( مكية)
بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(طسم (١)
قد تقدم ما ذكر في هذا.
(تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢)
يقال : بأن الشيء وأَبانَ في مَعْنى واحِدٍ ويقال بَانَ الشيء.
وأَبَنْتُه أنا ، فمعنى مبين مبَينُ خَبْرِه وَبَرَكَتِهِ ، وَمُبينُ الحَق من الباطل
والحلال من الحرام.
ومبين أَن نُبوةَ النبي - صلى اللّه عليه وسلم - حق لأنه لاَ يَقْدرُ أَحَد
بِمِثْلِه ، ومبين قصص الأنبياء.
* * *
و (نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣)
أي من خبر موسى وخبر فرعونَ.
(لِقَوْم يؤمِنُونَ) معناه يُصَدقُونَ.
* * *
و (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤)
(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ)
مَعناه طَغَى
(وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا)
معنى شيع فرق ، أي جعل كل فرقة يُشيع بعضها بعضاً في
فِعْلِها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ).
معنى نسائهم ههنا أنه كان يستحيي بَنَاتِهِمْ ، وإنما كان يعمل
ذَلِكَ لأنه قال له بعضُ الكهنة إن مَوْلُوداً يُولَدَ في ذلك الحين يكونُ سَبَبَ
ذَهَاب ملْكِكَ ، فالعَجَبُ من حُمْقِ فَرْعَوْنَ ، إن كان الكاهن عنده صادقاً
فما ينفع القَتْلُ ، وإن كان كاذباً فما معنى القَتْل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (٥)
يعني بني إسرائيل الذين استضْعَفهم فرعونُ.
(وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً).
أي نجعلهم ولاة يُؤتَمُّ بِهِمْ.
(وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).
أي يرثون فرعون وملكه.
* * *
و (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (٦)
القراءة النَصبُ ، نُمَكَنَ ونُرِيَ.
وَيَجوزُ الرفع . . وَنُمكَنُ لَهُم في الأرْض وَنُرِي - بإسكان الياء ، فمن نَصَبَ عطف على نَمُنَّ ، فكان وأن نمكِنَ وَأَنْ نُرِيَ.
ومن رفع فعلى معنى ونَحْنُ نمكن.
وقُرِئَتْ : ويُرَى فِرْعَوْنُ وهامانُ وَجُنُودُهمَا ، فَيُرى يكونُ في مَوْضِع نَصْبٍ
على العطف على نُمَكِن ، ويجوز أَنْ يكون في موضع رفع على وسَيُرَى
فِرْعَونُ وهامان وجنودُهما.
* * *
و (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧)
قيل إن الوحيَ ههنا أَلقَاءُ اللّه في قلبها ، وما بعد هَذا يَدُلَ - واللّه أعلم -
أنه وَحْى من اللّه عز وجل على جهة الإعلام للضمَانِ لها.
(إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).
ويدل عليه (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ).
وقد قيل إن الوحي ههنا الإلهام ، وجائز أن يُلْقي اللّه في قلبها
أَنة مردود إليها وأنه يكون مرْسَلاً ، ولكن الِإعلام أَبْيَن في هذا أَعْني أن
يكون الوحي ههنا إعْلَاماً.
وأصل الوحى في اللغة كلها إعْلاَم في خِفْي ، فلذلك صار الِإلْهَامُ يُسمَّى وَحْياً.
و (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) اليمُ البَحْر.
* * *
وقوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (٨)
(وَحَزَنًا) ويجوز (وَحُزْنًا)، ومعنى (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا) أي ليصير الأمر إلَى ذَلِكَ
لا أنهم طلبوه وأَخذُوه لهذا كما تقول للذي كسب مالًا فَأدَّى ذلك إلى
الهَلَاكِ : إنما كسب فلان لِحَتْفِهِ ، وهو لم يَطْلُب المَالَ للحَتْف.
ومثله : فَلِلْمَوتِ ما تَلِدُ الوَالِدَةُ ، أي فهي لَمْ تَلِدْهُ طَلَباً أَنْ يَموتَ وَلَدُهَا
ولكن المصير إلى ذلك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٩)
رفع قُرةُ عَيْن على إضمار هو قرةُ عين لي ولك ، وهذا وقف
التمَامِ ، وَيَقْبُح رفْعُه علَى الابتداء وأن يكون الخبر (لا تَقْتُلوهُ) فيكون
كأنه قَدْ عَرَفَ أنه قرة عين له.
ويجوز رفعه على الابتداء عَلَى بُعْدٍ على معنى إذا كان قرة عين لي ولك فلا تَقْتُلْه ، ويجوز ُ النصْبُ
ولكن لا تقرأْ به لأنه لم ياتِ فيه روايةُ قراءة ، والنصبُ على معنى لا تَقْتُلُوا قُرةَ لي ولك لا تقتلوه ، كما تقول زيداً لَا تَضْرِبْهُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠)
أصبح فارغاً من كل شيء إلا مِن ذِكْرِ مُوسَى ، وقيل إلا
مِنَ الهمِّ بموسى والمعنى واحد.
(إن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ).
إن كادت لتظهَر أنه ابنُهَا.
وقد قُرِئَتْ فَرِغاً ، والأكثر فَارِغاً.
(لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا غَلَى قَلْبِهَا).
معناهْ لولا رَبْطُنَا على قَلْبها ، والربط على القلب إلْهَامُ الصبْرِ
وتشديدُه وتَقْوِيتُهُ.
* * *
و (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١١)
بمعنى اتْبعي أَثَرَهُ.
* * *
(فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ).
معناه فاتْبَعَتْهُ ، فَبصُرَت به عن جُنُبٍ أي عن بعد تُبْصِرُ ولا تُوهِمُ
أنها تراه ، يقال : بَصُرْتُ بِهِ جُنُبٍ وَعَنْ جَنَابَةٍ إذَا نَظَرتْ إلَيْهِ عن
بُعْدٍ.
قال الشاعِرُ :
فلا تَحْرِمَنِّي نائِلاً عن جَنابةٍ . . . فإِني امْرُؤٌ وَسْطَ القِبابِ
أي لاتحرمني نائلاً عَنْ - بُعْدٍ ، وإن كنت بعيداً مِنكَ .
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (١٢)
معناه من قبل أن نَرُدهُ على أُمه ، وكان موسى لم يأخُذْ من ثَدْي.
أي لم يرضع من ثَدْي إلى أَنْ رُدَّ إلى أُمه فرضع منها ، وهذا معنى
(وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ).
(فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ).
أي فقالت أخت موسى عليه السلام لما تَعذرَ عَلَيْهِمْ رَضَاعُه :
(فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ).
فلما سمعوا قولها : (وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ).
قالوا : قد عَرَفْتِ أَهْلَ هَذا الغُلام - بقولك وهُمْ لَه ناصحون ، فقال عَنَيتُ
" هم له " هم للمَلِك نَاصِحُونَ ، فَدَلَّتْهم على أُمِّ مُوسَى ، فَدُفع إليها تربِّيه لهم فِي حِسَابِهِمْ.
