى في ضلال مبين إنكم لعلى هدى في
ضلال مبين ، وإنكم لعلى هدى في ضلال مبين.
فهذا كما يقول القائل : إذا كانت الحال تدل على أنه صَادق - أَحَدُنا صادق ، وأَحَدُنا كاذب ، والمعنى أَحَدُنَا صادق كاذب.
ويؤول معنى الآية إلى إنَا لِمَا أقمنا من البرهان لعلى هدى ، وإنكم لفي ضلال مبين.
__________
(١) قال السَّمين :
إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أَنَّ اللامَ متعلقةٌ بنفسِ الشفاعة . قال أبو البقاء : « كما تقول : شَفَعْتُ له » .
الثاني : أَنْ يتعلَّقَ ب « تَنْفَعُ » ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ : وهو أنه يَلْزَمُ أحدُ أمرَيْن : إمَّا زيادةُ اللامِ في المفعولِ في غيرِ مَوْضِعها ، وإمَّا حَذْفُ مفعولِ « تنفع » وكلاهما خلافُ الأصلِ . الثالث : أنه استثناءٌ مفرَّغٌ مِنْ مفعولِ الشفاعة المقدرِ أي : لا تنفع الشفاعةُ لأحدٍ إلاَّ لمَنْ أَذِنَ له.
ثم المستثنى منه المقدرُ يجوزُ أن يكون هو المشفوعَ له ، وهو الظاهرُ ، والشافعُ ليس مذكوراً إنما دَلَّ عليه الفَحْوى . والتقدير : لا تنفُع الشفاعةُ لأحدٍ من المشفوع لهم إلاَّ لمَنْ أَذن تعالى للشافعين أَنْ يَشْفعوا فيه . ويجوز أَنْ يكونَ هو الشافِعَ ، والمشفوعُ له ليس مذكوراً تقديرُه : لا تنفعُ الشفاعةُ إلاَّ لشافعٍ أُذِن له أَنْ يَشْفَعَ . وعلى هذا فاللامُ في « له » لامُ التبليغِ لا لامُ العلةِ . الرابع : أنه استثناءٌ مفرَّغٌ أيضاً ، لكنْ من الأحوال العامة . تقديرُه : لا تنفعُ الشفاعةُ إلاَّ كائنةً لمَنْ أَذِن له . وقرَّرَه الزمخشري فقال : « تقول : » الشفاعة لزيدٍ « على معنى : أنه الشافعُ كما تقول : الكَرْمُ لزيدٍ ، وعلى معنى أنه المشفوعُ له كما تقول : القيامُ لزيدٍ فاحتمل وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يكونَ على أحدِ هذين الوجهين أي : لا تنفعُ الشفاعةُ إلاَّ كائنةً لمَنْ أَذِن له من الشافعين ومطلقةً له ، لا تنفع الشفاعة إلاَّ كائنةً لمَنْ أَذِن له أي : لشفيعِه ، هي اللامُ الثانية في قولك : » أُذِنَ لزيدٍ لعمروٍ « أي : لأجله فكأنه قيل : إلاَّ لمَنْ وقع الإِذنُ للشفيعِ لأجلِه . وهذا وجهٌ لطيفٌ وهو الوجه » . انتهى.
ف « الكَرْم لزيدٍ » يعني : أنَّها ليسَتْ لامَ العلة بل لامُ الاختصاصِ . و « القيامُ لزيد » يعني أنها لام العلة كما هي في « القيام لزيد » . و « أُذن لزيدٍ لعمروٍ » يعني : أنَّ الأولى للتبليغ ، والثانيةَ لامُ العلَّةِ.
وقرأ الأخَوان وأبو عمروٍ « أُذِنَ » مبنياً للمفعول ، والقائمُ مَقامَ الفاعلِ الجارُّ والمجرورُ . والباقون مبنيّاً للفاعل أي : أَذِنَ اللّه وهو المرادُ في القراءة الأخرى . وقد صَرَّح به في إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللّه [ النجم : ٢٦ ] إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن [ النبأ : ٣٨ ].
