سُورَةُ الْإسْرَاءِ مَكِّيَّةٌ

وَهِيَ مِائَةٌ وَإِحْدَى عَشَرَةَ آيَةً

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عزَّ وجلَّ - (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)

(سبحان) منصوب على المصدر ،  : أسبح اللّه تسبيحاً.

ومعنى سبحان اللّه في اللغة تنزيه اللّه عن السوء ، وكذلك ما روي عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم -.

و (أسْرَى بعَبْده لَيْلاً).

معناه سَير عبدَه ، يقال أسْرَيْتُ وسَرَيْتُ إذَا سِرْتُ ليْلاً ، وقد جاءت

اللغتان في القرآن ، قال اللّه جلَّ وعزَّ : (واللَّيْلِ إذَا يَسْرِ) هذا من سَرَيْتُ

ومعنى يَسْرِي يمضي.

أسرى اللّه سبحانه بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم - من المسجد الحرام وهو مكة ، والحرم كله مسجد ، فأسرى اللّه به في ليلة واحدة من المسجد الحرام من مكة إلى بيت المقدس وهو قوله - جلَّ وعزَّ : (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ).

أجرى اللّه حول بيت المقدس الأنهار وأنبت الثمار ، فذلك مَعْنَى باركنا

حوله .

(لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا).

أي لِنُرِيَ محمداً.

فأراه اللّه في تلك الليلة من الأنبياء ، وآياتهم ما أخْبَرَ بِه في غَدِ تلكَ

الليلة أهلَ مكةَ فقالوا للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - إن لنا في طريق الشام إبلاً فأخبرنا خبرها ، فَخَبَّرهُم بخبرها ، فقالوا فمتى تقدم الإِبل علينا ، فأخبرهم أنها تَقدُمُ في يوم سَمَّاهُ لهُمْ مع شروق الشمس ، وأنه تقدمها جمل أورق ، فخرجوا في ذلك اليوم ، فقال قائل : هذه الشمس قد أشرقت ، وقال آخر فهذه الِإبل قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد - صلى اللّه عليه وسلم - فلم يؤمنوا بعد ذلك.

* * *

٢

و (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (٢)

أي دللناهم به على الهدى.

(أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا).

أي لا تتوكلوا على غيري ولا تتخذوا مِنْ دُونِي رَبًّا.

* * *

٣

و (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (٣)

القراءة بنصب (ذُرِّيَّةَ) . وقرأ بعضهم (ذِرِّيَّةَ) - بكسر الذال - والضم أكثر.

وذُرِّية فُعْليَّة من الذر ، وهي منصوبة على النداء ، كذا أكثرُ الأقوالِ

 : يا ذُرِّيَّةَ من حملنا مع نوح.

وإنما ذكروا بنعم اللّه عندهم أنه أنجى أبناءهم من الغرق بأنهم حملوا مع نوح . ويجوز النصب على معنى ألا تتخِذُوا (ذُرِّيَّةً) من حملنا مع نوحٍ من دوني وكيلاً ، فيكون الفعل ، تعدى إلى الذريَّة وإلى الوكيل ، تقول : اتخذت زيداً وكيلاً ، ويجوز (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا) على معنى :

(وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ).

ويجوز الرفعُ في (ذُرِّيَّة) على البدل من الواو ، والمعنى (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا) أي لا تتخذوا من دوني وَكيلًا (ذُرِّيَّةُ) ، ولا تقرأنَّ بها إلا أن تثبت بها

رواية صحيحة ، فإن القراءة سنة لا يجوز أن ثخالف بما يجوز في العربية.

* * *

٤

و (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (٤)

معناه أعلمناهم في الكتاب ، وأوحينا إليهم ، ومثل ذلك  (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ).

ومعناه وأوحينا إليه.

و (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) معناه خلقهن وفرغ

منهن ، ومثل هذا في الشعر

وعليهما مسرودتان قضاهما . . . داودُ  صَنَع السَّوابغَ تبَّع

معناه عملهما.

وجملة هذا الباب أن كل ما عُمِلَ عَمَلاً محكماً فقد قضِيَ ، وإنما قيل للحاكم قاض لأنه إذا أمر أمراً لم يُرَدَّ أمْره ، فالقضاء قَطْع الأشياء عن إحْكامٍ.

والمعنى إنا أوحينا إليهم لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا،.

معناه لَتَعْظٌمُنَ ولَتَبْغنَّ ، لأنه يقال لكل متجبِّرٍ قَدْ عَلَا وتعظَّمَ.

* * *

٥

و (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (٥)

 فإذا جاء وعد أُولى المرتين.

(بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ).

يروى أنه بعث عليهم بختنصر.

(فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ).

أي فطافوا في خلالِ الديارِ ينظرون هل بقي أحد لَمْ يَقْتلوه ، والجَوْس

طلب الشيء باستقصاء .

٦

و (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (٦)

أي رددنا لكم الدولة.

(وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا).

أي جعلناكم أكثر منهم نُصَّاراً ، ويجوز أن يكون نفيراً جمع نَفْرٍ كما

يقال : العبيد والكليب والضّئين والمعيز.

و (نَفِيرًا) منصوب على التَمييز.

* * *

٧

و (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (٧)

(فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ).

وتقرأ (لِيَسُوءَ وجُوهَكُمْ) (١)

 فإن جاء وعد الآخرة ليسوء الوعدُ وجُوهَكم.

ومن قرأ (لِيَسُوءُوا) فالمعنى ليسوء هؤلاء القومُ وجوهكم.

وقد قرئت (لَنَسُوءً وُجُوهَكُمْ) - بالنون الخفيفة - ومعناه لَيَسُوء الوعدُ وجوهَكم ، والوقف عليها لَيُسُوءًا . والأجود ليسوءَ بغير نونٍ ، وليسُوءُوا . ويجوز : لِيَسُوءْ وجوهكم ، ويكون الفعل للوَعْدِ على الأمر ، ولا تقرأ به ، ويجوز لِنَسوءَ بالنون في موضع الياء.

و (وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا).

معناه ليُدَمِّرُوا ، ويقال لكل شيء منكسر من الزُّجَاجِ والحديد والذَّهَبِ

تِبْرٌ ، ومعنى (مَا عَلَوْا) أي ليُدَمِّرُوا في حَالِ عُلُوِّهِمْ عليكم.

* * *

٨

و (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (٨)

(وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا)

معناه حَبْساً ، أخِذَ من  حصرتُ الرَّجُلَ إذَا حَبَستُه فهو محصور

وهذا حَصِيرُهُ أي مَحْبِسُهُ ، والحصير المنسوج إنما سميَ حصيراً لأنه حصرت

__________

(١) قال السَّمين :

و  لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ  متعلقٌ بهذا الجوابِ المقدرِ . وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر « لِيَسُوْءَ » بالياءِ المفتوحةِ وهمزةٍ مفتوحةٍ آخرَ الفعل . والفاعلُ : إمَّا اللّه تعالى ، وإمَّا الوعدُ ، وإمَّا البعثُ ، وإمَّا النفيرُ . والكسائيُّ « لِنَسُوءَ » بنونِ العظمة ، أي : لِنَسُوءَ نحن ، وهو موافِقٌ لِما قبلَه مِنْ قولِه « بَعَثْنا عباداً لنا » و « رَدَدْنا » و « أَمْدَدْنا » ، وما بعده من  « عُدْنا » و « جَعَلْنا ».

وقرأ الباقون : « لِيَسُوْءُوا » مسنداً إلى ضميرِ الجمع العائد على العِباد ،  على النفير؛ لأنه اسمُ جمعٍ ، وهو موافِقٌ لِما بعدَه من قوله  وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ  . وفي عَوْدِ الضمير على النفير نظرٌ؛ لأنَّ النفيرَ المذكورَ من المخاطبين ، فكيف يُوصف ذلك النفيرُ بأنه يَسُوْء وجوهَهم؟ اللّهم إلا أنْ يريدَ هذا القائلَ أنه عائدٌ على لفظِه دون معناه ، من بابِ « عندي درهمٌ ونصفُه ».

وقرأ أُبَيٌّ « لِنَسُوْءَنْ » بلامِ الأمرِ ونونِ التوكيدِ الخفيفة ونونِ العظمة ، وهذا جوابٌ ل « إذا » ، ولكن على حَذْفِ الفاء ، أي « فَلِنَسُوْءَنْ ، ودخلت لامُ الأمرِ على فعلِ المتكلمِ كقولِه تعالىوَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ  [ العنكبوت : ١٢ ].

وقرأ عليُّ بنُ أبي طالب » لَيَسُوْءَنَّ « و » وَلَنَسوْءَنَّ « بالياء  النون التي للعظمةِ ، ونونِ التوكيدِ الشديدة ، واللامِ التي للقسَمِ . وفي مصحف اُبَيّ » لِيَسُوْءُ « بضمِّ الهمزة من غيرِ واوٍ ، وهذه القراءةُ تشبه أَنْ تكونَ على لغةِ مَنْ يَجْتَزِئُ عن الواوِ بالضمة ، ك

٣٠٣١- فلوْ أنَّ الأطبَّا كانُ حولي . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يريد : » كانوا « . وقولِ الآخر :

٣٠٣٢- إذا ما الناسُ جاعُ وأَجْدَبُوا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يريد » جاعُوا « ، فكذا هذه القراءةُ ، أي : لِيَسُوْءُوا ، كما في القراءةِ الشهيرة ، فَحَذَفَ الوَاو.

وقرئ » لِيَسْيء « بضمِّ الياءِ وكسرِ السينِ وياءٍ بعدها ، أي : ليُقَبِّحَ اللّه وجوهكم ،  ليقبِّح الوعدُ ،  البعثُ . وفي مصحفِ أنس » وَجْهَكم « بالإِفرادِ ك

٣٠٣٣- كُلوا في بعضِ بطنِكُمُ تَعِفُّوا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

[ وك ]

٣٠٣٤- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شَجِيْنا

[ وك ]

٣٠٣٥- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيْبُ.

اهـ (الدر المصون).

طاقاته بعضها مع بعفى . والجَنْبُ يقال له الحصير لأن بعض الأضلاع محصورٌ

مع بعض.

* * *

٩

و (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (٩)

أي للحال التي هي أقوم الحالات ، وهي توحيد اللّه - عزَّ وجلَّ - أي

شهادة أن لَا إلهَ إلا اللّه والإيمان بِرُسلِهِ ، والعملُ بطاعتِه ، وهذه صفة الحال

التي هي أقوم الحالات.

* * *

١١

و (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (١١)

 أن الإنسان رُبَّما دَعَا على نفسه وولده وأهله بالشرِ غَضَباً كما

يدعو لنفسه بالخير ، وهذا لم يُعَرَّ منه بشرٌ.

ويروى أن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - رفع إلى سَوْدةَ بنت زَمْعَةَ أسيراً ، فأقْبَلَ يئن باللَّيْلِ، فقالت له : ما بالُك تَئِن فشكا ألَمَ القَيدِ والأسْرِ.

فأرْخَتْ مِن كِتَافه ، فلما نامت أخرج يده وهرب ، فلما أصبح النبي - صلى اللّه عليه وسلم - دعا به فأعلم شأنه ، فقال اللّهم اقطع يديها ، فرفعت سودة يديها تتوقع الاستجابة ، وأن يقطع اللّه يديها ، فقال النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وإني سألت اللّه أن يجعل دعائي ولعْنتي على من لا يستحق من أهلي رحمةً ، فقولوا لها لأني بَشرٌ أغضب كما يغضب البشر لْتَردُدْ سودة يديها . فأَعلم اللّه - عزَّ وجلَّ - أن الإنسان خلق عجولاً ، فهذا ضلق عليه جملةُ البشَرِ من آدم إلى آخر ولده.

والإنسان ههنا في معنى الناس.

__________

(١) الرواية لعائشة وليست لسودة بنت زمعة - رضي اللّه عنهما -

وهذا نصها عند الإمام أحمد

٢٣١٢٥ - حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنِ ابْنِ أَبِى ذِئْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ عَنْ ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ

دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَسِيرٍ فَلَهَوْتُ عَنْهُ فَذَهَبَ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا فَعَلَ الْأَسِيرُ قَالَتْ لَهَوْتُ عَنْهُ مَعَ النِّسْوَةِ فَخَرَجَ فَقَالَ مَا لَكِ قَطَعَ اللّه يَدَكِ  يَدَيْكِ فَخَرَجَ فَآذَنَ بِهِ النَّاسَ فَطَلَبُوهُ فَجَاءُوا بِهِ فَدَخَلَ عَلَيَّ وَأَنَا أُقَلِّبُ يَدَيَّ فَقَالَ مَا لَكِ أَجُنِنْتِ قُلْتُ دَعَوْتَ عَلَيَّ فَأَنَا أُقَلِّبُ يَدَيَّ أَنْظُرُ أَيُّهُمَا يُقْطَعَانِ فَحَمِدَ اللّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ مَدًّا وَقَالَ اللّهمَّ إِنِّي بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ  مُؤْمِنَةٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَطُهُورًا".

١٢

و (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (١٢)

أي علامتين يدلان على أن خالقهما واحد ليس كمثله شيء وتدلان على

عدد السنين والحساب.

(فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ).

أي جعلنا آية الليل دليلة عليه بظلمتِه.

(وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ).

أي جعلناها تضيء لكم لتبْصِروا كيف تَصَرَّفًونَ في أعمالكم

(وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ).

وُيرْوَى أن القمر كان في ضياء الشمس فمحا اللّه ضياءه

بالسواد الذي جَعَلَ فيه.

(وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا).

أي بَيَّنَاهً تَبييناً لا يلتبس مَعَه بغيره ، والاختيار النَّصْبُ في . " كلَّ ".