* * *
و (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣)
يعني ما وعدت به مما أُوحِيَ إليها من (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).
واستقر عندها أَنه سيكون نبياً.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤)
قيل الأشَد بِضع وثلاثون سنة . وهو ما بين ثلاث وثلاثين إلى تسع
وثلاثين.
وتأويل (بَلَغَ أَشُدَّهُ) استكمل نهاية قوةِ الرجُل
وقيل إن معنى واسْتَوَى - بلغ الأرْبَعين.
وجائز أن يكون " اسْتوى " وَصَل حقيقة بلوغ الأشُدِّ .
و (آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا).
فَعَلِمَ مُوسَى عليه السلام وحكم قبل أَنْ يُبْعَثَ.
(وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).
فجعل اللّه إتيان العلم والحكمة مجازاة على الإحْسَان لأنهمَا
يَؤدِّيانِ إلى الجنةِ التي هي جزاء المحسنِين ، والعالم الحكيمُ مَن
استعمل عِلْمَه ، لأن اللّه - عزَّ وجلَّ - قال : (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
فجعلهم إذ لم يَعْملوا بالعلم جُهَّالاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥)
جاء في التفسير أنه دخلها وقت القائلة ، وهو انتصاف النَّهَار
و (هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ).
هذا موضع فيه لطف ، وذلك أَنه قيلَ في الغائِب " هذا " والمعنى
وَجَد فيها رَجُلَيْن أَحَدهمَا مِنْ شِيعَتِهِ وأَحدهما مِنْ عَدُوِّهِ.
وقيل فيهما هذا وهذا على جهة الحكاية للحضرة ، أي فوجد فيها رَجليْنِ إذا نظر إليهما الناظِرُ قال هذا من شيعته وهذا مِنْ عَدُوِّهِ.
(فَاسْتَغَاثَه الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ).
أي استنصره ، والذي مِنْ شِيعَتِهِ من بني إسرائيل ، والذي من
عَدُوه من أصحاب فرعون.
وجاء في التفسير أن فرعون كان رجلاً من أهل اصطخر ، ويقال إن الرجل الذي هو من عدوه رجل من القِبْطِ ، وقيل أيضاً من أهل اصْطَخْرٍ .
(فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضى عَلَيْهِ).
أي فقَتلهُ ، والوَكْزُ أَنْ تَضْرِبَ بِجُمع كَفِّكَ ، وقد قيل وكزه
بالعصا.
و (قَالَ هذَا مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ).
يدل أن قتله إياه كان خطأ وأنه لم يكن أُمِرَ " موسى " بقَتْل.
ولا قِتالٍ.
(قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦)
* * *
و (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨)
أي يستغيث به ، والاستصْراخُ الِإغَاثةُ والاسْتِنْصَارُ.
(قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ).
* * *
و (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩)
وتقرأ يَبْطُشُ . - واللّه أعلم - فلما أَرَادَ المُسْتَصْرِخ أَنْ
يَبْطِشَ مُوسَى بالذي هو عَدُوٌّ لَ@هما ، ولم يفعل موسى ، قَالَ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ.
(قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ).
فأفشى على مُوسَى عليه السلام.
ويقال إنَّ من قتل اثنين فهو جَبَّارٌ ، والجبار في اللغة المتعظم الذي لا يتواضع لأمْرِ اللّه ، فالقاتِل مؤمِناً جَبَّارٌ ، وكل قاتل فَهُوَ جَبَّارٌ.
قتل واحداً جماعة ظُلْماً.
* * *
و (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠)
يقال إنه مؤمن آل فِرْعَونَ ، وإنَهُ كان نَجَّاراً ، ومعنى يَسْعَى يَعْدُو.
(قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ).
الملأ أشراف القوم ، والمنظورُ إليهم ، ومعنى يأتمرون بك يأمر
بعضهم بعضاً بقتلك.
(فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ).
أي فاخرج من المدينة ، وقوله " لك " ليست من صلة الئاصِحِينَ
لأن الصلة لا تقدم على الموصول ، والمعنى في قوله " إني لك " أنها
مُبينَة كأنَّه قال إني من الناصحين ينصحون لك ، والكلام نصحت لك.
وهو أكْثَرُ من نَصْحُتُكَ.
* * *
و (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١)
أي يرقمبُ أن يلحقه فَيْ يَقْتُله ، وينظر الآثار.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
يعني من قوم فرعون.
* * *
و (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (٢٢)
" مَدْيَن " مَاء كان لقوم شعيب يقال إن بيْنَهُ وبيْنَ مِصْرَ مَسِيرَةُ ثَمانية
أيام ، كما بين البصرة والكوفة ، وكان موسى عليه السلام خرج مِنْ
مِصْرَ ومعنى تلقاء مَدْيَن ، أي سَلك في الطريق التي تلقاء مَدْيَنَ فيها.
(قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ).
السبيل الطريق ، ْ وسواء السبيل قصد الطريق في الاستواء .
(وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣)
مَدْيَن في موضع خفض ، ولكنه لا ينصرف لأنه اسم للبقعة.
(وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ).
أمة جماعة.
(وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ).
أي تذودان غَنَمَهُمَا عن أَنْ يَقْرُبَ موضع الماء ، لأنها يَطْردُهَا عن
الماء من هو على السَّقي أقوى مِنْهُمَا . .
(قَالَ ما خَطْبُكُمَا).
أَي مَا أَمْرُكما ، معناه مَا تَخْطُبان ، أي ما تُريدَانِ بِذَوْدِكُمَا غَنَمكُمَا
عن الماء.
(قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى [يَصْدُرَ] الرِّعَاءُ).
وقرئت (حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) - بضم الياء وكسر الدال - أي لا نَقْدِرُ
أن نسقي حتى تَرُدَّ الرعاةُ غَنَمَهُمْ وَقَد شَرِبَتْ فيخلو الموضع فَنَسْقي.
فَمن قرأ (يَصْدُر) بضم الدال فمعناه حتى يرجعَ الرعاءُ ، والرعاء جمعُ
راع ، كما يقال صاحب وصحاب.
و (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ).
الفائدة في (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ). أي لا يمكنه أَن يَرِدَ ، وَيَسْقي.
فلذلك احتجنا ونحن نِسَاءٌ أَنْ نسقيَ.
(فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤)
أي فسقى لهما من قَبْلِ الوَقْتِ الذي كانتا تسقيان فيه ، ويُقَال إنَّهُ
رَفع حجَراً عن البِئْرِ كان لا يرفعه إلا عَشَرةُ أَنْفُس.
وقيل إن مُوسى كان في ذلك الوقت من الفقر لا يقدر على شَقِّ تمرةٍ.
