بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١)
(يَا أَيُّهَا) نداء مبهم مفرد ، وها للتنبيه ، وهو مبْنى على الضم ، والناس رفع
تبع لـ (يا أيها) ، والنحويون لا يجيزون إلا رفع الناس ههنا.
والمازني أجاز النَصْبَ في يا أيها الرجُلَ أقْبلْ ، كما تقول يا زيدُ الظريفَ والظريفُ ، وهذا غلط من المازني ، لأن زيداً يجوز الوقف والاقتصار عليه دون الظريف ويا أيها ليس بكلام ، وإنما القصد الناسُ ، فكأنَّه بمنزلة - يا ناس اتقوا ربكم.
وجاء في التفسير أن كل شيء جاء في كتاب اللّه من (يا أيها الناس)
فمكي ، وما كان فيه من (يا أيها الذين آمنوا) فمدني.
* * *
و (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ).
قيل إِن هذه الزلزلة في الدنيا وأن يكون بعدها طلوع الشمس من مغربها
وقيل إنها الزلزلة التي تكون مع الساعة.
* * *
(يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللّه شَدِيدٌ (٢)
ويجوز (تُذْهِل كُلَّ مُرْضِعَةٍ) ، ومعنى تُذْهِلُ تحَيّرُ ، وتترك كل مرضعة قد
ذَهَلَتْ عَمّا أرْضَعَتْ.
و (مُرْضِعَةٍ) جار على المُفْعِل على ما أرضعت ، ويقال :
امرأة مُرْضِع أي ذات رضاع أرضعت وَلَدَهَا أرْضعت غيرَهُ والقصْد قصد مُلْبِن أي ذات لَبُون وَلَبَنٍ.
و (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى).
وقرئت : (وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى) واسم الفاعل مضمر في ترى.
ترى أنت أيها الِإنسان الناسَ ، ومن قرأ : (وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى) كان بمنزلة وترى أنت الناس سَكرى.
وفيه وجه آخرُ مَا قُرِئ بِهِ وهو (وُيرَى الناسُ سَكْرَى)
فيكون الناس اسم يُرَى ، ووجه آخر لم يقرأ به : (ويرَى النَّاسَ سَكرى).
ويرَى الِإنسانُ الناس سَكرى.
ويقرأ وتَرَى الناسَ سَكْرَى وما هم بسَكرى ، وترى الناسَ سُكارى وما هم
بسكارى.
ويجوز وترى الناس سَكارَى ومال هم بسَكارَى.
والقراءة الكثيرة : (وترى الناسَ سَكْرَى وما هُمْ بسُكْرى).
(وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى) أيضاً.
والتفسير أنك تراهم سكارى من العذاب والخوف ، وما هم بسكارى من
الشَرابِ ويدل عليه : (وَلَكِنَّ عَذَابَ اللّه شَدِيدٌ) (١).
* * *
و (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللّه بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (٣)
أي يتبع ما يُسَوِل له الشيطان ، ومرِيد وَمَارِد معناه أنه قد مَرَدَ في الشرِّ.
__________
(١) قال السَّمين :
يَوْمَ : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ يَنْتَصِبَ ب « تَذْهَلُ » ولم يذكُرِ الزمخشريُّ غيره .
الثاني : أنه منصوبٌ ب « عظيم » . الثالث : أنه منصوبٌ بإضمار اذكر . الرابع : أنه بدلٌ من الساعة . وإنما فُتح لأنه مبنيٌّ لإِضافتِه إلى الفعلِ . وهذا إنما يتمشى على قولِ الأخفش ، وقد تَقَدَّم تحقيقُه آخرَ المائدة . الخامس : أنه بدلٌ من « زلزلة » بدلُ اشتمالٍ؛ لأنَّ كلاً من الحدثِ والزمانِ يَصْدُقُ أنه مشتملٌ على الآخر ، ولا يجوزُ أَنْ ينتصِبَ ب « زلزلة » لِمَا يَلْزَمُ من الفصلِ بين المصدرِ ومعمولِه بالخبر.
تَرَوْنَهَا في هذا الضميرِ قولان ، أظهرهما : أنه ضميرُ الزلزلةِ لأَنها المحدَّثُ عنها ، ويؤيِّدُه أيضاً قولُه تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ . و
الثاني : أنه ضميرُ الساعةِ . فعلى الأولِ يكونُ الذُّهولُ والوَضْعُ حقيقةً لأنه في الدنيا ، وعلى الثاني يكونُ على سبيلِ التعظيم والتهويل ، وأنها بهذه الحيثيةِ ، إذ المرادُ بالساعةِ القيامةُ ، وهو ك يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً [ المزمل : ١٧ ].
تَذْهَلُ في محلِّ نصب على الحال من « ها » في « تَرَوْنَها » فإنَّ الرؤيَةَ هنا بَصَريةٌ ، وهذا إنما يَجِيْءُ على غيرِ الوجهِ الأولِ . وأمَّا الوجهُ الأولُ وهو أنَّ « تَذْهَلُ » ناصِبٌ ل « يومَ تَرَوْنَها » فلا محلَّ للجملةِ من الإِعرابِ لأنها مستأنفةٌ ، يكونُ محلُّها النصبَ على الحال من الزلزلة ، من الضمير في « عظيم » ، وإنْ كان مذكراً ، لأنَّه هو الزَّلْزَلَةُ في ، من الساعة ، وإن كانت مضافاً إليها ، لأنها : إمَّا فاعلٌ مفعولٌ كما تقدَّم . وإذا جَعَلْناها حالاً فلا بُدَّ من ضميرٍ محذوفٍ تقديرُه : تَذْهَلُ فيها.
وقرأ العامة « تَذْهَلُ » بفتح التاءِ والهاءِ ، مِنْ ذَهِل عن كذا يَذْهَلُ . وقرأ ابن أبي عبلة واليماني بضم التاء وكسرِ الهاءِ ونصبِ « كل » على المفعولية ، مِنْ أَذْهَلَه عن كذا يُذْهِله عَدَّاه بالهمزةِ ، والذُّهولُ : الاشتغالُ عن الشيءِ . وقيل : إذا كان مع دَهْشَة . وقيل : إذا كان ذلك لطَرَآنِ شاغِلٍ مِنْ هَمٍّ ومَرَضٍ ونحوِهما . وذُهْل بنُ شَيْبان أصلُه من هذا.
والمُرْضِعَةُ : مَنْ تَلَبَّسَتْ بالفعل ، والمُرْضِعُ : مَنْ شَأْنُها أَنْ تُرْضِعَ كحائض ، فإذا أريد التلبُّسُ قيل : حائِضة.
قال الزمخشري : « فإن قلتَ : لِمَ قيل مُرْضِعَة دون مُرْضع؟ قلت : المُرْضِعَةُ التي هي في حال الإِرضاعِ ملقمةٌ ثديَها الصبيَّ ، والمرضعُ التي مِنْ شأنِها أَنْ تُرْضِعَ وإن لم تباشِرْ الإِرضاعَ في حالِ وَصْفِها به » والمعنى : إنَّ مِنْ شِدَّة الهَوْلِ تَذْهَلُ هذه عن ولدِها فكيف بغيرِها؟ وقال بعضُ الكوفيين : المُرْضِعَةُ تقال للأمِّ ، والمُرْضِعُ تقال للمستأجَرَةِ غيرِ الأمِّ ، وهذا مردودٌ بقولِ الشاعر :
٣٣٦٩ كمُرْضِعَةٍ أولادَ أخرى وضَيَّعَتْ . . . بني بطنِها هذا الضلالُ عن القصدِ
فأَطْلَقَ المُرْضِعَةَ بالتاء على غير الأمِّ.
وقولُ العرب مُرْضِعَة يَرُدُّ أيضاً قولَ الكوفيين : إنَّ الصفاتِ المختصةَ بالمؤنثِ لا يلحقها تاءُ التأنيثِ نحو : حائِض وطالق . فالذي يُقال : إنْ قُصِد النَّسَبُ فالأمرُ على ما ذَكَروا ، وإنْ قُصِد الدلالةُ على التلبُّسِ بالفعلِ وَجَبَتِ التاءُ فيقال : حائضة وطالقة وطامِثة.
عَمَّآ أَرْضَعَتْ يجوزُ في « ما » أَنْ تكونَ مصدريةً أي : عن إرْضاعِها . ولا حاجةَ إلى تقديرِ حَذْفٍ على هذا . ويجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي فلا بُدَّ من حَذْفِ عائدٍ أي : أَرْضَعَتْه . ويُقَوِّيه تعدِّي « تَضَعُ » إلى مفعولٍ دونَ مصدرٍ . والحَمْلُ بالفتحِ : ما كان في بَطْنٍ على رأسِ شجرة ، وبالكسرِ ما كان على ظَهْرٍ.
وَتَرَى الناس سكارى العامَّةُ على فتحِ التاءِ من « ترى » على خطابِ الواحد . وقرأ زيدُ بن علي بضمِّ التاءِ وكسرِ الراءِ ، على أنَّ الفاعلَ ضميرُ الزلزلةِ الساعةِ . وعلى هذه القراءةِ فلا بُدَّ من مفعولٍ أولَ محذوفٍ ليَتِمَّ به أي : وتُرِي الزلزلةُ الساعةُ الخَلْقَ الناسَ سكارى . ويؤيِّد هذا قراءةُ أبي هريرة وأبي زرعة وأبي نهيك « ترى الناس سكارى » . بضمِّ التاء وفتح الراء على ما لم يُسَمَّ فاعله ، ونصب « الناسَ » ، بَنَوْه من المتعدِّي لثلاثةٍ : فالأولُ قام مَقامَ الفاعلِ ، وهو ضميرُ الخطابِ ، و « الناسَ سُكارى » هما الأولُ والثاني . ويجوز أن يكونَ متعدِّياً لاثنين فقط على معنى : وتُرِي الزلزلةُ الساعةُ/ [ الناسَ ] قوماً سكارى . فالناسَ هو الأول و « سكارى » هو الثاني.
وقرأ الزعفرانيُّ وعباسٌ في اختياره « وترى » كقراءة أبي هريرة إلاَّ أنهما رفعاً « الناسُ » على أنه مفعول لم يُسَمَّ فاعلُه . والتأنيثُ في الفعلِ على تأويلِهم بالجماعة.
وقرأ الأخَوان « سكرى » « وما هم بسكرى » على وزنِ وَصْفِ المؤنثةِ بذلك . واخْتُلف في ذلك : هل هو صيغةٌ جمعٍ على فَعْلَى كمَرْضى وقَتْلى ، صفةٌ مفردةٌ اسْتُغني بها في وصفِ الجماعة؟ خلافٌ مشهورٌ تقدَّمَ الكلامُ عليه في « أسرى » . وظاهرُ كلامِ سيبويه أنه جمعُ تكسيرٍ فإنه قال : « وقومٌ يقولون : سكرى ، جَعَلوه مثلَ مرضى لأنهما شيئان يَدْخلان على الإِنسان ، ثم جَعَلوا » روبى « مثلَ سكرى وهم المُسْتَثْقلون نَوْماً من شربِ الرائب . وقال الفارسي : » ويَصِحُّ أن يكونَ جمعَ « سَكِر » كزَمِن وزمنى . وقد حُكي « رجلٌ سَكِر » بمعنى سَكْران فيجيءُ سكرى حينئذٍ لتأنيث الجمع « . قلت : ومِنْ ورودِ » سَكِر « بمعنى سَكْران
٣٣٧٠ وقد جَعَلْتُ إذا ما قُمْتُ يُثْقِلُني . . . ثَوْبي فأنهضُ نَهْضَ الشاربِ السَّّكِرِ
وكنتُ أَمْشي على رِجْلين مُعْتَدِلاً . . . فصِرْتُ أَمْشِي على أخرى من الشَّجر
ويُروى البيتُ الأول » الشارِبِ الثَّمِلِ « ، والأولُ أَصَحُّ لدلالةِ البيت الثاني عليه.
وقرأ الباقون » سكارى « بضمِّ السين.
وقد تَقَدَّم لنا في البقرة خلافٌ : هل هذه الصيغةُ جمعُ تكسيرٍ اسمُ جمع؟
وقرأ أبو هريرةَ وأبو نهيك وعيسى بفتح السين فيهما ، وهو جمع تكسير ، واحدُه سَكْران . قال أبو حاتم : « وهي لغةُ تميم ».
وقرأ الحسنُ والأعرج وأبو زرعة والأعمش « سكرى » « بسكرى » بضمِّ السين فيهما . فقال ابن جني : « هي اسمٌ مفردٌ كالبُشْرَى . بهذا أفتاني أبو علي » . وقال أبو الفضل : « فُعْلَى بضمِّ الفاءِ مِنْ صفةِ الواحدةِ من الإِناثِ ، لكنها لَمَّا جُعِلَتْ من صفاتِ الناس وهم جماعة ، أُجْرِيَتْ الجماعة بمنزلة المؤنثِ الموحَّدِ » . وقال الزمخشري : « هو غريبٌ » . قلت : ولا غرابةَ؛ فإنَّ فعلى بضم الفاء كَثُر مجيئُها في أوصافِ المؤنثة نحو الربى والحبلى وجَوَّز أبو البقاء فيه أن يكونَ محذوفاً مِنْ سكارى . وكان مِنْ حَقِّ هذا القارىء أَنْ يُحَرِّكَ الكافَ بالفتح إبقاءً لها على ما كانَتْ عليه . وقد رواها بعضُهم كذلك عن الحسن . وقُرِىء « ويرى الناسُ » بالياء من تحت ورفع « الناسُ ».
وقرأ أبو زرعة في روايةٍ « سَكْرى » بالفتح ، « بسُكْرى » بالضم . وعن ابن جبير كذلك ، إلاَّ أنه حَذَف الألفَ من الأول دون الثاني.
وإثباتُ السُّكْرِ وعَدَمُه بمعنى الحقيقة والمجاز أي : وترى الناس سكرى على التشبيه ، وما هم بسَكْرى على التحقيق . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : لِمَ قيل أولاً : تَرَوْن ، ثم قيل : » ترى « على الإِفراد؟ قلت : لأنَّ الرؤيةَ أولاً عُلِّقَتْ بالزلزلة ، فَجُعِل الناسُ جميعاً رائِيْنَ لها ، وهي معلَّقَةٌ أخيراً بكونِ الناسِ على حالِ السُّكر ، فلا بُدَّ أن يُجْعَلَ كلُّ واحدٍ منهم رائياً لسائرِهم ». اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وتأويل المروَدِ أن يبلغ الغاية التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنفُ.
وجائز أن يُسْتَعْمل ذلك في غير الشيطان ، فتقول قد تمرد هذا السيِّئ أي قد
جاوز حَدَّ مثله ، وأصله في اللغة امْلِسَاسُ الشيء ، من ذلك قولك للِإنسان
أمْرَدَ إذا لم يكن في وَجْهِهِ شَعْر ، ويَقَال للصخرة مرداء إذا كانت ملساء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (٤)
(أَنَّهُ) في موضع رفع.
(فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) ، عطف عليه ، وموضعه رفع أيضاً ، والفاء الأجود فيها
أن تكون في معنى الجزاء ، وجائز كسر إنَّ مع الفاء ، ويكون جزاء لا غير.
والتأويل : كُتِب عليه أي على الشيطان إضْلَال متَولِّيه وهدايتُهم إلى
عذاب السعير ، وحقيقة " أن " الثانية أنها مكررة مع الأولى على جهة التوكيد ، لأن كُتبَ عليه أنه من تولاه أضله.
* * *
و (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ)
ويقرأ من البَعَثِ بفتح العين ، والريب الشك ، فأمَّا البَعَثَ بفتحْ العين -
فذكر جميع الكوفيين أن كل ما كان ثانيه حرفاً من حروف الحلق ، وكان
مُسكَناً مفتوح الأول جاز فيه فتح المسَكن نحو نَعْل ونَعَل ، وشَعْر وشَعَر ، ونَهْر ونَهَر ، ونَخْل ونَخَل.
فأمَّا البصريون فيزعمونَ أن ما جاء من هذا فيه اللغتان
تُكُلِّمَ به على ما جاءَ.
وما كان لم يسمع لم يَجزْ فيه التحريك نحو وَعْد ، لأنك
لا تقول : لك عَلَيَّ وَعَدٌ ، أي عَلَيَّ وِعْدَة ، ولا في هذا الأمْر وَهَن - في
معنى وَهْن - . وهذا في بابه مثل رَكٍّ ، ورَكَكٍ وقدْرٍ وقدَرٍ ، وَقَصِّ الشَاةِ
وقَصَصِهَا فلا فرق في هذا بين حروف الحلق وغيرها.
وقيل للذين جحدوا البعث وهم المشركون : إن كنتم في شَكِّ من أنَّ
اللّه يبعث الموتى فتدبروا أمر خلقكم وابتدائكم فإنكم لا تجدون في القدرة
فرقاً بين ابتداء الخلق وإعادته ، وإحياء الموتى.
ثم بين لهم ابتداء خَلْقِهم فَأعْلَمهُم أنهم خُلقوا من تراب ، وهو خلق آدم عليه السلام ، ثم خُلِقَ ولدُه من نطفة ، ثم من عَلَقَةٍ ثم من مُضْغَةٍ.
وأعلمهم أحوال خلقهم.
ويُروى أن الِإنسانَ يكُونُ في البطن نطفةً أربعين يوماً ثم مُضْغَةً أرْبَعينَ
يوماً ، ثم يبعث اللّه مَلَكاً فينفخ - فيه الروح.
ومعنى (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)
وصف الخَلق منهم من يُتَمَّمُ مضغته فتخلَقُ له الأعضاءُ التي تكمل آلات
الِإنْسَانِ ومنهم من لا يتمم اللّه خلقه.
و (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ).
أي ذكرنا أحوال خلق الِإنسان.
ووجه آخر هو خلقناكم هذا الخلق (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ).
(وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ).
لا يجوز فيها إلا الرفع ، - ولا يجوز أن يكون معناه فعلْنَا ذلك لنُقِر في
الأرحام ، وَأنَّ اللّه - عزَّ وجلَّ - لم يخلق الأنام لما يُقَر في الأرحام ، وإنما
خلقَهُم ليدُلَّهُمْ عَلَى رُشدهم وَصَلَاحِهِمْ.
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا).
في معنى أطفال ، ودل عليه ذكر الجماعة.