 في النصب : لِتَبْتَغُوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين ، وفصلنا كل شيء تفصيلاً.

و (كلَّ) منصوب بفعل مضمر الذي ظهر يفَسِّرهُ ، وهو (فصلْنَاهُ)

ويجوز (وَكلُّ شَيْءٍ فصلناه تفصيلاً).

وكذلك النصْب والرفع في  (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ)

إلا إني لا أعلم أحداً قرأ بالرفع.

وجاء في التفسير : طائره ، أي خَيْرُه وشَرُّه ، وهو - واللّه أعلم - ما يُتَطيَّر

من مثله من شيء عمله كما قَالَ (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، وكما يُقال للِإنسان إثْمِي في عُنُقِك ، وإنما يقال للشيء اللازم له : هذا في عُنق الِإنْسَان ، أي لُزُومه له كلزوم القلادة له من بين ما يُلبس في العنق.

١٣

(وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (١٣)

وفي هذه أربعة أوجه : وتُخْرَجُ له ، ويُخْرِجُ له ، أي ويُخْرِجُ اللّه لَه.

ويُخْرُجُ له . أي ويُخْرُجُ عملهُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كتاباً ، وكذلك يخْرَج له

عمله يوم القيامة.

(كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) منصوب على الحال.

١٤

و (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (١٤)

(بنفسك) في موضع رفع ، وإن كان مجروراً بالباء ، ولو كان في غير

القرآن جاز . . كفى بنفسكَ اليوم حسيبة ، والمعنى كفت نفسك حسيبة ، أي إذا كنت تشهد على نفسك فكفاك بهذا.

و (حَسِيبًا) منصوب على التمييز.

* * *

١٥

و (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (١٥)

(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)

يقال : وَزَرَ يَزِرُ فهو وَازر وَزْراً ، وَوِزْراً ، وزِرَة ، ومعناه أثِمَ يَأثَمُ إثماً.

وفي تأويل هذه الآية وجهان : أحدهما أن الآثِمَ والمُذْنِبَ ، لا يؤخذ

بذنبه غيرُهُ ، والوجه الثاني أنه لا ينبغي للإنسان أن يعمل بالإثم لأن غيره عمله

كما قالت الكفار : (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ).

و (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).

أي حتى نبين ما به نُعَذبُ ، وما من أجْله نُدْخِلُ الجنةَ.

* * *

١٦

و (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (١٦)

تقرأ أمَرْنَا مخففَةً على تقدير فعلنا (١) ، وتقرأ آمرنا مترفيها على تقدير أفعلنا.

ويقرأ أمَّرْنا - بتشديد الميم - ، فأما من قرأ بالتخفيف فهو من الأمر ،

أمرناهم بالطاعة ففسقوا.

فإن قال قائل : ألست تقول : أمرت زيداً فضرب عمراً ، فالمعنى أنك أمرته أن يضرب عمرا فضربه ، فهذا اللفظ لا يدل على

__________

(١) قال السَّمين :

قوله تعالى :  أَمَرْنَا  : قرأ العامَّةُ بالقصرِ والتخفيفِ وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه من الأمرِ الذي هو ضِدُّ النهيِ . ثم اختلف القائلون بذلك في متعلَّق هذا الأمرِ : فعن ابن عباس في آخرين : أنه أَمَرْناهم بالطاعةِ فَفَسَقُوا ، وقد ردَّ هذا الزمخشريُّ رداً شديداً وأنكره إنكاراً بليغاً في كلامٍ طويلٍ ، حاصلُه : أنه حَذْفُ ما لا دليلَ عليه ، وقدَّر هو متعلِّق الأمرِ : الفسق ، أي : أَمَرْناهم بالفسق قال : « أي : أَمَرْناهم بالفِسْق ، فعملوا ، والأمرُ مجازٌ؛ لأنَّ حقيقةَ أمرِهم بالفسقِ أَنْ يقول لهم : افْسُقوا ، وهذا لا يكونُ ، فبقي أن يكونَ مجازاً . ووجهُ المجازِ : أنه صَبَّ عليهم النعمة صَبَّاً ، فجعلوها ذريعةً إلى المعاصي واتِّباع الشهوات ، فكأنهم مَأمورون بذلك لِتَسَبُّبِ إيلاءِ النِّعْمَةِ فيه ، وإنما خَوَّلهم فيها ليشكروا ».

ثم قال : « فإنْ قلت : فهلاَّ زَعَمْتَ أنَّ معناه : أَمَرْناهم بالطاعةِ ففسَقُوا . قلت : لأنَّ حَذْفَ ما لا دليلَ عليه غيرُ جائزٍ ، فكيف حَذْفُ ما الدليلُ قائمٌ على نَقِيضِه؟ وذلك أنَّ المأمورَ به إنما حُذِفَ لأنَّ » فَفَسَقُوا « يدلُّ عليه ، وهو كلامٌ مستفيضٌ يقال : » أَمَرْتُه فَقام « ، و » أَمَرْتُه فَقَرأ « ، لا يُفهم منه إلا أنَّ المأمورَ به قيامُ  قراءةُ ، ولو ذَهَبْتَ تُقَدِّر غيرَه رُمْتَ مِنْ مخاطَبِك عِلْمَ الغيبِ ، ولا يَلْزَمُ [ على ] هذا قولُهم : و » أَمَرْتُه فعصاني «  » فلم يمتثلْ « لأنَّ ذلك منافٍ للأمرِ مناقِضٌ له ، ولا يكونُ ما يناقض الأمرَ مأموراً به ، فكان محالاً أن يُقْصَدَ أصلاً حتى يُجْعَلَ دالاًّ على المأمورِ به ، فكان المأمورُ به في هذا الكلامِ غيرَ مَنْوِيٍّ ولا مُرادٍ؛ لأن مَنْ يتكلمُ بهذا الكلامِ لا يَنْوي لآمرهِ مأموراً به ، فكأنه يقول : كان مني أَمْرٌ فكان منه طاعةٌ ، كما أنَّ مَنْ يقول : [ » فلان ] يبأمرُ ويَنْهى ويعطي ويمنع « لا يَقْصِدُ مفعولاً . فإن قلت : هلاَّ كان ثبوتُ العلمِ بأنَّ اللّه لا يأمرُ بالفحشاء دليلاً على أنَّ المراد : أَمَرْناهم بالخيرِ ، قلت : لأنَّ قوله » فَفَسَقوا « يدافعه ، فكأنَّك أظهَرْتَ شيئاً وأنت تُضْمِرُ خلافَه ، ونظيرُ » أمر « : » شاء « في أنَّ مفعولَه استفاضَ حَذْفُ مفعولِه لدلالةِ ما بعدَه عليه . تقول : لو شاءَ لأحسنَ إليك ، ولو شاءَ لأساءَ إليك ، تريد : لو شاء الإِحسانَ ، ولو شاء الإِساءةَ ، ولو ذَهَبْتَ تُضْمِرُ خلافَ ما أظهرْتَ ، وقلت : قد دَلَّتْ حالُ مَنْ أُسْنِدَتْ إليه المشيئةُ أنه من أهلِ الإِحسان  من أهلِ الإِساءةِ فاتركِ الظاهرَ المنطوقَ وأَضْمِرْ ما دَلَّتْ عليه حالُ المسندِ إليه المشيئةُ ، لم تكنْ على سَدادٍ ».

وتَتَبَّعه الشيخُ في هذا فقال : « أمَّا ما ارتكبه من المجاز فبعيدٌ جداً ، وأمَّا  » لأنَّ حَذْفَ ما لا دليلَ عليه غيرُ جائزٍ « فتعليلٌ لا يَصِحُّ فيما نحن بسبيلِه ، بل ثَمَّ ما يَدُلُّ على حَذْفِه.

و « فكيف يُحْذَفُ ما الدليلُ على نقيضِه قائمٌ » إلى « عِلْم/ الغيب » فنقول : حَذْفُ الشيءِ تارةً يكونُ لدلالةِ موافِقِه عليه ، ومنه ما مَثَّل به في قولِه « أَمَرْتُه فقامَ » ، وتارة يكونُ لدلالةِ خِلافِه  ضدِّه  نقيضِه كقولِه تعالىوَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اليل والنهار  [ الأنعام : ١٣ ] ، أي : ما سَكَنَ وتحرَّك ، و  سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر  [ النحل : ٨١ ] ، أي : والبردَ ، وقول الشاعر :

٣٠٤١- وما أَدْرِيْ إذا يَمَّمْتُ أرْضاً . . . أريدُ الخيرَ ايُّهما يَلِينْي

أالخيرُ الذي أنا أَبْتَغِيْهِ . . . أم الشرُّ الذي هو يَبْتَغيني

أي : وأَجْتَنِبُ الشرَّ ، وتقول : « أَمَرْتُه فلم يُحْسِنْ » فليس  : أمرتُه بعدم الإِحسانِ ، بل  : أَمَرْتُه بالإِحسانِ فلم يُحْسِنْ ، والآيةُ من هذا القبيل ، يُستدلُّ على حذف النقيض بنقيضه كما يُسْتَدَلُ على حَذْفِ النظير بنظيره ، وكذلك « أَمَرْتُه فأساء إليَّ » ليس  : أَمَرْتُه بالإِساءة بل أَمَرْتُه بالإِحسان . و « ولا يَلْزم هذا قولَهم : » أَمَرْتُه فعصاني « . نقول : بل يَلْزَمُ . و » لأنَّ ذلك منافٍ « ، أي : لأنَّ العِصْيانَ منافٍ . وهو كلامٌ صحيح . و » فكان المأمورُ به غيرَ مدلولٍ عليه ولا مَنْويٌّ « لا يُسَلَّم بل مَدْلُولٌ عليه ومنوِيٌّ لا دلالةُ الموافقِ بل دلالةُ المناقِض ، كما بَيَّنَّا . و » لا يَنْوِي مأموراً به « لا يُسَلَّم . و » لأنَّ فَفَسَقُوا يدافعُه ، إلى آخره « قلنا : نعم نَوَى شيئاً ويُظهِرُ خلافَه ، » لأنَّ نقيضَه يَدُلُّ عليه . و « ونظيرُ » أمر « » شاء « ليس نظيرَه؛ لأنَّ مفعولَ » أمر « كَثُر التصريحُ به . قال اللّه [ تعالى ] :  إِنَّ اللّه لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء  [ الأعراف : ٢٨ ]  أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ  [ يوسف : ٤٠ ]  يَأْمُرُ بالعدل  [ النحل : ٦٧ ]  أَمَرَ رَبِّي بالقسط  [ الأعراف : ٢٩ ]  أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ  [ الطور : ٣٢ ] وقال الشاعر :

٣٠٤٢- أَمَرْتُك الخيرَ فافْعَلْ ما أُمِرْتَ به . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قلت : والشيخُ رَدَّ عليه رَدَّ مُسْتَريحٍ من النظرِ ، ولولا خَوفُ السآمةِ على الناظرِ لكان للنظرِ في كلامهما مجالٌ.

والوجه

الثاني : أنَّ » أَمَرْنا « بمعنى كَثَّرْنا ، ولم يَرْتَضِ الزمخشريُّ في ظاهرِ عبارتِه فإنَّه قال : » وفسَّرَ بعضُهم « أَمَرْنا » ب « كَثَّرْنا » ، وجَعَلَه من بابِ : فَعَّلْتُه فَفَعَلَ ، كَثَبَّرْتُه فَثَبَر . وفي الحديثِ : « خَيْرُ المالِ سِكَّةٌ مأْبُوْرة ومُهْرَةٌ مَأْمورة » ، أي : كثيرةُ النِّتاج « . قلت : وقد حكى أبو حاتم هذه اللغةَ ، يقال : أَمِر القومُ ، وأَمَرهم اللّه ، ونقله الواحديُّ أيضاً عن أهل اللغة ، وقال أبو علي : » الجيِّد في « أَمَرْنا » أن يكونَ بمعنى كَثَّرْنا «.

واستدل أبو عبيدة بما جاء في الحديثِ فذكره . يقال : أَمَرَ اللّه المُهْرَة ، أي : كَثَّر ولدَها . قال » ومَن أنكر « أمرَ اللّه القومَ » أي : كَثَّرهم لم يُلتفَتْ إليه لثبوتِ ذلك لغةً «.

ويكون ممَّا لَزِمَ وتعدَّى بالحركةِ المختلفةِ؛ إذ يُقال : أَمِر القومُ كَثُروا ، وأَمَرَهم اللّه كثَّرهم ، وهو من بابِ المطاوعة : أَمَرهم اللّه فَأْتَمَروا كقولِك : شَتَرَ اللّه عَيْنَه فَشَتِرَتْ ، وجَدَعَ اَنْفَه فَجَدِع ، وثَلَمَ سِنَّه فَثَلِمَتْ.

وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمةُ : « أَمِرْنا » بكسر الميم بمعنى « أَمَرْنا » بالفتح . حكى أبو حاتم عن أبي زيد أنه يُقال : « أَمَرَ اللّه مالَه ، وأَمِرَه » بفتح الميم وكسرِها ، وقد رَدَّ الفراء هذه القراءةَ ، ولا يُلْتَفَتُ لِرَدِّه لثبوتِها لغةً بنَقْلِ العُدولِ ، وقد نَقَلها قراءةً عن ابن عباس أبو جعفر وأبو الفضل الرازي في « لوامِحه » فكيف تُرَدُّ؟

وقرأ عليُّ بن أبي طالب وابنُ أبي إسحاق وأبو رجاء في آخرين « آمَرْنا » بالمَدِّ ، ورُوِيَتْ هذه قراءةً عن ابنِ كثير وأبي عمرو وعاصم ونافعٍ ، واختارها يعقوبُ ، والهمزةُ فيه للتعديةِ؟

وقرأ عليٌّ أيضاً وابنُ عباس وأبو عثمان النهدي : « أمَّرْنا » بالتشديد . وفيه وجهان ، أحدهما : أنَّ التضعيفَ للتعديةِ ، عدَّاه تارةً بالهمزة وأخرى بتضعيفِ العين ، كأَخْرَجْته وخَرَّجته . و

الثاني : أنه بمعنى جعلناهم أُمَراءَ ، واللازمُ من ذلك « أُمِّر » . قال الفارسيُّ ، « لا وجهَ لكون » أَمَّرْنا « / من الإِمارة؛ لأنَّ رئاستَهم لا تكونُ إلاَّ لواحدٍ بَعْدَ واحدٍ ، والإِهلاكُ إنما يكون في مُدَّة واحدة » . وقد رُدَّ على الفارسي : بأنَّا لا نُسَلِّم أن الأميرَ هوالمَلِك حتى يَلْزَمَ ما قلتُ ، لأنَّ الأميرُ عند العرب مَنْ يَأْمُرُ ويُؤْتَمَرُ به . ولَئِنْ سُلِّم ذلك لا يلزم ما قال؛ لأنَّ المُتْرَفَ إذا مَلَكَ فَفَسَق ثم آخرَ بعده فَفَسَق ، ثم كذلك كَثُر الفسادُ ، ونزل بهم على الآخِر مِنْ ملوكهم . اهـ (الدر المصون).

غير الضرب ، ومثل  أمَرْنا مُتْرفيها ففسقوا فيها . من الكلام : أمرتك

فعَصَيتني.

فقد علم أن المعصية مخالفة الأمر ، وكذلك الفَسْقُ مُخَالَفَة أمْرِ اللّه

جل ثناؤه.

وقد قيل : إنَّما معنى أمرنا مترفيها كَثَّرْنَا مترفيها ، والدليل علي هذا

قول النبي - صلى اللّه عليه وسلم -

" خير المال سِكَّةُ مأبورة ومُهْرة مَأمُورَة ".

أي مُكَثرَة ، والعرب تقول قَدْ أمِرَ بنو فلان إذَا كَثرُوا.

قال الشاعر :

إن يُغْبَطُو يَهْبطوا وَإن أمِروا . . . يوماً يصيروا للّهلك والنَّفَد

ويروى بالنقد - بالقاف - ومن قرأ آمرنا فتأويله أكْثَرنا ، والكثرة ههنا

يصلح أن يكون شيئين ، أحدهما أن يكثر عدد المترفين ، والآخر أن تكثر

جِدَتُهم ويسَارُهُمْ.

ومن قرأ أمَّرنا بالتشدِيد ، فمعناه سَلَّطنَا مترفيها أي جعلنا

لَهُمْ إمْرةً وسلطانا .

١٧

و (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (١٧)

أي أهلكنا عدداً كبيراً من القُرون ، بأنواع العذاب ، نحو قوم لوط وعاد

وثمود ومَن ذُكِرَ اسْمُه وقروناً بين ذلك كثيراً.

وموضع (كَمْ) النصب بقوله (أهْلَكْنَا).

* * *

١٨

و (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (١٨)

أي من كان يريد العاجلة بعمله ، أي الدنيا ، عجل اللّه لمن أراد أن

يعجل له مايشاء اللّه ، أي ليس مايشاء هو ، وما يشاء بمعنى ما نشاء.

ويجوز أن يكون المُضْمَرُ في نشاء " مِنْ " ،  عجلنا للعبد ما يشتهيه ، إذا

أراد اللّه ذلك.

و (ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ).

لأنه لم يرد اللّه بعمله

(يَصْلَاهَا مَذْمُوماً).

ومذءوماَ في معنى واحد.

(مَدْحُوراً).

أي مباعَداً من رحمة اللّه . يقال : دَحَرْتُه أدْحَرُه دَحْراً ودُحُوراً إذا باعدته

عنك.

ثم أعلم اللّه - عزَّ وجلَّ - أن يعطي المسلم والكافِرَ وأنَّ يرْزُقُهما جميعاً

فقال :

٢٠

(كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (٢٠)

أي نُمِدُّ المؤمنين والكافرين مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ.

* * *

٢٣

وقوله سبحانه : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا  كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (٢٣)

معناه أمَر رَبُّك

وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا  كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (٢٣)

(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).

أي أمر أن يحسنوا بالوالدين

(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا  كِلَاهُمَا).

ترفع (أحدهما) بِـ (يَبْلُغَنَّ) ، و (كلاهما) عطف عليه.

ويقرأ : (يَبْلُغَانِّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ) ، ويكون أحَدَهُمَا  كلاهما بَدَل من الألف.

و (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ).

في قوله (أُفٍّ) سبع لغات : الكسر بغير تنوين ، والكسر بتنوين ، والضم

بغير تنوين ، وبتنوين ، وكذلك الفتح بتنوين ، وبغير تنوين ، وفيها لغة أخرى

سابعة لا يجوز أن يقرأ بها ، وهي " أُفِيّ " بالياء ، فأمَّا الكسر فلالتقاء السَّاكنين ، وأف غير متمكن بمنزلة الأصوات ، فإذا لم تُنَوَّن فَهي مَعْرِفة ، وإذا نُونَ فهو نكرة بمنزلة غاقٍ وغاقِ في الأصوات ، والفتح لالتقاء السَّاكنين أيضاً ، والفتح مع التضعيف حسن لخفة الفتحة وثقل التضعيفِ والضم ، لأن قبله مضمُوماً - حسن أيضاً ، والتنوين فيه كله على جهة النكرة.

والمعنى : لا تقل لهما كلاماً تتبرم فيه بهما ، ومعنى أفِّ النتن ، وقيل إن

أفَ وسخ الأظْفَارِ ، والتُّف الشيء الحقير نحو وسخ الأذان  الشظية تؤخذ

من الأرض.

ومعنى الآية : لا تقل لهما ما فيه أذىً بتبرم ، أي إذا كبِرَا ،  أسَنَّا

فينبغي أن تَتَولى من خِدمتهما مثل الذي توليا من القيام بشأنك وبخدْمَتِكَ ، ولا تنهرهما بمعنى : لا تنتهرهما ، أي لا تكلمهما ضجراً صائحاً في أوجُهِهِما.

يقال نهرته أنهره نهراً ، وانتهرته أنتهره انتهاراً ، بمعنى واحِدٍ (١).

٢٤

و (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (٢٤)

__________

(١) قال السَّمين :

  إِمَّا يَبْلُغَنَّ  قرأ الأخَوان « يَبْلُغانِّ » بألفِ التثنيةِ قبل نونِ التوكيدِ المشدَّدةِ المكسورةِ ، والباقون دونَ ألفٍ وبفتحِ النون . فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها أوجهٌ ، أحدها : أن الألفَ ضميرُ الوالدين لتقدُّم ذكرهما ، و « أَحَدُهما » بدلٌ منه ، و «  كِلاهما » عطفٌ عليه . وإليه نحا الزمخشريُّ وغيرُه . واستشكله بعضُهم بأنَّ قولَه « أحدُهما » بدلُ بعضٍ مِنْ كل ، لا كلٍّ من كل ، لأنه غيرُ وافٍ بمعنى الأول ، وقوله بعد ذلك «  كِلاهما » عطفٌ على البدلِ ، فيكونُ بدلاً ، وهو مِنْ بدل الكلِّ من الكل؛ لأنه مرادفٌ لألف التثنية . لكنه لا يجوز أن يكونَ بدلاً لعُرُوِّه عن الفائدة؛ إذ المستفادُ من ألفِ التثنيةِ هو المستفادُ مِنْ « كِلاهما » فلم يُفِدِ البدلُ زيادةً على المبدلِ منه.

قلت : هذا معنى قولِ الشيخِ . وفيه نظرٌ؛ إذ لقائلٍ أن يقول : مُسَلَّمٌ أنه لم يُفِدِ البدلُ زيادةً على المبدلِ منه ، لكنه لا يَضُرُّ لأنه شانُ التأكيد ، ولو أفاد زيادةً أخرى غيرَ مفهومةٍ من الأولِ كان تأسيساً لا تأكيداً . وعلى تقدير تسليمِ ذلك فقد يُجابُ عنه بما قال ابنُ عطية فإنه قال بعد ذِكْره هذا الوجهَ « وهو بدلٌ مُقَسَّمٌ كقولِ الشاعرِ :

٣٠٤٥- وكنت كذي رِجْلَيْنِ رجلٍ صحيحةٍ . . . ورِجْلٍ رَمَى فيها الزمانُ فَشَلَّتِ

إلا أنَّ الشيخ تعقَّب كلامَه فقال : » أمَّا قولُه بدلٌ مُقَسِّمٌ ك « وكنتُ . . . . » فليس كذلك؛ لأنَّ شرطََه العطفُ بالواو ، وأيضاً فشرطُه : ان لا يَصْدُقَ المُبْدَلُ منه على أحدِ قِسْميه ، لكنْ هنا يَصْدُقُ على أحدِ قسمَيْه ، ألا ترى أنَّ الألفَ وهي المبدلُ منه يَصْدُقُ على أحدِ قِسْمَيْها وهو « كلاهما » فليس من البدلِ المقسِّم « . ومتى سُلِّم له الشرطان لزم ما قاله.

الثاني : أن الألفَ ليست ضميراً بل علامةُ تثنيةٍ و » أحدُهما « فاعلٌ بالفعلِ قبلَه ، و »  كلاهما « عطفٌ عليه . وقد رُدَّ هذا الوجهُ : بأن شرطَ الفعلِ المُلْحَقِ به علامة تثنيةٍ أن يكون مسنداً لمثنَّى نحو : قاما أخواك ،  إلى مُفَرَّق بالعطف بالواو خاصةً على خلاف فيه نحو : » قاما زيد وعمرو « ، لكنَّ الصحيحَ جوازُه لورودِه سماعاً ك

٣٠٤٦- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد أَسْلماه مُبْعَدٌ وحميم

والفعلُ هنا مسندٌ إلى » أحدُهما « وليس مثنى ولا مفرَّقاً بالعطف بالواوِ.

الثالث : نُقِل عن الفارسيِّ أنَّ/ » كلاهما « توكيدٌ ، وهذا لا بدَّ من إصلاحِه بزيادةٍ ، وهو أن يُجْعَلَ » أحدُهما « بدلَ بعضٍ من كل ، ويُضْمَرَ بعدَه فعلٌ رافعٌ لضمير تثنية ، ويقع » كلاهما « توكيداً لذلك الضميرِ تقديرُه :  يَبْلُغا كلاهما ، إلا أنَّ فيه حَذْفَ المؤكَّد وإبقاءَ التوكيد ، وفيها خلافٌ ، أجازها الخليل وسيبويه نحو : » مررت بزيدٍ ورأيت أخاك أنفسهما « بالرفع والنصب ، فالرفعُ على تقديرِ : هما أنفسُهما ، والنصبُ على تقدير أَعْنِيهما أنفسَهما ، ولكنْ في هذا نظرٌ : من حيث إن المنقولَ عن الفارسيِّ مَنَعَ حَذْفَ المؤكَّد وإبقاءَ توكيدِه ، فكيف يُخَرَّجُ قولُه على أصلٍ لا يُجيزُه؟

وقد نصَّ الزمخشريُّ على مَنْعِ التوكيدِ فقال : فإنْ قلت : لو قيل : » إمَّا يَبْلُغانِّ كلاهما « كان » كلاهما « توكيداً لا بدلاً ، فما لكَ زَعَمْتَ أنه بدلٌ؟ قلت : لأنَّه معطوفٌ على ما لا يَصِحُّ أن يكون توكيداً للاثنين ، فانتظم في حكمِه ، فوجَبَ أن يكونَ مثلَه ».

قلت : يعني أنَّ « أحدُهما : لا يَصْلُحُ أن يقعَ توكيداً للمثنى ولا لغيرِهما ، فكذا ما عُطِفَ عليه لأنه شريكُه.

ثم قال : » فإنْ قلتَ : ما ضَرَّك لو جَعَلْتُه توكيداً مع كونِ المعطوفِ عليه بدلاً ، وعَطَفْتَ التوكيدَ على البدل؟ قلت : لو أريد توكيدُ التثنيةِ لقيل : « كلاهما » فحسبُ ، فلمَّا قيل : « أحدهما  كلاهما » عُلِمَ أنَّ التوكيدَ غيرُ مرادٍ فكان بدلاً مثلَ الأول «.

الرابع : أَنْ يرتفعَ » كلاهما « بفعلٍ مقدَّر تقديرُه :  يبلغُ كلاهما ، ويكون » إحداهما « بدلاً من ألفِ الضمير بدلَ بعضٍ من كل . والمعنى : إمَّا يَبْلُغَنَّ عندك أحدُ الوالدَيْن  يبلُغُ كلاهما.

وأمَّا القراءةُ الثانية فواضحةٌ ، و » إن ما « : هي » إنْ « الشرطية زِيْدَتْ عليها » ما « توكيداً ، فَأُدْغِم أحدُ المتقاربين في الآخر بعد ان قُلب إليه ، وهو إدغامٌ واجب . قال الزمخشري : » هي إنْ الشرطيةُ زِيْدَتْ عليها « ما » توكيداً لها ولذلك دَخَلَتْ النون ، ولو أُفْرِدَتْ « إنْ » لم يَصِحُّ دخولُها ، لا تقول : إن تُكْرِمَنَّ زيداً يُكْرِمْكَ ، ولكن : إمَّا تُكْرِمنَّه.