* * *
و (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥)
فلما شَرِبَتْ غنمهما رَجَعَتَا إلى أَبِيهمَا فأخبرتاه خبر
مًوسَى وَسَقْيه غَنَمَهمَا ، وجاءتاه قبل وقتهما شاربةً غَنمُهُمَا ، فوجَّهَ
بإحْداهُما تَدْعُو مًوسَى فجاءته (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ).
جَاءَ في التفسير أنها ليست بخرَّاجَةٍ مِنَ النِّسَاءِ ولا ولَّاجَةٍ ، أي تمشي مَشْيَ مَنْ لم تَعْتَدِ الدخول والخروج مُتَخَفِّرَةً مستحيية.
(قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا).
فأجابها فمضى معها إلى أبيها.
(فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ).
أي قصَّ عليهِ قِصتهُ في قتلهِ الرجُلَ ، وأنهم يطلبونه ليقتلوه.
(قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
وذلك أنَّ القوم لم يكونوا في مملكة فِرْعَونَ ، فأعلم شعيبٌ موسى
أنَّه قد تَخَلَّصَ من الخوف ، وأنه لا يقدر عليه - أعني بالقوم قوم مَدْينَ
الذين كان فيهم أبو المرأتين.
وقال في التفسير إنه كان ابن أخي شعيب النبيِّ عليه السلام.
* * *
(قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦)
أي اتخذه أجيراً .
(إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).
أي إن خير من اسْتَعْمَلْتَ مَنْ قَوِيَ على عملك وأَدى الأمانَةَ فيه.
وإنما قالت (الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) فَوَصَفَتْه بالقوة لِسَقْيِهِ غنمها بِقوة وشدة.
وقيل لقوته على رفع الحجر الذي كان لا يُقِلُّه أقل من عَشَرةِ أَنفس.
وقد قيل إنه كان لا يقله أقل من أرْبعين نَفْساً.
فأَما وصفها له بالأمَانَةِ فقيل إن مُوسَى لما صار معها إلى أبيها تقدم أَمَامَهَا وأَمَرهَا أن تكون خلفه ، وَتَدُلَّه على الطريق ، وخاف إذا كانت بين يديه أَنْ تُصِيبَ مَلْحَفَتَها الريحُ فيتبيَّن وصفها ، فذلك ما عرفته من أمانته.
* * *
و (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللّه مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)
معنى أُنْكِحُكَ أُزَوِّجُكَ.
(عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ).
أي تكون أجيراً لي ثماني سنين.
(فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ).
أي فذلك بفضل - منك ليس بِوَاجِبٍ عَلَيْكَ.
* * *
(قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللّه عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨)
أي ذلك الذي وَصَفْتَ لِي بيني وبينك ، ومعناه ، ما شَرَطْتَ عَلَى
فلك وما شرطت لي فلي ، كذَلك الأمَرُ بَيْنَنَا ، ثم قال :
(أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ).
والعُدْوَانُ المجاوزة في الظلم ، وعُدْوَانٌ منصوبٌ بـ (لَا)
ولو قُرئَتْ فَلَا عُدْوَانٌ في لجاز من جهتين
إحْداهما أَنْ تَكونَ (لا) رافعة كَلَيْسَ
كما قال الشاعرِ :
مَن صَدَّ عن نِيرانِها . . . فأنا ابن قيس لاَ بَراحُ
ويجوز أن يكون " عُدْوَانُ " رَفْعاً بالابتداء و" عَلَيَّ " الخبرُ.
و " لا " نافية غير عَامِلةٍ ، كما تقول لَا زَيْد أَخُوكَ وَلاَعَمْرو.
و "أي " هي في موضع الجزاء مَنْصُوبةْ بِـ (قَضيْتُ).
وجواب الجزاء (فَلا عُدْوَانَ) ، و " ما " زائدة مؤكدة.
والمعنى أي الأجلين قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ (١).
و (وَاللّه عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ).
أي واللّه عَز وَجَل شَاهِدُنا على ما عَقَدَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْض.
* * *
و (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩)
يُروَى أنه قغسى أتئم الأجَلَيْنِ ، وهو عَشْرُ سِنِين.
و (آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطورِ نَاراً).
آنس علم وأبصر ، يقال : قد آنست ذلك الشخص أي أَبْصَرْته.
(قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ).
أي لعلي أْعلم لِمَ أُوقِدَتْ.
( جِذْوَةٍ مِنَ النَّارِ).
الجذوة القطعهة الغليظة من الحطب.
ويقرأ : جُذوة بالضَم ، ويقال جَذْوة بالفتح.
فيها ثلاث لغات (٢).
* * *
و (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللّه رَبُّ الْعَالَمِينَ (٣٠)
__________
(١) قال السَّمين :
ذَلِكَ : مبتدأٌ . والإِشارةُ به إلى ما تعاقَدَا عليه ، والظرفُ خبرُه . وأُضِيْفَتْ « بين » لمفردٍ لتكررِها عطفاً بالواوِ . ولو قلتَ : « المالُ بين زيدٍ فعمرٍو » لم يَجُزْ . فأمَّا
. . . . . . . . . . . . . . . . . بين الدَّخولِ فَحَوْمَلِ
فكان الأصمعيُّ يَأْباها ويَرْوي « وحَوْمَلِ » بالواو . والصحيحُ بالفاءِ ، وأوَّلَ البيتَ على : « الدَّخولِ وَحَوْمَلِ » مكانان كلٌّ منهما مشتملٌ على أماكنَ ، نحو قولِك : « داري بين مصرَ » لأنه به المكانُ الجامع . والأصل : ذلك بَيْنَنا ، ففرَّق بالعطف.
أَيَّمَا الأجلين « أيّ » شرطيةٌ . وجوابُها « فلا عُدْوانَ » عليَّ . وفي « ما » هذه قولان ، أشهرُهما : أنها زائدةٌ كزيادتِها في أخواتِها مِنْ أدواتِ الشرط . و
الثاني : أنها نكرةٌ . والأَجَلَيْن بدلٌ منها . وقرأ الحسن وأبو عمرٍو في رواية « أَيْما » بتخفيفِ الياءِ ، ك
تَنَظَّرْتُ نَصْراً والسِّماكَيْنِ أَيْهُما . . . عليَّ من الغَيْثِ اسْتَهَلَّتْ مواطِرُهْ
وقرأ عبد اللّه « أَيَّ الأَجَلَيْنِ ما قَضَيْتُ » بإقحام « ما » بين « الأجلين » و « قَضَيْتُ » . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : ما الفرقُ بين موقعَيْ زيادةِ » ما « في القراءتين؟ قلت : وقعَتْ في المستفيضة مؤكِّدةً لإِبهامِ » أيّ « زائدةً في شِياعِها ، وفي الشاذَّة تأكيداً للقضاءِ كأنه قال : أيَّ الأجلين صَمَّمْتُ على قضائه ، وجَرَّدْت عَزيمتي له ».