« حتى إذا » هذه غايةٌ لا بُدَّ لَها مِنْ مُغَيَّا . وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه فاتبعوه [ سبأ : ٢٠ ] على أَنْ يكونَ الضميرُ في عليهم من صَدَّقَ عَلَيْهِمْ [ سبأ : ٢٠ ] وفي « قلوبِهم » عائداً على جميع الكفار ، ويكون التفزيعُ حالةَ مفارقةِ الحياةِ ، يُجْعَلُ اتِّباعُهم إياه مُسْتصحِباً لهم إلى يوم القيامة مجازاً.
والجملةُ مِنْ « قل ادْعُوا » إلى آخرها معترضةٌ بين الغايةِ والمُغَيَّا . ذكره الشيخ . وهو حسنٌ.
و
الثاني : أنه محذوفٌ . قال ابن عطية : « كأنه قيل : ولا هم شفعاءُ كما تحبون أنتم ، بل هم عَبَدَةٌ مُسْلمون أي : منقادون . حتى إذا فُزِّع عن قلوبِهم » انتهى . وجعل الضميرَ في « قلوبهم » عائداً على الملائكة . وقَرَّر ذلك ، وضَعَّفَ قولَ مَنْ جعله عائداً على الكفار ، جميعِ العالم وليس هذا مَوْضِعَ تنقيحه.
و « قالوا : ماذا » هو جوابُ « إذا » ، و « قالوا الحقَّ » جوابٌ ل مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ . و « الحقَّ » منصوبٌ ب « قال » مضمرةً أي : قالوا قال ربُّنا الحقَّ . أي : القولَ الحقَّ . إلا أنَّ الشيخَ رَدَّ هذا فقال : « فما قَدَّره ابنُ عطية لا يَصِحُّ لأنَّ ما بعدَ الغايةِ/ مخالِفٌ لِما قبلَها ، هم منقادون عَبَدَةٌ دائماً ، لا ينفكُّون عن ذلك لا إذا فُزِّع عن قلوبِهم ، ولا إذا لم يُفَزَّعْ ».
الثالث : أنه « زَعَمْتُم » أي : زعمتم الكفر إلى غايةِ التفزيع ثم تركْتُمْ ما زعمتم وقلتم قال الحقَّ . وعلى هذا يكونُ في الكلام التفاتٌ مِنْ خطابٍ في « زَعَمْتم » إلى الغَيْبة في « قلوبهم ».
الرابع : أنه ما فُهِم مِنْ سياقِ الكلامِ . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : بأيِّ شيءٍ اتَّصل حتى إِذَا فُزِّعَ ولأيِّ شيء وقعت » حتى « غايةً؟ قلت : بما فُهِم من هذا الكلامِ مِنْ أَنَّ ثَمَّ انتظاراً للإِذْنِ وتوقُّفاً وتمهُّلاً وفَزَعاً مِن الراجين للشفاعةِ والشفعاءِ هل يُؤْذَنُ لهم ، لا يُؤْذَن؟ وأنه لا يُطْلَقُ الإِذنُ إلاَّ بَعْد مَلِيٍّ من الزمان وطولٍ من التربُّصِ . ودَلَّ على هذه الحالِ [ تعالى رَّبِّ السماوات إلى إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً [ النبأ : ٣٧-٣٨ ] فكأنه قيل : يَتَرَبَّصون ويتوقَّفون مَلِيَّاً فَزِعينَ وَهِلين ، حتى إذا فُزِّعَ عن قلوبِهم أي : كُشِفَ الفَزَعُ عن قلوبِ الشافعين والمشفوعِ لهم بكلمةٍ يتكلم بها ربُّ العزةِ في إطلاقِ الإِذن ، تباشروا بذلك ، وسأل بعضُهم بعضاً : ماذا قال ربُّكم قالوا : الحق . أي : القولَ الحقَّ وهو الإِذنُ بالشفاعةِ لِمَنْ ارْتَضَى ».
وقرأ ابنُ عامر « فَزَّع » مبنياً للفاعل . فإنْ كان الضميرُ في « قلوبهم » للملائكةِ فالفاعلُ في « فَزَّع » ضميرُ اسمِ اللّه تعالى لتقدُّم ذِكْرِه . وإن كان للكفارِ فالفاعلُ ضميرُ مُغْوِيْهم . كذا قال الشيخ . والظاهر أنه يعودُ على اللّه مطلقاً . وقرأ الباقون مبنيَّاً للمفعول . والقائمُ مقامَ الفاعلِ الجارُّ بعده . وفَعَّل بالتشديد معناها السَّلْبُ هنا نحو : قَرَّدْتُ البعيرَ أي : أَزَلْتُ قُراده ، كذا هنا أي : أزالَ الفَزَعَ عنها.