وكأنَّ طفلاً يَدُل على معنى ويُخْرَجُ كل واحدٍ منكم طفلاً .
(ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ).
قد فسرنا الأشدَّ ، وتأويله الكَمالُ في القُوَّةِ والتمييز ، وهو ما بين الثلاثين
إلى الأربعين.
و (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ).
أرذل العمر هو الذي يخرف فيه الإِنسان من الكِبَر حتَى لا يَعْقِلَ ، وَبيَنَ
ذلك ب (لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ).
ثم دَلَّهُمْ عَلى إحْيائه الموتى بإحيائه الأرض فقال :
(وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً).
يعنى جافةً ذاتَ تُرابِ.
(فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ).
وتقرأ ورَبأتْ.
فاهتزازها تحركُها عند وقُوع المَاءِ بها وإنباتها.
ومَنْ قرأ : (وَرَبَتْ) فهو من ربا يربو إذا زاد على أي الجهات ، وَمَنْ قَرأ وَرَبَأتْ بالهمز فمعناه ارْتَفَعَتْ.
(وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ).
أي من كل صنف حَسَنٍ من النبات.
* * *
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللّه هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦)
الأمر ذلك ، أي الأمر ما وُصف لكم وبُيِّنَ لكُمْ (بِأَنَّ اللّه هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
فالأجْوَدُ أن يكون موضع (ذلك) رفعاً.
ويجوز أن يكون نصباً على معنى فعل اللّه ذلك بأنه هو الحق وأنه يحي الموتى .
و (ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّه لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (٩)
وليَضِل عن سبيل اللّه ، و (ثَانِيَ) منصوب على الحال ، ومعناه التنوين.
ومعناه ثانياً عِطفَه ، وجاء في التفسير أن معناه لَاوِياً عُنُقَه ، وهذا يوصف به.
فالمعنى ومن الناس من يجادل في اللّه بغير علم مُتَكَبِّراً.
* * *
و (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللّه لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (١٠)
يقال : هذا العذاب بما قدمت يداك ، وموضع (ذلك) رفع بالابتداء.
وخبره (بما قَدَّمَتْ يَدَاكَ) ، وموضع " أن " خفض
ذلك بما قدمت يداك وبأن اللّه ليس بظلام للعبيد.
ولو قرئت (إن) بالكسر لجاز.
ويجوز أن يكون موضع (ذلك) رفعاً على خبر الابتداء.
الأمر (ذلك بما قدمت يداك).
ويكون موضع أن الرفع على معنى (أنَّ اللّه ليس بظلام للعبيد).
* * *
( (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّه عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (١١)
جاء في التفسير على شَكٍّ ، وحقيقتُه أنَّه يعبدُ اللّه على حَرْفِ الطرِيقَةِ
في الدِّينِ ، لا يدخل فيه دخول متمكن.
(فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ).
أي إن أصابه خِصْث وكَثرَ مَالُه وماشِيَتُه اطْمأنَّ بما أصابه ورضي بدينه.
(وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ).
اختبار بجدْب وقِلَّةِ مَالٍ.
(انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ).
رجع عن دينه إلى الكفر وعبادة الأوثان.
* * *
و (يَدْعُو مِنْ دُونِ اللّه مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (١٢)
يعنى يدعو الوثن الذي لا يَسْمَع ولا يُبْصِر ولا ينفعُ ولا يضرُّ .
و (يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣)
فقال : ولا يضره ، وقال ضَره أقربُ من نفعه ، معناه الضَرَرُ بعبادَتِه أقرب
من النفع.
فإن قال قائل : كيف يقال : أقرث من نفعه ولا نفع من قِبَلِهِ ألبتَّةَ ؟
فالعرب تقول لِمَا لَا يكون : هذا بعيد ، والدليل على ذلك قوله تعالى :
(أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣).
وقد اختلف الناس في تفسير هذه اللام ، وفي (يدعو) بأي شْيء هي
معلَّقَة ونحن نفسر جميع ما قالوه وما أغفلوه مما هو بيِّنٌ من جميع ما قالوا إن
شاء اللّه.
قال البصريون والكوفيون : اللام معناها التأخير ، يدعو من لضَرِّه
أقربُ من نَفْعِهِ ولم يُشْبِعُوا الشرحَ ، ولا قالوا من أين جاز أن تَكُونَ اللام فِي
غير مَوْضِعِها.
وشرح ذلك أن اللام لليمين والتوكيد فحقها أن تكون في أول
الكلام فقدمت لِتُجْعَلَ في حقها ، وإن كان أصلُها أنْ تكون في " لَضَرُّهُ " كما
أن لام " إن " حَقها أن تكون في الابتداء ، فلما لم يجز أنْ تَلِيَ " إنَّ " جُعِلَت في الخَبر في مثل قولك : إنَّ زيداً لقائمٌ ، ولا يَجُوزُ " إنَّ لَزَيْداً قائِمٌ " ، فإذا أمكن أن يكون ذلك في الاسم كان ذلك أجود الكلام ، تقول إن في ذلك لآية ، فهذا قول.
وقالوا أيضاً . أن يَدعُو مَعَها هاء مُضمَرةٌ ، وأن (ذلِك) في موضع رفع
و (يدعو) في موضع الحال.
، ذلك هو الضلال البعيد يدْعُوه ، في
حال دُعَائِه إيَّاهُ ، ويكون (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) مستأنفاً مرفوعاً بالابتداء
وخبره (لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ).
وفيه وجه آخَرُ ثَالث ، يكون يدعو في معنى يقول ، يكون من في
موضع رفع وخَبرُه محذوف ، ويكون : يقول لمن ضره أقرب من نفعه
هو مولاي ، ومثله يدعو في معنى يقول في قول عنترة.
يدعون عنتر والرماح كأنَّها . . . أشطان بئر في لبان الأدهم
ويجوز أن يكون " يَدْعو " في معنى " يُسَمِّي "
كما قال ابن أحْمَر :
أَهْوَى لها مِشْقَصاً جَشْراً فشَبْرَقَها . . . وكنتُ أَدْعُو قَذَاها الإثْمِدَ القَرِدا
ووجه هذا القول الذي قبله.
وفيها وجه رابع وهو الذي أغفله الناس ، أن " ذلك " في موضع نصب
بوقوع يدعو عليه ، ويكون " ذلك " في تأويل الذي ، ويكون الذي هو
الضلال البعيد يدعو ، ويكون (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) مستأنفاً (١) ، وهذا مثل (وَمَا تِلْكَ بِيَمينِك) على معنى وما التِي بيَمِينِك يَا مُوسَى.
ومثله قول الشاعر :
__________
(١) قال السَّمين :
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ : فيه عشرةُ أوجه ، وذلك أنَّه : إمَّا بجَعْلِ « يَدْعُو » متسلِّطاً على الجملة مِنْ لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لا . فإنْ جَعَلْنَاه مُتَسَلِّطاً عليها كان في سبعةُ أوجه ، أحدها : أنَّ « يَدْعُو » بمعنى يَقُوْل ، واللامُ للابتداء ، و « مَنْ » موصولةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتدء . و « ضَرُّه » مبتدأ ثانٍ و « أقربُ » خبرُه . وهذه الجملةُ صلةٌ للموصول ، وخبرُ الموصولِ محذوفٌ تقديرُه : يقول لَلَّذي ضَرُّه أقربُ من نَفْعِه إلهٌ إلهي نحوُ ذلك . والجملةُ كلُّها في محلٍّ نصبٍ ب « يَدْعُو » لأنَّه بمعنى يَقُول ، فهي محكيَّةٌ به . وهذا قولُ أبي الحسنِ . وعلى هذا فيكون لَبِئْسَ المولى مستأنفاً ليس داخلاً في المَحْكيِّ قبلَه؛ لأنَّ الكفار لا يقولون في أصنامِهم ذلك . وقد رَدَّ بعضُهم هذا القولَ بأنه فاسدُ ، والكافرُ لا يَعتقد في الأصنامِ أنَّ ضَرَّها أقربُ مِنْ نفعِها ألبتَّةََ.
الثاني : أنَّ « يَدْعُو » مُشَبَّهٌ بأفعالِ القلوب؛ لأنَّ الدعاءَ لا يَصْدُرُ إلاَّ عن اعتقادٍ ، وأفعال القلوب تُعَلَّق ، ف « يَدْعُو » مُعَلَّقٌ أيضاً باللام . و « مَنْ » مبتدأٌ موصولٌ . والجملةُ بعده صلةٌ ، وخبرُه محذوفٌ على ما مَرَّ في الوجهِ قبلَه.
والجملة في محلِّ نصبٍ ، كما تكون كذلك بعد أفعالِ القلوب . الثالث : أَنْ يُضَمَّن يَدْعُو معنى يزعم ، فيُعَلَّق كما يُعَلَّقُ ، والكلامُ فيه كالكلامِ في الوجهِ الذي قبله . الرابع : أن الأفعالَ كلَّها يجوزُ أَنْ تُعَلَّق قلبيةً كانت غيرَها فاللامُ معلِّقَةٌ ل « يَدْعوا » ، وهو مذهبُ يونسَ . فالجملةُ بعده الكلامُ فيها كما تقدَّم.
الخامس : أنَّ « يَدْعُوا » بمعنى يُسَمِّي ، فتكونَ اللامُ مزيدةً في المفعولِ الأولِ وهو الموصولُ وصلتُه ، ويكون المفعولُ الثاني محذوفاً تقديرُه : يُسَمِّي الذي ضَرُّه أقربُ مِنْ نفعِه إلهاً ومعبوداً ونحو ذلك . السادس : أنَّ اللامَ مُزالَةٌ/ مِنْ موضِعها . والأصلُ : يَدْعُو مَنْ لَضَرُّه أقربُ . فقُدِّمَتْ مِنْ تأخيرٍ . وهذا قولُ الفراء . وقد رَدُّوا هذا بأنَّ ما في صلةِ الموصولِ لا يتقدَّمُ على الموصولِ . السابع : أنَّ اللامَ زائدةٌ في المفعول به وهو « مَنْ » . والتقديرُ : يَدْعُو مَنْ ضَرُّه أقرب . ف « مَنْ » موصولٌ ، والجملةُ بعدَها صلتُها ، والموصولُ هو المفعولُ ب « يَدْعُو » زِيْدتْ فيه اللامُ كزيادتِها في قولِه رَدِفَ لَكُم [ النمل : ٧٢ ] في أحدِ القولين . وقد رُدَّ هذا بأنَّ زيادةَ اللام إنما تكونُ إذا كان العاملُ فَرْعاً ، بتقديم المعمول . وقرأ عبد اللّه « يَدْعُو مَنْ ضَرُّه » بعيرِ لامِ ابتداءٍ ، وهي مؤيدةٌ لهذا الوجهِ.
وإنْ لم تجعَلْه متسلِّطاً على الجملةِ بعدَه كان فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنَّ « يَدْعُو » الثاني توكيدٌ ل « يَدْعو » الأولِ فلا معمولَ له ، كأنه قيل : يَدْعو يَدْعو مِنْ دونِ اللّه الذي لا يَضُرُّه ولا ينفعه.
وعلى هذا فتكونُ الجملةُ مِنْ قولِه ذلك هُوَ الضلال معترضةً بين المؤكَّدِ والتوكيدِ؛ لأنَّ فيها تَسْديداً وتأكيداً للكلام ، ويكون قولُه لَمَنْ ضَرُّهُ كلاماً مستأنفاً . فتكونُ اللامُ للابتداء و « مَنْ » موصولةٌ ، و « ضَرُّه » مبتدأ و « أقربُ » خبرُه . والجملةُ صلةٌ ، و « لَبِئْسَ » جوابٌ قسمٍ مقدر . وهذا القسمُ المقدرُ وجوابُه خبرُ المبتدأ الذي هو الموصول.
الثاني : أن يُجْعَلَ « ذلك » موصولاً بمعنى الذي . و « هو » مبتدأ ، و « الضلالُ » خبره والجملةُ صلةٌ . وهذا الموصولُ مع صلتِه في محلِّ نصبٍ مفعولاً ب « يَدْعو » أي : يدعو الذي هو الضلالُ . وهذا منقولٌ عن أبي علي الفارسي ، وليس هذا بماشٍ على رأي البصريين؛ إذ لا يكونُ عندهم من أسماءِ الإِشارةِ موصولٌ إلاَّ « ذا » بشروطٍ ذكرْتُها فيما تقدَّم . وأمَّا الكوفيون فيُجيزون في أسماءِ الإِشارة مطلقاً أن تكونَ موصولةً ، وعلى هذا فيكونُ « لَمَنْ ضَرُّه أَقْرَبُ » مستأنفاً ، على ما تقدَّم تقريرُه.
والثالث : أن يُجْعَلَ « ذلك » مبتدأ . و « هو » : جوَّزوا فيه أن يكونَ بدلاً فَصْلاً مبتدأً ، و « الضلالُ » خبرُ « ذلك » خبرُ « هو » على حَسَبِ الخلافِ في « هو » و « يَدْعُو » حالٌ ، والعائدُ منه محذوفٌ تقديرُه : يَدْعوه ، وقدَّروا هذا الفعلَ الواقعَ موقعَ الحال ب « مَدْعُوَّاً » قال أبو البقاء : « وهو ضعيفٌ » ، ولم يُبَيِّنْ وجه ضَعْفِه . وكأنَّ وجهَه أنَّ « يَدْعُو » مبنيٌّ للفاعلِ فلا يناسِبُ أن تُقَدَّرَ الحالُ الواقعةُ موقعَه اسمَ مفعولٍ ، بل المناسِبُ أن تُقَدَّرَ اسمَ فاعل ، فكان ينبغي أَنْ يُقَدِّروه : داعياً ولو كان التركيبُ « يدعى » مبنياً للمفعول لَحَسُن تقديرُهم مَدْعُوَّاً . ألا ترى أنَّك إذا قلتَ : « جاء زيدٌ يضربُ » كيف تُقَدِّره ب « ضارب » لا ب مَضْروب.
والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ ، وتقديرُه : لبِئْسَ المولى ولبئس العشيرُ ذلك المَدْعُوُّ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
عَدَسْ ما لعَبَّادٍ عليك إِمارةٌ . . . نَجَوْتِ وهذا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (١٥)
هذه الهاء لمحمد - صلى اللّه عليه وسلم - أي من كان يظن أن لن ينصر اللّه مُحمداً - صلى اللّه عليه وسلم - حتى يظهره على الدين كله فليمت غيظاً ، وهو تفسير (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ).
السبب الحبل ، والسماء السقف ، أي فليشدُدْ حَبْلاً في سَقْفِهِ.
(ثُمَّ لْيَقْطَعْ).
أي ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقاً.
(هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ).
أي هل يذهبن كيده غيظه.
وقُرِئت ثم لِيَقْطع ، وثم لْيَقْطعْ ، بكسر اللام وجزمها.
* * *
و (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللّه يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧)
يَفْصِل اللّه بين هذه الفرق الخَمْس وبين المؤمنين.
* * *
و (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللّه فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللّه يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (١٨)
والسجود ههنا الخضوع للّه عزَّ وجلَّ ، وهىِ طاعة ممن خلق اللّه من
الحيوان والموات.
والدليل على أنه سجودُ طَاعَةٍ (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ).
هذا أجود الوجوه أنْ يكونَ تَسْجُدُ مُطِيعةً ، للّه عزَّ وجلَّ.
كما قال اللّه تعالى : (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) ، وكما قال : (وَإِنَّ مِنْهَا) يعني الحجارة (لما جهبط من خَشْيَةِ اللّه) ، فالخشية لا تكون إلَّا لما أعْطاه اللّه مما يَخْتَبِرُ به خشيته.
وقال قوم : السجود من هذه الأشياء التي هي موات ومن الحيوان الذي لا يعقل إنما هو أثَرَ الصنعَةِ فيها والخضوع الذي يدل على أنها مخلوقة ، واحتجوا في ذلك بقول الشاعر : :
بجَيْشٍ يَضِل البلق في حَجَراتِه . . . ترى الأُكْمَ فيها سُجَّداً للحوافِرِ
أي قد خشعت من وطء الحوافِرِ عَلَيْهَا ، وذلك القول الذي قالوه لأن
السجود الذي هو طاعة عندهم إنما يكونُ ممن يَعْقِلُ ، والذي يكسر هذا ما
وصف اللّه عزَّ وجلَّ مِنْ أن مِن الحجارةِ لما يهبط من خشية اللّه ، والخشية
والخوفُ ما عقلناه إلا للآدميين ، وقد أعلمنا اللّه - عزَّ وجلَّ - أن من الحجارة
ما يخشاه ، وأعلمنا أنه سَخر معَ داودَ الجبالَ والطيرَ تسبح معه ، فلو كان تسبيح الجبال والطير أثرَ الصنعة : ما قيل سخرنا ولا قيل مع داود الجبال لأن أثر الصنعة يتبين معَ دَاوُدَ وَغيرِه ، فَهُوَ سُجودُ طاعةٍ لا محالة ، وكذلك التسبيح في الجبال والطير ، ولكنا لا نعلم تسبيحها إلا أن يجيئنا في الحديث كيف تسبيح ذلك.
وقال اللّه عزَّ وجلَّ - (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).
* * *
(هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩)
(فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ).
والمؤمنون يدخلون الجنة وهو
(إِنَّ اللّه يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ).
وخبر (إِنَّ) الأولى جملة الكلام مع إنَّ الثانيةِ . وقَدْ زعم قوم أن قولك : إنَّ
زَيداً إنه قائم رديء وأنَّ هذه الآية إنما صلحت في الذي.
ولا فرق بين الذي وغيره في باب (إِنَّ).
إن قلت إن زيداً إنه قائم كان جيداً
ومثله قول الشاعر :
إن الخليفَةَ إِنَّ اللّه سَربَلَهُ
وليس بين البصريين خلاف في أن " (إِنَّ) تدخل على كل ابتداء وخبر.
تقول إِنَّ زيداً هو قائم وإِنَّ زيداً إِنَّه قائم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩)
الخصمان المُؤمِنُونَ والكَافِرون - جاء في التفسير أن إليهود قالوا
للمسلمين ديننا أقْدَمُ من دينكم وكتابنا أقدَمُ من كتابكم ، فأجابهم المسلمونَ بأنَّا آمنا بما أنزل إلينا وأنزل إليكم وآمنا باللّه وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ، وأنتم كفرتم ببعض الرسل فظهرت حجة المسلمين على الكافرين.