وقرأ أبو حيوةَ وابنُ قطيب « عِدْوان » . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : تَصَوُّرُ العُدْوان إنما هو في أحد الأجلَيْن الذي هو أقصرُهما ، وهو المطالبةُ بتتمَّة العَشْر ، فما معنى تعلُّقِ العُدْوانِ بهما جميعاً؟ قلت : معناه كما أنِّي إنْ طُوْلِبْتُ بالزيادةِ على العشر [ كان عدواناً ] لا شك فيه ، فكذلك إنْ طولِبْتُ بالزيادةِ على الثمان . أراد بذلك تقريرَ ِأمرِ الخِيارِ ، وأنه ثابتٌ مستقرٌّ ، وأن الأجلَيْنِ على السَّواء : إمَّا هذا وإمَّا هذا » . ثم قال : « وقيل : معناه : فلا أكونُ متعدياً . وهو في نَفْي العدوان عن نفسه كقولِك : لا إثمَ علي ولا تَبِعَةَ » . قال الشيخ : « وجوابُه الأولُ فيه تكثيرٌ » . قلتُ : كأنه أعجبه الثاني ، والثاني لم يَرْتَضِه الزمخشريُّ؛ لأنه ليس جواباً في الحقيقة؛ فإن السؤالَ باقٍ أيضاً . وكذلك نَقَلَه عن غيره.
وقال المبرد : « وقد عَلِم أنه لا عُدْوانَ عليه في أتَمِّهما ، ولكنْ جَمَعَهما ليجعلَ الأولَ كالأَتَمِّ في الوفاء ». اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين :
جَذْوَةٍ : قرأ حمزة بضم الجيم . وعاصم بالفتح . والباقون بالكسرِ . وهي لغاتٌ في العُود الذي في رأسِه نارٌ ، هذا هو المشهورُ . قال السُّلمي :
حمى حُبِّ هذي النارِ حُبُّ خليلتي . . . وحُبُّ الغواني فهو دونَ الحُباحُبِ
وبُدِّلْتُ بعد المِسْكِ والبانِ شِقْوةً . . . دخانَ الجُذا في رأسِ أشمطَ شاحبِ
وقيَّده بعضُهم فقال : في رأسِه نارٌ مِنْ غيرِ لَهَبٍ . قال ابن مقبل :
باتَتْ حواطِبُ ليلى يَلْتَمِسْنَ لها . . . جَزْلَ الجُذا غَيرَ خَوَّارٍ ولا دَعِرِ
الخَوَّارُ : الذي يتقصَّفُ . والدَّعِرُ : الذي فيه لَهَبٌ ، وقد وَرَدَ ما يقتضي وجودَ اللّهبِ فيه . قال الشاعر :
٣٦٠٣ وأَلْقَى على قَبْسٍ من النارِ جَذْوةً . . . شديداً عليها حَمْيُها والتهابُها
وقيل : الجَذْوَة : العُوْدُ الغليظُ سواءً كان في رأسه نارٌ أم لم يكنْ ، وليس المرادُ هنا إلاَّ ما في رأسِه نارٌ.
مِّنَ النار صفةٌ ل جَذْوَةٍ ، ولا يجوزُ تَعَلُّقها ب « آتِيْكُمْ » كما تَعَلَّق به « منها »؛ لأنَّ هذه النارَ ليسَتْ النارَ المذكورةَ ، والعربُ إذا تقدَّمَتْ نكرةٌ وأرادَتْ إعادَتَها أعادَتْها مضمرةً ، معرَّفَةً ب أل العهديةِ ، وقد جُمِع الأمران هنا.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
سُمَيتْ مباركة لأن اللّه كلم موسى فيها ، وبعثه نبيًّا ، ويقال بُقعَة
وبَقْعة بالضم والفَتْح.
وقد قرئ بهما جميعاً ، فمن جمع بِقاعاً فهي جمع بَقْعَةٍ بالفتح ، مثل قَصْعَة وقِصَاع ، ومن قال بُقْعة - بالضم -
فأجود الجمع بُقَع مثل غُرفة وغُرَف ، وقد يجوز في بُقْعة بقاع مثل حُفْرَة
وحِفَار.
و (أَنْ يَا مُوسَى).
(أن) في موضع نصب نُودي بأنه يَا مُوسَى
وكذلك (وَأنْ ألْقِ عَصَاكَ) عطفٌ عليها.
* * *
(وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١)
(فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ)
معناه لم يَلْتَفِتْ.
و (أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ).
أي قد آمنت من أن ينالَك منها مكروه وهي حيَّة.
* * *
(اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (٣٢)
أي من غَيْر بَرَص.
(وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ).
والرُّهْبِ جميعاً ومعناهُمَا واحد ، مثل الرُّشد والرَّشَدِ.
والمعنى في جناحك ههنا هو العَضُد ، ويقال اليد كلها جناح.
و (فَذانِكَ بُرْهَانَانِ).
تقرأ بتخفيف النون وتشديدها - فَذَانِّكَ - فكأن فَذَانِّكَ تَثْنِيةُ ذَلِكَ
وذانِك تثنية ذَاكَ جعل بدل اللام في ذلك تشديد النُونِ في ذَانِكَ
وبرهانان آيَتَانِ بَيِّنَتَان .
(إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ).
أي أرسلناك إلى فرعون وَمَلَئِهِ بهاتين الآيتَين.
* * *
و (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤)
(فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي).
ويُصَدِّقْنِي - بالرفع والجزم - قرئ بهما جميعاً ، فمن قَرأَ
يُصَدِّقُنِي بضم القاف فهو صفة قوله (رِدْءًا) - والردء العَوْنُ ، تقول
رَدَأْتهُ أَردؤه رَدْءا ، إذا أعنته ، والردْءُ المُعينُ.
ومن جزم (يُصَدِّقْنِي) فعلى جواب المسألة ، أرسله يُصَدَقْنِي ، ومن رفع يصدقني فالمعنى رِدْءاً مصَدِّقاً لِيَ.
* * *
و (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (٣٥)
أي سنعينك بأخيكَ ، ولفظ العضُدِ على جهة المثل ، لأن اليد
قوامُها عَضُدُهَا ، فكل مُعِينٍ عَضُدٌ.
وتقول قد عاضَدَنِي فلان على الأمر أي عاونني.
و (وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا).
أي حجة نَيرَةً بَينَةً ، وإنما قيل للزيت السليط لأنه يستضاء به.
فالسلطان أبْيَنُ الحجَجِ.
و (فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا).
أي بسلطاننا وحجتنا.
فـ (بآياتنا) مِنْ صِلَة (يَصِلُونَ) كأنه قال : لَا يَصلُونَ
إليكما ، تَمتَنعَانِ منهم بِآيَاتِنَا.
وجائز أن يكون " بآياتنا " متصا ، بنجعل لكما سْلطانا بآياتنا ، أى حجة تدلُّ عَلى النّبوةِ بآياتنا ، أي بالعَصَا واليَدِ ، وسائر الآيات
التي أعطي مُوسَى - صلى اللّه عليه وسلم -.
ويجوز أن يكوتَ بِآيَاتِنَا مبَيناً عن (أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ).