وهذا الذي قاله أبو القاسم نصَّ سيبويهِ على خلافِه ، قال سيبويه : « وإن شِئْتَ لم تُقْحِمِ النونَ ، كما أنك إن شِئْتَ لم تَجِيءْ ب » ما « . قال الشيخ : » يعني مع النون وعَدَمِها « . وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ سيبويه إنما نصَّ على أن نونَ التوكيد لا يجبُ الإِتيانُ بها بعد » أمَّا « ، وإن كان أبو إسحاقَ قال بوجوبِ ذلك . وقوله بعد ذلك » كما أنَّك إنْ شِئْتَ لم تجيءْ ب « ما » ، ليس فيه دليلٌ على جوازِ توكيدِ الشرط مع إنْ وحدها.

و « عندك » ظرفٌ ل « يَبْلُغَنَّ » و « كِلا » مثنَّاةٌ معنىً من غيرِ خلافٍ ، وإنما اختلفوا في تثنيتِها لفظاً : فمذهبُ البصريين أنها مفردةٌ لفظاً ، ووزنُها على فِعَل ك « مِعَى » وألفُها منقلبةٌ عن واوٍ بدليل قلبِها تاءً في « كِلْتا » مؤنثَ « كِلا » هذا هو المشهور.

وقيل : ألفُها عن ياء وليس بشيءٍ . وقال الكوفيون - وتبعهم السهيليُّ مستدلِّين على ذلك ب

٣٠٤٧- في كلتِ رِجْلَيْها سُلامى واحدَه . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فَنَطَق بمفرِدها- : هي مثنَّاة لفظاً ، ولذلك تُعْرَبُ بالألفِ رفعاً والياء نصباً وجراً ، فألفُها زائدةٌ على ماهية الكلمة كألف « الزيدان » ، ولامُها محذوفةٌ عند السهيليِّ ، ولم يأتِ عن الكوفيين نَصٌّ في ذلك ، فاحتمل أن يكونَ الأمرُ كما قال السهيليُّ ، وأن تكونَ موضوعةً على حرفَيْن فقط ، لأنَّ مِنْ مذهبِهم جوازَ ذلك في الأسماءِ المعربة.

وحكمها أنها متى أُضيفت إلى مضمرٍ أعْرِبت إعرابَ المثنى ،  إلى ظاهرٍ اُعْرِبَتْ إعرابَ المقصورِ عند جمهورِ العربِ ، وبنو كنانةَ يُعْربونها إعرابَ المثنى مطلقاً فيقولون : رأيت كِلَيْ اَخَوَيْك ، وكونُها جَرَتْ مَجْرى المثنى مع المضمرِ دونَ الظاهر يضيق الوقتُ عن ذكره فإنِّي حَقَّقْتُه في « شرح التسهيل ».

ومن أحكامِها : أنها لا تُضاف إلا إلى مثنى لفظاً ومعنى نحو : « كِلا الرجلين » ،  معنىً لا لفظاً نحو : ، « كِلانا » ، ولا تُضاف إلى مُفَرِّقَيْنِ بالعطفِ نحو : « كِلا زيد وعمرو » إلا في ضرورةٍ ك

٣٠٤٨- كِلا السيفِ والسَّاقِ الذي ذهبَتْ به . . . على مَهَلٍ باثنين ألقاه صاحبُهْ

وكذا لا تُضافُ إلى مفردٍ مرادٍ به التثنيةُ إلا في ضرورةٍ ك

٣٠٤٩- إنَّ للخير والشرِّ مَدَى . . . وكِلا ذلك وَجْهٌ وقَبَلْ

والأكثرُ مطابَقَتُها فَيُفْرَدُ خبرُها وضميرُها نحو : كلاهما قائمٌ ، وكلاهما ضربتُه ، ويجوزُ في قليل : قائمان ، وضربتُهما ، اعتباراً بمعناها ، وقد جَمَعَ الشاعرُ بينهما في

٣٠٥٠- كلاهما حينَ جَدَّ الجَرْيُ بينهما . . . قد أقلعا وكِلا أَنْفَيْهما رابي

وقد يَتَعَيَّنُ اعتبارُ اللفظِ نحو : كِلانا كفيلُ صاحبِهِ ، وقد يتعيَّنُ اعتبارُ  ، ويُستعمل تابعاً توكيداً ، وقد لا يَتْبَعُ فيقع مبتدأً ومفعولاً به ومجروراً . و « كلتا » في جميعِ ما ذُكِرَ ك « كِلا » ، وتاؤُها بدلُ عن واو ، وألفُها للتأنيث ، ووزنُها فِعْلى كذكرى . وقال يونس : ألفُها أصلٌ تأؤُها مزيدةٌ ، ووزنُها فِعْتَل . وقد رَدَّ عليه الناس ، وله موضعٌ غيرُ هذا . والنسب إليها عند سيبويه : كِلْوِيّ كمذكَّرِها ، وعند يونس : كِلْتَوِيّ لئلا تَلْتَبِسَ ، وهذا القَدْرُ كافٍ في هاتين اللفظتين.

 « أُفٍّ » « أُفّ » اسمُ فعلٍ مضارعٍ بمعنى أتضجَّر ، وهو قليلٌ؛ فإنَّ أكثرَ بابِ أسماء الأفعال أوامرُ ، وأقلُّ منه اسمُ الماضي ، وأقلُّ منه اسمُ المضارع ك « أُفّ » وأَوَّه ، أي : أتوجَّع ، ووَيْ ، أي : أَعْجَبُ . وكان مِنْ حقِّها أَنْ تُعْرَبَ لوقوعِها موقعَ مُعْرَبٍ ، وفيها لغاتٌ كثيرة وصلها الرُّمَّاني إلى تسع وثلاثين ، وذكر ابنُ عطية لفظةً ، بها تمت الأربعون ، وهي اثنان وعشرون مع الهمزةِ المضمومةِ : أُفُّ ، أُفَّ ، أُفِّ ، بالتشديدِ مع التنوين وَعَدَمِه ، أُفُ ، أُفَ ، أُفِ ، بالتخفيف مع التنوين وعدمه ، أُفْ بالسكون والتخفيف؛ أُفّْ بالسكون والتشديد ، أُفُّه أَفَّه أُفِّه ، أفَّا من غير إمالة ، وبالإِمالة المحضة ، وبالإِمالة بين بين ، أُفُّو أُفِّي : بالواو والياء وإحدى عشرة مع كسرِ الهمزةِ إفَّ إفِّ : بالتشديد مع التنوينِ وعدِمه ، إفُ إفَ إفِ بالتخفيفِ مع التنوينِ وعدمِه ، إفَّا بالإِمالة.

وستٌ مع فتح الهمزة : أَفَّ أَفِّ ، بالتشديد مع التنوينِ وعدِمه ، أَفْ بالسكون ، أفا بالألف . فهذه تسعٌ وثلاثون لغةً ، وتمامُ الأربعين « أَفاهْ » بهاء السكت . وفي استخراجها بغيرِ هذا الضابطِ الذي ذكرتُه عُسْرٌ ونَصَبٌ يَحتاج في استخراجِه من كتب اللغة ، ومن كلامِ أهلِها ، إلى تتبُّع كثيرٍ ، والشيخ لم يَزِدْ على أنْ قالَ : « ونحن نَسْردُها مضبوطةً كما رأيناها » فذكرها ، والنسَّاخُ خالفوه في ضبطِه ، فمِنْ ثَمَّ جاء فيه الخَلَلُ ، فَعَدَلْتُ إلى هذا الضابطِ المذكورِ وللّه الحمدُ.

وقد قُرِئ من هذه اللغاتِ بسبعٍ : ثلاثٍ في المتواتر ، وأربعٍ في الشاذ ، فقرأ نافعٌ وحفصٌ بالكسر والتنوين ، وابنُ كثير وابنُ عامر بالفتحِ دون تنوين ، والباقون بالكسر دون تنوين ، ولا خلافَ بينهم في تشديدِ الفاء . وقرأ نافعٌ في روايةٍ : أُفٌ بالرفع والتنوين ، وأبو السَّمَّال بالضمِّ مِنْ غير تنوين ، وزيد بن علي بالنصبِ والتنوين ، وابنُ عباس : « أفْ » بالسكون. اهـ (الدر المصون).

وتُقْرأ الذِّل - بكسر الذَّالِ - ومعنى (اخفضن لهما جناح الذل).

أي ألِنْ لهما جانبك مُتَذَلِّلاً لهما ، من مبالغتك في الرحمة لهما.

ويقال : رجل ذليل بين الذُلِّ ، وقد ذل يذِلُّ ذُلاً ، ودَابَّةٌ ذَلُول . بين الذل ، ويجوز أن جميعاً في الِإنسانِ.

* * *

٢٥

و (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (٢٥)

الأواب بمعنى التواب ، والراجع إلى اللّه في كل ما أمَر به ، المقْلِعُ عِن

جميع ما نهى عنه ، يقال قد آب يؤوب أوْباً إذَا رجع.

* * *

٢٦

و (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (٢٦)

(وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا).

معناه لا تسرف ، وقيل : التبذير النفقة في غير طاعة اللّه ، وقيل كانت

الجاهلية تنحر الِإبل وتُبَذِّرُ الأموالَ ، تطلب بذلك الفخر والسمعة وتذكر ذلك في أشعارها ، فأمر اللّه - عزَّ وجلَّ - بالنفقة في وُجُوهِهمَا فيما يُقَرِّبُ منه ويزلف عنده.

* * *

٢٧

و (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (٢٧)

أي يفعلون ما يسول لهم الشيطان.

* * *

٢٨

و (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (٢٨)

(عَنْهُم) هذه الهاء والميم يرجعان على ذي القُربى والمِسكين وابن

السبيل ، (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) ، أي وإن أعْرضت عَنهُمُ ، ابْتغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا ، أي لطلب رزقٍ من ربك ترجوه

(فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا).

(ابْتِغَاءَ) منصوب لأنه مفعول له ،  : وإن اعْرَضْتَ عنهم لابتغاء رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ.

وروي أنَّ النبي - صلى اللّه عليه وسلم - كان إذا سئل وليس عنده ما يعطى أمسك انتظار الرزق يأتي من اللّه - جلَّ وعز - كأنَّه يكره الردَّ ، فلما نزلت هذه الآية : (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا).

كان عليه السلام إذا سئل فلم يكن عنده ما يعطي قال : يَرْزُقنَا

اللّه وإياكُمْ مِنْ فَضْلِهِ.

فتأويل  (مَيْسُوراً) واللّه أعلم أنه يكسر عليهم فقرهم

بدعائه لهم.

* * *

٢٩

و (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (٢٩)

معناه لا تبخل ولا تسرف.

(فتقعد) منصوب على جواب النهي ، و (محسوراً) أي قد بالغت في الحمل على نفسك وحالك حتى تصير بمنزلة من قد حَسِر.

والحسير والمحسور الذي قد بلغ الغاية في التعب والِإعياء.

* * *

٣١

 (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (٣١)

(خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ) منصوب لأنه مفعول له ، والإملاق الفقر ، يقال أملق يملق

إملاقاً.

وكانوا يدفنون البنات إذَا وُلَدْنَ لهم خوفاً من الفقر ، فضمن اللّه

- عزَّ وجل - لهم رزقهم ، فقال : (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ).

وهي الموءودة ، كانوا يَدْفِنونَ الابنة إذا وُلدَتْ حيَّةً.

و (إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) ، وتقرأ خَطَاً كبيراً.

فمن قال خِطئاً : بالكسر فمعناه إثماً كثيراً ، يقال قد خطئ الرجل يخطأ خِطئًا : أثِمَ يَأثَمُ إثماً

(وخَطأً كبيراً) له تأويلانِ أحدهما معناه إن قتلهم كان غير صواب يقال : قد

أخطأ يخطئ إخطاء ، وخطأ ، والخطأ الاسم من هذا لا المصدَرُ ، ويكون

الخطأ من خطئ يخطأ خطأً إذا لم يصب مثل لِجَجَ يَلْجَجُ

قال الشاعر :

والناسُ يَلْحَوْنَ الأَمِيرَ إِذا هُمُ . . . خَطِئُوا الصوابَ ولا يُلامُ المُرْشِدُ

٣٢

و (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (٣٢)

أي وساء الزنا سبيلاً . و (سَبِيلًا) منصوب على التمييز.

* * *

٣٣

و (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّه إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (٣٣)

حرَّم اللّه قتل المؤمن إلَّا أن يرْتَدَّ بَعْدَ إيمَانِه ،  يقتل مؤمِناً متعَمِّداً ،

يزنيَ بعد إحْصَانٍ.

كذلك قال قتادة في تفسير هذه الآية.

(وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا).

أي من غير أن يأتيَ بواحدة من هذه الثلاث.

(فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا).

الأجود إدغام الدال في الجِيمِ ، والِإظهار جَيِّدْ بالغ ، لأنَّ الجِيمَ من

وسط اللسانِ ، والدال من طرف اللسان ، والِإدغام جائز لأنَّ حروفَ وَسَط

اللسَانِ قد تقرب من حروف طرف اللسانِ.

وَوَليه الذي بَيْنَهُ وبيْنَه قرابة توجِبُ المطالبةَ بِدَمِهِ . .

فإنْ لم يكن له ولي فالسلطان وَليُه.

و " سُلْطَاناً " أي حجة.

و (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ).

القراءة الجزم على النهي ، ويقرأ بالياء والتاء جميعاً ، وتقرأ فلا يُسْرِفُ

بالرفع . والِإسراف في القتل قد اخْتُلِفَ فيه.

فقال أكثر الناس : الِإسْرافُ أنْ يقتُلَ الوليُّ غيرَ قاتِلِ صاحِبِه.