وقرأ الحسن « فُزِعَ » مبنياً للمفعول مخففاً كقولِك : ذُهِب بزيدٍ.
والحسن أيضاً وقتادة ومجاهد « فَرَّغَ » مبنياً للفاعل من الفراغ . وعن الحسن أيضاً تخفيفُ الراء . وعنه أيضاً وعن ابنِ عُمَر وقتادة مشددَ الراءِ مبنياً للمفعول.
والفَراغُ : الفَناء والمعنى : حتى إذا أَفْنى اللّه الوَجَلَ انتفى بنفسِه ، نُفِي الوَجَلُ والخوفُ عن قلوبهم فلمَّا بُني للمفعولِ قام الجارُّ مَقامَه . وقرأ ابن مسعود وابن عمر « افْرُنْقِعَ » من الافْرِنْقاع . وهو التفرُّقُ . قال الزمخشري : « والكلمةُ مركبةٌ مِنْ حروف المفارقة مع زيادة العين ، كما رُكِّب » اقْمَطَرَّ « من حروفِ القَمْطِ مع زيادة الراء » . قال الشيخ : « فإنْ عَنَى أنَّ العينَ من حروفِ الزيادة ، وكذا الراء ، وهو ظاهرُ كلامِه فليس بصحيحٍ؛ لأنَّ العين والراءَ ليسا مِنْ حروف الزيادةِ . وإنْ عنى أنَّ الكلمة فيها حروفُ ما ذُكِر ، وزائداً إلى ذلك العينُ والراءُ ، والمادةُ فَرْقَعَ وقَمْطَر فهو صحيحٌ » انتهى . وهذه قراءةٌ مخالِفَةٌ للسَّواد ، ومع ذلك هي لفظةٌ غريبةٌ ثقيلةُ اللفظِ ، نَصَّ أهلُ البيانِ عليها وَمثَّلوا بها . وحَكَوْا عن عيسى بنِ عمر أنه غُشِيَ عليه ذاتَ يومٍ فاجتمع عليه النَّظَّارَةُ فلمَّا أفاق قال : « أراكم تَكَأْكَأْتُمْ عليَّ تَكَأْكُؤَكم على ذي جِنَّةٍ افرَنْقِعوا عني » أي : اجتمعتُمْ عليَّ اجتماعَكم على المجنونِ تَفَرَّقوا عني ، فعابَها الناسُ عليه ، حيث استعمل مثلَ هذه الألفاظِ الثقيلةِ المستغربةِ.
وقرأ ابن أبي عبلة « الحقُّ » بالرفع على أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : قالوا قولُه الحقُّ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
و (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦)
معنى يفتح : يحكم ، وكذلك الفتاح : الحاكم.
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ - : (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللّه الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)
ألحقتموهم به ، ولكنه حذف لأنه في صلة الذين.
وقوله (كَلَّا بَلْ هُوَ اللّه الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
معنى (كَلَّا) رَدْعٌ وتنبيه ، ارْتَدِعُوا عَنْ هذَا القولِ وَتَنبَّهُوا
عَن ضَلاَلِتكُمْ ، بل هو اللّه الواحد الذي ليس كمثله شيء.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢٨)
معنى كافَة الإحاطَةُ في اللغة ، والمعنى أرسلناك جامعاً للناس
في الإنذار والإبلاغ ، فاَرْسَلَ اللّه النبي - صلى اللّه عليه وسلم - إلى العرب والعجم ، وقال : أَنا سَابِق العَرَبِ إلى الإسلام ، وَصُهَيْبٌ سابق الروم وبلال سابق الحبشة وسلمانُ سابق الفرس ، أي الرسالة عامة ، والسابقون من العجَم
هؤلاء.
* * *
و (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١)
يعنون لا نؤمن بما أتى به محمد - صلى اللّه عليه وسلم - ولا بالكتب المتقدِّمَةِ.
* * *
و (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللّه وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣)
(بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ).