أي تغلبون بآياتنا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦)
لم يأتوا بحجة يدفعون بها مَا ظَهَرَ مِنَ الآيَاتِ إلا أن قالوا إنها
سحْرٌ فلما جُمِعَ السَّحَرةُ بينوا أَنَ آيات موسى عليه السلام ليست
بسحر ، فغلَبَ موسى بآيات اللّه وبحجته كما قال عزَّ وجلَّ به.
* * *
و (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٣٨)
(فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ)
أي اعمل آجرًّا ، ويقال إنَّ فرعونَ أولُ من عَمِلَ الآجرَّ.
(فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا).
والصرح كل بناء متسع مرتفع
و (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى).
وظنَّ فرعونُ أنه يتهيأ له أَنْ يبلغ بصرحه نحو السماء فَيَرَى السماءَ
وَمَا فِيها.
(وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ).
الظًنُ في اللغَةِ ضَربٌ يكون شَكا ويَقِيناً . - وقول فِرْعَوْنَ : وإني
لأظُنُه اعتراف بأنه شاو ، وأنَّه لم يتيقَن أَنَ موسى كاذِب ، ففي هذا
بيان أنه قد كفر بموسى على غير يقين أَنَه ليس بِنَبِيٍّ ، وقد وَقَعَ في نفسه
أنه نبيٌّ لأن الآيات التي هي النبوة لا يجْهَلها ذو فطرة ، وقوله في غير
هذا الموضع : (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ). دليل على أنه قد ألزَمَ فرعونَ الحجةَ القَاطِعَةَ .
و (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠)
اليَمُّ : البحرُ وهو الذي يقال له " إيسَاف " وهو الذي غرق فيه
فِرعَوْنُ وجنوده بناحية مصر.
* * *
و (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (٤١)
أي من اتبعهم فهو في النار.
(وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ)
أي لا نَاصِرَ لَهُمْ ولا عَاصِمَ من عذاب اللّه.
* * *
و (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣)
فكان خاتَمَة إهْلَاكِ القُرون بالعَذَاب في الدُّنْيَا أن جعل المُكَذِبِينَ
بِمُوسَى الذين عَدَوْا في السبِت قِرَدةً خاسِئينَ عند تكذيبهم بِمُوسَى
عليه السلاَمُ.
و (بَصَائِرَ لِلنَّاسِ).
أي مُبَيناً للناس ، ولقد آتينا موسى الكتاب بصائر للناسِ
أي هذه حال إيتائِنَا إياهُ الكتاب مُبَيناً نُبَينهُ للناس.
(وهدى ورحمةً) عطف على (بصائِر) ، ولو قرئت بالرفع على معنى فهو هُدى ورحمة جَازَ والنصب أجود ولا أعلم أَحَدأ قرأ بالرفع - فلا تقرَأنَّ بها.
* * *
و (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤)
أي وما كنت بجانبِ الجبل الغربي.
(وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥)
أَي مَاكنتَ مُقِيماً في أهلِ مَدْيَنَ.
* * *
(وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦)
يَعْنِي نادينا مُوسَى.
(وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ).
إنك لم تشاهد قَصَصَ الأنبياء ، ولا تُلِيَتْ عَلَيْكَ ، ولكن
أَوْحَيناها إليك ، وقصَصْنَاها عليك رحمةً مِنْ رَبِّكِ لتنذِر قوماً ، أي
لتعرفهمُ قَصَصَ مَن أُهْلِكَ بِالعَذَابِ ومن فاز بالثواب.
ولو قرئت " ولكنْ رحمةٌ " لكان جائزاً على معنى ولكنْ فِعلُ ذلك رَحْمة من رَِّك ، والنصْبُ على معنى فعلنا ذلك للرحمة ، كما تقول : فعلت ذلك ابتغاء الخَيْر ، أي فعلته لابتغاء الخَيْر ، فهو مفعول له.
* * *
و (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)
أي لولا ذلك لم يحتج إلى إرْسَالِ الرسُل ، ومواترة الاحْتجاج.
* * *
و (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (٤٨)
أي فلما جاءتهم الحجة القَاطِعةُ التي كان يجوز أَنْ يَعْتَلُّوا
بتأخرِهَا عنهم.
(قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى).
: هلَّا أوتي مُحمدٌ مثلَ ماَ أوتي موسى ، صلى اللّه عَلَيْهِمَا من أمر العصا والحية وانفلاق البحر ، وسائر الآيات التي أَتَى بِهَا مُوسَى ، فقد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمدٍ عليهما السلام.
(قَالُوا [سَاحْرَانِ] تَظَاهَرَا).
أي تعاونا.
جاء في التفسير أنهم عَنَوْا موسى وهارون.
وقالوا عَنَوْا موسى وعيسى ، وقيل عَنَوْا موسى ومحمًداً عليهما السلام.
وقرئ (سِحْرَانِ تَظَاهَرَا) يَعْنونَ كتَابَيْنِ ، فقالوا : الإنجيل والقرآن ، ودليل مَن
قرأ (سِحْران) (قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللّه هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا).
وهذا لا يمنع سَاحِران ، لأن يصيرُ : قل فأتوا بكتاب من
عِنْد اللّه هُوَ أَهْدَى مِنْ كِتَابَيهِمَا.
* * *
و (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللّه إِنَّ اللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠)
فاعلم أن مَا ركبُوه من الكفر لا حجَّةَ لَهُم فِيه ، وإنما آثروا فِيه
الهَوَى وقد علموا أنه هو الحق.
* * *
(وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١)
أي فصَّلْنَاه بأن فصَّلْنا ذكر الأنبياء وَأَقَاصِيصَهُمْ ، وأقاصيص مَنْ
مَضَى ، بعضها بِبَعْض.
(لَعَلَّهُمْ يَتَذَكرُونَ) أي لَعَلًهُمْ يَعْتَبِرْونَ.
* * *
و (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
جاء في التفسير أن هؤلاء طائفة من أهل الكتاب كانُوا يَأخُذون به
وينتهون إلَيْهِ ويقفون عندَهُ.
كانوا يحكمون بحكم اللّه ، بالكتاب الذي أُنْزِلَ قَبل القرآن.
فلما بُعِثَ مُحمًدٌ - صلى اللّه عليه وسلم - وتلا عليهم القرآنَ قَالُوا آمَنَا بِهِ
إنه الحَق مِنْ رَبِّنَا.
وذلك أَنّ ذكَرَ محمد - صلى اللّه عليه وسلم - كان مكْتُوباً عندهم في التوراة والإنجيل ، فلم يعانده هؤلاء وآمَنُوا وَصَدقُوا ، فأثنى اللّه عليهم خيراً
وقال :
(أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤)
أي يؤتون أجرهم بإيمانهم بالكتاب الذي مِنْ قبلِ محمد - صلى اللّه عليه وسلم -.
و (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) بالِإيمان بمحمد - صلى اللّه عليه وسلم - والقرآن.
(وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ).
معنى (وَيَدْرَءُونَ) يدفعون - بما يعلمون من الحسنات - ما تَقَدم لهم
من السَيِّئاتِ.
(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) أيْ يَتَصَدقون.
* * *
(وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (٥٥)
أي إذا سمعوا ما لا يجوز وينبغي أن يلغَى لم يلتفتوا إليه.
(وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ).
ليس يريدون بقولهم ههنا سلام عليكم التحيَّة.
فيه أعرضوا عنه وقالوا سلام عليكم ، أي بيننا وبينكم المتَاركةُ والتسَلمُ.
وهذا قبل أن يؤمَرَ المُسْلِمُون بالقِتَالِ.
* * *
و (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللّه يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦)
أجمع المفسرون أنها نزلت في أَبِي طَالِبِ ، وجائز أن يكون
ابتداء نزولها في أبي طَالِبِ وهي عامَّةٌ ، لأنه لاَ يهدي إلا اللّه ، وَلَا
يُرْشِدُ ولا يوفق إلا هو ، وكذلكَ هو يُضِلُّ من يشاء.
* * *
(وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٥٧)
كانوا قالوا للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - إنا نعلم أن ما أتيت به حَق ، ولكنا نكره إنْ آمَنَّا بِكَ
أن نُقْصَدَ ونُتَخَطَّفَ منْ أرْضِنَا فأعلمهم اللّه أنه قَدْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بأن آمنهم
بمكَةَ ، فَأعْلَمَهم أن قد آمَنَهمْ بحرمَةِ البَيْتِ ، ومنع منهم العَذو أي فلو آمنوا
لكان أولى بالتمكن والأمن والسَّلَامَةِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (٥٩)
يعني بأمِّها مَكًةَ ، ولم يكن ليهْلكَهَا إلا بظلِمْ أهْلِهَا.
* * *
(أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١)
يعني المؤمِن والكافِر ، فالمؤمِن من آمن باللّه ورسوله وأطاعه
ووقف عند أَمْرِه فَلُقِيَه جزاءَ ذَلِكَ ، وهو الجنَّة ، والذي مُتِّعَ متاعَ الحياة
الدنيا كافرُ . لم يُؤْمِنْ باللّه ثم أُحْضِرَ يوم القيامَةِْ العَذَابَ وذلك قوله عز
وجل : (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ).
وجاء في التفسير أن هذه الآية نَزَلَتْ في محمد - صلى اللّه عليه وسلم - وأبي جَهْل ابْنِ هِشَام فالنبي - صلى اللّه عليه وسلم - وُعِدَ وَعْداً حسناً فَهو لاَقِيه في الدنيا بأنه نُصِرَ على عَدوِّهِ في الدنيا ، وهو في الآخرة في أعلى المراتب من الجنة ، وأبو جهل من المُحْضَرِينَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا).
(مَعِيشَتَهَا) مَنْصوبَةٌ بإسقاط في وَعَمَل الفِعْل.
وتأويله بطرت في مَعِيشَتِها والبطرُ الطغيانُ بالنِعْمَةِ .
و (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢)
أي يوم ينادي الإنس . وسماهم " شركائي " على حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ.
أين شركائي في قولكم ، واللّه واحد لا شريك له.
* * *
(قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (٦٣)
الجِنُّ ، والشيَاطِين.
(هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا).
يعْنُونَ الِإنْسَ ، أي سولنا لهم الغَيَّ والضلَالَ.
(أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا).
أي أضللناهم كما ضَلَلْنَا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ).
برئ بعضهم من بَعْض ، وصاروا أَعْداءً ، كما قال اللّه عزَّ وجلَّ :
(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (٦٧).
* * *
و (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤)
(فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ).
أي لم يُجيبوهم بحجةٍ.
(وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ).
جوأب " لو " محذوف - واللّه أعلم - لو كانوا يَهْتَدُونَ لما
اتبعُوهم ولا رأوا العذابَ.
* * *
و (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللّه وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨)
أجود الوقوف على (وَيَخْتَارُ) ؛ وتكونْ " مَا " نفياً.
ربك يخلق ما يشاء ، وربك يختار ليْسَ لهم الخيرة.
وما كانت لهم الخيرةُ ، أي
ليس لهم أن يَخْتاروا على اللّه ، هذا وجه.
ويجوز أن يكون (ما) في معنى الذي فيكون ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة.
ويكون معنى الاختيار ههنا ما يتعبدهم به ، أي ويختار لهم فيما يدعوهم إليه
مِنْ عِبَادَتِه ما لهم فيه الخيرة ، والقول الأول أجود -
أي أن تكون (ما) نَفْياً.
و (سُبْحَانَ اللّه وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).
معنى سبحان اللّه تنزيه له من السوءِ . كذا هو في اللغة - وكذا
جاء عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم.
* * *
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّه عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّه يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (٧١)
السَّرمَدُ في اللغَةِ الدائِمُ.
و (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّه يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ).
أي بِنَهارٍ تُبْصرون فيه وتتصرفون في مَعَايشكم ، وتصْلِحُ فيه
ثماركم وَمَنَابتكُمْ لأن اللّه - عزَّ وجلَّ - جعل الصلاح للخلق بالليل مع
النهار ، فلو كان واحِدٌ منهما دون الآخر لهلك الخَلْقُ ، وكذلك قوله في
النهار : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّه عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّه يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٧٢)
أعلمهم أن الليل والنهار رحمةٌ فقال :
(وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣)
جَعَل لكم الزمانَ لَيْلاَ ونَهاراً ، لتسكنوا بالليل وتبتغوا من
فضل اللّه بالنهار.
وجائز أن تَسْكنوا فيهما ، وأن تبتغوا من فضل اللّه فيهما.
فيكون جعل لكم الزمان ليلًا ونهاراً لتسكنوا فيه
ولتبتغوا مِنْ فَضْلِه.
* * *
و (وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ للّه وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥)
أي نزعنا من كل أمّة نَبِيًّا أي اخْتَرْنَا منها نبيًّا وكلَّ نَبيٍّ شاهد على
أمته.
و (فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ).
أي هاتوا فيما اعْتَقَدْتم بُرْهَاناً أيْ بَيَاناً أنكم كنتم على حَقٍّ.
(فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ للّه).
أي فعلموا أَنَّ الحق تَوحِيدُ اللّه وَمَا جَاءَ بِهِ أنبياؤُه.
و (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ).
أي لم ينتفعوا بكل ما عَبَدُوه مِنْ دونِ اللّه ، بل ضرَّهم أعظم
الضَّرَرِ.
* * *
وقوله تعالى : (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللّه لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦)
قَارُون اسم أَعْجمي لا ينصرف ، ولو كان فَاعولًا مِنَ العربيَّةِ ، مِنْ
قَرنْتُ الشَّيءَ - لا يُصْرف.
فلذلك لم يُنَوَّنْ.