وقيل اختصموا وقد قال خَصْمَانِ لأنهما جَمْعانِ.
(فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ).
وجاء في التفسير أن الثيَابَ التي من نارٍ هي نُحَاسٌ قَدْ أُذِيبَ.
قوله عزَّ وجلَّ . : (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠)
يغلى به ما في بطونهم حتى يَخْرُجَ من أدْبَارِهم ، فهذا لأحد الخصمين.
وقال في الخصم الذين هم مؤمنون :
(إِنَّ اللّه يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (٢٣)
و (لُولُؤ) يقرأان جميعاً ، فمن قرأ (ولؤلؤاً) فعلى معنى يحلون فيها أساور من
ذهب ويُحلوْنَ لؤلُؤاً ، ومن قرأ وَلؤلُؤ أراد وَمِنْ لؤلؤ.
وجائز أن يكون أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤٍ ، فيكون ذلك فيها خلطاً مِنَ الصنْفيْن ويقرأ (يَحْلَوْنَ فيها) على معنى قَوْلك حَلِيَ يَحْلَى إذا صار ذا حَلْيٍ (١).
* * *
و (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّه وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٥)
لفظ (يَصُدُّونَ) لفظ مستقبل عطف به على لفظ الماضي ، لأن معنى الذين
كفروا الذين هم كافرون ، فكأنَّه قال إنَّ الكَافرين والصَّادِّينَ.
وخبر (إِنَّ) فيه قولان أحدهما أن يكون محذوفاً فيكون إِنَّ الذين هذه صِفَتُهم هلكوا وجائز أن يكون - وهو الوجه - الخبر (نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ ألِيمٍ).
فيكون إِنَّ الكافرين والملحدين في المسجد الحرام نذِقْهمْ مِنْ
عَذَابٍ ألِيمً.
وقوله تعالى ، : (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ).
القراءة الرفعُ في (سَوَاء) ، ورفعه من جهتين :
إحداهما أن يكون وقف التمام هو (الذي جَعَلْنَاهُ للنَاسِ) ، كما قَال : (إِن أولَ بَيْتٍ وُضِعَ للنَّاسِ).
ويكون سواء العاكف فيه والباد - على الابتداء والخبر ، ويجوز أن يكون على جعلناه سواء العاكف فيه ، فيرتفع (سَوَاءٌ) على الابتداء ، ويكون الخبر ههنا (العاكف فيه) ، أعني خبر (سواء العاكف) ويكون خبر (جَعَلْنَاهُ) الجملة.
__________
(١) قال السَّمين :
يُحَلَّوْنَ : العامَّةُ على الياءِ وفتحِ اللامِ مشددةً ، مِنْ حَلاَّه يُحَلِّيه إذا ألبسَه الحُلِيَّ . وقُرِىءَ بسكون الحاءِ وفتحِ اللامِ مخففةً ، وهو بمعنى الأول ، كأنَّهم عَدَّوْه تارةً بالتضعيف وتارةً بالهمزةِ . قال أبو البقاء : « مِنْ قولك : أحلى أي ألبسَ الحُلِيَّ ، وهو بمعنى المشدَّد ».
وقرأ أبنُ عباسٍ بفتحِ الياءِ وسكونِ الحاءِ وفتحِ اللامِ مخففةً . وفيها ثلاثةُ أوجهٍ . أحدُها : أنَّه من حَلِيَتْ المرأةُ تَحْلَى فهي حالٍ . وكذلك حَلِيَ الرجلُ فهو حالٍ ، إذا لَبِسا الحُلِيَّ صارا دونَ حُلِيّ .
الثاني : أنَّه من حَلِيَ بعيني كذا يَحْلَى إذا اسْتَحْسَنْته . و « مِنْ » مزيدةٌ في قولِه مِنْ أَسَاوِرَ قال : « فيكونُ : يَسْتَحْسِنون فيها الأساور الملبوسة » . ولما نقل الشيخ هذا الوجهَ عن أبي الفضل الرازي قال : « وهذا ليس بجيد لأنه جَعَلَ حَلِيَ فعلاً متعدياً ، ولذلك حَكَم بزيادةِ » مِنْ « في الواجبِ . وليس مذهبَ البصريين . وينبغي على هذا التقديرِ أَنْ لا يجوزَ؛ لأنه لا يُحْفَظُ بهذا إلاَّ لازِماً ، فإنْ كان بهذا كانَتْ » مِنْ « للسببِ أي : بلباسِ أساورِ الذهبِ يَحْلَوْن بعينِ مَنْ رآهم ، أي : يحلى بعضُهم بعينِ بعضٍ ».
قلت : وهذا الذي نقله عن أبي الفضلِ قاله أبو البقاء ، وجَوَّز في مفعولِ الفعلِ وجهاً آخرَ فقال : « ويجوزُ أن يكونَ مِنْ حَلِيَ بعيني كذا إذا حَسُن ، وتكونُ » مِنْ « زائدةً يكونُ المفعولُ محذوفاً ، و » مِنْ أساورَ « نعتٌ له » . فقد حكمَ عليه بالتعدِّي ليس إلاَّ ، وجَوَّز في المفعول الوجهَيْن المذكورَيْن.
الثالث : أنَّه مِنْ حَلِيَ بكذا إذا ظَفِرَ به ، فيكونُ التقديرُ : يَحْلَوْن بأساورَ . ف « مِنْ » بمعنى الباء . ومِنْ مجيءِ حَلِيَ بمعنى ظَفِرَ قولُهم : لم يَحْلَ فلانٌ بطائلٍ أي : لم يظفرْ به . واعلم أنَّ حَلِي بمعنى لبس الحلية ، بمعنى ظَفِر من مادةِ الياءِ لأنهما مِن الحِلْيَةِ . وأمَّا حَلِيَ بعيني كذا فإنه من مادة الواو لأنه من الحلاوة ، وإنما قلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها.
مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ في « مِنْ » الأولى ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنها زائدةٌ ، كما تقدَّم تقريره عن الرازي وأبي البقاء . وإن لم يكنْ مِنْ أصولِ البصريين . و
الثاني : أنَّها للتعبيضِ أي : بعض أساور . والثالث : أنها لبيانِ الجنسِ ، قاله ابن عطية ، وبه بدأ . وفيه نظرٌ إذ لم يتقدَّمْ شيءٌ مبهمٌ . وفي « مِنْ ذهب » لابتداءِ الغايةِ ، هي نعتٌ لأساورَ كما تقدَّم.
وقرأ ابن عباس « مِنْ أَسَوِرَ » دونَ ألفٍ ولا هاءٍ ، وهو محذوفٌ مِنْ « أساوِر » كما [ في ] جَنَدِلٍ والأصل جَنادِل ، قال الشيخ : « وكان قياسه صَرْفَه؛ لأنه نَقَصَ بناؤُه فصار كجَنَدِلٍ ، لكنه قَدَّر المحذوفَ موجوداً فمعنه الصرف ».
قلت : فقد جعل أنَّ التنوينَ في جَنَدِلٍ المقصور مِنْ « جنادل » تنوينُ صَرْفٍ . وقد نصَّ بعض النحاة على أنه تنوينُ عوضٍ كهو في جَوارٍ وغَواشٍ وبابِهما.
وَلُؤْلُؤاً قرأ نافعٌ وعاصمٌ بالنصبِ . والباقون بالخفضِ . فأمَّا النصبُ ففيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنَّه منصوبٌ بإضمار فعلٍ تقديرُه : ويُؤْتَوْن لُؤْلؤاً . ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه/ ، وكذا أبو الفتح حَمَله على إضمار فعلٍ .
الثاني : أنَّه منصوبٌ نَسَقاً على موضع « مِنْ أساور » ، وهذا كتخريجِهم « وأرجُلَكُمْ » بالنصب عطفاً على محلِّ برؤوسكم [ المائدة : ٦ ] ، ولأن يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ في قوة : « يَلْبَسون أساور » فَحُمِل هذا عليه . والثالث : أنه عطفٌ على « أساور »؛ لأنَّ « مِنْ » مزيدةٌ فيها كما تقدَّم تقريرُه . الرابع : أنه معطوفٌ على ذلك المفعولِ المحذوفِ . التقديرُ : يُحَلَّوْن فيها الملبوسَ مِنْ أساور ولؤلؤاً . ف « لؤلؤاً » عطفٌ على الملبوس.
وأمَّا الجرُّ فعلى وجهَيْن ، أحدُهما : عطفُه على « أساور » . و
الثاني : عَطْفُه على « مِنْ ذهبٍ » لأنَّ السِّوارَ يُتَّخَذُ من اللؤلؤ أيضاً ، يُنْظَمُ بعضُه إلى بعضٍ . وقد منع أبو البقاء العطفَ على « ذهب » قال : « لأنَّ السِّوار لا يكونَ مِنْ لؤلؤ في العادة ويَصِحُّ أن يكونَ حُلِيّاً ».
واختلف الناسُ في رَسْمِ هذه اللفظةِ في الإِمام : فنقل الأصمعيُّ أنها في الإِمام « لؤلؤ » بغير ألفٍ بعد الواو ، ونقل الجحدريُّ أنها ثابتةٌ في الإِمامِ بعد الواو . وهذا الخلافُ بعينه قراءةً وتوجيهاً جارٍ في حَرْف فاطر أيضاً.
وقرأ أبو بكر في رواية المُعَلّى بن منصور عنه « لؤلوا » بهمزةٍ أولاً وواوٍ آخِراً . وفي روايةِ يحيى عنه عكسُ ذلك.
وقرأ الفياض « ولُوْلِيا » بواوٍ أولاً وياءٍ أخيراً ، والأصل : لُؤْلُؤاً أبدل الهمزتينِ واوَيْن ، فبقي في آخرِ الاسم واوٌ بعد ضمةٍ . فَفُعِل فيها ما فُعِل ب أَدْلٍ جمعَ دَلْو : بأنْ قُلِبَتْ الواوُ ياءً والضمةُ كسرةً.
وقرأ ابنُ عباس : « وَلِيْلِيا » يياءَيْنِ ، فَعَل ما فَعَل الفياض ، ثم أتبعَ الواوَ الأولى للثانيةِ في القلبِ . وقرأ طلحة « وَلُوْلٍ » بالجر عطفاً على المجرورِ قبلَه . وقد تقدم ، والأصل « ولُوْلُوٍ » بواوين ، ثم أُعِلَّ إعلالَ أَدْلٍ.
واللُّؤْلُؤُ : قيل : كِبارُ الجوهر وقيل صغِارُه . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وتفسير (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) أنه يستوي في سُكنى مكةَ المقيم بها
والنارح إليها من أيْ بَلَدٍ كانَ ، وقيل سواء في تفضيله وإقامة المَنَاسِكِ
العاكف . المقيم بالحرم والنارحُ إلَيْهِ.
و (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإلْحَادٍ بظُلْمٍ).
قيل الإِلحاد فيه الشرك باللّه ، وقيل كُل ظَالِمٍ فيه مُلْحِدٌ.
وجاء عن عُمَر أن احتكار الطعام بمكة إلحادٌ.
وقال أهل اللغة إن معنى الباء الطرح.
ومن يرد فيه إلحاداً بظلم.
وأنشدوا قول الشاعر :
هُنَّ الحَرائِرُ لا ربَّاتُ أَحْمِرةٍ . . . سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
عِنْدهم لا يقرأن السُّور ، وأنشدوا :
بوادٍ يمانٍ يُنْبِتُ الشَّثَّ فَرْعُه . . . وأَسْفَلُه بالمَرْخِ والشَّبَهانِ
أي وينبت أسفلُه المرخَ والشبهان.
والذي يذهب إليه أصحابنا أن الباءَ ليست بملغاةٍ ، عندهم ومن إرادته فيه بأن يلحد بظلم وهو مثل
أُريدُ لأَنسى ذِكرَها فكأَنما . . . تَمثَّلُ لي لَيْلى بكلِّ سبيلِ
أريد ، وإرادتي لهذا.
ومعنى الإلحاد في اللغة العدول عن القَصْد (١).
__________
(١) قال السَّمين :
وَيَصُدُّونَ : فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنه معطوفٌ على ما قبلَه . وحينئذٍ ففي عطفِه على الماضي ثلاثةُ تأويلاتٍ . أحدُها : أنَّ المضارعَ قولاً يُقْصَدُ به الدلالةُ على زمنٍ معينٍ من حالٍ ، استقبالٍ ، وإنما يُراد به مجردُ الاستمرارِ . ومثلُه الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّه [ الرعد : ٢٨ ] .
الثاني : أنه مؤولٌ بالماضي لعطفِه على الماضي . الثالث : أنه على بابِه ، وأنَّ الماضي قبلَه مُؤَوَّل بالمستقبل.
الوجه
الثاني : أنَّه حالٌ من فاعل « كفروا » وبه بدأ أبو البقاء . وهو فاسدٌ ظاهراً؛ لأنه مضارعٌ مثبتٌ ، وما كان كذلك لا تَدْخُل عليه الواو ، وما ورد منه على قِلَّتِه مؤولٌ فلا يُحْمل عليه القرآنُ ، وعلى هذين القولَيْنِ فالخبرُ محذوفٌ . واختلفوا في موضعِ تقديرِه : فقدَّره ابن عطية بعد قولِه « والبادِ » أي : إن الذين كفروا خَسِروا هلكوا ونحو ذلك . وقدَّره الزمخشري بعد قوله والمسجد الحرام أي : إنَّ الذين كفروا نُذِيْقُهم من عذاب أليم . وإنما قَدَّره كذلك لأن نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ يَدُلُّ عليه.
إلاَّ أنَّ الشيخَ قال في تقدير الزمخشري بعد المسجد الحرام : « لا يصحُّ » ، قال : « لأنَّ » الذي « صفة للمسجد الحرام ، فموضعُ التقديرِ هو بعد » البادِ « يعني : أنه يلزمُ من تقديرِه الفصلُ بينَ الصفةِ والموصوفِ بأجنبيّ ، وهو خبرُ » إنّ « ، فيصيرُ التركيبُ هكذا : إنَّ الذين كفروا ويَصُدُّون عن سبيلِ اللّه والمسجدِ الحرام نُذيقُهم مِنْ عذابٍ أليمٍ الذي جَعَلْناه للناس . وللزمخشريِّ أّنْ ينفصِلَ عن هذا الاعتراضِ بأن » الذي جَعَلْناه « لا نُسَلِّمُ أنَّه نعتٌ للمسجد حتى يَلْزَمَ ما ذَكَر ، بل نَجْعَلُه مقطوعاً عنه نَصْباً رفعاً.
ثم قال الشيخ : » لكنَّ مُقَدَّرَ الزمخشريِّ أحسنُ من مقدَّرِ ابنِ عطية؛ لأنه يَدُلُّ عليه الجملةُ الشرطية بعدُ مِنْ جهة اللفظ ، وابنُ عطية لَحَظَ من جهةِ ؛ لأنَّ مَنْ أّذيق العذابَ خَسِر وهَلَكَ «.
الوجه الثالث : أنَّ الواوَ في » ويَصُدُّون « مزيدةٌ في خبر » إنَّ « تقديرُه : إنَّ الذين كفروا يَصُدُّون . وزيادةُ الواوِ مذهبٌ كوفي تقدَّم بُطلانُه ، وقال ابنُ عطية : » وهذا مْفْسِدٌ للمعنى المقصودِ « . قلت : ولا أَدْري فسادَ من أيِّ جهة؟ ألا ترى أنه لو صُرِّح بقولِنا : إنَّ الذين كفروا يَصُدُّون لم يكنْ فيه فسادُ معنى . فالمانع إنما هو أمرٌ صناعيٌّ عند أهل البصرة لا معنويٌّ . اللّهم إلاَّ أَنْ يريدَ معنىً خاصاً/ يَفْسُدُ لهذا التقديرِ فيُحتاج إلى بيانه.
الذي جَعَلْنَاهُ يجوزُ جَرُّه على النعتِ البدلِ البيانِ ، والنصبُ بإضمار فعلٍ ، والرفعُ بإضمارِ مبتدأ . و » جَعَلَ « يجوز أن يتعدى لاثنين بمعنى صَيَّر ، وأَنْ يتعدَّى لواحدٍ.
والعامَّةُ على رفعِ ِ « سواءٌ » وقرأه حفصٌ عن عاصم بالنصبِ هنا وفي الجاثية : سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ [ الآية : ٢١ ] . ووافق على الذي في الجاثيةِ الأخَوان ، وسيأتي توجيهُه . فأمَّا على قراءةِ الرفع فإن قلنا : إنَّ جَعَلَ بمعنى صَيَّر كان في المفعولِ الثاني أوجهٌ ، أحدها : وهو الأظهرُ أنَّ الجملةَ مِنْ قولِه سَوَآءٌ العاكف فِيهِ هي المفعولُ الثاني ، ثم الأحسنُ في رفع « سواءٌ » أن يكون خبراً مقدماً ، والعاكفُ والبادي مبتدأ مؤخر . وإنما وُحِّد الخبرُ وإن كان المبتدأُ اثنين؛ لأنَّ سواء في الأصل مصدرٌ وُصِفَ به . وقد تقدَّم هذا أولَ البقرة . وأجاز بعضُهم أن يكون « سواءٌ » مبتدأ ، واما بعدَه الخبر . وفيه ضَعْفٌ مَنْعٌ من حيث الابتداءُ بالنكرة من غير مُسَوِّغٍ ، ولأنه متى اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ جُعِلت المعرفةُ المبتدأ . وعلى هذا الوجهِ أعني كونَ الجملة مفعولاً ثانياً فقولُه « للناس » يجوز فيه وجهان ، أحدُهما : أن يتعلق بالجَعْل أي : جَعَلْناه لأجلِ الناسِ كذا . و
الثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ ، على أنَّه حالٌ مِنْ مفعول « جَعَلْناه » ولم يذكر أبو البقاء فيه على هذا الوجهِ غيرَ ذلك وليس معناه متضحاً.
الوجه
الثاني : أنَّ « للناس » هو المفعولُ الثاني . والجملةُ مِنْ قوله سَوَآءٌ العاكف في محلِّ نصب على الحال : إمَّا من الموصول ، وإمَّا مِنْ عائِدِه . وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء . وفيه نظرٌ؛ لأنه جعل هذه الجملةَ التي هي محطُّ الفائدةِ فَضْلةً.
الوجه الثالث : أنَّ المفعولَ الثاني محذوفٌ ، قال ابن عطية : « والمعنى : الذي جَعَلْناه للناس قِبْلةً ومتعبَّداً . فتقدير ابنِ عطية هذا مُرْشِدٌ لهذا الوجهِ . إلاَّ أن الشيخ » . قال « ولا يُحتاج إلى هذا التقديرِ ، إلاَّ إنْ كان أراد تفسيرَ لا الإِعراب . فيَسُوغ لأنَّ الجملةَ في موضعِ المفعولِ الثاني ، فلا يُحتاج إلى هذا التقديرِ . وإنْ جَعَلْناها متعديةً لواحدٍ كان قولُه » للناس « متعلقاً بالجَعْلِ على العِلَّيَّة . وجَوَّزَ فيه أبو البقاء وجهين آخرين ، أحدهما : أنه حالٌ من مفعولِ » جَعَلْناه « . و
الثاني : أنه مفعولٌ تعدَّى إليه بحرف الجر . وهذا الثاني لا يُتَعَقَّل ، كيف يكون » للناس « مفعولاً عُدِّي إليه الفعلُ بالحرف؟ هذا ما لا يعقلُ . فإن أراد أنه مفعولٌ مِنْ أجله فهي عبارةٌ بعيدةٌ من عبارة النحاة.
وأمَّا على قراءةِ حفصٍ : فإنْ قلنا : » جَعَلَ « يتعدى لاثنين كان » سواءً « مفعولاً ثانياً . وإنْ قُلْنا يتعدَّى لواحدٍ كان حالاً من هاءِ » جَعَلْناه « وعلى التقديرين : فالعاكفُ مرفوعٌ به على الفاعليةِ؛ لأنه مصدرٌ وُصِفَ به فهو في قوةِ اسم الفاعل المشتقِّ تقديرُه : جَعَلْناه مُسْتوياً فيه العاكفُ . ويَدُلُّ عليه قولُهم : » مررتُ برجلٍ سواءٍ هو والعَدَمُ « . ف » هو « تأكيدٌ للضميرِ المستترِ فيه ، و » العَدَمُ « نسقٌ على الضميرِ المستترِ ولذلك ارتفعَ.
ويروى : « سواءٍ والعدمُ » بدونِ تأكيدٍ وهو شاذٌّ.
وقرأ الأعمش وجماعةٌ « سَواءً » نصباً ، « العاكف » جراً . وفيه وجهان ، أحدهما : أنه بدلٌ من « الناس » بدلُ تفصيل . و
الثاني : أنه عطفٌ بيانٍ . وهذا أراد ابنُ عطية بقولِه « عَطْفاً على الناس » ويمتنع في هذه القراءةِ رفعُ « سواء » لفسادِه صناعةً ومعنىً؛ ولذلك قال أبو البقاء : « وسواءً على هذا نصبٌ لا غير ».
وأثبتَ ابنُ كثير ياءَ « والبادي » وصلاً ووقفاً ، وأثبتها أبو عمرو وورش وصلاً وحذفاها وقفاً . وحَذَفَها الباقون وَصْلاً ووَقْفاً وهي محذوفةٌ في الإِمام.
وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّ مفعولَ « يُرِدْ » محذوفٌ ، و « بإلحادٍ بظلم » حالان مترادفتان . والتقديرُ : ومَنْ يُرِدْ فيه مراداً ما ، عادِلاً عن القصدِ ظالماً ، نُذِقْه من عذابٍ أليم . وإنما حُذِفَ ليتناولَ كلَّ متناوَلٍ . قال معناه الزمخشريُّ . و
الثاني : أن المفعولَ أيضاً محذوفٌ تقديرُه : ومَنْ يُرِدْ فيه تَعَدِّياً ، و « بإلحادٍ » حال أي : مُلْتَبِساً بإلحادٍ . و « بظُلْمٍ » بدلٌ بإعادةِ الجارِّ . الثالث : أَنْ يكونَ « بظلمٍ » متعلقاً ب « يُرِدْ » ، والباءُ للسببيةِ أي بسببِ الظلم و « بإلحاد » مفعولٌ به . والباءُ مزيدةٌ فيه ك وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ [ البقرة : ١٩٥ ] [ و ]
٣٣٨٠ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَر
وإليه ذهب أبو عبيدة ، وأنشد للأعشى :
٣٣٨١ ضَمِنَتْ برزقِ عيالِنا أرماحُنا . . . . . . . . .
أي : ضَمِنَتْ رزقَ . ويؤيِّده قراءة الحسن « ومَنْ يُرِدْ إلحادهُ بظُلْمٍ » . قال الزمخشري : أراد إلحاده فيه فأضافه على الاتِّساعِ في الظرف ك مَكْرُ اليل [ سبأ : ٣٣ ] ومعناه : ومَنْ يُرِدْ أن يُلْحِدَ فيه ظالماً . الرابع : أن يُضَمَّنَ « يُرِدْ » معنى يتلبَّس ، فلذلك تعدى بالباء أي : ومَنْ يتلَبَّسْ بإلحادٍ مُرِيْداً له.
والعامَّةُ على « يُرِدْ » بضم الياء من الإِرادة . وحكى الكسائي والفراء أنه قُرِىء « يَرِدْ » بفتح الياء . وقال الزمخشري : « من الوُرُوْد ومعناه : مَنْ أتى فيه بإلحادٍ ظالماً ».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦)
جعلنا مكان البيت مبوأً لإبراهيم ، والمبوأ المنزل ، فالمعنى أن اللّه أعلم
إبراهيم مكان البيت فبنى البيتْ على أسه القديم ، وكان البيت في أيام الطوفان رفع إلى السماء حينَ غَرَّقَ اللّه الأرضَ ومَا عليها فَشَرَّفَ بيْتَه بأن أخرجه عن جُملة مَا غَرَق.
ويروى أن البيت كان من ياقوتة حمراء.
و (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ)
قيل : طهِره من الشرك.
والقائمونَ هَهُنا المصَلُّونَ.
* * *
و (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧)
رُوي أن أذان إبراهيم بالحَج أن وقف في المقام فقال : أيها الناسُ
أجيبوا يا عباد اللّه أطيعوا اللّه يا عباد اللّه اتقوا اللّه ، فَوَقَرَتْ في قلب كل مؤمن ومؤمنة وأسمع ما بين السماء والأرض وأجابه مَن في الأصلاب ممن كتب له الحج ، فكل من حج فهو ممن أجاب إبراهيم ، ويروى أنَّ أذَانَه بالحج كانَ
يا أيها الناس كتب عليكم الحج.
وقوله تعالى : (يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ).
(رِجَالًا) جمع راجل مثل صَاحِب وصِحَابٍ ، وقائِم وقِيَام.
(وَعَلَى كُل ضَامِرٍ يَأتِيَن) ، أي يأتوك رِجَالاً ورُكبَانلً.
وقال يأتين على معنى الِإبل
وعلى كل بعيد ضامر يأتي من كل فج عميق.
وعميق بعيد.
قال رؤبة :
وَقَاتِم الأعْماق خاوي المخترق
الأعماق الأقْعَار ، ومن هذا قيل : هذه بِئر " عَمِيقة " ، أي بَعِيدَة القَرار .
وقوله تعالى : (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللّه فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨)
أي ليشهدوا مَا نَدَبَهُم اللّه إليه مما فيه النفع لهم في آخرتهم.
(وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللّه فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ).
يعنى به يومَ النحْر والأيَّامُ التي بعده يُنْحَرُ فِيهَا لأن الذكر ههنا يدل - على
التسمية على ما يُنْحَر لقوله (عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ).
* * *
و (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ).
(البائس : الذي قد ناله بؤس ، والبؤس شدة الفقر ، يقال : قد بؤس ، وبأس
إذا صار ذا بؤس.
وقوله (فَكُلوا مِنْهَا) ليس بأمر لازم ، من شاء أكل من أضحيته
ومن شاء لم يأكل ، وإنما هو إباحة كما قال : (وإذا حَلَلْتُم فَاصْطَادُوا).
فإنما قال فاصطادوا ، لأنه كان قد حظر عليهم الصيد وهم مُحْرِمون.
فأباحَهمُ الصيْدَ.
وكذلك هذا الأمر ههنا إباحة بعد حظرهم على أنفسهم أكل
الأضاحي ، لأن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا لم يستحلوا أن يأكلوا من
نساكِهِم شيئاً ، فأَعلم اللّه عزَّ وجلَّ أن ذلك جائز.
* * *
و (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩)
قرئتْ (ثُمَّ لِيَقْضُوا) بكسر اللام ، وكذلك قرأ أبو عَمْرٍو ، والقراءة بالتسكين
مع - ثم كثيرة . .
والتفث في التفسير جاء ، وأهل اللغة لا يعرفون إلا من التفسير ، قالوا
التفث الأخذ من الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبِطِ وحَلقُ العَانة والأخْذُ مِنَ الشعَرِ ، كأنَّه الخروج منى الإحرام إلى الإحلال.
(وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).
قيل في العتيق أقوال ، قال الحسنِ هو البيت القديم ، ودليل الحسن
على ذلك (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا).
وقيل إن البيت العتيق الذي عَتَق من الغرق أيام الطوفانِ ، ودليل هذا
القول : (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) ، فهذا دليل أن البيت رفع وبقي مكانه.
وأكثر ما جاء في التفسير أنه اعْتِقَ من الجبابرة ، فلم يَغْلِبُ عليه جَبارٌ.
وقيل إنه سُمِّيَ العتيقَ لأنه لم يَدعْهُ أحَد من الناس.
وقيل إنما سمي العتيق لأنه لم يقصده جبار إلا أهلكه اللّه ، يقال أعتقت المملوك فهو مُعْتَقْ وَعَتِيق.
وكل ما مرَّ في تفسير العتيق فجائز حَسن - واللّه أعلم بحقيقة ذلك -
وهذه الآية تدل على أن الطواف يوم النحر فرضٌ.
* * *
و (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللّه فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠)
وحرماتُ اللّه الحجُّ والعمرةُ وسائر المناسك ، وكل ما فرض اللّه فهو من
حرمات اللّه ، والحرمةُ ما وجب القيامُ به وحَرمَ تركهُ والتفريطَ فيه.
وموضع (ذلك) رفع ، الأمر ذلك.
و (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ).
" ما " في موضع نصب أي إلا ما يتلى عليكم من الميتة والدم والمنخنقة
والموقودَةِ وسائر ما تلي تحريمه.
و (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ).
" مِنْ " ههنا لتخليص جنس من أجناس.
فاجتنبوا الرجس الذي هو وَثَنٌ (١).
و (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ).
الزور الكذب ، وقيل إنه ههنا الشرْكُ باللّه ، وقيل أيضاً شهادَةُ الزور.
وهذا كله جائز.
والآية تدل - واللّه أعلم - على أنهم نُهُوا أن يُحرمُوا ما حَرم
أصحابُ الأوْثانِ نحو قولهم : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورِنا ومحرم
على أزواجنا ، ونحو نحرهم البَحيرَةَ والسائِبَةَ ، فأعلمهم اللّه أنَّ الأنْعَامَ مُحَلًلَة
إلَّا ما حرَّمَ اللّه منها ، ونهاهم اللّه عن قول الزور أن يقولوا هذا حلال وهذا
حرام لِيَفْتَروا على اللّه كَذِباً.
* * *
و (حُنَفَاءَ للّه غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللّه فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (٣١)
(حُنَفَاءَ للّه)
منصوب على الحال ، وتأويله مُسْلِمِين لا يَمِيلُونَ إلى دِينٍ غير الإسلام.
و (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللّه فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ).
ويقرأ فَتَخْطَفهُ الطيرُ وفَتَخِطَّفُهُ . وقرأ الحسن فَتِخِطِّفُهُ بكسر التاء والخاء
والطاء.
فمن قرأ فتَخْطَفُه بالتخفيف فهو من خَطِفَ يخطَفُ ، والخَطْفُ الأخْذُ
بسرعة ، ومن قرأ فتَخطِّفُه - بكسر الطاء والتشديد - فالأصل فَتَخْتَطِفه فأدغم التاء في الطاء وألقى حركة التاء على الخاء ففتحها ، ومن قَالَ بكسر الخاء والطاء ، كسر الخاء لسكونها وسُكُون الطاء ، ومن كسر التاء والخاء والطاء - وهي قراءة الحسن - فهو على أن الأصل تَخْتَطِفُه.
وهذا مثل ضَرْبةِ اللّه للكافر في بُعْده عِنَ الحق - فأعلمَ اللّه أن بُعْدَ من
أشْركَ به مِنَ الحق كبُعْدِ مَنْ خرَّ من السماء فذهبت به الطير هَوَتْ به الريحُ في مكانٍ سحيق - أي ، بَعِيدٍ (٢).
__________
(١) قال السَّمين :
مِنَ الأوثان في « مِنْ » ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها لبيانِ الجنسِ ، وهو مشهورُ قول المُعْرِبين ، ويَتَقَدَّرُ بقولك : الرِّجْسُ الذي هو الأوثان . وقد تقدَّم أنَّ شرطَ كونِها بيانيةً ذلك . وتجيءُ مواضعُ كثيرةٌ لا يتأتى فيها ذلك ولا بعضُه . و
الثاني : أنَّها لابتداءِ الغايةِ . وقد خَلَط أبو البقاء القولين فجَعَلَهما قولاً واحداً فقال : « ومِنْ لبيانِ الجنسٍ أي : اجْتَنِبوا الرجسَ من هذا القبيل ، وهو بمعنى ابتداء الغاية ههنا » يعني أنه في يَؤُول إلى ذلِك ، ولا يَؤُول إليه ألبتَّةََ . الثالث : أنها للتبعيض . وقد غَلَّط ابنُ عطية القائلَ بكونِها للتبعيضِ ، فقال : « ومَنْ قال : إن » مِنْ « للتبعيض قَلَبَ معنى الآيةِ فأفسده » وقد يُمْكِنُ التبعيضُ فيها : بأَنْ يَعْني بالرِّجْسِ عبادة الأوثانِ . وبه قال ابنُ عباس وابنُ جريج ، فكأنه قال : فاجْتَنِبوا من الأوثانِ الرِّجسَ وهو العبادةُ؛ لأنَّ المُحَرَّمَ من الأوثان إنما هو العبادةُ ألا ترى أنه قد يُتَصَوَّرُ استعمالُ الوثَنِ في بناءٍ وغيرِه ممَّا لم يُحَرِِّمِ الشرعُ استعمالَه ، وللوَثَنِ جهاتٌ منها عبادتُها ، وهي بعض جهاتِها . قاله الشيخ . وهو تأويلٌ بعيدٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين :
فَتَخْطَفُهُ قرأ نافعٌ بفتحِ الخاءِ والطاء مشددةً . وأصلُها تَخْتَطِفُه فأدغم . وباقي السبعةِ « فَتَخْطَفُه » بسكون الخاء وتخفيفِ الطاء . وقرأ الحسنُ والأعمشُ وأبو رجاء بكسر التاء والخاء والطاء مع التشديد . ورُوِي عن الحسن أيضاً فتحُ الطاءِ مشددةً مع كسرِ التاءِ والخاءِ . ورُوِي عن الأعمش كقراءةِ العامَّةِ إلاَّ أنه بغير فاء : « تَخْطَفُه » . وتوجيهُ هذه القراءاتِ قد تقدَّم مستوفى في أوائل البقرة عند ذِكْري القراءاتِ في قولِه تعالى : يَكَادُ البرق يَخْطَفُ [ البقرة : ٢٠ ] فلا أُعيدها.
وقرأ أبو جعفر « الرياحُ » جمعاً . وقولِه « خَرَّ » في معنى يَخِرُّ؛ ولذلك عُطِفَ عليه المستقبلُ وهو « فَتَخْطَفُهُ » ، ويجوز أن يكون على بابه ، ولا يكونُ « فَتَخْطَفُه » عطفاً عليه ، بل هو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : فهو يَخْطَفُه.
قال الزمخشري : « ويجوزُ في هذا التشبيهِ أن يكونَ من المركب والمفرَّق . فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال : مَنْ أشرك باللّه فقد أهلكَ نفسَه إهلاكاً ليس بعده [ هلاكٌ ] : بأَنْ صَوَّر حالَه بصورةِ حالِ مَنْ خَرَّ من السماءِ فاخْتَطَفَتْه الطيرُ ، فتفرَّق مِزَعاً في حَواصلِها ، عَصَفَتْ به الريحُ حتى هَوَتْ به في بعض المطاوحِ البعيدةِ . وإن كان مُفَرَّقاً فقد شَبَّه الإِيمانَ في عُلُوِّه بالسماءَ ، والذي تركَ الإِيمانَ وأشرك باللّه ، بالساقط من السماء ، والأهواءَ التي تتوزَّعُ أفكارَه بالطير المتخطفةِ ، والشيطانَ الذي يُطَوِّحُ به في وادي الضَّلالةِ بالريح التي تهوي بما عَصَفَتْ به في بعض المهاوي المُتْلِفَةِ » . قلت : وهذه العبارةُ من أبي القاسم مما يُنَشِّطُك إلى تَعَلُّم عِلْمِ البيان فإنها في غاية/ البلاغة.
والأَوْثان : جمع وَثَن . والوَثَنُ يُطْلَقُ على ما صُوِّر من نحاسٍ وحديدٍ وخَشَبٍ . ويُطْلَقُ أيضاً على الصَّليب . « عن النبي صلَّى اللّه عليه وسلَّم أنه قال لعدي بن حاتم وقد رأى في عنقه صليباً : أَلْقِ هذا الوثنَ عنك » وقال الأعشى :
٣٣٨٧ يطوفُ العبادُ بأبوابِه . . . كطَوْفِ النصارى ببَيْتِ الوَثَنْ
واشتقاقُه مِن وَثَن الشيءُ أي : أقام بمكانه وثَبَتَ فهو واثِنٌ . وأُنشد لرؤبة :
٣٣٨٨ على أَخِلاَّء الصَّفاءِ الوُثَّنِ . . . أي : المقيمين على العهد . وقد تقدَّم الفرقُ بين الوَثَنِ والصنم.
والسَّحيقُ : البعيدُ . ومنه سَحَقَه اللّه أي : أبعده . وقوله عليه السلام : « فأقولُ سُحْقاً سُحْقاً » أي : بُعْداً بُعْداً . والنَّخْلة السَّحُوقُ : الممتدةُ في السماء ، من ذلك.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللّه فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢)
شعائر اللّه المعالم التي نَدَبَ إليها وأمَر بِالقِيامِ بِها ، واحَدتها شعيرة.
فالصفا والمروةُ من شعائر اللّه ، " الذى يُعْنَى به هنا البُدْنُ.
* * *
و (لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣)
يعنى أن لكم في البدن - قبل أن تُعْلِمُوهَا ، وتُسَموهَا هَدياً إلى بيتي - مَنَافِع.
فإذا أشْعَرْتُموهَا - والإشعار أن يشق في السنام حتى يَدْمَى ويعلق عليها نَعْلاً
ليعلم أنها بدنة ، فأكثرُ النَّاسِ لا يرى الانتفاع بها إذا جُعِلَتْ بدنةً ، لا
بِلَبَنِهَا ولا بِوَبَرِهَا وَلَا بِظَهْرِهَا ، يقول لا يُعْطَى لبنها ووبرها وظهرها أحَداً لأنها
بدنة فلا ينتفع بها غير أهْل اللّه إلاَّ عند الضرورة المخُوفِ معها الموت.
وبعضهم يقول : إنَّ له أنْ ينتفع بها فيركبها المُعْيِي وينتفع بمنافعها إلى وقت
محلها - مَكانِ نَحْرِها -.
والحجة في ذلك أن النَبي - صلى اللّه عليه وسلم - مرَّ برَجُلِ يسُوقُ بدَنَةً
فأمره - صلى اللّه عليه وسلم - بركوبها ، فقال : إنها بدنة فأمَره الثانية وأمَره الثالثة ، وقال له في الثالثة : اركبها وْيحَكَ ، فهذا - يجوز أنَّ النبي - صلى اللّه عليه وسلم - رآه مُضْطراً في ركوبها من شدة
الإعياء ، وجائز على ظاهر الحديث أن يكون ركوبُها جائزاً.
ومن أجاز ركوبَها والانتفاع بها يقول : ليس له أنْ يُهْزِلَها وينضِيَها لأنها بدنة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللّه عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤)
وتقرأ مَنْسِكاً ، والمنسك في هذا الموضع يدل على معنى النحر فكأنه
قال جعلنا لكل أُمَّةٍ أن تتقربَ بأن تَذْبح الذبَائح للّه ، ويدل على ذلك قوله
تعالى (ليَذكُروا اسمَ اللّه على ما رَزَقَهُم من بَهيمَةِ الأنْعَامِ).
ليذكروا اسم اللّه على نَحْرِ ما رَزقهم من بهيمة الأنعام.
وقال بعضهم : المنْسَكُ الموضِع الذي يجب تعهده ، وذلك جائز .
ومن قال مَنْسِك فمعناه مكانُ نُسُكٍ مثل مَخلِس مكان خلوس.
ومن قال مَنْسَك فهو بمعنى المصدر نحو النُّسُك والنُّسُوكِ.
و (فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ).
أي لا ينبغي أن تذكروا على ذَبَائُحكم إلا اللّه وحده.
و (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ).
قيل المخبتون المتواضعون ، وقيل المخبتون المطمئنون بالإِيمان باللّه
عزَّ وجلَّ ، وقيل المخبتون الذين لا يظلمون وإذا ظُلِموا لم ينتصروا.
وكل ذلك جائز.
واشتقاقه من الخَبْتِ مِنَ الأرْضِ وهي المكان المنخْفِض منها ، فكل
مُخْبِت متواضع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥)
(وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ).
القراءة الخفضُ وإسقاط التَنْوِين ، والخفض على الإِضَافة ، ويجوز :
والمقيمين الصَّلَاةَ ، إلا أنه بخلاف المصحف.
ويجوز أيضاً على بُعْدٍ والمقِيمي الصَّلَاةَ ، على حذف النون ونصب الصلاة لطول الاسم ، وأنشد سيبويه :
الحافظو عورةَ العشيرةِ لا . . . يأتيهم من ورَائِهم نطف
وزعم أنه شَاذٌّ.
* * *
وقوله تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللّه لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللّه عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦)
النصب أحسن لأن قبله فِعْلًا ، وَجَعَلْنَا البدْنَ ، فنصب بفعل
مُضْمَرٍ الذي ظهر يفسره.
وإن شئت رفعت على الاستئناف.
والبدْن بتسكين الدالِ وَضَمها . بَدَنَة وبُدْنٌ ، وبُدْن مثل قوله ثَمَرَةٌ وثُمْر وثُمُر.
وإنما سميت بَدَنَةً لأنها تَبْدُن ، أي تَسْمَن.
و (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللّه عَلَيْهَا صَوَافَّ).
(صَوَافَّ) منصوبة على الحال ، ولكنها لا تنون لأنها لا تنصرف ، أي قَدْ
صَفَّتْ قَوَائِمَها ، أي فاذكروا اسم اللّه عليها في حال نحرها.
والبَعِير ينحر قائماً ، وهذه الآية تدل على ذلك ، وتقرأ صَوَافِنَ ، والصافن الذي يقوم على ثَلَاث ، فَالبَعِير إذا أرادوا نحَره تعقل إحدى يديه فَهُو صَافِن ، والجمع صَوافِنُ يا هذا ، وقرئت صَوافِيَ بالياء وبالفتح بِغَيْر تَنْوِينِ وتفسيره خَوَالص - أي خالصة للّه عزَّ وجلَّ ، لا تُشْرِكوا في التَسْمِيةِ على نحرها أحَداً.
و (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُها).
أي إذا سقطت إلى الأرض.
(فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ).
بتشديد الراء ، ويجوز والمعْتَرَي بالمِاء ، ويقال : وجب الحائط يَجِبُ
وَجْبَةً إذَا سَقَط ، ووجب القلب يجب وَجْباً وَوَجيبا إِذَا تَحَركَ من فَزَع ، ووجب البيْعُ يجب وجُوباً وجِبَةً ، والمستقبل في ذلك كله يجب.
وقيل في القَانع الذي يَقْنَعُ بما تُعْطِيهِ ، وقيل الذي يَقنع باليسير.
وقيل وهو مذهب أهْل اللغَةِ السائل ، يقال قَنعَ الرجل قُنُوعاً إذَا سألَ ، فهو قانع ، وأنْشَدُوا للشماخِ.
لَمَالُ المَرْءِ يُصْلِحه فيُغْني . . . مَفاقِرَه أَعفّ من القُنُوعِ
أي أعَفُّ من السؤال ، وقنِعَ قناعةً إذا رَضِيَ فهو قَنِعٌ ، والمُعْتَرُ : الذي
يعتريك فيطلب مَا عِنْدَكَ ، سألك إذ سئلِتَ عن السؤال وكذلك المعتري (١).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَنْ يَنَالَ اللّه لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللّه عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧)
وقرئت : (لَن تَنَالَ اللّه لحُومُها) بالتاء ، فمن قرأ بالياء فَلِجَمْعِ اللحوم.
ومن قرأ بالتاء فلجماعة اللحوم - وكانوا إذا ذَبَحُوا لَطخوا البيت بالدمِ ، فأعلم اللّه - عزَّ وجلَّ - أنَّ الَّذِي يَصِلُ إليهِ تَقْواهُ وطَاعَتُه فيما يَأمُر بِهِ.
(وَلَكِنْ يَنَالُه التَقْوَى مِنْكُمْ).
وتناله - التقوى منكم - بالياء والتاء - فمن أنثَ فللفظ التقوى ، ومَنْ ذَكَرَ
فلأن معنى التقوى والتقى واحِدٌ.
* * *
و (إِنَّ اللّه يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللّه لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨)
ويدْفَعُ عن الذين آمنوا.
هذا يدل على النَصْرِ مِنْ عِنْده ، أي فَإذَا دَفَعْتُم ، أي فإذا فَعَلْتُم هذا ، وخَالَفْتُم الجَاهِليةَ فيما تفعلونَهُ فِي نَحْرِهِمْ.
وإشراكهم باللّه ، فإنَّ اللّه يدْفَعُ عن حِزْبِه.
و (كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ).
(خَوَّانٍ) فعَّال من الخِيَانَةِ ، أي من ذكر اسم غير اللّه وتَقَرَّبَ إلى الأصنام
بِذَبِيحَتِه فهو خَوَّانٌ كَفُورٌ.
والبُدْنُ قيل إنها الإبِلُ خاصَّةً ، وقيل إنها الإبل والبَقَرُ ، وَلَا أعْلَمُ أحَداً
قال : إن الشاء داخلة فيها ، فأمَّا من قال إنَها الِإبِلُ والبَقَرُ فَهُمْ أكبر فقهاء
الأمْصَارِ ، ولكن الاستعمال في السِّيَاقةِ إلَى البَيْتِ الإبِل فلذلك قال من قال
إنها - الإبِلُ.
__________
(١) قال السَّمين :
والبدن : العامَّةُ على نصب « البُدْنَ » على الاشتغال . ورُجِّح النصبُ وإن كان مُحْوِجاً لإِضمارٍ ، على الرفع الذي لم يُحْوِجْ إليه ، لتقدُّمِ جملةٍ فعليةٍ على جملةِ الاشتغالِ . وقُرِىء برفعِها على الابتداءِ ، والجملةُ بعدها الخبرُ.
والعامَّةُ أيضاً على تسكينِ الدالِ . وقرأ الحسن وتُرْوى نافعٍ وشيخةِ أبي جعفر بضمِّها ، وهما جمعان ل « بَدَنَة » نحو : ثَمَرةٍ وثُمُرٍ وثُمْرٍ . فالتسكينُ يحتمل أن يكونَ تخفيفاً من المضمومِ ، وأَنْ يكونَ أصلاً . وقيل : البُدْنُ والبُدُنُ جمعُ بَدَن ، والبَدَنُ جمعٌ لبَدَنَة نحو : خَشَبة وخَشَب ، ثم يُجْمع خَشَباً على خُشُب وخُشْب . / وقيل : البُدْنُ اسمٌ مفردٌ لا جمعٌ يَعْنُون اسمَ جنسٍ . وقرأ ابنُ أبي إسحاق « البُدُنَّ » بضم الباء والدال وتشديد النون . وهي تحتمل وجهين ، أحدُهما : أنَّه قرأ كالحسن ، فوقَفَ على الكلمةِ وضَعَّفَ لامَها كقولِهم : « هذا فَرُخّْ » ثم أجرى الوصلَ مجرى الوقفِ في ذلك . ويُحتمل أَنْ يكونَ اسماً على فُعُل ك عُتُلّ.
وسُمِّيَت البَدَنة بَدَنةً لأنها تُبْدَنُ أي : تُسَمَّنُ . وهنل تختصُّ بالإِبل؟ الجمهورُ على ذلك . قال الزمخشري : « والبُدْنُ : جمعُ بَدَنَة سُمِّيَتْ لعِظَمِ بَدَنِها ، وهي الإِبِلُ خاصةً؛ لأنَّ رسولَ اللّه صلَّى اللّه عليه وسلَّم ألحق البقرَ بالإِبل حين قال : » البَدَنَةُ عن سبعةٍ ، والبقرة عن سبعة « فجَعَلَ البقرَ في حُكْمِ الإِبلِ ، صارَت البَدَنةُ متناوَلَةً في الشريعة للجنسين عند أبي حنيفة وأصحابِه ، وإلاَّ فالبُدْنُ هي الإِبلُ وعليه تَدُلُّ الآيةُ » . وقيل لا تختصُّ ، فقال الليث : البَدَنَةُ بالهاء تقعُ على الناقةِ والبقرة والبعير وما يجوز في الهَدْي والأضاحي ، ولا تقعُ على الشاة . وقال عطاءٌ وغيرُه : ما أشعر مِنْ ناقة بقرةٍ . وقال آخرون : البُدْنُ يُراد به العظيمُ السِّنِّ من الإِبل والبقر . ويقال للسَّمين من الرجال . وهو اسمُ جنسٍ مفردٍ.
مِّن شَعَائِرِ اللّه هو المفعولُ الثاني للجَعْل بمعنى التصيير.
لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ الجملةُ حالٌ : إمَّا من « ها » « جَعَلْناها » ، وإمَّا مِنْ شعائر اللّه . وهذان مبنيَّان على أن الضميرَ في « فيها » هل هو عائدٌ على « البُدْن » على شعائر؟ والأولُ قولُ الجمهورِ.
صَوَآفَّ نصبٌ على الحال أي : مُصْطَفَّةً جنبَ بعضِها إلى بعض . وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم « صَوافي » جمعَ صافِيَة أي : خالصةً لوجهِ اللّه تعالى . وقرأ عمرو بن عبيد كذلك ، إلاَّ أنه نَوَّنَ الياءَ فقرأ « صَوافياً » . واسْتُشْكِلَتْ من حيث إنه جمعٌ متَناهٍ . وخُرِّجَتْ على وجهين ، أحدُهما : ذكره الزمخشري وهو أَنْ يكونَ التنوينُ عِوَضاً من حرفِ الإِطلاقِ عند الوقف . يعني أنه وَقَفَ على « صَوافي » بإشباع فتحةَ الياءِ فَتَوَلَّد منها أَلِفٌ يُسَمَّى حرفَ الإِطلاق ، ثم عَوَّضَ عنه هذا التنوينَ ، وهو الذي يُسَمِّيه أهلُ النحوِ تنوينَ الترنُّم.
و
الثاني : أنه جاء على لغةِ مَنْ يَصْرِفُ ما لا يَنْصَرِفُ.
وقرأ الحسنُ « صَوافٍ » بالكسرِ والتنوين . وتوجيهُها : أنه نصبها بفتحة مقدرةٍ ، فصار حكمُ هذه الكلمةِ كحكمِها حالةً الرفعِ والجرِّ في حَذْفِ الياءِ وتعويض التنوينِ نحو : « هؤلاء جوارٍ » ، ومررت بجوارٍ . وتقديرُ الفتحةِ في الياءِ كثيرٌ كقولهم : « أعْطِ القوسَ بارِيْها » و
٣٣٨٩ كأنَّ أيْدِيهنَّ بالقاعِ القَرِقْ . . . أيديْ جوارٍ يتعاطَيْنَ الوَرِق
وقوله:
٣٣٩٠ وكَسَوْتُ عارٍ لَحْمُه . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويدلُّ على ذلك قراءةُ بعضِهم « صَوافيْ » بياءٍ ساكنةٍ من غيرِ تنوينٍ ، نحو : « رأيتُ القاضيْ يا فتى » بسكون الياء . ويجوز أن يكونَ سكَّن الياءَ في هذه القراءةِ للوقفِ ثم أَجْرَى الوصلَ مُجْراه.
وقرأ العبادلة ومجاهدٌ والأعمش « صَوافِنْ » بالنون جمعَ « صَافِنَة » وهي التي تقومُ على ثلاثٍ وطرفِ الرابعة ، إلاَّ أنَّ ذلك إنما يُسْتَعْمَلُ في الخيلِ ك الصافنات الجياد [ ص : ٣١ ] ، وسيأتي ، فيكون استعمالُه في الإِبلِ استعارةً.
والوجوبُ : السُّقوطُ . وجَبَتِ الشَمسُ ِأي : سَقَطَتْ . ووجَبَ الجِدَارُ أي : سَقَطَ ، ومنه الواجبُ الشرعي كأنه وقع علينا ولَزِمَنا . وقال أوس بن حجر :
٣٣٩١ ألم تُكْسَفِ الشمسُ شمسُ النَّها . . . رِ والبدرُ للجبل الواجبِ
« القانِعَ والمعتَّر » فيهما أقوالٌ . فالقانِعُ : السائل والمُعْتَرُّ : المعترضُ من غيرِ سؤالٍ . وقال قومٌ بالعكس . وقال ابن عباس : القانِعُ : المستغني بما أعطيتَه ، والمعترُّ : المعترضُ من غيرِ سؤالٍ . وعنه أيضاً : القانعُ : المتعفِّفُ ، والمعترُّ : السائلُ . وقال بعضُهم : القانِعُ : الراضي بالشيءِ اليسيرِ . مِنْ قَنِعَ يَقْنَعُ قَناعةً فهو قانِعٌ . والقَنِعُ : بغير ألفٍ هو السَّائلُ . ذكره أبو البقاء . وقال الزمخشري : « القانِعُ : السَّائلُ . مِنْ قَنِعْتُ وكَنَعْتُ إذا خَضَعْتَ له . وسألتُه قُنُوْعاً . والمُعْتَرُّ : المعترِّضُ بغيرِ سؤالٍ ، القانِعُ الراضي . بما عندَه ، وبما يعطى ، من غيرِ سؤالٍ . مِنْ قَنِعْتُ قَنَعاً وقَناعة . والمعترُّ : المتعرض بالسؤال » . انتهى . وفرَّق بعضهم بين المعنيين بالمصدر فقال : قَنِعَ يَقْنَع قُنوعاً أي سأل ، وقَناعة أي : تعفَّف ببُلْغَته واستغنى بها . وأنشد للشماخ :
٣٣٩٢ لَمالُ المَرْءِ يُصْلِحُه فيُغْني . . . مَفاقِرَه أَعَفُّ من القُنوعِ
وقال ابن قتيبة : « المُعْتَرُّ : المتعرِّضُ من غير سؤال . يُقال : عَرَّه/ واعتَرَّه وعَراه واعْتراه أي : أتاه طالباً معروفَه قال :
٣٣٩٣ لَعَمْرُك ما المُعتَرُّ يَغْشى بلادَنا . . . لِنَمْنَعَه بالضائعِ المُتَهَضِّمِ
وقوله الآخر :
٣٣٩٤ سَلي الطارِقَ المعترَّ يا أمَّ مالِكٍ . . . إذا ما اعْتَراني بينَ قِدْري ومَجْزَري
وقرأ أبو رجاء » القَنِع « دون ألف . وفيها وجهان ، أحدهما : أنَّ أصلَها » القانِع « فَحَذَفَ الألف كما قالوا : مِقْوَل ومِخْيَط وجَنَدِل وعُلَبِط في : مِقْوال ومِخْياط وجَنَادل وعُلابط . و
الثاني : أن القانِعَ هو الراضي باليسير ، والقَنِع : السائلُ ، كما تقدَّم تقريره ، قال الزمخشري : » والقَنِعُ : الراضي لا غير «.
وقرأ الحسن : » والمُعْتري « اسمُ فاعلٍ مِنْ اعْتَرى يَعْتري . وقرأ إسماعيل وتروى عن أبي رجاء والحسن أيضاً » والمُعْتَرِ « بكسر الراء اجتزاءً بالكسرة عن لامِ الكلمة.
وقُرِىء » المُعْتَرِيَ « بفتح الياء . قال أبو البقاء : » وهو في معناه « أي : في معنى » المعترّ « في قراءة العامَّة.
و [ ] كذلك سَخَّرْنَاهَا الكافُ نعتُ مصدرٍ أ و حالٌ من ذلك المصدرِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
و (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللّه عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩)
ويقرأ (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ) ، وُيقرأ (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ) وُيقَاتَلونَ.
والمعنى أذن للذين يقاتلون أن يقاتِلُوا.
ويرْوَى أنَّها أول آيَةٍ نزلت في القِتَالِ.
(بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا).
أي أُذِنَ لهم أن يقاتلوا بسبب ما ظلموا
و (وَإِنَّ اللّه عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).
وعدهم اللّه النَصْرَ ، ولا يجوز أن يقرأ و " أَنَّ " اللّه - بفتح أنَّ ، ولا بَيْن
أهل اللغة خِلاَفٌ في أن هذا لا يجوز لأن " أنَّ " إذا كانت معها اللام لم
تفتح أبَداً.
* * *
و (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللّه وَلَوْلَا دَفْعُ اللّه النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّه كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللّه مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللّه لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠)
(الذين) في موضع جَر ، " أُذِنَ للذين أُخْرجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بغير حق
إلا أنْ يَقُولُوا رَبنَا اللّه "
" أنْ " في مَوْضِع جَر ، أخرِجُوا بلا حَقٍّ ، إلَّا بِقَوْلهم رَبُّنَا اللّه أي لم
يخرجوا إلا بأن وَحدُوا اللّه ، فأخرَجَتْهُمْ عَبَدَةُ الأوثان لتوحيدهم.
وقوله . : (وَلَوْلَا دَفْعُ اللّه النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ).
: ولولا أن دفع اللّه بعض الناس ببعضٍ لَهُدّمَتْ صوامع.
وتقرأ (لَهُدِمَتْ) وهي صوامع الرهْبَانِ.
(وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَسَاجِدُ).
والبيَعُ بيَعُ النصارى ، والصَّلَوَاتُ كنَائِسُ اليَهود ، وهي بالعبرانية صَلُوتَا ،
وقرئت صَلَاةٌ وَمَسَاجِدُ ، وقيل إنها مَوْضعُ صَلَواتِ الصَّابِئِين.
وتأويل هذا : لولا أن اللّه - عزَّ وجل - دَفَع بعض الناس بَبَعْض لهُدِّمَ في شريعة كُلِّ نَبيٍّ المَكَانَ الَّذِي كان يُصَلِّي فيه ، فَكَانَ لولَا الدفعُ لَهُدِمَ في زمن موسى عليه السلام الكنائس التي كان يصلي فيها في شريعته ، وفي زَمَنِ عيسى الصوامع والبِيَعُ ، وفي زمن محمد - صلى اللّه عليه وسلم - المساجِدُ.
وقوله . : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللّه مَنْ يَنْصُرُهُ).
أي من أقام شريعة مِن شرائعه ، نصر على إقامة ذلك ، إلا أنَّهُ لَا يُقام
في شريعة نَبِيٍّ إلَّا ما أتِيَ به ذلك النبي وُينْتَهَى عما نَهَى عَنْهُ (١).
* * *
و (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللّه عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١)
(الذين) في موضع نصب على تفسير مَنْ ، وليَنْصُرَنَ اللّه مَنْ
ينصُرُه ثم بين صِفَةَ ناصِريه فقال :
(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ).
فَصِفةُ حِزْبِ اللّه الذينَ يُوحدونَه ، إقَامة الصلاة ، وإِيتاءُ الزّكاة والأمْر
بالمَعْرُوف والنهى عن المنكر ، وهما واجبان كوجوب الصلاة والزكاة
أعنِي الأمرَ بالمعروف والَّنْهِيَ عَنِ المُنْكَر.
* * *
(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥)
ويقرأ أهْلكتُها ، فكيف كانَ نِكير أيْ تم أخَذْتَهم فأبْلَغْتُ أبلغ
الِإنكار.
فأهْلكت قُرى كثيرةً ، لأن معنى (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) معنى فكم مِنْ قَرْيةٍ ، ومعنى كم من قريةٍ عدد كثير من القُرَى.
__________
(١) قال السَّمين :
الذين أُخْرِجُواْ : يجوز أن يكونَ في محلِّ جرٍّ ، نعتاً للموصول الأولِ بياناً له ، بدلاً منه ، وأن يكونَ في محلِّ نصبٍ على المدح ، وأن يكونَ في محلِّ رفعٍ على إضمارِ مبتدأ.
إِلاَّ أَن يَقُولُواْ فيه وجهان ، أحدهما : أنه منصوبٌ على الاستثناءِ المنقطع ، وهذا ممَّا يُجْمِعُ العربُ على نصبه؛ لأنه منقطعٌ لا يمكنُ تَوَجُّهُ العاملِ إليه ، وما كان كذا أجمعوا على نصبهِ ، نحو : « ما زاد إلاَّ ما نقصَ » ، « وما نفعَ إلاَّ ما ضَرَّ » . فلو توجَّهَ العاملُ جاز فيه لغتان : النصبُ وهو لغةُ الحجاز ، وأَنْ يكونَ كالمتصلِ في النصبِ والبدل نحو : « ما فيها أحدٌ إلاَّ حمارٌ » ، وإنما كانت الآيةُ الكريمةُ من الذي لا يتوجَّه عليه العاملُ؛ لأنك لو قلت : « الذين أُخْرِجوا مِنْ ديارهم إلا أَنْ يقولوا ربُّنا اللّه » لم يَصحَّ .
الثاني : أنه في محلِّ جر بدلاً من « حَقّ » قال الزمخشري : « أي بغير موجِبٍ سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإِقرارِ والتمكينِ لا موجبَ الإِخراجِ والتسييرِ . ومثلُه : هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا باللّه [ المائدة : ٥٩ ].
وممَّنْ جَعَلَه في موضع جرٍّ بدلاً ممَّا قبله الزجاجُ . إلاَّ أن الشيخ قد رَدَّ ذلك فقال : » ما أجازاه من البدل لا يجوز؛ لأنَّ البدلَ لا يجوزُ إلاَّ حيث سبقه نفيٌ نهيٌ استفهامٌ في معنى النفي . وأمَّا إذا كان الكلام موجَباً أمراً فلا يجوزُ البدلُ؛ لأنَّ البدلَ لا يكون إلا حيثُ يكونُ العاملُ يَتَسَلَّطُ عليه . ولو قلت : « قام إلاَّ زيدٌ » ، و « لْيَضْرِبْ إلاَّ عمروٌ » لم يجز . ولو قلت في غير القرآن : « أُخْرِجَ الناسُ مِنْ ديارِهم إلاَّ بأَنْ يقولوا : لا إلهَ إلاَّ اللّه » لم يكن كلاماً . هذا إذا تُخُيِّل أَنْ يكونَ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ في موضعِ جرٍّ بدلاً من « غير » المضاف إلى « حَقٍّ » . وأمَّا إذا كان بدلاً من « حق » كما نَصَّ عليه الزمخشريُّ فهو في غايةِ الفسادِ؛ لأنه يَلْزَمُ منه أن يكونَ البدلُ يلي « غيراً » فيصير التركيبُ : بغير إلاَّ أَنْ يقولوا ، وهذا لا يَصِحُّ ، ولو قَدَّرْنا [ إلاَّ ] ب « غير » كما/ يُقَدَّرُ في النفي في : « ما مررت بأحدٍ إلاَّ زيدٍ » فتجعلُه بدلاً لم يَصِحَّ؛ لأنه يصيرُ التركيبُ : بغير غيرِ قولِهم ربُّنا اللّه ، فتكون قد أضَفْتَ غيراً إلى « غير » وهي هي فيصير : بغير غير ، ويَصِحُّّ في « ما مررتُ بأحدٍ إلاَّ زيدٍ » أن تقول : ما مررت بغير زيد ، ثم إن الزمخشري حيث مَثَّل البدلَ قَدَّره : بغير موجبٍ سوى التوحيدِ ، وهذا تمثيلٌ للصفة جَعَلَ [ إلاَّ ] بمعنى سِوَى ، ويَصِحُّ على الصفةِ فالتبسَ عليه بابُ الصفة بباب البدل.
ويجوز أن تقولَ : « مررتُ بالقومِ إلاَّ زيدٍ » على الصفة لا على البدل «.
وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّه قد تقدَّم الخلافُ فيه في البقرة وتوجيهُ القراءتين.
وقرأ » لَهُدِمَتْ « بالتخفيفِ نافعٌ وابن كثير . والباقون بالتثقيل الدالِّ على التكثيرِ؛ لأنَّ المواضعَ كثيرةٌ متعددةٌ ، والقراءةُ الأولى صالحةٌ لهذا أيضاً.
والعامَّةُ على » صَلَواتٌ « بفتح الصاد واللام جمعَ صلاةٍ . وقرأ جعفر ابن محمد » وصُلُوات « بضمِّهما . ورُوي عنه أيضاً بكسرِ الصاد وسكونِ اللام . وقرأ الجحدري بضم الصاد وفتح اللام . وأبو العالية بفتح الصادِ وسكونِ اللام . والجحدريُّ أيضاً » وصُلُوْت « بضمِّهما وسكونِ الواو ، بعدها تاءٌ مثناةٌ من فوقُ مثلَ : صُلْب وصُلُوب.
والكلبيُّ والضحاكُ كذلك ، إلاَّ أنهما أَعْجَما التاءَ بثلاثٍ مِنْ فوقها . والجحدريُّ أيضاً وأبو العاليةِ وأبو رجاءٍ ومجاهدٌ كذلك ، إلاَّ أنَّهم جعلوا بعد الثاءِ المثلثة ألفاً فقرؤوا » صُلُوْثا « ورُوي عن مجاهدٍ في هذه التاءِ المثنَّاةِ مِنْ فوقُ أيضاً . ورُوي عن الجحدريِّ أيضاً » صُلْواث « بضم الصادِ وسكونِ اللامِ وألفٍ بعد الواوِ والثاءِ مثلثةً.
وقرأ عكرمة » صلويثى « بكسر الصاد وسكون اللام ، وبعدها واوٌ مكسورةٌ بعدَها ياءٌ مثنَّاةٌ مِنْ تحتُ بعدها ثاءٌ مثلثةٌ ، وحكى ابنُ مجاهد أنه قُرِىءَ » صِلْواث « بكسر الصاد وسكون اللام . بعدها واوٌ ، بعدها ألف ، بعدها ثاءٌ مثلثةٌ.
وقرأ الجحدري » وصُلُوب « مثل كُعُوْب بالباء الموحدةِ وهو جمع » صليب « ، وفُعُوْل جمعُ فعيل شاذٌّ نحو : ظريف وظروف وأَسِينة وأُسُون ، ورُوي عن أبي عمرو » صلواتُ « كالعامَّةِ ، إلاَّ أنَّه لم يُنَوِّن ، مَنَعه الصرفَ للعلميَّة والعجمة؛ لأنه جعله اسمَ موضعٍ ، فهذه أربعَ عشرةَ قراءةً ، المشهورُ منها واحدةٌ ، وهي هذه الصلاةُ المعهودة.
ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ ليَصِحَّ تَسَلُّطُ الهَدْمِ عليها أي : مواضع صلواتٍ ، يُضَمَّن » هُدِّمَتْ « معنى » عُطِّلَتْ « فيكون قَدْراً مشتركاً بين المواضع والأفعال؛ فإنَّ تعطيلَ كلِّ شيءٍ بِحَسبِه . وأخَّر المساجدَ لحُدوثِها في الوجود ، الانتقالِ إلى الأشرفِ . والصلواتُ في الأمم . . . . . . صلاةُ كلِّ مِلَّةٍ بحَسَبِها . وظاهرُ كلام الزمخشري أنها بنفسِها اسمُ مكان فإنه قال : » وسُمِّيَتْ الكنسيةُ صلاةً لأنه يُصَلَّى فيها . وقيل : هي كلمةٌ مُعَرَّبَةٌ أصلُها بالعبرانيةِ صَلُوثا « . انتهى.
وأمَّا غيرُها من القراءات فقيل : هي سريانيةٌ عبرانيةٌ دَخَلَتْ في لسانِ العربِ . ولذلك كَثُر فيها اللغاتُ.
والصَّوامِعُ : جمعُ صَوْمَعَة وهي البناءُ المرتفعُ الحديدُ الأعلى ، مِنْ قولِهم رجلٌ أصمعُ ، وهو الحديدُ القولِ . ووزنها فَوْعَلة كدَوْخَلة . وهي متعبَّد الرهبانِ لأنهم ينفردون . وقيل : متعبَّدُ الصَّابِئين.
والبِيَعُ : جمع بِيْعَة ، وهي متعبَّدُ النصارى . وقيل : كنائس إليهود . والأشهر أنَّ الصوامِعَ للرهبانِ والبِيَعَ للنصارى ، والصَّلَواتِ لليهود ، والمساجدَ للمسلمين.
و يُذْكَرُ فِيهَا اسم اللّه يجوز أَنْ يكونَ صفةً للمواضعِ المتقدمةِ كلِّها ، إنْ أَعَدْنا الضميرَ مِنْ » فيها « عليها ، صفةً للمساجد فقط ، إنْ خَصَصْنا الضميرَ في » فيها « بها ، والأولُ أظهر. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
ويجوز كائن بتشديد الياء ، ويجوز كائِن مِنْ قَرْيَةٍ ، وهو عند البَصْريين
في معنى العدد الكبير ، نقول : وكائن مِنْ رَجُل جَاءَنِي معناه العدد الكثيرُ مِنَ
الرجَالَ.
(فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا).
والعُروش السقوفُ ، فالمعنى أنها قَدْ خَرِبَتْ وخَلَتْ فصارت على
سُقُوفها كما قال في مَوْضع آخر : (فَجَعَلْنَا عَالِيَها سَافِلَهَا) ، يقال خوتِ الدارُ
والمدينةُ خَواءً ، ممدود ، فهي خاوِية ، وخَوِيتِ المرأةُ وخوِيَ الِإنْسَانُ إذا خَلَا
مِنَ الطعَامِ خَوًى ، مَقْصور فهو خَوٍ.
و (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ).
أكثر ما جاء في مَشِيدٍ من التَفْسِير مُجَصَّص ، والشَيدُ الجصُّ والكَلْسُ
أيضاً شِيد ، وَقِيلَ مَشِيد مُحَصَّن مُرْتَفِع ، والمُشَيد إذَا قيل مُجَصَّص فهو مُرْتفع
في قَدْرِهِ وَإن لَمْ يرتفع في سُمكِهِ ، وأصل الشَيدِ الجصُّ والنورَةُ ، وكل ما بُنيَ
بِهِمَا بِأحَدِهمَا فهو مُشَيدٌ.
* * *
و (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)
(وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).
القلبُ لا يكون إلا في الصدْرِ - ولكن جَرَى عَلَى التَوكِيدِ كما قال
عز وَجَل (يَقُولُونَ بأفْوَاهِهِمْ) ، وكما قال : (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ).
وكما قرأ بعضهم : (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً).
فالتوكيد جار في الكلام مبالغ في الإفْهَامَ (١).
__________
(١) قال السَّمين :
التي فِي الصدور صفةٌ بدلٌ بيانٌ . وهل هو توكيدٌ؛ لأنَّ القلوبَ لا تكونُ في غير الصدور ، لها معنى زائدٌ؟ كما قال الزمخشري : « الذي قد تُعُوْرِف واعتُقِدَ أنَّ العمى في الحقيقة مكانُه البصرُ ، وهو أن تصابَ الحَدَقَةُ بما يَطْمِسُ نورَها ، واستعمالُه في القلبِ استعارةٌ ومَثَلٌ . فلمَّا أُريدَ إثباتُ ما هو خلافُ المعتقدِ مِنْ نسبةِ العمى إلى القلوبِ حقيقةً ، ونفيُه عن الأبصارِ ، احتاج هذا التصويرُ إلى زيادةِ تعيينٍ وفَضْلِ تعريفٍ؛ ليتقرَّرَ أنَّ مكانَ العمى هو القلوبُ لا الأبصارُ ، كما تقولُ : ليس المَضَاءُ للسَّيْفَ ، ولكنه لِلِسانِك الذي بينَ فَكَّيْكَ . فقولُك : » الذي بين فَكَّيْكَ « تقريرٌ لِما ادَّعَيْتَه لِلِسانِه وتثبيتٌ؛ لأنَّ مَحَلَّ المَضاءِ هو هو لا غير ، وكأنَّك قلتَ : ما نَفَيْتُ المَضاءَ عن السيفِ وأثبتَّه لِلِسانِك فلتةً مني ولا سَهواً ، ولكن تَعَمَّدْتُ به إيَّاه بعينه تَعَمُّداً.
وقد رَدَّ الشيخ على أبي القاسم » تَعَمَّدْتُ به إياه « وجعل هذه العبارةَ عُجْمَةً من حيث إنه فَصَلَ الضميرَ ، وليس من مواضعِ فَصْلِه ، وكان صوابُه أن يقول : تعمَّدْتُه به كما تقول : » السيفُ ضربتُك به « لا » ضربْتُ به إياك «.
قلت : وقد تقدَّم لك نظيرُ هذا الردِّ والجوابُ عنه بما أُجيب عن قولِه تعالى : يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ [ الممتحنة : ١ ] ، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ [ النساء : ١٣١ ] : وهو أنه مع قَصْدِ تقديمِ غيرِ الضميرِ عليه لغرضٍ يمتنعُ اتصالُه ، وأيُّ خطأ في مثل هذا حتى يَدَّعي العُجْمَةَ على فصيحٍ شَهِدَ له بذلك أعداؤُه ، وإن كان مُخْطِئاً في بعضِ الاعتقاداتِ ممَّا لا تَعَلُّقَ له فيما نحن بصدِده؟
وقال الإِمامُ فخر الدين : « وفيه عندي وجهٌ آخرُ : وهو أنَّ القلبَ قد يُجْعَلُ كنايةً عن الخاطرِ والتدبُّرِ ، كقولِه تعالى : إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ [ ق : ٣٧ ] . وعند قومٍ أنَّ محلَّ الذِّكْرِ هو الدماغُ ، فاللّه تعالى بيَّن أنَّ مَحَلَّ ذلك هو الصدرُ » . وفي محلِّ العقلِ خلافٌ مشهورٌ ، وإلى الأولِ مَيْلُ ابنِ عطية قال : « هو مبالغةٌ كما تقول : نظرتُ إليه بعيني ، وك يقولون بأَفْواههم » . قلت : وقد أَبْدَيْتُ فائدةً في قوله « بأفواههم » زيادةً على التأكيد. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
و (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللّه وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧)
قيل إن يوْماً من أيامِ عَذَابِهم كألف سَنَةٍ ، ويدل على ذلك الحديث
الذي يُرْوَى أن الفقراء يُدْخُلونَ الجنةَ قَبْلَ الأغْنِياءِ بِنِصفِ يومٍ.
وجاء في حديث آخر تفسير هذا القول بخمسمائةِ عَامٍ.
فهذا يدل على أنَّ اليومَ مِن أيامِ القِيامة ألف سَنَةٍ ، والذي تدل عليه الآية - واللّه أعلَم - أنهم اسْتَعجَلوا فأعلمَ اللّه عز وَجَلَّ أنه لا يَفُوته شيء وأن يوماً عنده وألف سنةٍ في قُدْرَتِه وَاحدٌ ، وأن الاستعجال في ميعادهم لا فرق فيه بين وقوع ما يستعجلون به من العذاب وتأخره في القدرة إلَّا أنَّ اللّه - جل ثناؤه - تفضل بالإِمهال ، وغَفَر بِالتوبَةِ ، فالتأخير الفرق بينه وبين التقديم تفَضل اللّه عزَّ وَجَل بالنَظِرَةِ.
ثم أعلم - عزَّ وَجَلً - أنَّه قد أخذ قَوْماً بعد الإِملاءِ والتأخير عُقوبةً منه ليزدادوا إثماً فقال بعد (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ) ، وبعد تمام الآية (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨).
ثم أخَذْتها بالعَذَابِ ، واستُغنِيَ عن ذكر العذاب لِتقَدُمِ ذكره في
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ).
* * *
و (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (٥١)
أي ظانِّينَ أنهم يعجزونَنَا لأنهم ظَنوا أنهم لا يُبْعَثُونَ ، وأنَّهُ لاَ جنَّةَ ولا
نار.
وقيل في التفسير معاجزين معاندين ، وليس بخارج من القول الأول.
وقُرِئت معَجِّزِين ، وتأويلها أنهم كانوا يُعَجِّزُونَ من اتبع النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وُيثَبِّطونَهمْ عنه.
* * *
و (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللّه مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللّه آيَاتِهِ وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢)
معنى (إِذَا تَمَنَّى)إذَا تَلَا ، ألقى الشيطان في تِلَاوَتِهِ ، فذلك
محنة من اللّه ، - عزَّ وجلَّ - وله أنْ يمْتحن بما شاء ، فألقى الشيطان على
لسان النبي - صلى اللّه عليه وسلم - شيئاً من صفة الأصنام فافتتن بذلك أهلُ الشقاق والنفاقِ ومن في قلبه مرض (١) فقال اللّه عر وَجَل :
(لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ)
ثم أعلم أنهم ظالِمونَ ، وأنهم في شِقاقٍ دَائِم ، والشقاق غاية العداوةِ فقال - : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ).
ثم أعلم أن هؤلاَءِ لا يَتوبونَ فقال :
(وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أي في شك مِنه.
(حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) أي مفاجأة.
( يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ).
أصل العُقم ، العقم في الولادة ، يقال : هَذِهِ امرأة عقيمٌ ، كما قال
اللّه - عَزً وَجَلً - : (قَالَتْ عجوزٌ عقيم).
وكذلك رجل عقيم إذا كان لا يُولدُ
قال الشاعر :
عُقِمَ النِّساءُ فلن يَلِدْنَ شَبيهَه . . . إن النِّساءَ بمثْلِه عُقْمُ
والريح العقيم التي لا تأتي بسحاب يُمْطِر ، وإنما تأتي بالعذاب ، واليوم
العقيم هُوَ الَّذي لا يَأتي فيه خيرٌ ، فيوم القيامةِ عقيمٌ على الكفار كما قال اللّه - عزَّ وجلَّ -
__________
(١) قال الإمام فخر الدين الرَّازي ما نصُّه :
أما قوله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ ففيه مسائل :
المسألة الأولى :
من الناس من قال : الرسول هو الذي حدث وأرسل ، والنبي هو الذي لم يرسل ولكنه ألهم رأى في النوم ، ومن الناس من قال : إن كل رسول نبي ، وليس كل نبي يكون رسولاً ، وهو قول الكلبي والفراء.
وقالت المعتزلة كل رسول نبي ، وكل نبي رسول ، ولا فرق بينهما ، واحتجوا على فساد القول الأول بوجوه : أحدها : هذه الآية فإنها دالة على أن النبي قد يكون مرسلاً ، وكذا قوله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مّن نَّبِيٍّ [ الأعراف : ٩٤ ] ، وثانيها : أن اللّه تعالى خاطب محمداً مرة بالنبي ومرة بالرسول ، فدل على أنه لا منافاة بين الأمرين ، وعلى القول الأول المنافاة حاصلة وثالثها : أنه تعالى نص على أنه خاتم النبيين ورابعها : أن اشتقاق لفظ النبي إما من النبأ وهو الخبر ، من قولهم نبأ إذا ارتفع ، والمعنيان لا يحصلان إلا بقبول الرسالة.
أما القول
الثاني : فاعلم أن شيئاً من تلك الوجوه لا يبطله ، بل هذه الآية دالة عليه لأنه عطف النبي على الرسول ، وذلك يوجب المغايرة وهو من باب عطف العام على الخاص.
وقال في موضع آخر وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيّ فِى الأولين [ الزخرف : ٦ ] وذلك يدل على أنه كان نبياً ، فجعله اللّه مرسلاً وهو يدل على قولنا : « وقيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كم المرسلون ؟ فقال ثلثمائة وثلاثة عشرة ، فقيل وكم الأنبياء ؟ فقال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً الجم الغفير » إذا ثبت هذا فنقول : ذكروا في الفرق بين الرسول والنبي أموراً : أحدها : أن الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه ، والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب ، وإنما أمر أن يدعو إلى كتاب من قبله و
الثاني : أن من كان صاحب المعجزة وصاحب الكتاب ونسخ شرع من قبله فهو الرسول ، ومن لم يكن مستجمعاً لهذه الخصال فهو النبي غير الرسول ، وهؤلاء يلزمهم أن لا يجعلوا إسحق ويعقوب وأيوب ويونس وهرون وداود وسليمان رسلاً لأنهم ما جاءوا بكتاب ناسخ والثالث : أن من جاءه الملك ظاهراً وأمره بدعوة الخلق فهو الرسول ، ومن لم يكن كذلك بل رأى في النوم كونه رسولاً ، أخبره أحد من الرسال بأنه رسول اللّه ، فهو النبي الذي لا يكون رسولاً وهذا هو الأولى.
المسألة الثانية :
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم لما رأى إعراض قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به تمنى في نفسه أن يأتيهم من اللّه ما يقارب بينه وبين قومه وذلك لحرصه على إيمانهم فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش كثير أهله وأحب يومئذ أن لا يأتيه من اللّه شيء ينفروا عنه وتمنى ذلك فأنزل اللّه تعالى سورة والنجم إِذَا هوى [ النجم : ١ ] فقرأها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى بلغ قوله أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى [ النجم : ١٩ ، ٢٠ ] ألقى الشيطان على لسانه « تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى » فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في قراءته فقرأ السورة كلها فسجد وسجد المسلمون لسجوده وسجد جميع من في المسجد من المشركين فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد سوى الوليد بن المغيرة وأبي أحيحة سعيد بن العاصي فإنهما أخذا حفنة من التراب من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر فلما أمسى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام فقال ماذا صنعت تلوت على الناس ما لم آتك به عن اللّه وقلت ما لم أقل لك ؟ ! فحزن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حزناً شديداً وخاف من اللّه خوفاً عظيماً حتى نزل قوله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ الآية.
هذا رواية عامة المفسرين الظاهريين ، أما أهل التحقيق فقد قالوا هذه الرواية باطلة موضوعة واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول.
أما القرآن فوجوه : أحدها : قوله تعالى : وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين [ الحاقة : ٤٤ ٤٦ ] ، وثانيها : قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ [ يونس : ١٥ ] وثالثها : وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى النجم : ٣ ] فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية تلك الغرانيق العلي لكان قد ظهر كذب اللّه تعالى في الحال وذلك لا يقوله مسلم ورابعها : قوله تعالى : وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً [ الإسراء : ٧٣ ] وكلمة كاد عند بعضهم معناه قرب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل وخامسها : وَلَوْلاَ أَن ثبتناك لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً [ الإسراء : ٧٤ ] وكلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل وسادسها : كذلك نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [ الفرقان : ٣٢ ].
وسابعها : سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى [ الأعلى : ٦ ].
وأما السنة فهي ما روي عن محمد بن إسحق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال هذا وضع من الزنادقة وصنف فيه كتاباً.
وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم ، وأيضاً فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي عليه السلام قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق.
وروي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها ألبتة حديث الغرانيق.
وأما المعقول فمن وجوه : أحدها : أن من جوز على الرسول صلى اللّه عليه وسلم تعظيم الأوثان فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان وثانيها : أنه عليه السلام ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلى ويقرأ القرآن عند الكعبة آمناً أذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه وإنما كان يصلي إذا لم يحضروها ليلاً في أوقات خلوة وذلك يبطل قولهم وثالثها : أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة دون أن يقفوا على حقيقة الأمر فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجداً مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم ورابعها : فَيَنسَخُ اللّه مَا يُلْقِى الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ اللّه ءاياته وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها ، فإذا أراد اللّه إحكام الآيات لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآناً ، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلاً أولى وخامسها : وهو أقوى الوجوه أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك ويبطل قوله تعالى : يا أيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللّه يَعْصِمُكَ مِنَ الناس [ المائدة : ٦٧ ] فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة أكثر ما في الباب أن جمعاً من المفسرين ذكروها لكنهم ما بلغوا حد التواتر ، وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة ، ولنشرع الآن في التفصيل فنقول التمني جاء في اللغة لأمرين : أحدهما : تمنى القلب و
الثاني : القراءة قال اللّه تعالى : وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ [ البقرة : ٧٨ ] أي إلا قراءة لأن الأمي لا يعلم القرآن من المصحف وإنما يعلمه قراءة ، وقال حسان :
تمنى كتاب اللّه أول ليلة . . وآخرها لاقى حمام المقادر
قيل إنما سميت القراءة أمنية لأن القارىء إذا انتهى إلى آية رحمة تمنى حصولها وإذا انتهى إلى آية عذاب تمنى أن لا يبتلى بها ، وقال : أبو مسلم التمني هو التقدير وتمنى هو تفعل من منيت والمنية وفاة الإنسان في الوقت الذي قدره اللّه تعالى ، ومنى اللّه لك أي قدر لك.
وقال رواة اللغة الأمنية القراءة واحتجوا ببيت حسان ، وذلك راجع إلى الأصل الذي ذكرناه فإن التالي مقدر للحروف ويذكرها شيئاً فشيئاً ، فالحاصل من هذا البحث أن الأمنية ، إما القراءة ، وإما الخاطر ، أما إذا فسرناها بالقراءة ففيه قولان :
الأول : أنه تعالى أراد بذلك ما يجوز أن يسهو الرسول صلى اللّه عليه وسلم فيه ويشتبه على القارىء دون ما رووه من قوله تلك الغرانيق العلى
الثاني : المراد منه وقوع هذه الكلمة في قراءته ثم اختلف القائلون بهذا على وجوه :
الأول : أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يتكلم بقوله تلك الغرانيق العلى ولا الشيطان تكلم به ولا أحد تكلم به لكنه عليه السلام لما قرأ سورة النجم اشتبه الأمر على الكفار فحسبوا بعض ألفاظه ما رووه من قولهم تلك الغرانيق العلى وذلك على حسب ما جرت العادة به من توهم بعض الكلمات على غير ما يقال وهذا الوجه ذهب إليه جماعة وهو ضعيف لوجوه : أحدها : أن التوهم في مثل ذلك إنما يصح فيما قد جرت العادة بسماعه فأما غير المسموع فلا يقع ذلك فيه وثانيها : أنه لو كان كذلك لوقع هذا التوهم لبعض السامعين دون البعض فإن العادة مانعة من اتفاق الجم العظيم في الساعة الواحدة على خيال واحد فاسد في المحسوسات وثالثها : لو كان كذلك لم يكن مضافاً إلى الشيطان الوجه
الثاني : قالوا إن ذلك الكلام كلام شيطان الجن وذلك بأن تلفظ بكلام من تلقاء نفسه أوقعه في درج تلك التلاوة في بعض وقفاته ليظن أنه من جنس الكلام المسموع من الرسول صلى اللّه عليه وسلم قالوا والذي يؤكده أنه لا خلاف في أن الجن والشياطين متكلمون فلا يمتنع أن يأتي الشيطان بصوت مثل صوت الرسول عليه السلام فيتكلم بهذه الكلمات في أثناء كلام الرسول عليه السلام وعند سكوته فإذا سمع الحاضرون تلك الكلمة بصوت مثل صوت الرسول وما رأوا شخصاً آخر ظن الحاضرون أنه كلام الرسول ، ثم هذا لا يكون قادحاً في النبوة لما لم يكن فعلاً له ، وهذا أيضاً ضعيف فإنك إذا جوزت أن يتكلم في أثناء الشيطان كلام الرسول صلى اللّه عليه وسلم بما يشتبه على كل السامعين كونه كلاماً للرسول بقي هذا الاحتمال في كل ما يتكلم به الرسول فيفضي إلى ارتفاع الوثوق عن كل الشرع فإن قيل هذا الاحتمال قائم في الكل ولكنه لو وقع لوجب في حكمة اللّه تعالى أن يشرح الحال فيه كما في هذه الواقعة إزالة للتلبيس ، قلنا لا يجب على اللّه إزالة الاحتمالات كما في المتشابهات وإذا لم يجب على اللّه ذلك تمكن الاحتمال من الكل الوجه الثالث : أن يقال المتكلم بذلك بعض شياطين الإنس وهم الكفرة فإنه عليه السلام لما انتهى في قراءة هذه السورة إلى هذا الموضع وذكر أسماء آلهتهم وقد علموا من عادته أنه يعيبها فقال بعض من حضر تلك الغرانيق العلى فاشتبه الأمر على القوم لكثرة لغط القوم وكثرة صياحهم وطلبهم تغليطه وإخفاء قراءته ، ولعل ذلك كان في صلاته لأنهم كانوا يقربون منه في حال صلاته ويسمعون قراءته ويلغون فيها ، وقيل إنه عليه السلام كان إذا تلا القرآن على قريش توقف في فصول الآيات فألقى بعض الحاضرين ذلك الكلام في تلك الوقفات فتوهم القوم أنه من قراءة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ثم أضاف اللّه تعالى ذلك إلى الشيطان لأنه بوسوسته يحصل أولاً ولأنه سبحانه جعل ذلك المتكلم في نفسه شيطاناً وهذا أيضاً ضعيف لوجهين : أحدهما : أنه لو كان كذلك لكان يجب على الرسول صلى اللّه عليه وسلم إزالة الشبهة وتصريح الحق وتبكيت ذلك القائل وإظهار أن هذه الكلمة منه صدرت وثانيهما : لو فعل ذلك لكان ذلك أولى بالنقل ، فإن قيل إنما لم يفعل الرسول صلى اللّه عليه وسلم ذلك لأنه كان قد أدى السورة بكمالها إلى الأمة من دون هذه الزيادة فلم يكن ذلك مؤدياً إلى التلبيس كما يؤدي سهوه في الصلاة بعد أن وصفها إلى اللبس ، قلنا إن القرآن لم يكن مستقراً على حالة واحدة في زمان حياته لأنه كان تأتيه الآيات فيلحقها بالسور فلم يكن تأدية تلك السورة بدون هذه الزيادة سبباً لزوال اللبس ، وأيضاً فلو كان كذلك لما استحق العتاب من اللّه تعالى على ما رواه القوم الوجه الرابع : هو أن المتكلم بهذا هو الرسول صلى اللّه عليه وسلم ثم هذا يحتمل ثلاثة أوجه فإنه إما أن يكون قال هذه الكلمة سهواً قسراً اختياراً أما الوجه
الأول : وهو أنه عليه السلام قال هذه الكلمة سهواً فكما يروى عن قتادة ومقاتل أنهما قالا إنه عليه السلام كان يصلي عند المقام فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان فلما فرغ من السورة سجد وسجد كل من في المسجد وفرح المشركون بما سمعوه وأتاه جبريل عليه السلام فاستقرأه ، فلما انتهى إلى الغرانيق قال لم آتك بهذا ، فحزن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أن نزلت هذه الآية وهذا ضعيف أيضاً لوجوه : أحدها : أنه لو جاز هذا السهو لجاز في سائر المواضع وحينئذ تزول الثقة عن الشرع وثانيها : أن الساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة وطريقتها ومعناها ، فإنا نعلم بالضرورة أن واحداً لو أنشد قصيدة لما جاز أن يسهو حتى يتفق منه بيت شعر في وزنها ومعناها وطريقتها وثالثها : هب أنه تكلم بذلك سهواً ، فكيف لم ينبه لذلك حين قرأها على جبريل عليه السلام وذلك ظاهر أما الوجه
الثاني : وهو أنه عليه السلام تكلم بذلك قسراً وهو الذي قال قوم إن الشيطان أجبر النبي صلى اللّه عليه وسلم على أن يتكلم بهذا فهذا أيضاً فاسد لوجوه : أحدها : أن الشيطان لو قدر على ذلك في حق النبي عليه السلام لكان اقتداره علينا أكثر فوجب أن يزيل الشيطان الناس عن الدين ولجاز في أكثر ما يتكلم به الواحد منا أن يكون ذلك بإجبار الشياطين وثانيها : أن الشيطان لو قدر على هذا الإجبار لارتفع الأمان عن الوحي لقيام هذا الاحتمال وثالثها : أنه باطل بدلالة قوله تعالى حاكياً عن الشيطان وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ [ إبراهيم : ٢٢ ] وقال تعالى : إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين ءَامَنُواْ وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سلطانه على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ [ النحل : ٩٩ ، ١٠٠ ] وقال : إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين [ الحجر : ٤٠ ] ولا شك أنه عليه السلام كان سيد المخلصين أما الوجه الثالث : وهو أنه عليه السلام تكلم بذلك اختياراً فههنا وجهان : أحدهما : أن نقول إن هذه الكلمة باطلة و
الثاني : أن نقول إنها ليست كلمة باطلة أما على الوجه الأول فذكروا فيه طريقين :
الأول : قال ابن عباس رضي اللّه عنهما في رواية عطاء إن شيطاناً يقال له الأبيض أتاه على صورة جبريل عليه السلام وألقى عليه هذه الكلمة فقرأها فلما سمع المشركون ذلك أعجبهم فجاء جبريل عليه السلام فاستعرضه فقرأها فلما بلغ إلى تلك الكلمة قال جبريل عليه السلام أنا ما جئتك بهذه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنه أتاني آت على صورتك فألقاها على لساني الطريق
الثاني : قال بعض الجهال إنه عليه السلام لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من عند نفسه ثم رجع عنها ، وهذان القولان لا يرغب فيهما مسلم ألبتة لأن الأول يقتضي أنه عليه السلام ما كان يميز بين الملك المعصوم والشيطان الخبيث والثاني يقتضي أنه كان خائناً في الوحي وكل واحد منهما خروج عن الدين أما الوجه
الثاني : وهو أن هذه الكلمة ليست باطلة فههنا أيضاً طرق
الأول : أن يقال الغرانيق هم الملائكة وقد كان ذلك قرآناً منزلاً في وصف الملائكة.
فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ اللّه تلاوته
الثاني : أن يقال المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار ، فكأنه قال : أشفاعتهن ترتجى ؟ الثالث : أن يقال إنه ذكر الإثبات وأراد النفي كقوله تعالى : يُبَيّنُ اللّه لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ [ النساء : ١٧٦ ] أي لا تضلوا كما قد يذكر النفي ويريد به الإثبات كقوله تعالى : قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً [ الأنعام : ١٥١ ] والمعنى أن تشركوا ، وهذان الوجهان الأخيران يعترض عليهما بأنه لو جاز ذلك بناء على هذا التأويل فلم لا يجوز أن يظهروا كلمة الكفر في جملة القرآن في الصلاة بناء على هذا التأويل ، ولكن الأصل في الدين أن لا يجوز عليهم شيء من ذلك لأن اللّه تعالى قد نصبهم حجة واصطفاهم للرسالة فلا يجوز عليهم ما يطعن في ذلك ينفر ، ومثل ذلك في التنفير أعظم من الأمور التي حثه اللّه تعالى على تركها كنحو الفظاظة والكتابة وقول الشعر فهذه الوجوه المذكورة في قوله تلك الغرانيق العلا قد ظهر على القطع كذبها ، فهذا كله إذا فسرنا التمني بالتلاوة.
وأما إذا فسرناها بالخاطر وتمنى القلب فالمعنى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم متى تمنى بعض ما يتمناه من الأمور يوسوس الشيطان إليه بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغي ثم إن اللّه تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ترك الالتفات إلى وسوسته ، ثم اختلفوا في كيفية تلك الوسوسة على وجوه : أحدها : أنه يتمنى ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالثناء قالوا إنه عليه السلام كان يحب أن يتألفهم وكان يردد ذلك في نفسه فعندما لحقه النعاس زاد تلك الزيادة من حيث كانت في نفسه وهذا أيضاً خروج عن الدين وبيانه ما تقدم وثانيها : ما قال مجاهد من أنه عليه السلام كان يتمنى إنزال الوحي عليه على سرعة دون تأخير فنسخ اللّه ذلك بأن عرفه بأن إنزال ذلك بحسب المصالح في الحوادث والنوازل وغيرها وثالثها : يحتمل أنه عليه السلام عند نزول الوحي كان يتفكر في تأويله إن كان مجملاً فيلقى الشيطان في جملته ما لم يرده ، فبين تعالى أنه ينسخ ذلك بالإبطال ويحكم ما أراده اللّه تعالى بأدلته وآياته ورابعها : معنى الآية إذا تمنى إذا أراد فعلاً مقرباً إلى اللّه تعالى ألقى الشيطان في فكره ما يخالفه فيرجع إلى اللّه تعالى في ذلك وهو كقوله تعالى : إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَيفٌ مّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [ الأعراف : ٢٠١ ] وك وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ باللّه [ الأعراف : ٢٠٠ ] ومن الناس من قال لا يجوز حمل الأمنية على تمني القلب لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر ببال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتنة للكفار وذلك يبطله قوله تعالى : لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشيطان فِتْنَةً لّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والقاسية قُلُوبُهُمْ ، والجواب : لا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر به فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك فتنة للكفار فهذا آخر القول في هذه المسألة.
المسألة الثالثة :
يرجع حاصل البحث إلى أن الغرض من هذه الآية بيان أن الرسل الذين أرسلهم اللّه تعالى وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم فلم يعصمهم من جواز السهو ووسوسة الشيطان بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر فالواجب أن لا يتبعوا إلا فيما يفعلونه عن علم فذلك هو المحكم ، وقال أبو مسلم معنى الآية أنه لم يرسل نبياً إلا إذا تمنى كأنه قيل : وما أرسلنا إلى البشر ملكاً وما أرسلنا إليهم نبياً إلا منهم ، وما أرسلنا نبياً خلا عند تلاوته الوحي من وسوسة الشيطان وأن يلقي في خاطره وما يضاد الوحي ويشغله عن حفظه فيثبت اللّه النبي على الوحي وعلى حفظه ويعلمه صواب ذلك وبطلان ما يكون من الشيطان ، قال وفيما تقدم من قُلْ يا أيها الناس إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ تقوية لهذا التأويل فكأنه تعالى أمره أن يقول للكافرين أنا نذير لكم لكني من البشر لا من الملائكة ، ولم يرسل اللّه تعالى مثلي ملكاً بل أرسل رجالاً فقد وسوس الشيطان إليهم ، فإن قيل هذا إنما يصح لو كان السهو لا يجوز على الملائكة ، قلنا إذا كانت الملائكة أعظم درجة من الأنبياء لم يلزم من استيلائهم بالوسوسة على الأنبياء استيلاؤهم بالوسوسة على الملائكة ، واعلم أنه سبحانه لما شرح حال هذه الوسوسة أردف ذلك ببحثين
البحث
الأول : كيفية إزالتها وذلك هو قوله تعالى : فَيَنسَخُ اللّه مَا يُلْقِي الشيطان فالمراد إزالته وإزالة تأثيره فهو النسخ اللغوي لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام. أ هـ مفاتيح الغيب حـ ٢٣ صـ ٤٣ - ٤٨
(عَلَى الكَافِرينَ غَيرُ يَسِيرٍ).
وليس هو على المؤمنين الذين أَدْخِلوا في رحمة اللّه كذلك.
وأنشد بعض أهل اللغة في قوله تمنى في معنى تلا قول الشاعر :
تَمَنَّى كتابَ اللّه أَوَّلَ لَيْلِه . . . وآخِرَه لاقَى حِمامَ المَقادِرِ
أي تلا كتاب اللّه مترسلًا فيهِ كما تلا داود الزبور مترسِّلاً فيه.
* * *
و (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللّه إِنَّ اللّه لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠)
(ذلك) في موضع رفع ، الأمر ذلك ، أي الأمره ، قصصنا لحيكم.
(وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِ).
الأول لم يكن عقوبةً ، وإنما العقوبة الجزاء ، ولكنه سُمِّي عقوبةً لأن
الفِعلَ الذي هو عقوبة كان جزاء فسمِّي الأول الذي جوزيَ عليه عقوبة لاستواء الفعلين في جنس المكروه.
كما قال عزَّ وَجَلَّ : (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا).
فالأول سيئة والمجازاة عليها حسنةٌ من حسنات المجَازِي عليها إلا أنها سُمِّيَتْ
سيئَةً بأنها وقَعَتْ إساءة بالمفعول به ، لأنه فعِلَ بِهِ ما يَسُوءه.
وكذلك قوله (مُسْتَهْزِئُونَ (١٤) اللّه يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ، جعل مجازاتهم باستهزائهم مسمَّى بلفظ فِعْلِهِمْ لأنه جَزَاءُ فعلهم.
* * *
و (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللّه لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣)
وقرئت مَخْضَرَة .
ذكر اللّه جل ثناؤه - ما يدل على توحيده من إيلاج الليل في النَّهَارِ
والنهار في الليل ، وذكر إنزاله الماء يُنْبِتُ وذكر تسخير الفلك في البحر
وإمساك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، فدل أنه الواحد الَّذي خلق
الخلق وأتى بما لا يمكن الْبَشَرَ أن يأتوا بمثله ، ثم ذكر جهل المشركين في
عِبَادَتِهِمْ الأصنام فقال عزَّ وَجَل :
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١)
أي ما لم يُنْزِلْ بِهِ حُجةً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ.
ثم ضرب لهم مَثَلَ مَا يَعْبُدون ، وأنه لا ينفع ولا يضر.
وأما القراءة : (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) لَا غَيرُ
قال سيبويه : سألت الخليل عن قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) فقال هذا واجبٌ ومعناه التنبيه كأنَّه قال : أتَسْمَعُ ؟
أنْزَلَ اللّه من السماء ماء ، فكان كذا وكذا ، وقال غيره مثل قوله.
قال مجاز هذا الكلام مجاز الخبر كأنه قال : اللّه ينزل من السماء ماء ، فتصبح الأرضِ مخضرةً.
وأنشدوا.
أَلم تَسْأَلِ الرَّبْعَ القَواءَ فَيَنْطِقُ . . . وهَلْ تُخْبِرَنْكَ اليَوْمَ بَيْداءُ سَمْلَقُ ؟
قال الخليل : فهو مما ينطق ، وأما من قرأ مَخْضَرَة فهو على
معنى ذات مَخْضَرة مثل مَبْقَلة ذات بقل ، ومَشْبَعة ذات شِبَع ، ولا يجوز
مَخَضَرَّة - بفتح الميم وتشديد الراء - لأن مَفْعَلَّة ليس في الكلام ولا معنى له.
* * *
وقوله عزَّ وَجَلَّ : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللّه بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٦٥)
(الفلْكَ) بالنصْب نَسق - على " ما " وسخر لكم الفلك.
ويكون (تجري) حالاً ، أي وسخر لكم الفلك في حَاِل جريها.
ويقرأ : (والفلكُ تجري في البحر بأمْره) ، فيكون الفلكُ مرفوعاً بالابتداء ، وتجْري هو الخبر ، والمعنى معنى التسخير لأن جريها بأمره هو التسخير.
و (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ).
على معنى كراهة أن تقع على الأرْض ، وموضع " أن " نَصبٌ بيُمْسِكً.
وهي مفعول . لكراهة أن تقع.
* * *
و (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (٦٧)
ومَنْسِكاً ، وقد تقدم الشرح في هذا.
و (فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ)
أي لا يجادِلُنَّكَ فيه ، ومعناه لا تنازعهم ، والدليل عنى أن
لا يُجَادِلنَّك وَلَا تُجَادِلَنَّهُمْ (وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللّه أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ).
هذا قبل القتال.
فإن قال قائل : فهم قد جَادَلُوه فَلِمَ قيل (فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) وهم قد نازعوه ؟
فالمعنى أنه نَهْيٌ له - صلى اللّه عليه وسلم - عن منازعَتِهِمْ كما يقول : لا
يخَاصِمَنَّكَ فُلَانٌ في هذا أبداً ، وهذا جائز في الفعل الذي لا يَكونُ إلا من
اثنين لأن المجادلة والمخاصمة لا تتم إلا باثنين ، فإذا قلت لا يُجَادِلَنَكَ فُلان
فهو بمنزلة لا تجادِلِنَّهُ ، ولا يجوز هذا في لا يَضْرِبَنَّكَ فُلَانٌ ، وأنت تريد
لا تضرِبْهُ.
ولكن لو قلت لا يُضَارِبنَّكَ فلان لكان كقولك لا تُضَارِبَنَّ فلاناً.
ويقرأ : " فَلَا يَنْزِعُنَّك في الأمر " : معناه لا يغلِبُنَّكَ في المنازعة فيه ، يقال : نَازَعَنِي فُلَانٌ فنزعتُه وَعَازَّني فَعَزَزْتُه ، أنزعه وأغلِبُه ، فلا يَغْلِبُنَّكَ في الأمْرِ.
* * *
و (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللّه الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢)
أي يكادون يبطشونَ بسطوةٍ على النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وأصحابه ، والذين يتلون عليهم القرآن.
وقوله ، : (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللّه).
القراءة بالرفع وهي أثبت في النحو مِنَ الجر والنَصْبِ والخفض.
والنَّصْبُ جائز ، فأمَّا من رفع فعلى معنى هو النَّارُ ، وهي النَّارُ ، كأنَّهم قالوا : مَا هَذَا الذي هُوَ شَرٌّ ؟
فقِيلَ النَّارُ . ومن قال النَّارِ بالجر ، فعلى البَدَلِ مِنْ شَرٍّ ، ومَنْ
قَالَ النَّارَ بِالنَصْبِ ، فهو على معنى أعْني النَّارَ ، وعلى معنى أنَبُئكُمْ بشَرٍّ من
ذلكم كأنَّه قال أعَرفُكُم شَرًّا من ذلكم النَّارَ.
* * *
و (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣)
لأنهم عبدوا من دون اللّه ما لا يَسْمَع ولا يُبْصِرُ وما لم يُنَزِّلْ به حجةً.
فَأَعْلَمَهُم اللّه عزَّ وَجَل الجواب فيما جعلوه للّه مثلاً ، وجعلوه له نيًرا ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ).
يعنى الأصنام ، وكل من دُعِيَ مِن دُونِ اللّه إِلهاً لَا إلهَ إلا اللّه وحْدَه.
و (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ).
أعلم اللّه - جلّ ثناؤه - أنه الخالق ، ودل على وحدانيته بجميع ما خلق
ثم أعلم أن الذِين عُبِدُوا مِنْ دُونهِ لا يَقْدِرون على خَلقِ وَاحِدٍ قَلِيل ضعيفٍ مِنْ
خَلْقِه ، ولا على اسْتِنْقَاذِ تَافِهٍ حقيرٍ منه.
* * *
ثم قال : (مَا قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللّه لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤)
أي ما عظموه حقَّ عَظَمتِه ، ثم أعلَمَ بَعْدَ ذِكره ضعْفَ قوة المَعْبُودِينَ
قوَّته فقال : (إِنَّ اللّه لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
وقوله (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)
يجوز ضَعُفَ ، وضُعِفَ الطالب والمطلوب ، أي فهم يضعفون عن أن
يخلقوا ذبَاباً ، وعن أن يستنقذوا من الذُّبَابشيئاً ضعف الذباب.
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (اللّه يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّه سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥)
اصطفى اللّه من الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل ومَلَكَ الموتِ
واصطفى من الناسِ النبيينَ والمرسلين صلى اللّه عليهم وسلم أحمعين.
* * *
و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧)
أي اقصدوا بركوعكم وسجودكم اللّه وحده.
(وَافْعَلُوا الْخَيْرَ).
والخير كل مَا أمرَ اللّه بِهِ.
و (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
هذا ليس بشك ، ولكن معناه لترجوا أن تكونوا على فلاح ، كما قال
لموسى وهارون : (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (٤٣) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ يَخْشَى (٤٤).
أي اذهبا على رجائِكمَا كما كما يرجو النبي ممنْ يُبْعَث إليه ، واللّه
عز وَجَلَّ من وراء العلم بما يؤول إليه أمر فرعون إلا أن الحجةَ لا تَقوم إلا بَعدَ الإِبَانَةِ.
وقوله عزَّ وَجَل : (وَجَاهِدُوا فِي اللّه حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللّه هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)
قيل إنه بمنزلة (اتَّقُوا اللّه حَقَّ تُقَاتِهِ) وأن نسخها
(فَاتَّقُوا اللّه مَا اسْتَطَعْتُمْ).
و (هو اجْتَبَاكمْ) معناه : اختاركم.
* * ** * ** * ** * ** * ** * ** * **
و (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).
أي مِنْ ضيقٍ ، جعل اللّه على من لم يستطع الشيء الذي يثقل في
وَقتٍ ، ما هُو أخف منه ، فجعل للصائم الإفطار في السفر ، وبِقَصْر الصلاة
للمُصَلِّي إذا لم يُطِقِ القِيام أن يُصَلِّيَ قَاعدِاً ، وإِن لم يطق القُعُودَ أن يُومِئَ
إيماءً ، وجعل للرجل أن يتزوج أَرْبعاً ، وجعل له جميع ما ملكتْهُ يمينُهُ.
فوسَّعَ اللّه - عزَّ وَجَلَّ - عَلَى خلقِه.
و (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ).
معناه اتبعوا مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ.
وجائز أن يكون مَنْصُوباً ب اعبدوا ربكم وافعلوا الخير فعْلَ أبيكم إبراهيم.
و (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا).
" هُوَ " رَاجِعَةٌ إلى اللّه - عَر وَجَلً - : اللّه سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ
قَبْلِ أن يُنَزِّلَ القرآن ، وفي هذا القرآن سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ.
وجائز أنْ يكون إبراهيمُ عليه السلام سَمَّاكُمُ المُسلِمِينَ من قبل ، وفي هذا ، أي حكم إبراهيم أن كل من آمن بمحمد مُوَحِّداً للّه فقد سمَّاه إبراهيم مُسْلِماً.
و (وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).
يروى أن اللّه سبحانه أعطى هذه الأمة ثلاثة أشياء لم يعْطَها إلا الأنبياء.
جُعِلَتْ شَهِيدَة على سائر الأمَمِ ، والشهادة لكل نبيٍّ على أُمَّتِه.
وأن يقال للنبي عليه السلام : اذهب ولا حرج عليك ، وقال اللّه لهذه الأُمَّة : (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، وأنه قال لكل نَبِيٍّ سَلْ تُعْطَه ، وقال لهذه الأمَّةِ : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).