معناه بل مكركم في الليل والنهار.
(وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا) أشْبَاهاً.
(وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ).
أَسَروها بينهم . أقبل بعضهم يَلُوم بَعْضاً ، ويُعرِّف بعضهم بَعْضاً
الندامَةَ.
* *
(وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٣٤)
مُتْرَفُوها أُولو التُّرْفَةِ وهم رؤُساؤها وقادة الشَرِّ وَيَتبعُهُمْ السِّفْلَةُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (٣٧)
ولم يقل باللتَين ولا باللذَيْنِ ولا باللاتِي ، وكل ذلك جائز ، ولكن
الذِي في المصحف التِي ، والمعنى وما أَمْوَالكم بالتي تقربكم ولا
أَوْلَادُكم بالذين يُقَرَبُونكم ولكنه حُذِفَ اختصاراً وإيجَازاً.
وقد شرحنا مثل هذا.
وقوله (إلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً).
موضع " مَنْ " نصب بالاستثناء على البدل من الكاف والميم.
على معنى ما يُقَربُ إلا مَنْ آمَنَ وَعَمِل صَالحاً ، أي ما تُقَربُ الأموالُ إلا
مَنْ آمن وعمل بها في طاعة اللّه.
(فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا).
الضعف ههنا يحتاج إلى تفسير ولا أَعْلَمُ أَحَداً فَسَّرَهُ تفسيراً بيِّناً.
وجزاء الضعف ههنا عشر حسنات ، تأويله فأولئِكَ لهم جَزاءُ الضعْفِ
الذي أَعْلَمْناكم مقدارهُ ، وهو (مَنْ جَاء بالحسنة فله عَشْرُ أمثالها)
فيه أوجُهُ في العَرَبيةِ ، فالذي قرئ به خفض الضعف بإضَافَةِ الجزاء
إليه ، ويجوز (فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ) على معنى فأولئك لهم الضعفُ
جزاءً ، في حال المجازاة ، ويجوز فأُولَئِكَ لهم جزاءً الضِعْفَ
على نصب الضعْف . ، فأُولَئِكَ لهم أَنْ نُجَازِيَهم الضعْفَ.
ويجوز رفع الضعف من جهتين :
على معنى فأُولَئِكَ لهم الضعْفُ عَلَىْ أن الضَعْفَ بدل من الجزاء ، فيكون مرفوعاً على إضمار هو ، فأُولَئِكَ لهم جزاء ، كأنَّه قال ما هو فقال : الضِعْفُ.
ويجوز النَصْبَ فِي الضعْفِ على مفعول ما لم يسم فاعله على معنى فأولئك لهم أن يجازَوُا الضعْفَ.
والقراءة من هذه الأوجه كلها خفض الضعف ورفع جزاء.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤)
يُعْنَى به مشركو العَربِ بمكةَ لَمْ يَكونُوا أَصْحابَ كُتُبٍ ولا بعث
بنبي قبل محمد - صلى اللّه عليه وسلم -.
* * *
(وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (٤٥)
أي عُشر الذي آتينا من قبلهم من القوة والقُدْرَةِ.
(فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ).
حذفت الياء ، فكيف كان نكيري ، لأنه آخر آيةٍ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للّه مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (٤٦)
أي أَعِظُكمْ بأن توحدْوا اللّه وأَنْ تَقولوا لا إله إلا اللّه مخلصاً
وقد قيل واحدة في الطاعة ، والطاعة تَتَضَمَّن التوحيدَ والِإخلاصَ .
: فأنا أعظكم بهذه الخصلة الواحدة أن تقُومُوا ، أي لأنْ تَقومُوا.
(أنْ تَقُومُوا للّه مَثْنَى وَفُرَادَى).
أي أعظكم بطاعة اللّه لأن تقومُوا للّه منفردين ومُجْتَمِعين.
(ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ).
ثم تتفكروا فتعلموا أن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - ما هو بمجنون كما تقولون ، والجِنَّة الجُنُونُ.
(إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ).