وجاء في التفسير أَن قارون كان ابنَ عَمِّ مُوسَى ، وكان مِنَ
العُلَماء بالتوْرَاةِ . فبغَى على موسى وَقَصَدَ إلى الإفساد عليه وتكذيبه.
وكان من طلبه للإفْسَادِ عَلَيْه أَن بَغِيًّا كانت مَشْهُورَةً في بني إسرائيل.
فَوَجَّهَ إليها قارونُ - وَكَانَ أَيْسَرَ أَهلِ زَمَانِهِ - يأمرها أن تَصِيرَ إليه ، وهو
في مَلأٍ مِنْ أَصْحابه لِتَتَكَذَّبَ على مُوسَى وتقول : إنه طلبني للفساد
والرِّيبَةِ ، وضمن لها قَارُونُ إنْ فعلتْ ذلك أن يَخْلِطها بِنِسَائِهِ ، وَأَنْ
يُعطِيها على ذلك عَطَاءَ كبيراً ، فجاءت المرأةُ - وقارون جالس مع
أصحابه - وَرَزَقها اللّه التوبة فقالت في نفسِها مالي مَقَامُ توبةٍ مثلُ
هذا ، فأقبلت على أهل المجلس وقارُونَ حَاضِرٌ ، فقالت لهم إن قارونَ
هَذَا وَجَّه إليَّ يأمُرُنِي وَيَسْأَلُني أن أتكذَّب على موسى ، وأن أقول إنه
أرادَني للفساد وإنَّ قارونَ كاذبٌ في ذلك فلما سمع قارون كلامها تحيَّر
وَأُبْلِسَ واتصَلَ الخَبَرُ بمُوسَى - عليه السلام - فجعل اللّه أَمْرَ قارون
إلى مُوسَى وأمر الأرض أَنْ تطيعَه فيه ، فَوَرَدَ مُوسَى على قارونَ فَاَحَسَّ
قارون بِالبَلاءِ ، فقال يا موسى ارْحَمْني ، فقال : يا أرض خُذِيهِ فخُسِفَ
به وَبِدَارِه إلى رُكْبَتَيهْ ، فقال : يا موسى ارحمني ، فقال : يا أرض خُذِيه
فَخُسِف به إلى سُرتِهِ ، ثم قال : يا أرض خذيه فخسف به إلى عُنُقِهِ
واسترحَمَ موسى فقال يا أرض خذيه فخسف به حتى ساخت الأرضُ بِهِ
وبداره ، قال اللّه عزَّ وجلَّ : (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّه وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (٨١).
* * *
وقوله تعالى : (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ).
روي في التفسير أن مَفَاتِحَه كانت من جُلُودٍ على مقادر الإصبع
وكانت تحمل على سبعين بَغْلًا ستين بَغْلاً ، وجاء أَيْضاً أَن مفاتحه
خزائنُه ، وقيل إن العُصْبَةَ ههنا سَبْعُونَ رَجُلاً ، وقيل أربعون ، وقيل ما
بين الخَمسة عَشَرَ إلى الأرْبَعِين ، وقيل ما بين الثلاث إلى العشرة.
والعُصْبَةُ في اللغة الجماعة الذين أَمْرُهُمْ وَاحِد يتابع بعضهم بعضاً في
الفِعْلِ ويتعصَّبُ بعضهم لِبَعْضٍ.
والأشبَهُ فيما جاء في التفسير أن مفاتحه خزائنهُ ، وأنها خزائن المال الذي يُحْمَلُ على سَبْعِينَ ، على أربعين بَغْلاً - واللّه أعلم - لأن مفاتَح جلود على مِقْدَارِ الإصْبَع ، تُحمَلُ على سبعين بغلاً للخزائن أمر عظيم - واللّه أعلم -.
ومعنى (لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ) لَتُثْقِلُ العُصْبَةَ.
قَالَ أَبُو زَيْدٍ : يقال نؤت بالحِمْلِ أنوءُ به نُوءاً إذا نَهَضْت به.
وناء بي الحمل إذا أَثْقَلَنِي.
و (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللّه لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ).
جاء في التفسير لا تَأشَرْ إن اللّه لاَ يُحِبُّ الأشِرينَ.
ولا تفرح ههنا - واللّه أعلم - أي لا تفرح لكثرة المال في الدنيا لأن الذي يفرح بالمال ويصرفه في غير أَمْر الآخِرةِ مَذْمُوم فيه.
قال اللّه عَز وجل : (لِكَيْلَا تَأسَوُا عَلَى مَا فَاتَكُمْ).
والدليل على أنهم أرادوا لا تفرح بالمال في الدنيا قولهم : (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّه الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللّه إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللّه لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧)
ولا تنس نصيبك من الدنيا ، أي لا تنس أن تعمل به لآخرتك.
لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا الذي يعمل به لآخرَتِهِ .
(قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللّه قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨)
ادَّعى أن المال أُءْطِ يَة لعلمه بالتوراة ، والذي رُويَ أنه كانَ يَعْمَل
الكِيميَاء ، وهذا لايصح لأن الكيمياء باطلٌ لَا حقيقة له.
* * *
و (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩)
جاء في التفسير أنه خرج هُوَ وأصحابه عَلَى خَيْلِهِمْ ، وَعَلَيْهِمْ
وَعَلَى الخَيْلِ الأرْجُوَانُ.
والأرجوان في اللغة صبغ أَحْمَر.
وقيل : كان عليهم وعلى خيلهم الديبَاج الأحْمَر.
* * *
و (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللّه خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (٨٠)
(وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ)
أي لا يُلَقًى هَذه الفَعْلةَ ، وهذه - الكلمة يعني قولهم : (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللّه خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا).
* * *
و (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللّه يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللّه عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (٨٢)
يعني الذين قالوا : (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ).
(يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللّه يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللّه عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ).
هذه اللفظة لفظة " وَيْكَ " قد أَشْكَلَتْ على جَمَاعَةٍ من أَهْلِ اللغةِ
وجَاءَ في التفسير أن معناها ألم تر أنه لَا يُفلح الكَافِرونَ.
وقال بعضهم معناها أما تَرَى أنه لا يفلح الكافرونَ.
وقال بعض النحويين - وهذا غلط عظيم - إنَّ مَعناها وَيْلَكَ اعْلَمْ أنه لا يفلح الكافرون فحذف اللام فبقيتْ وَيْكَ وَحَذَفَ أعلم أنه لا يفلح الكافرون ، وهذا خطأ من ْغير جهة ، لو كان كما قال لكانت أن مكسورة كما تقول : ويلك إنه قَدْ كَانَ كذا وكذا ، ومن جهة أخرى أنْ يُقَالَ لمن خاطب القوم بهذا
فقالوا : ويلك " إنه لا يفلح الكافرون " ، ومن جهة أخرى أنه حذف
اللام من ويل.
والقول الصحيح في هذا ما ذكره سيبويه عن الخليل ويونس.
قال سألت عنها الخليل فزعم أنها " وَيْ " مفصولة من كأنَّ.
وأن القوم تنبهوا فقالوا : وَيْ ، مَتندِّمِينَ على ما سلف منهم ، وكل من تندم ندم فإظهار تندمه وندامته أن يقول " وي " كما تعاتب الرجل على ما سلف منه فقول : وي ، كأنك قصدت مكروهي ، فحقيقة الوقف عليها وَيْ ، وهو أجود في الكلام ، ومعناه التنبيه والتندم.
قال الشاعر :
سَألتَاني إلى طلاق إذ رأتاني . . . قلَّ مالي قد جِئْتما فِي بنكر
وَيْ كأنْ مَنْ يكنْ له نَشَبٌ يُحْ . . . بَبْ ومَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عيشَ ضُرِّ
فهذا تفسير الخليل ، وهو مشاكل لما جاء في التفسير ، لأن قول
المفسرين هو تنبيه (١).
* * *
وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٨٥)
معنى فرض عليك القرآن أنزله عليك وألزمك ، وفرض عليك
العمل بما يوجبه القرآن.
__________
(١) قال السَّمين :
وَيْكَأَنَّ اللّه : و « ويْكَأنَّه » فيه مذاهبُ منها : أنَّ « وَيْ » كلمةٌ برأسِها وهي اسمُ فعلٍ معناها أَعْجَبُ أي أنا . والكافُ للتعليل ، وأنَّ وما في حَيِّزها مجرورةٌ بها أي : أَعْجب لأنه لا يفلحُ الكافرون ، وسُمِع « كما أنه لا يَعْلَمُ غفر اللّه له » . وقياسُ هذا القولِ أَنْ يُوْقَفَ على « وَيْ » وحدها ، وقد فعل ذلك الكسائيُّ . إلاَّ أنه يُنْقل عنه أنه يُعتقدُ في الكلمةِ أنَّ أصلَها : وَيْلَكَ كما سيأتي ، وهذا يُنافي وَقْفَه . وأنشد سيبويه :
٣٦٢٨ وَيْ كأنْ مَنْ يكنْ له نَشَبٌ يُحْ . . . بَبْ ومَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عيشَ ضُرِّ
الثاني : قال بعضهم : « كأنَّ » هنا للتشبيه ، إلاَّ أنه ذهب منها معناه ، وصارت للخبرِ واليقين . وأنشد :
٣٦٢٩ كأنني حين أُمْسِي لا تُكَلِّمُني . . . مُتَيَّمٌ يَشْتهي ما ليس موجودا
وهذا أيضاً يناسِبُه الوقفُ على « وَيْ ».
الثالث : أنَّ « وَيْكَ » كلمةٌ برأسِها ، والكافَ حرفُ خطابٍ ، و « أنَّ » معمولٌه محذوفٌ أي : أعلمُ أنه لا يُفْلِحُ . قاله الأخفش . وعليه
٣٦٣٠ ألا وَيْكَ المَسَرَّةُ لا تَدُوْمُ . . . ولا يَبْقى على البؤسِ النعيمُ
وقال عنترةُ :
٣٦٣١ ولقد شَفَى نفسي وأَبْرَأَ سُقْمَها/ . . . قيلُ الفوارسِ وَيْكَ عنترَ أَقْدمِ
وحقُّه أَنْ يقفَ على « وَيْكَ » وقد فعله أبو عمرو بن العلاء.
الرابع : أنَّ أصلَها وَيْلك فحذف . وإليه ذهب الكسائيُّ ويونس وأبو حاتم . وحقُّهم أَنْ يقفوا على الكافِ كما فعل أبو عمرٍو . ومَنْ قال بهذا استشهد بالبيتين المتقدمين؛ فإنه يُحتمل أَنْ يكونَ الأصلُ فيهما : وَيْلَكَ ، فحذف . ولم يُرسَمْ في القرآن إلاَّ : وَيْكأنَّ ، ويْكَأنَّه متصلةً في الموضعين ، فعامَّةُ القراءِ اتَّبعوة الرسمَ ، والكسائيُّ وقف على « وَيْ » ، وأبو عمرٍو على وَيْكَ . وهذا كلُّه في وَقْفِ الاختبارِ دونَ الاختيارِ كنظائرَ تقدَّمَتْ.
الخامس : أنَّ « وَيْكأنَّ » كلَّها كلمةٌ متصلةٌ بسيطةٌ ، ومعناها : ألم تَرَ ، ورُبَّما نُقِل ذلك عن ابن عباس . ونَقَلَ الكسائيُّ والفراء أنها بمعنى : أما ترى إلى صُنْعِ اللّه . وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى : رَحْمَةً لك ، في لغة حِمْير.
لولا أَن مَّنَّ قرأ الأعمشُ « لولا مَنَّ » بحذفِ « أنْ » وهي مُرادةٌ؛ لأنَّ « لولا » هذه لا يَليها إلاَّ المبتدأُ . وعنه « مَنُّ » برفع النونِ وجَرِّ الجلالةِ وهي واضحةٌ.
لَخَسَفَ حفص : « لَخَسَفَ » مبنياً للفاعل أي : اللّه تعالى . والباقون ببنائِه للمفعولِ . و « بنا » هو القائمُ مَقامَ الفاعلِ . وعبد اللّه وطلحةُ « لا نْخُسِفَ بنا » أي : المكان . وقيل : « بنا » هو القائمُ مَقامَ الفاعلِ ، كقولك « انقُطِع بنا » وهي عبارةٌ . . . وقيل : الفاعلُ ضميرُ المَصدرِ أي : لا نخسَفَ الانخسافَ ، وهي عِيٌّ أيضاً . وعن عبدِ اللّه « لَتُخُسِّفَ » بتاءٍ من فوقُ وتشديدِ السين مبنياً للمفعولِ ، و « بنا » قائمةٌ مقامَه.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) جاء في التفسير : لَرَادُّكَ إِلَى مكانك بمكة.
وقيل إلى معادٍ إلى مكانك في الجنة ، وأكثر التفسير لباعثك ، وعلى
هذا كلام الناس : اذْكُر المَعَادَ . أي اذكر مبعثك في الآخرة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (٨٦)
(فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ).
أيْ مُعيناً للكَافِرِين ، ويجوز فلا تَكُونَنْ ظهيراً ، ولكني أكرهها
لأنها تخالف المصحف ، ويجب أن تكتب بالتخفيف بالألف.
* * *
و (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللّه إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)
(كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ).
(وَجْهَهُ) منصوب بالاستثناء ، ومعنى (إِلَّا وَجْهَهُ) إلا إياه ، ويجوز (إِلَّا وَجْهُهُ) بالرفْع ، ولكن لا ينبغي أن يقرأ بها ، ويكون كل شيء
غير وجهه هالك.
وهو مثل قول الشاعر :.
وكل أخ مفارقه أخوه . . . لَعَمْرَ أبيك إلا الفَرقَدَان
وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أَخُوه .