وقيل : الِإسراف أن يقتل هو القاتل دُونَ السُّلْطَانِ ، وكانت العرب إذا قُتِلَ منها السًيدُ وكانَ قاتله خسِيساً لم يرضوا بأن يُقْتَلَ قَاتِلُه وربما لم يرضَوْا أن يُقْتَل واحد بواحدٍ حتَى تُقْتَلَ جماعة بواحدٍ.

و (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا).

أي أن القتيل إذا قتل بغير حق فهو منصور في الدنيا والآخرة ، فأما

نصرتُه في الدنيا فَقَتْلُ قاتِلِهِ ، وأْما في الآخرة فإجزال الثواب له ، ويخلَّدُ قاتِلُه

في النَّار ، ومن قرأ فلا يسرِفُ - في القَتْلِ - بالرفع - فالمعنى أن وليَّه ليسَ بمُسْرِف في القَتْلِ إذا قتل قاتِلَه ولم يقبل الديَة.

* * *

٣٤

و (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (٣٤)

أي لا تذخروا مِن مَالِه ، ولا تأكلوا - إذَا أقِمْتُمْ عليه إلا ما يُسكنُ

الجَوْعَةَ ، ولا تكتسوا إلَّا ما ستر العورة ، ولا تَقْرَبُوه إلا بالإصلاح للمال حَتى يبلغ أشُده.

وأشُده أن يبلغَ النكاح ، وقيل : أشُده أن يأتي له ثماني عشرة سنة.

وبُلوغُ أشده هو الاحتلام ، وأن يكون مع ذلك غير ذي عاهة في عقل وَأنْ

يكون حازماً في ماله.

و (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا).

قال بَعْضُهُمْ : لا أدري مَا العَهْدُ ، والعَهْدُ كل ما عُوهِدَ اللّه عَلَيْه ، وكل

ما بينَ العِبَادِ من المواثيق فهِيَ عُهُود.

وكذلك  ، (وَأوْفُوا بِعَهْدِ اللّه إذَا عَاهَدْتُمْ).

* * *

٣٥

و (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٣٥)

(وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ المُسْتَقيم).

والقُسْطَاسُ جميعاً - بالضمِ - والكَسْرِ - قيل : القسطاسُ هو القرسطون

وقيل القفان ، والقسطاس ميزان العدل ، أي ميزان كان من موازين الدراهِم

 غَيْرِها .

و (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).

معنى (وأحسن تأويلًا) أن الوفاء أحسن من النقصانِ ، ويجوز أن يكون

 أحسن ما يؤول إليه أمر صاحب الوفاء.

* * *

٣٦

و (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (٣٦)

أي لا تقولن في شيء بما لا تعلم.

فإذا نُهِيَ النَّبِي - صلى اللّه عليه وسلم - مع جكْمتِه وعِلْمِهِ وتوفيق اللّه إيَّاهُ - أن يقول بما لا يعلم ، فكيف سائر أمَّتِه والمسرفين على أنْفُسِهم.

يقال قفوت الشيءَ أقْفُوه قَفْواً إذا اتبَعْتَ أثرَه ، فالتأويل لا تُتْبِعَنْ لِسانَك

من القول ما ليس لك به علم ، وكذلك من جميع العَقل.

(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ) شواهد عليك.

قال اللّه عزَّ وجلَّ (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

فالجوارح شواهدُ على ابن آدم بعمله.

ويقرأ . . (ولا تقُفْ ما ليس لك به عِلْم) بإسكان الفاء وضم القاف ، من قاف يقوفُ - وكأنه مقلوب من قفا يقفو ، لأن  واحد.

و (كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).

فقال (مَسْئُولًا) ، وقال : (كَانَ) ، لأن " كل " في لفظ الواحد ؛ فقال (أولئك) لغير الناس ، لأن كل جمع أشَرْتَ إليْه من الناس وغيرهم ومن الموات فلفظه (أولئك)

قال جرير :

ذم المنازل بعد منزلة اللوى . . . والعَيْش بعد أولئك الأيَّامِ

٣٧

و (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (٣٧)

ويقرأ مَرِحًا - بكسر الراء - ، وزعم الأخفَش أن مَرَحاً أجْودُ من مَرِحاً.

لأن مَرِحاً اسمُ الفَاعِل . وهذا - أعني المصدر - جيَدٌ بالغ ، وكلاهما في الجودة سواء ، غير أنَّ المصدرَ أوْكد في الاستعمال تقول : جاء زيد رَكْضاً ، وجاء زيدٌ راكضاً ، فركْضاً أوْكَدُ في الاسْتِعْمَال لأن ركضاً يدلُّ على توكيد الفِعْل.

وَمَرَحا - بفتح الراء أكثر في القِراءَةِ.

وتأويل الآيةِ : ولا تَمْشِ في الأرض مختالاً وَلَا فَخُوراً.

(إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا).

قالوا : معنى (تَخرِق الأرْضَ) تقطع الأرْضَ ، وقيل تثقب الأرْضَ.

والتأويل أن قدرتك لا تبلغ هذا المبلغ ، فيكون ذلك وصلة إلى الاختيال.

* * *

٣٨

(كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (٣٨)

سيئه في معنى خطيئةً ، وكان أبو عمرو لا يقرأ (سَيِّئُهُ) ، ويقرأ (سَيئَةً) ، وهذا

غلط ، لأن في الأقاصيص سيئاً وغير سَيئ وذلك أن فيها (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)

وفيها : (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ).

و (وأَوْفوا بِالعَهْدِ) ، (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، أي اقرَبُوه بالتِي هي أحْسَنُ.

ففيما جرى من الآيات سيئ وحسن ، فسيئُهُ بلا تنوين أحْسَنُ من سيئةٍ

ههنا . ومن قرأ سَيئَةً جعل " كلا " إحاطة بالمنهى عنه فقط ،  كل ما نهى

اللّه عنه كان سيئة.

* * *

٣٩

و (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللّه إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (٣٩)

(فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا).

أي مباعداً من رحمة اللّه.

* * *

٤٠

و (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (٤٠)

كانت الكفرة من العَرَب تزعم أنَّ الملائكةَ بنات اللّه ، فوُبخوا ، وقيل

لهم : (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) ، أي أختار لكم ربُّكم صَفْوَة الشيءِ وأخَذَ من

الملائكة غير الصفْوةِ.

* * *

٤١

و (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (٤١)

أي بينا.

(وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا).

أي ما يزيدهُمُ التبْيِينُ إلا نُفُوراً ، كما قال اللّه - عزَّ وجلَّ - :

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (٨٢).

* * *

٤٢

(قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (٤٢)

فمن قرأ (كما تقولون) فعلى مخاطبة القائلين

(إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا).

أي لتقربوا إلى ذي العرش ، كما قال : (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ).

وقال بعضهم : (إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا)

أي لكانوا مضادِّينَ له يطلبون الانفِرادَ بالربُوبِيةِ .

والقول الأول عليه المفسرون.

* * *

٤٤

و (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (٤٤)

قيل إن كُلَ مَا خَلقَ اللّه يُسبح بحمده وإن صَرِيرَ السقْفِ وصَرِيرَ البَابِ

من التسبيح للّه عزَّ وجلَّ.

ويكون - على هذا - الخِطَابُ للمشركين وحدهم من

 (وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).

وجائز أن يكون تسبيح هذه الأشياءِ مِمَّا عَلِمَ اللّه به ، لايُفقَه مِنْه إلا ما

عَلَّمنَا.

وقال قوم : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) أي ما من شيء إلا وفيه دَلِيلٌ

أن اللّه خالِقُه ، وأن خَالِقُه حَكيمٌ مُبَرأ مِنَ الأسْوَاءِ (وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).

أي ولكنكم أيها الكفار لَا تَفْقَهونَ أثر الصنْعةِ في هذه المخلوقات.

وهذا ليس بشيء لأن الذين خوطبوا بهذا كانوا مُقِرِّينَ بأن اللّه خَالِقُهُمْ

وخالق السَّمَاوَات والأرض ومن فِيهِن ، فكيف يجهلون الخلقة وهم عارفون

بها.

* * *

٤٥

و (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (٤٥)

قال أهل اللغة معنى (مستوراً) ههنا في موضع ساتر ، ، تأويل الحجاب

- واللّه أعلم - الطبع الذي على قلوبهم.

ويدل على ذلك  (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ).

والأكنة جمع كِنَان وهو ما سَتَرَ .

ومعنى (أَنْ يَفْقَهُوهُ) كراهة (أَنْ يَفْقَهُوهُ) وقيل معناه ألا يفقهوه والمعنيان

واحد ، غير أن كراهة أجود في العربيَّةِ.

وقيل : (جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا)

الحجاب منع اللّه إياهم من النبي - عليه السلام - ويجوز أن يكون (مستوراً) على غير معنى ساتر ، فيكون الحجاب ما لا يرونه ولا يعلمونه من الطبع على قلوبِهمْ.

* * *

٤٦

(وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (٤٦)

(وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا).

الوقر ثقل السمْع ، والوقر أن يَحمِل الإنْسانُ وَقْرَهُ

و (وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا).

(نُفُوراً) يحتمل مذهَبَيْن :

أحدهما المصدر .  : وَلَّوْا نَافِرين نُفُوراً

ويجوز أن يكون (نُفُوراً) جمع نافِرٍ ، فيكون نافِرٍ ونُفُورٌ ، مثل شاهِدٍ وشهود.

* * *

٤٧

و (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (٤٧)

(نجوى) في معنى المصدر ، أي وَإِذْ هُمْ ذَوُو نَجْوَى ، والنجوى اسم

للمصدر ، وكانوا يستمعون من النبي - صلى اللّه عليه وسلم - ويقولون بَيْنَهم : هو ساحِر وهو مَسْحور وما أشبه ذلك من القول.

وقال أهل اللغة في  (إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا) قولَيْنِ :

أحدهما أن مَسْحوراً ذو سَحْرٍ ، والسحْرُ الرنَّةُ ، وقالوا : إنْ تتبعون إلا من

له سَحْرٌ بشَر مِثلكم يأكل الطعام.

قال لبيدٌ :

فإن تسألينا فيم نحنُ فإننا . . . عصافير من هذا الأنامِ المسحَّرِ

وقالوا : مَسْحوراً أي قد سحُر وأزيل عن حَدِّ الاسْتِوَاء

* * *

٤٩

(وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (٤٩)

الرُّفَاتُ الترابُ ، والرفات أيضاً كل شيء حُطِمَ وكُسِرَ ، وكل ما كان من

هذا النحو فهو مبني على فُعَال ، نحو الفُتَاتُ والحطَامُ والرفَاتُ والترابُ.

و (خَلْقًا جَدِيدًا) ، فِي مَعْنَى مُجدَّدِ.

* * *

٥١

و (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً  حَدِيدًا (٥٠)  خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (٥١)

أكثر ما جاء في التفسِير في  ( خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ)

إن هذا الخلقَ هو الموْتُ ، وقيل خلقاً مما يكبر في صدوركم نحو السَّمَاوَات

والأرض والجبال.

ومعنى هذه الآية فيه لطفٌ وَغُمُوضٌ ، لأن القائل يقول : كيف يقال لهم

كونوا حجارة  حديداً وهم لا يستطيعونَ ذلك ؟

فالجواب في ذلك أنهم كانوا يقِرون أن اللّه جل ثناؤُه خالِقُهم ، وينكرونَ أن اللّه يعيدهم خلقاً آخر ، فقيل لهم استشعروا أنكم لو خُلقْتُمْ من حجارة  حديدٍ لأماتكم اللّه ثم أحْيَاكم ، لأن القدرة التي بها أنشأكم - وأنتم مقرونَ أنه أنشأكم بتلك القدرة - بها يعيدكم ، ولو كنتم حجارة  حديداً ،  كنتم الموت الذي هو أكبر الأشياء في صدوركم.

و (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ).

أي فسيحركون رؤوسهم تحريك من يبطل الشيء ويستبطئه.

(وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ).

يقال أنْغَضْتُ رأسي إذا حركتُه أنْغِضُه إنغاضاً ، ونَغَضَتِ السِّن تنغَضُ

نغْضاً ، ونغض برأسه ينغَضُ نَغْضاً إذَا حركه.

قال العجاج.

أَسَكَّ نَغْضاً لا يَني مُسْتَهْدَجا

* * *

٥٢

و (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (٥٢)

أي يعيدكم يوم القيامةِ.

ومعنى تستجيبون بحمده . تستجيبون مقرين بأنه خالِقكُمْ.

* * *

٥٥

و (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (٥٥)

معنى ذكر داود ههنا أن اللّه - جل ثناؤه - أعلم أنه قد فضل بعض النبيين

على بعض ، أي فَلَا يُنكِرُوا تفضَيلَ محمد - صلى اللّه عليه وسلم - وإعطاءَه القرآنَ ، فقد أعطى اللّه داود الزبور.

* * *

٥٦

و (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (٥٦)

أي ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهتكم.

وجاء في التفسير أشياء في هذه الآية ، منها أنه قيل : قل ادعوا العُزَيْر

وعيسى لأن النصارى واليهودَ زعموا أن هؤلاء آلِهَتهُم ، فأعلمهم اللّه

- عزَّ وجلَّ - أنهم لا يملكون كشف ضر عنهم ولا تحويلاً من وَاحِدٍ إلى آخرَ ، وقيل إنه يُعْنَى به الملائكةُ لأن منهمُ من كان يعبد الملائِكة.

وقيل إن قوماً من

العرب كانوا يعبدون نفراً من الجنِّ ، فأسلم أولئك النفر من الجن ولم يعلم

بهم من كان يعبدهم ، فقيل فادعوا هؤلاء فإنهم لا يملكون ضراً ولا نفعاً.

* * *

٥٧

و (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (٥٧)

بالياء والتاء.

(أولئك) رفع بالابتداء ، و (الذين) رفع صفة لهم ، و (يَبْتغون) خبرُ

الابتداء ،  الجماعة الذين يدعون يبتغون إلى ربهِم الوسيلةَ ، والوسيلة

والسُّؤَال ، والسُّؤْلُ والطلَبةُ ، في معنى واحد.

(أَيُّهُمْ أَقْرَبُ).

إن شئت " أَيُّهُمْ " كان رفعاً بالابتداء ، والخبر (أَقْرَبُ) ، ويكون

يطلبون إلى ربهم الوسيلة - ينظرون أيهم أقرب إليه فيتوسلون به.

فإن قال قائل : فالذي أنْكَرَ عَليهِمْ هو التوسلُ بغير عبادَةِ اللّه إلى اللّه ، لأنهم قالوا : (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى) ، فالفرق بين المتوسلين إلى اللّه

بمحبَّةِ أنبيائه وملائكته وصالحي عبادِه أنهم يتوسلون بهم مُوحِّدين اللّه

عزَّ وجلَّ ، لا يجعلون له شريكاً في العبادة ، والكفار يتوَسلُونَ بعبادة غير اللّه ، فجعلوا الكفر وسيلَتَهُمْ.

ويجوز أن يكون (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) بدلاً من الواو في (يبتغون)

فالمعنى يبتغي أيهم هو أقرَبُ الوسيلة إلى اللّه ، أي يتقرب إليه بِالعَمَلِ الصالح.

(وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ).

أي الذين يزعمون أنهم آلِهة يرجون ويخافون .

٥٨

 (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ  مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (٥٨)

أي ما من أهل قرية ألا سيهلكون ، إما بموت وَإما بِعَذابٍ يَسْتَأصِلَهُمْ.

(كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا).

أي مكتوباً.

* * *

٥٩

(وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (٥٩)

(أن) الأولى نصب ، و (أن) الثانية رفع.

 ما منعنا الإرْسَالَ ألا تكذيبُ الأولينَ.

والتأويل أنهُمْ سألوا الآيَاتِ التي استوجب بها الأولونَ العذابَ ، لمَّا كذبوا بها ، فنزل عليهم العذابُ ، والدليل على أنهم سألوا تلك الآيات قولهم :

(لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى) ، فأَعلم اللّه - جل ثناؤه - أن مَوْعِدَ كُفَار هذه الأمةِ الساعة ، فقال : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ). فأخَّرَهم إلى يوم القيامة رحمة منه وتفضلاً.

(وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً).

ويقرأ (مُبْصَرَةً) فمن قرأ (مُبْصِرَةً)، فالمعنى تبصرهم ، أي تبين لهم ، ومن

قرأ (مُبْصَرَةً) فالمعنى مبينةً ، (فَظَلَمُوا بها) ، أي فظلموا بتكذيبها (١).

* * *

٦٠

و (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (٦٠)

جاء في التفسير : أحاط بهم أيْ كلهُمْ فِي قبضته ، وعن الحسَن أحاط

بالناس أي حال بينهم وبين أنْ يقتلوك  يَغْلِبُوكَ كما قال - عزَّ وجلَّ - (وَاللّه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

__________

(١) قال الإمام زين الدين محمد بن أبى بكر الرَّازى

فإن قيل : قوله تعالى : (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ . . .الآية)

فيها أسئلة أولها : أن اللّه تعالى لا يمنعه عما يريده مانع ، فإن أراد إرسال الآيات كيف يمنعه تكذيب الأمم الماضية ؟

وإن لم يرد إرسالها كان وجود تكذيبهم وعدمه سواء ، وكان عدم الإرسال لعدم الإرادة ، الثانى : أن الإرسال يتعدى بنفسه قال

اللّه تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) فأى حاجه إلى الباء ؟

الثالث : أن المراد بالآيات هنا ما اقترحه أهل مكة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من جعل الصفا ذهباً ، وإزالة جبال مكة ليتمكنوا من الزراعة ، وإنزال كتاب مكتوب من السماء ونحو ذلك.

وهذه الآيات ما أرسلت إلى الأولين ولا شاهدوها فكيف كذبوها ؟

الرابع : تكذيب الأولين لا يمنع إرسالها إلى الآخرين لجواز أن لا يكذب الآخرون ، الخامس : أي مناسبة وارتباط بين صدر الآية وقوله تعالى : (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) ؟

السادس : ما معنى وصف الناقة بالابصار ؟

السابع : إن الظلم يتعدى بنفسه قال اللّه تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا  يَظْلِمْ نَفْسَهُ) فأى حاجة إلى الباء ، وهلا قال فظلموها يعنى بالعقر والقتل ؟

الثامن : أن قوله تعالى : (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) يدل على الارسال بها وقوله تعالى : (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ) يدل على عدم الإرسال بها ؟

قلنا : الجواب على

الأول : أن المنع مجازعبر به عن ترك الإرسال بالآيات ، كأنه تعالى قال : وما كان سبب ترك الإرسال بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ، (وعن) الثانى : أنى الباء لتعدية الإرسال إلى المرسل به ، لا إلى المرسل لأن المرسل محذوف وهو الرسول.

تقديره : وما منعنا أن نرسل الرسول بالآيات ، والإرسال يتعدى إلى المرسل نفسه وإلى المرسل به بالباء ، وإلى المرسل إليه بالى قال اللّه تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ) وعن الثالث : أن الضمير في قوله تعالى : (بها) عائد إلى جنس الآيات المقترحة لا إلى هذه

الآيات المقترحة كأنه تعالى قال : وما منعنا أن نرسل بالآيات التى اقترحها أهل مكة إلا تكذيب من قبلهم بالآيات المقترحة يريد المائدة والناقة ونحوهما مما اقترحه الأولون على أنبيائهم ، (وعن) الرابع : أن سنة اللّه تعالى في عباده أن من اقترح آية على الأنبياء وأتوه بها فلم يؤمن عجل اللّه هلاكه ، واللّه تعالى لم يرد هلاك مشركى مكة لأنه تعالى علم أنه يولد منهم من يؤمن ،  لأنه قضى وقدر في سابق علمه بقاء من بعث إليهم محمد عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة ، فلو أرسل بالآيات التى اقترحوها فلم يؤمنوا لأهلكهم ، وحكمته اقضت عدم إهلاكهم ، فلذلك لم يرسل بها فيصير معنى الآية وما منعنا أن نومل بالآيات المقترحة عليك إلا أن كذب بالآيات المقترحة الأولون فأهلكوا فربما كذب بها قومك فأهلكوا.

(وعن) الخامس : أنه تعالى لما أخبر أن الأولين كذبوا بالآيات المقترحة عين منها واحدة وهى ناقة صالح عليه الصلاة والسلام ، لأن آثار ديارهم المهلكة في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم . (وعن) السادس : أن معنى مبصرة دالة كما يقال الدليل مرشد وهاد ، وقيل : مبصراً بها كما يقال : ليل نائم ونهار صائم أي ينام فيه ويصام فيه ، وقيل : معناه مبصرة يعنى أنها تبصر الناس صحة نبوة صالح عليه الصلاة والسلام ، ويعضد هذا قراءة من قرأ مبصرة بفتح الميم والضاد أي تبصرة ، وقيل : مبصرة صفة لآية محذوفة تقديره : آية مبصرة أي مضيئة بينة ، (وعن) السابع : أن الباء ليست لتعدية الظلم - هنا - إلى الناقة بل معناه فظلموا أنفسهم بقتلها  بسببها ، وقيل : الظلم - هنا -

الكفر ، فمعناه فكفروا بها ، فلما ضمن الظلم معنى الكفر عداه تعديته.

(وعن) الثامن : أن المراد بالآيات ثانياً العبر والدلالات لا الآيات التى اقترحها أهل مكة.

أ هـ أنموذج جليل في أسئلةٍ وأجوبةٍ عن غرائبِ آي التنزيل صـ ٢٨٣ - ٢٨٦

و (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ).

جاء في التفسير أنها رُؤيَا بيت المقدس حين أسْرِيَ به ، وذلك أنه ارتدَّ

بعضهم حين أعلمهم قصة الإسراء به ، وازداد المؤمنونَ المخلصون إيماناً.

وجاء في التفسير أنه يرِو رأى في منامِه قَوماً يرقون المنابِرِ فساءه ذلك ، فأعلم - صلى اللّه عليه وسلم - أنه عطاء في الدنيا.

(وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ).

قيل في التفسير الملعون أكلُها ، وهِيَ شجرةُ الزقُّومِ التي ذكرها اللّه في

القرآن فقال : (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤).

وقال : (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦).

وقال : (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤).

فافتتن بها المشركونَ ، فقال أبو جهل : ما نعرف الزقوم إلا أكل التمر بالزبد فتزقموا.

وقال بعضُ المشركين : النار تأكل الشجر فكيف ينبتُ فيها

الشجر ، فلذلك قال جل ثناؤه : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ).

فإن قال قائل : ليس في القرآن ذكر لَعْنِها ؟

فالجواب في ذلك لُعِنَ الكُفَارُ وهم آكلوها.

وجواب آخر أيضاً أن العرب تقول لكل طعام مكروه

وَضَارٍّ : مَلْعُونٌ.

* * *

٦١

و (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (٦١)

 لِمَنْ خلقته طِيناً ، وطيناً منصوب على جهتين :

إحداهما التمييز ،  لمن خلقته مِنْ طِينٍ.

ويجوز أن يكون " طيناً " منصوب على الحال.

 أنك أنشاته في حال كونه من طين.

* * *

٦٢

و (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (٦٢)

جاءت " قال " ههنا بغير حرف عطف لأنه على معنى قال اسجُدْ لمن

خَلقْتُ طيناً.

و (أَرَأَيْتَكَ) في معنى أخبرني ؛ فالكاف لا موضع لها ، لأنها ذكرت

في الخطاب توكيداً ، وموضع (هذا) نصبٌ بـ (أَرَأَيْتَكَ).

والجواب محذوف  أخبرني عن هذا الذي كرمت عليَّ لم كرمْتَه عَلَيَّ وقد خَلَقْتَنِي من نارٍ وخَلَقْتَهُ من طينٍ ، فحذف هذا لأن في الكلام دليلاً عليه.

ومعنى : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا).

لأستأصلنهم بالإغواء لهم ، وقيل لأسْتَوْليَنَ عليهم.

والذي تقول العرب : قد احتنكت السَّنَةُ أموالَنَا إذا استأصلتها.

قال الشاعِر :

نَشْكُو إليك سنة قد أجحفت . . . جَهْداً على جَهْدٍ بنا وأضْعَفَتْ

واحتنكت أموالَنَا وجلَّفَتْ

٦٣

و (قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (٦٣)

(جَزَاءً مَوْفُورًا).

أي مُوَفر ، يقال منه وَفَرْته أفِرُهُ فَهُو مَوْفورٌ.

قال زهَيرٌ :

ومن يجعل المعروف من دون عرضه . . . يفره ومن لا يتقي الشتم يشتم

٦٤

و (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (٦٤)

معناه استدعهم استدعاء تستخفهم به إلى إجابتك.

و (بِصَوْتِكَ) تفسيره بدعائِكِ ، وقيل (بِصَوْتِكَ) بأصوات الغناء والمزامير.

و (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ).

أي أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدِك ، وقيل في التفسير : خَيْله

ورَجْلُه كل خيل يسعى في معصية اللّه فهي من خيل إبليس ، وكل مَاش في

معصية فهو من - رجال إبليس ، ورَجِل جمع رَاجل ، ويجوز ورِجَالِك فيكون

جَمْع رَاجِل ورِجَال مثل صاحب وصحاب.

وجائز أن يكون لإبليس خيل وَرِجَال.

و (وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ).

أي مرهم أن يجعلوا من أموالهم شيئاً لغير اللّه كما قال اللّه سبحانه :

(فَقَالُوا هَذَا للّه بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا).

وما قالوه في السائبة والبحيرة.

والشركة في الأولاد قولهم : عبد العزى ، وعبد الحرث.

وقيل شركته في الأولاد يعنى به أولاد الزنا ، وهو كثير في التفسير ، وكل معصية في ولد  مال فإبليس اللعين شريكهم فيها.

 (وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا).

فإن قال قائل فكيف يجوز أن يؤمَرَ إبليس أن يقال له شاركهم في الأموال

والأولاد وأجْلِبْ علَيْهم بخيلك ورجلك وعِدْهُمْ بأنهم لا يُبْعَثُون ؛ فإذا فعل

ذلك فهو مطيع ؟

فالجواب في ذلك أن الأمر على ضربين :

أَحدهما متبع

لا غير ، والثاني إذا تقدمه نهي عما يؤمر به فالمعنى في الأمر الوعيد ، والتهديد لأنك قد تقول : لا تدخلن هذه الدار ، فإذا حاول أن يدخلها قلْت : أدخلها

وأنْتَ رَجُلْ ، فَلَسْتَ تَأمُرُه بدخولها ولكنك توعده وتُهددُهُ وهذا في اللغة

والاستعمال كثير موجود ، ومثله في القرآن : (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ).

وقد نُهوا أنْ يَتَبعُوا أهْوَاءَهُم وأن يعملوا بالمعاصي.

* * *

٦٥

و (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (٦٥)

أي من أخلص فلا حجة لك عليه ولاسلطان.

(وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا).

أي كفى باللّه وكيلا لأوليائه ، يعصمهم من القبول من إبليس.

* * *

٦٦

و (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٦٦)

تفسير (يُزْجِي) يسَيِّر ، وقد زجَّيْتُ قدمت الشيء ، وهذا الكلام ذكر

معطوفاً على  (كُونُوا حِجَارَةً  حَدِيدًا)

و (قُل الَّذِي فَطرَكُم أولَ مَرةٍ)

فالمعنى أنه يبعثكم الذي بدأ خلقكم ، والابتداء والإنشاء أشد من

الإعادة.

ثم أعلمهم أَن الذي قدر على تسخير الفلك في البحر - والفلك

كالجبال - قادر على إعَادَتِهِمْ ، قال اللّه تعالى : (وَلَهُ الجوَارِ المُنْشَآتُ في البَحْرِ كالأعْلَام) أي كالجبال.

(وَكَانَ اَلإنْسَانُ كَفُوراً).

الإنسان ههنا يعنى به الكفار خاصة.

* * *

٦٨

و (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ  يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (٦٨)

الحاصب التراب الذي فيه الحصباء ، والحصباء حَصًى صِغَار .

٦٩

و (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (٦٩)

(ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا)

أي لا تجدوا مَنْ يَتبِعُنَا بإنْكَارِ مَا نَزَلَ بكم ، ولا من يتبِعُنَا بأن يصرفه

عنكم.

* * *

٧٠

و (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (٧٠)

تأويله أن اللّه - جل ثناؤه - فضلهم بالتمييز ، وبأن سخر لهم ما في

السَّمَاوَات والأرض وبِحَمْلِهِم في البر والبحْرِ.

(وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا).

قال : (عَلَى كَثير) ولم يقلْ عَلَى كُلِّ مَنْ خلقنا ، لأن اللّه - جل وعلا -

فضل الملائكة ، فقال : (وَلاَ المَلَائِكَةُ المُقَربُونَ).

ولكن ابن آدم مفضل على سائر الحيوان الذي لا يعقل ولا يميز.

وجاء في التفسير أن فضيلة ابن آدَم أنه يمشي قائماً وأن الدوابَّ والإبلَ والحميرَ وما أشبهها تمشي مُنْكَبَّةً ، وأن ابن آدم

يتناول الطعام بيديه ويرفعه إلى فيه ، وأن سائر الحيوان يتناول ذلك بفيه . وهذا الذي في التفسير هو بعض ما فُضلَ به ابن آدم.

وفضله فيما أعطي من التمييز ورزق من الطيبات وبُصِّرَ من الهدَى مع ما لا يحصى من النعم عليه كثير جدًّا.

* * *

٧١

و (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٧١)

وتقرأ يوم يَدْعُو - بالياء -

(كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) ، يعنى به يوم القيامة ، وهو منصوب على اذكر يوم يدعو كل أناس بِإمَامِهِمْ ، ويجوز أن يكون منصوباً بمعنى يعيدكم الذي فطركم يوم يدعو كل انَاس بإمامهم ، ومعنى بإمامهم

بدينهم الذيْ ائتموا به ، وقيل بكتابهم ، والمعنى واحدٌ.

ويدل عليه (فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ).

أي من كان على حق أعطي كتابه بيمينه.

(وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا).

 ولا يظلمون مقدار فتيل ، والفتيل القشرة التي في شق النواة.

* * *

٧٢

(وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (٧٢)

أي في هذه الدنيا.

(فَهُوَ في الآخِرَةِ أَعْمَى).

وهذا من عمى القلب ، أي هو في الآخرة أشَد عَمًى.

وتأوللّه أنه إذا عَمِيَ في الدنيا ، وقد عَرَّفَهُ - جل وعلا - وجَعَلَ له إلى التوبة وُصْلَةً ، وفَسَحَ لَه في ذلك إلَى وقت مماته ، فعمي عن رشده ولم يَتُبْ ففي الآخرة لا يجد متاباً ولا مُتَخلَّصاً مما هو فيه ، فهو في الآخرة أشد عمى

(وَأضَل سَبِيلاً).

أي وأضل طريقاً ، لأنه لا يجد طريقاً إلى الهداية فقد حصل على

عمله.

٧٣

و (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (٧٣)

معنى الكلام كادوا يفتنونك ، ودخلت " إن " واللام للتوكيد ، وتأويله أن

المشركين قالوا للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - : لا نتركُكَ تستلم الحجر حَتى تلِمَّ بآلهتنا ، فقال - صلى اللّه عليه وسلم - في نفسه ، وما عَلَى أنْ أفعل ذلك واللّه يعلم ما في نفسي ، وأتمكن من استلام الحجر.

هذا مما جاء في التفسير .

وجاء في التفسير أيضاً أن المشركين قالوا للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - : اطرد عنك سقاط الناس ومَوَالِيَهُمْ وهؤلاء الذين رائحتُهُم رَائِحَة الضأنِ ، وذلك أنهم كانوا يلبسون الصوف ، فَقالوا : اطرد هؤلاء إن كنت أرْسِلْتَ إلينا حتى تجلس إلينا ونسمع منك فَهَمَّ النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أن يفعل في ذلك ما يستدعي به إسْلَامهم ، فتوَعدُهُ اللّه - عز وجل - فيه أشد الوعيد (١) وَعَصَمَهُ اللّه من أن يُمْضِيَ ما عَزَمَ عليه ، فقال : (وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا).

أي إن فعلت ما أرادُوا لاتخذوك خليلاً.

* * *

٧٤

(وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (٧٤)

وحُكِيت (تركُن) بضم الكاف.

يقال رَكَن يركَن ، وركَن يركُنُ ، فتوعده اللّه في ذلك أشد التوعد ، فقال :

٧٥

(إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (٧٥)

والمعنى لو رَكنْتَ إليهم في ذلك الشّيءَ القليلَ إذن لأذقناكَ ضِعْفَ

الحياة وضِعْفَ المماتِ ، أي ضِعْفَ عذاب الحياة وضعفَ عَذابِ المماتِ

لأنك أنت نبي وُيضَاعَفُ لك العذاب على عذاب غيركِ لو جنى هذِه الجناية

كما قال : (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ) لأن درجة النبِيِ وَدَرَجَةَ آله الذين وَصَفَهُم اللّه فَوقَ دَرَجَةِ غيرهم.

* * *

٧٦

و (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (٧٦)

كانوا قد كادوا أن يخرجوا النبي - صلى اللّه عليه وسلم - من مكة فأعلمهم اللّه أنهم لو فعلوا ذلك لم يَلْبَثُوا بَعدَه إلا قلِيلًا.

وقيل (لَيَسْتَفِزُّونَكَ) ، أي لَيقْتُلونَكَ.

__________

(١) قال القاضي عياض ما نصه :

قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي - وَفَّقَهُ اللّه - يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُجَاهِدِ نَفْسَهُ ، الرَّائِضِ بِزِمَامِ الشَّرِيعَةِ خُلُقَهُ أَنْ يَتَأَدَّبَ بِأَدَبِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ ، وَمُعَاطَاتِهِ ، وَمُحَاوَرَاتِهِ ، فَهُوَ عُنْصُرُ الْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ ، وَرَوْضَةُ الْآدَابِ الدِّينِيَّةِ ، وَالدُّنْيَوِيَّةِ ، وَلِيَتَأَمَّلَ هَذِهِ الْمُلَاطَفَةَ الْعَجِيبَةَ فِي السُّؤَالِ مِنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ ، الْمُنْعِمِ عَلَى الْكُلِّ ، الْمُسْتَغْنِي عَنِ الْجَمِيعِ ، وَيَسْتَشِيرَ مَا فِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ ، وَكَيْفَ ابْتَدَأَ بِالْإِكْرَامِ قَبْلَ الْعَتْبِ ، وَآنَسَ بِالْعَفْوِ قَبْلَ ذِكْرِ الذَّنْبِ إِنْ كَانَ ثَمَّ ذَنْبٌ . وَقَالَ - تَعَالَى - : وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [ الْإِسْرَاءِ : ٧٤ ] الْآيَةَ.

قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ : عَاتَبَ اللّه - تَعَالَى - الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - بَعْدَ الزَّلَّاتِ ، وَعَاتَبَ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ وُقُوعِهِ ، لِيَكُونَ بِذَلِكَ أَشَدَّ انْتِهَاءً ، وَمُحَافَظَةً لِشَرَائِطِ الْمَحَبَّةِ ، وَهَذِهِ غَايَةُ الْعِنَايَةِ . ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ بَدَأَ بِثَبَاتِهِ ، وَسَلَامَتِهِ قَبْلَ ذِكْرِ مَا عَتَبَهُ عَلَيْهِ ، وَخِيفَ أَنْ يَرْكَنَ إِلَيْهِ ، فَفِي أَثْنَاءِ عَتْبِهِ بَرَاءَتُهُ ، وَفِي طَيِّ تَخْوِيفِهِ تَأْمِينُهُ وَكَرَامَتُهُ . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - : قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ [ الْأَنْعَامِ : ٣٣ ] الْآيَةَ . اهـ (الشفا بتعريف حقوق المصطفى. ص : ١٣٠ - ١٣١).

وقال الثعالبي :

* ت * : وجزى اللّه ابنَ الأنباريِّ خيراً ، وإن تنزيه سائر الأنبياء لواجبٌ ، فكيف بسيِّد ولد آدم صلى اللّه عليه وعليهم أجمعين.

قال أبو الفَضْل عياضٌ في «الشِّفَا» : قوله تعالىوَلَوْلاَ أَن ثبتناك لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً  : قال بعض المتكلِّمين : عاتب اللّه تعالى نبيَّنا عليه السلام قبل وقوع ما يوجبُ العتاب؛ ليكون بذلك أشدَّ انتهاءً ومحافظةً لشرائط المحبَّة ، وهذه غاية العناية ، ثم انظُرْ كيف بدأ بثباته وسلامته قبل ذِكْر ما عاتبه عليه ، وخيف أنْ يركن إِليه ، وفي أثناء عتبه بَرَاءَتُه ، وفي طَيِّ تخويفه تأمينُه.

قال عياضٌ رحمه اللّه : ويجبُ على المؤمن المجاهِدِ نفسَهُ الرائِضِ بزمامِ الشريعةِ خُلُقَهُ؛ أن يتأدَّب بآداب القرآن في قوله وفعله ومعاطاته ومحاوراته فهو عنصر المعارف الحقيقة ، وروضَةُ الآداب الدينية والدنيوية انتهى.

قال * ع * : وهذا الهمُّ من النبيِّ صلى اللّه عليه وسلم إِنما كان خَطْرة مما لا يمكِنُ دفعه ، ولذلك قيل :  كِدتَّ  وهي تعطي أنه لم يقعْ ركونٌ ، ثم قيل :  شَيْئًا قَلِيلاً  ؛ إِذ كانت المقاربة التي تضمنتها  كِدتَّ  قليلةً خطرةً لم تتأكَّد في النفْس.

و  إِذًا لأذقناك . . .  الآية : يبطل أيضاً ما ذهب إليه ابنُ الأنباريِّ.

* ت * : وما ذكره * ع * رحمه اللّه تعالى من البطلان لا يصحُّ ، وما قدَّمناه عن عياضٍ حسنٌ؛ فتأمَّله. اهـ (الجواهر الحسان. ٢ / ٣٥٣ - ٣٥٤)

٧٧

و (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (٧٧)

(سُنَّةَ) منصوب بمعنى أنا سَنَنَّا هذه السنةَ فيمن أرسلنا قبلك من رُسُلِنَا.

أنهم إذا أخْرَجُوا نبيهم من بين أظهرهم  قتَلُوهُ لم يلبثهم العذاب أن ينزل

بهم ، وكان خروج النبي - صلى اللّه عليه وسلم - من مكة مهاجراً بأمر اللّه.

٧٨

و (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (٧٨)

دلوك الشمس زَوالها ومَيْلها في وقت الظَهِيرة ، وكذلك ميلها إلى

الغروب هو دُلُوكهَا أيضاً ، يقال : قد دلكت بَراحِ وبِرَاحِ.

أي قد مالت للزوال حتى صار الناظر يحتاج إذا تبصرها أن يكسر

الشعَاعَ عن بصره براحته.

قال الشاعر :

هذا مقام قدمي رَبَاح . . . للشمس حتى دلكت براح

و (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ).

أي ظُلْمَةِ الليلِ.

(وَقُرْآنَ الفَجْرِ).

أي فأقم قرآن الفجر ، وفي هذا الموضع فائدة عظيمة تدل على أن

الصلاة لا تكون إلا بقراءةٍ ، لأن قوله أقِمِ الصلاة وأقِمْ قرآن الفجر قد أمر أن

نقيمَ الصلاة بالقراءة حتى سميت الصلاة قرآناً ، فلا تكون صلاة إلا بقراءة.

و (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا).

جاء في التفسير أن ملائكة الليل يحضرون قراءة الفجر ، وملائكة النهار

يحضرونها أيضاً.

٧٩

و (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (٧٩)

يقال تهجد الرجل إذا سَهِرَ ، وهجَدَ إذَا نام ، وقد هجَّدْتُه إذا نوَّمتُه

قال لبيد :

قلتُ هَجِّدْنا فقد طالَ السُّرَى . . . وقَدَرْنا إِن خَنا الدَّهْر غَفَلْ

وهذه نافلة لك زيادة للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - خاصَّةً ليست لأحدٍ غيرِه لأن اللّه - عز وجل - أمره بأن يزْدَاد في عبادته على مَا أمِرَ به الخلقُ أجْمعونَ ، لأنه فضله عليهم ، ثم وعده أن يبعثه مقاماً محموداً.

والذي صحت به الرواية والأخبار في المقام المحمود أنه الشفاعة.

* * *

٨٠

و (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (٨٠)

(أدْخِلْني مُدْخَلَ صِدْقٍ).

ومَدْخَلَ صِدْقٍ ، (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ).

وجاء في التفسير (أدْخِلْني مُدْخَلَ صِدْقٍ) الجنَّة ، (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ).

أي وأخرجني من مكة إلى المدينة.

وجاء أيضاً مُدْخَلَ ومخرج صدق دخوله

المدينة وخروجه من مكةَ.

وجاء مُدْخَل صدق ومخرج صدق الِإدخال في الدين والخروج من الدنيا وهو على الحقِّ ، وجاء أيضاً - وهو حسن - دخوله في الرسالة وخروجه مما يجب عليه فيها - صلى اللّه عليه وسلم - وكل ذلك حسن.

فمن قال مُدْخَلَ - بضم الميم - فهو مصدر أدخلته مُدْخَلاً.

ومن قال مَدخَل صدق فهو على أدْخَلْتهُ فدَخَل مَدْخَل صدق.

وكذلك شرح مخرج مثله.

و (واجْعَلْ لي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً).

أي اجعل نصرتي من عندك بتسليطي بالقدرة والحجة ، وقد أجاب اللّه

- عزَّ وجلَّ - دعاءه وأعلمه أنه يعصمه من الناس ، فقال : وَاللّه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)

وقال : (فَإن حِزْبَ اللّه هُمُ الغَالِبُونَ).

وقال : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).

* * *

٨٤

و (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (٨٤)

معناه على طريقته وعلى مذهبه ، ويدل عليه : (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا).

أي أهدى طريقاً . ويقال هذا طريق ذو شَوَاكل ، أي يَتَشَعَّبُ منه طرق

جماعة.

* * *

٨٥

و (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (٨٥)

سألت إليهود النبي - صلى اللّه عليه وسلم -عن الروح وهم مقدرون أن يجيبهم بغير ما عَلِمَ مِن تفسيرها ، فأعلمهم أن الروح من أمر اللّه.

ثم قال :

(وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)

فقالوا للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - قد أوتينا التوراة ، وفيها الحكمة ، وقَدْ تَلَوْتَ : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا).

فأعلمهم اللّه - عزَّ وجلَّ - أنَّ عِلْمَ التوراة قليل في علم اللّه.

فقال : (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّه)

أي ما نفدت الحكمةُ التي يأتي بها اللّه عزَّ وجلَّ ، فالتوراة قليلة بالإضَافَةِ إلَى كلمات اللّه.

وقليل وكثير لَا يصح إلا بالإضَافَة ، فإنما يقل الشيء عندما يعلمُ أكثر

منه ، وكذلك يكثر عند مَعلوم هُوَ أقَل منه.

وقد اختلف الناس في تفسير الروح فقيل إن الروح جبريل ومن تأول

ذلك فدليله  (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ).

وقيل إن الروح خلق لخلق بني آدم في السماء.

وقال بعض المفسرين : إن الروح إنما يعنَى به القُرآنُ.

قال : ودليل ذلك  (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ)

وكذلك قيل : الروح من أمر ربي ، وتأويله تسمية القرآن بالروح أن القرآن حياة القلوب وحياة النفس فيما تَصِير إليه من

الخير عند اللّه عزَّ وجلَّ.

* * *

٨٦

و (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (٨٦)

أي لو شئنا لمحوناه من القلوب ومن الكتب حتى لا يُوجَدَ له أثر.

(ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا).

أي لاتجد من يتوكل في رد شيء منه.

٨٧

و (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (٨٧)

استثناء ليس من الأول ، والمعنى ولكن اللّه رحمك فأثبت ذلك في

قلبك وقلوب المؤمنين . ثم احتج اللّه عليهم بعد احتجاجه بقوله

(قُلْ كُونُوا حِجَارَةً  حَدِيدًا) بالقرآن فأعلمهم - وهم العرب العاربةُ أهل البيان ، ولهم تاليف الكلام - فقال لهم :

٨٨

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨)

والظهير المعينُ.

* * *

٩٠

و (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠)

هذا قولهم بعد أن انقطعت حجتهم ولم يأتوا بسورة من القرآن ولا دفعوا

أن يكون معجزةً ، فاقترحوا من الآيات ما ليس لهم ، لأن الذي أتاهم به من

القرآن وانشقاق القمرِ وما دلهم به على توحيد اللّه أبلغ وأعجز في القدرة مما

اقترحوا ، فقالوا : (حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا).

واليَنْبُوعُ تقديره تقدير يَفْعُول ، من نبع الشيء.

* * *

٩٢

و ( تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (٩١)  تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا  تَأْتِيَ بِاللّه وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (٩٢)

(كِسَفًا) وَ (كِسْفًا) ، فمن قرأ (كِسَفًا) جعلها جمع كِسْفَة ، وهي القِطْعَةُ.

ومن قرأ (كِسْفًا) فكأنَّه قال  تَسقِطُهَا طبَقاً عَلَيْنَا ، واشتقاقه من كسفتُ الشيء إذا غطيته.

و ( تَأْتِيَ بِاللّه وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا).

في " قَبِيل " قولان ، جائز أن يكون . تأمر بهم حتى نراهم مقابلة.

وأن يكون قبيلاً كفيلًا ، يقال قَبُلْتُ بِهِ أقْبُل قَبالَة ، كقولك : كفلت به أكفُل كَفَالَة ،

وكذلك قول الناس : قد تقبل فلان بهذا أي تكفل به.

* * *

٩٣

و ( يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ  تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (٩٣)

جاء في التفسير أن معناه بيت من ذهب ، وأصل الزخرف في اللغة

والزخرفة الزينَةُ ، والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ :

(حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا) أي أخذت كمال زينتها.

وزخرفت الشيءَ إذا أكْملْتُ زينتَه ، ولا شيء في تزيين بيتٍ وتحسينه ، وزخرفته كالذهب.

فليس يخرج ما فسروه عنِ الحق في هذا.

و ( تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ).

يقال في الصعود : رقيت أرقى رقياً ، ويقال فيما تداويه بالعوذة : رقيتُ

أرقى رُقيَةً ورَقياً.

و (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ).

أي ححَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا يشهد بِنُبُوتكَ.

فأَعلم اللّه - جل ثناؤه - أن ذلك لو نزل عليهم لم يؤمنوا فقال : (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧).

فإذا كانوا يدعون فيما يعجز عنه أنه سحر فكيف يوصل إلى تَبْصِيرَهِمْ

والتبيين لهم بأكثر مما أتى به النبي - صلى اللّه عليه وسلم - من الآية الباقية ، وهي القرآن ، ومن الأنباء ما يدبرونه بينهم وبما يخبرهم به من أخبار الأمم السالفة ، وهو لم يقرأ كتاباً ولا خطه بيمينه ، وقد أنْبأ - صلى اللّه عليه وسلم - ودل على نبوته كل ما يخطر بالبال.

٩٤

و (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللّه بَشَرًا رَسُولًا (٩٤)

موضع (أن) نصب.

و (إِلَّا أَنْ قَالُوا).

موضع (أنْ قَالُوا) رفع ،  ما منعهم من الإيمان إلا قولهم : (أَبَعَثَ اللّه بَشَرًا رَسُولًا).

فأَعلم اللّه أن الأعدل عليهم ، والأبلغ في الأداء إليهم بشر مثلهم

وأعلمهم أن (لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) أي يمشون

مستوطنين الأرض (لنزلنا عليهم مِنَ السماءِ مَلَكَاً رسولاً) ، لأنه لا يُرْسَلُ إلى

خلق إلا ما كان مِن جِنْسِهِ.

* * *

٩٦

و (قُلْ كَفَى بِاللّه شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (٩٦)

قالوا للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - من يشهد لك بأنك رسول اللّه ، فقال : اللّه يشهد لي.

و (كفى باللّه شهيداً) في موضع رفع ،  كفى اللّه شهيداً.

و (شهيداً) منصوب على نوعين ، إن شئت على التمييز ، كفى اللّه من الشهداء ، وإن شئت على الحال ،  كفى اللّه في حال الشهادة.

* * *

٩٧

و (وَمَنْ يَهْدِ اللّه فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (٩٧)

(كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا).

أي كلما خَمَدَتْ ، ونضجت جلودهم ولحومهم بدلهم اللّه غيرها ليذوقوا

العذاب.

* * *

١٠٠

و (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (١٠٠)

هذا جواب لقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠).

فأعلمهم اللّه - جل وعلا - أنهم لو ملكوا خزائن الأرزاق لأمسكوا شُحًّا وبُخْلًا ، فقال :

(إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا).

يعنَى بالإنسان ههنا الكافِر خاصة كما قال - عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦)

أي لكفور ، (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) أي من أجل حب

الخير وهو المال لبخيل.

فأمَّا (أنتم) فمرفوع بفعل مضمر ،  قل لو تملكون أنتم - لأن لو يقع

بها الشيء لوقوع غيره ، فلا يليها إلا الفعل ، وإذا وليها الاسم عمل فيها الفعل المضمر ، ومثل ذلك من الشعر قول المتلمس :.

فلو غَيرُ أَخوالي أَرادوا نَقِيصَتي . . . جَعَلْتُ لهم فَوْقَ العَرانِينِ مِيسَما

 لو أراد غير أخوالي.

والقتُور : البخيل.

* * *

١٠١

و (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (١٠١)

قيل في التفسير إنها أخذ آل فرعون بالسنين وهي الجدب حتى ذهبت

ثمارهم ، وذهبَتْ من أهل البوادي مواشيهم.

ومنها إخراج موسى يده بيضاء للناظرين ، ومنها القاؤه عصاه فإذا هي ثعبان مبين ، وأنها تلقفت إفك السَّحرِة.

ومنها إرسال اللّه عليهم الطوفان - نعوذ باللّه منه ، والجرادَ والقُمَّلَ والضفادع والدَّمَ ، فذلك تسع آيات.

وقد قيل إن البحر منها.

ومن آياته انفجار الحجر ولكنه لم يُرْوَ في التفسَير .

و (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا)

لم يَجِدْ فَرعَونُ ما يدفع به الآيات إلا إقراره على نفسه بأنه ظانٌّ أن

موسى مسحور ، فأعلمه اللّه أن فرعون قد بين أنها آيات فقال :

١٠٢

(قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (١٠٢)

يعنى الآيات.

(إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ).

وقرأ بعضهم لقد علمتُ - بضم التاء - والأجود في القراءة لقد علمتَ -

بفتح التاء - لأن علم فرعونَ بأنها آيات من عند اللّه أوكد في الحجة عليه.

ودليل ذلك قوله عزَّ وجلَّ في فرعونَ وقومه : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا).

و (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا).

أي لأظنك مُهْلَكاً ، يقال : ثُبِرَ الرجل فهو مثبور إذَا هَلَكَ.

* * *

١٠٣

و (فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (١٠٣)

أي فأراد فرعون أن يستفز موسى وقومَهُ مِنَ الأرْضِ فجائز أن يكون

استفزارهم إخرَاجهم منها بالقتل  بالتنحية.

(فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا)

* * *

١٠٤

و (وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (١٠٤)

(جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا).

أي آتينا بكم من كل قبيلة ، واللفيف الجماعات مِن قبائل شَتى.

* * *

١٠٦

و (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (١٠٦)

وتقرأ (فرَّقناهُ) - بالتشديد ، وقرآناً مَنصوبٌ بفعل مُضمَر ،

 : وما أرْسلْنَاكَ إلا مُبَشِراً ونَذِيراً ، تبشر المؤمنين بالجنة وتنذر من عصى اللّه بالنار ، وقرآناً فرقناهُ.

أنزل اللّه " عزَّ وجلَّ القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ، ثم أنْزلَ على

النبي - صلى اللّه عليه وسلم - في عشرين سنة ، فرقه اللّه في التنزيل ليفهمْهُ الناسُ ، فقال : (لِتَقْرَأهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكثٍ).

ومَكثٍ جميعاً ، والقراءة بضم الميم.

* * *

١٠٧

و (قُلْ آمِنُوا بِهِ  لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (١٠٧)

(يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا)

لأن الذي يخر وهو قائم يخر لوجهه ، والذَّقَنُ مجتمع اللَّحْيَيْنِ وهو عضو

من أعضاء الوجه ، وكما يبتدئ المبتدئ يخر فأقرب الأشياء من وجهه إلى

الأرض الذَّقنُ.

و (سُجَّدًا) منصُوبٌ على الحال.

* * *

١٠٨

و (وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (١٠٨)

معناه ما كان وعد ربنا إلا مفعولًا.

وإن واللام دخلتا للتوكيد.

* * *

١١٠

و (قُلِ ادْعُوا اللّه  ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (١١٠)

لما سمعت العرب ذكر الرحمن قالت : أتدعونا إلى اثنين إلى اللّه وإلى

الرحمن.

واسم الرحمن في الكتب الأوَلِ المنزلة على الأنبياء.

فأعلمهم اللّه أن دعاءهم الرحمن ودعاءهم اللّه يرجعان إلى شيءٍ واحدٍ فقال : (أَيًّا مَا تَدْعُوا)  أي أسماء اللّه تدعوا (فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى).

* * *

(وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا).

المخافتة الِإخفاء ، والجهر رفع الصوت ، وكان النبي - صلى اللّه عليه وسلم - إذا جهر

بالقرآن سب المشركون القرآن ، فأمره اللّه - جلَّ وعزَّ - ألا يعرض القرآن

لسبهم ، وألا يخافت بها مخافتةً لا يسمعها من يصلي خلفه من أصحابه.

(وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا).

أي اسلك طريقاً بين الجهر والمخافتة.

* * *

١١١

و (وَقُلِ الْحَمْدُ للّه الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (١١١)

يعاونه على ما أراد.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ).

أي لم يحتج إلى أن ينتصر بغيره.

(وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا).

أي عظِّمه عظَمَة تامَّةً .