أي يُنْذِرُكم أنكم إنْ عَصَيْتُمْ لقيتم عذاباً شديداً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللّه وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧)
معناه ما سألتكم من أجر على الرسالة أُؤَدِّيها إليكم ، والقرآن
الذي أتيتكم به من عند اللّه - فهو لكم - وتأويله أني إنما أنذركم
وأُبَلِّغُكُمْ الرسالة ولستُ أَجُرُّ إلى نفسي عَرَضاً من أعراض الدنيا.
(إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللّه).
أي إنما أَطْلُب ثوابَ اللّه بتأدية الرسَالةِ ، والياء في " أجري " مُسَكنَة
وَمَفْتُوحةٌ والأجود الفتح لأنها اسم فيبنى على الفتح.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (٤٨)
بكسر الغين - ويجوز علامَ الغيوب بالنصْبِ ، فمن نَصَب فعَلام الغيوب صِفة
لِرَبِّي.
قل إن ربي علامَ الغيوب يقذف بالحق
ومن رفع " علامُ الغيوب " فعلى وجهين :
أحدهما أن يكون صِفةً على موضع أن ربي ، لأن تأويله قل ربي علَّامُ الغيوب يقذف بالحق ، وإنَّ مؤكدة .
ويجوز الرفع على البَدَلِ مِما في تَقذِف ، قل إن ربي يقذف هو بالحق
علامُ الغيوبِ ، ومعنى يقذف بالحق أي يأتي بالحق ويرمي بالحق ، كما
قال - جلَّ وعزَّ - : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ).
* * *
و (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (٤٩)
أي قل جاء أمر اللّه الذي هو الحق ، وما يُبْدِئ البَاطِلُ.
" ما " في موضع نصب على مَعْنى وأَيُّ شيءٍ يبدئ الباطِلُ وأيُّ شيءٍ يُعِيدُ.
والأجود أن يكون " ما " نفياً على معنى ما يبدئ الباطل وما يعيد.
والباطل . ههنا إبليس.
وما يعيد إبليس وما يفيد ، أي لا يخلق ولا يبعث.
واللّه - عزَّ وجلَّ - الخالقُ والباعث.
ويجوز أَنْ يكونَ البَاطِلُ صَاحِب البَاطِلِ وهو إبليس.
* * *
و (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (٥١)
هذا في وقت بَعْثِهم.
و (فَلَا فَوْتَ) أي فلا فوت لهم ، لا يمكنهم أن يَفُوتُوا.
(وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ)
في التفسير : من تحت أقدامهم.
ويجوز فَلَا فَوْتٌ ، ولا أعلم أحداً قَرَأَ بِهَا فإن لم تثبت بها روَايةٌ فَلَا تقرأنَّ بها ، فإن القراءة سُنَّةٌ.
* * *
و (وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٥٢)
(وَقَالُوا آمَنَّا) ، في الوقت الذي قال اللّه - جل وعلا فيه :
(لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ)
والتَنَاؤشُ التناوُل ، أي فكيف
لهم أن يتناولوا ما كان مبذولاً لهم وكان قريباً منهم ، فكيف يتناولونه
حين بَعُدَ عَنْهُمْ.
وَمَنْ هَمَزَ فقال : التَنَاؤشُ ، فلأن واو التناؤش مَضْمُومَة.
وكل واو مضمومة ضمَّتُها لازمة ، إن شئت أبْدَلْتَ منها همزة
وإن شِئْتَ لم تبدل نحو قولك أَدْوُر وتقاوُم ، وإن شئت قلت : أدؤر
وتَقَاؤم فهَمَزْتَ ، ويجوز أن يكون التنَاؤُش من النَّيِّش ، وهي الحركة
في إبطاء
فالمعنى من أين لهم أن يتحركوا فيما لا حيلة لهم فيه.
* * *
(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٥٣)
أي كانوا يرجمون ويرمون بالغيب ، وترجيمهم أنهم كانوا يظنون
أنهم لا يبعثون.
* * *
(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)
من الرجوع إلى الدنيا ، والإيمان.
(كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ).
أي بمن كان مذهبُه مَذْهَبَهُم.
(إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ).
فقد أعلمنا اللّه جلَّ وعزَّ أنه يُعذبُ عَلَى الشَّكِّ.
وقد قال قوم من الضلَّالِ أن - الشاكِّين لا شيء عليهم ، وهذا كفر ونقض للقرآن لأن اللّه - جلَّ وعزَّ - قال : (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧).