سُورَةُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَكِّيَّةٌ

وَهِيَ مِائَةٌ وثَلاَثٌ وَعِشْرُونَ آيَةً

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

 (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١)

كتاب مرفوع بإضمارِ هذا كتابٌ.

وقال بعضهم : (كتابٌ) خبرُ " الر "

وهَذَا غلض ، لأن  (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) ليس هو (الر) وحدها.

وفي التفسير (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) بالأمر والنهي والحلال والحرام ثم فصلت بالوعد

والوعيد.

والمعنى - واللّه أعلم - أنَّ آيَاتِه أحْكِمتْ وَفُصِّلَت بجميع ما يحتاج إليه

من الدلالة على التوحيد ، وإثبات نبوة الأنبياء - عليهم السلام - وإقَامَةِ

الشرائع.

والدليل على ذلك  (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)

و (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ).

ويدل على هذا  (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللّه إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ).

 (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ).

أي من عند حكيم خبير ، لِـ أنْ لا تعبدوا إلا اللّه.

وموضع أن نصب على كل حال.

(و (إنني) مقول قول مقَدرٍ ، أي قل يا محمد لهم إنَّنِي لكم منه.

أي من جهة اللّه " نَذِيرٌ " أي مُخَوِّفٌ من عَذَابِه لمنْ كفرَ.

و " بَشِير " بالجنة لمن آمَنَ.

٣

و (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣)

أي وأمركم بالاستغفار.

(ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا).

أي يُبْقِيكمْ ولا يَسْتَأصِلُكمْ بالعذاب كما استأصلَ أهل القرى الذين

كفروا.

(وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ).

أي من كان ذا فَضْلٍ في دينه فَضَله اللّه بالثواب ، وفَضله بالمنزلة (في الدنيا) بالدين كما فَضلَ أصْحَاب نبيه (عليه السلام).

* * *

٥

و (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٥)

(أَلَا) معناها التنبيه ولا حَظَّ لها في الإعراب ، وما بَعْدَها مبتدأ.

ومعنى (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا) ، أي يُسِرون عداوة النبي - صلى اللّه عليه وسلم -.

وقيل إن طائفة من المشركين قالت : إذَا أغْلَقْنَا أبوَابَنَا وأرْخَيْنَا سُتُورَنا.

واسْتَغْشَيْنَا ثِيَابَنَا ، وثَنَيْنَا صُدُورَنَا على عداوةِ محمد - صلى اللّه عليه وسلم - كيف يعلم بِنَا ، فأعْلَمَ - عز وجل -

بما كتموه فقال جلّ ثناؤه : (أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ).

وقرِئَتْ " أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنَوْني صدورُهم ".

قرأها الأعمش ورُوِيتْ عن ابن عباس " تَثْنَوْني " صدورُهم.

عَلَى مِثال تَفْعَوْعِلُ ومعناها المبالغة في الشيء ، ومثل

ذلك قد احْلَوْلَى الشيء إذَا بلغ الغايةَ في الحلاوة.

* * *

٦

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللّه رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦)

(وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا).

قِيلَ (مُسْتَقَرَّهَا) مَأواها على ظهر الأرض ، (وَمُسْتَوْدَعَهَا) ما تصير

إليه ، وقيل أيضاً : (مُسْتَقَرَّهَا) في الأصْلاب (وَمُسْتَوْدَعَهَا) من الأرحام.

و (كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).

أى ذلك ثابت من علم اللّه . فجائزٌ أن يكون في كتاب ، وكذلك قوله

- جلَّ وعز - : (إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا).

* * *

٧

و (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)

اللّه قادر على أن يخلقَها في لحظة ، لأنه على كل شيء قدير ، وإذا خَلَقَهمَا وقَدَّرَهمَا هذا القدْر العَظِيم - والسَّمَاء ليسَ بينها وبَيْنَ الأرْضِ عَمَدٌ يُرَى - في سِتَة أَيَّامٍ علم أنَّ مَنْ كانَتْ قدرَته هذه القدرة لم يُعْجزْه شَيءٌ.

قال اللّه - جلَّ وعزَّ - : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّه الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى).

وكان المشركون يُكذِّبُونَ بأنَّه يَبعَث الموتَى ، ويُقِرُونَ أنه خَالِق السماوات

والأرض .

و (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماءِ).

هذا يدل على أن العرشَ والماءَ كانا قبلَ السَّمَاوَاتِ والأرضِ.

و (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا).

معناه ليختبركم الاختبار الذي يجازيكم عليه ، وهو قد علم قبل ذلك

أيُّهم أحْسنُ عملاً ، إلا أنَّه يجازيهم على أعمالهم لَا عَلى عِلْمِه فيهم.

* * *

(وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).

ويقرأ إلا ساحِر مبين ، والسحر باطل عندهم ، فكأنَّهم قالوا : إنْ هَذَا إلا

بَاطِل بَيِّنٌ.

وأعلمهم اللّه - عزَّ وجلَّ - أنَّ القدرةَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاواتِ والأرْضِ تدل

على بَعْث الموْتى . وأهلُ الكفر مختلفون في البعث فالمشركون يقولون أنهم

لا يُبْعَثُونَ ألبتَّةَ ولا يرْجعُونَ بعد موتهم ، واليهود والنصارى يَزْعُمُ أن لا أكْلَ

ولا شُربَ ولَا غَشْياً للنساءِ في الجنة وكل كافر بالبعث على جهته.

* * *

٨

(وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (٨)

معناه إلى أجل وحين معلوم ، كما قال اللّه تعالى . .

(وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ). أي بعد حين.

و (أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا).

(يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) منصوبٌ بمصروف ،  ليس العذاب مصروفاً عَنْهُمْ

يَوْمَ يأتيهمْ .

(وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئونَ).

كما تقول أحاط بفلان عَمَلُه ، وأهلَكَة كَسْبُه ، أي أهلكه جزاءُ كسبِه

وعاقبتُه.

* * *

٩

وقوله - جلَّ وعزَّ - : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (٩)

يعني الكافر ، والرحْمَة الرزق ، ههنا ، والإِنسان اسم للجنس في معنى

الناس.

* * *

١١

و (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)

استثناء ليس من الأول ،  لكن الذين صبروا وعملوا الصالحات

(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ).

* * *

١٢

و (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ  جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢)

يُرْوَى أن المشركين قالوا للنبِى - صلى اللّه عليه وسلم - لَوْ تَرَكْتَ عيْبَنَا وسَبَّ آلِهتِنَا لجالسناك ، ومعنى (أن يقولوا لَوْلَا أنْزِلَ عليه كنْزٌ)

معناه كراهةَ أن يَقولُوا.

(إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ).

أي إنما عليك أن تنْذِرَهُم وتَأتِيهُمُ من الآيات بما يُوحَى إليك وليس

عليك أن تأتيهم بشهواتهم واقتراحهم الآيات.

ثم أعلمهم وجه الاحتجاج عليهم فقال جلَّ وعزَّ.

١٣

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّه إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٣)

أي ، أيقولون افتراه .

(قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ).

أي مثل سورة منه ، أيّ سورة منها.

(وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّه).

أي اطلبوا أن يعاونكم على ذلك كل من قدرْتم عَليه ، ورجَوْتمْ مُظَاهَرَتَه

ومعاوَنَتَه.

* * *

١٤

(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللّه وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)

ومعنى (أنْزِلَ بِعلْمِ اللّه) ، أي أنْزِلَ واللّه عَالِم بإنْزَاله ، وعالم أنه حق من

عنده.

ويجوز أن يكون - واللّه أعلم - (بِعِلْمِ اللّه) أي بما أنبأَ اللّه فِيهِ من غَيْب

وَدَلَّ على ما سَيكون وما سلف مما لم يَقْرأ بِه النبي - صلى اللّه عليه وسلم - كتاباً وهذا دليل على أنه من عند اللّه.

* * *

١٥

وقوله تعالى : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (١٥)

أي نجازيهم على أعمالهم في الدُّنْيَا.

فأمَّا كان في باب حروفِ الجزاء ففيها قولان :

قال أبو العباس محمد بنُ يزيد : جائزٌ أن تكون لِقُوَّتهَا عَلى معنى

المضِيِّ عبارةً عن كل فعل مَاضٍ ، فهذا هو قوتها ، وكذلك تتأوَلُ قوله (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ).

وحقيقها - واللّه أعلم - من تعلم منه هذا ، فهذا على باب سائر الأفعال.

إلا أنَّ معنى (كان) إخبار عن الحالِ فيما مضى من الدهر ، فإذا قلت سيكون

عالماً فقد أنْبأتَ أن حاله سَتَقع فيما يستقبل ، فإنما معنى كان ويكون العبارة

عن الأفعال والأحوال.

* * *

١٧

وقوله - جلَّ وعزَّ : (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١٧)

قيل في التفسير إنه يعنيْ محمداَ - صلى اللّه عليه وسلم - ويتلوه شاهد منه ، أي شاهد مِنْ رَبِّه ، والشاهِد جبْريل ، وقيل يَتْلوه البرهان ، والذي جرى ذكر البَيِّنَة ، لأن البينة والبرهان بمعنىً واحدٍ.

وقيل (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) يعني لسان النبي - صلى اللّه عليه وسلم -

أي أفمن كان على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّه ، وكان معه من الفضل ما يبين تلك البينة كان هو وغيره سواء ، وترك ذكر المضادِّ لَه لأن فيما بعده دليلاً - عليه.

* * *

و (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ).

ويجوز أن يكون - واللّه أعلم - أفمن كان على بينة من ربه يعني به

النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وسائر المؤمنين.

ويكون معنى . . (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) يتلوه ويتبعه.

أي يتبع البيانَ شاهدٌ من ذَلِكَ البيانِ ، ويكون الدليل على هذا القول : (أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) ويكون دليله أيضاً : (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) ، فاتباع الشاهد بعد البيان كاتباع التفصيل بعد الأحْكَامِ.

* * *

و (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً).

أي وكان من قبل هذا كتابُ موسى دَليلاً على أمر النبي - صلى اللّه عليه وسلم - ، ويكون كتاب موسى على العطف على : قوله (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى)

أي وكان يتلوه كتاب موسى ، لأن النبي بَشَر به موسى وعيسى في التورَاةِ

والإِنجيلِ ، قال اللّه - جلَّ وعزَّْ - : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ).

ونصب (إمَاماً) على الحال ، لأن كِتَابَ موسى معرفة.

(فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ).

يجوز كسر الميم في مِرْيةٍ وضمها ، وقد قُرئ بهما جَميعاً في مِرْيَةَ

وفرْية.

ويجوز نصب (كتاب موسى) ، ويكون  : ويتلوه شاهدٌ منه وهو

الذي كان يتْلِو كتابَ موسى . والأجْودُ الرفعُ ، والقِراءةُ بالرْفع لا غير.

* * *

١٨

و (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللّه عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨)

الأشهاد هم الأنبياء والمؤمنون ، وقال أولئك يعْرضون على رَبِّهم.

والخلقُ كلهم يُعْرضون على ربهم ، كما قال جلَّ ثناؤه

(إليْنَا مَرْجِعُهُمْ) (إلَيْنَا يُرْجَعُونَ) فذكر عرضهم على ربهم توكيداً لحالهم في الانتقام منهم.

* * *

و (أَلَا لَعْنَةُ اللّه عَلَى الظَّالِمِينَ).

لعنة اللّه إبعاده من يلعنه من عفوه ورحمته.

* * *

١٩

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّه وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (١٩)

أي : يَصُدُّونَعن طريق الِإيمان بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم - يريدون رَدَّ السبيل التي هي الِإيمان والاستواء إلى الكُفْرِ والاعوجاجِ عن القصد.

(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ).

ذكرت هم ثانية على جهة التوكيد لثشأنِهِمْ في الكًفْر.

* * *

٢٠

و (أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠)

أي اللّه لا يعجزه انتقامٌ من دَارِ الدنيا ، ولا وَليٌّ يمنع من انتقام اللّه لمن

أراد به النقمة ، ثم استأنف فقال : (يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ).

فوصف مضاعفة العذاب على قَدْر ما وَصَفَ من عِظَم كًفْرهم بنبيه - صلى اللّه عليه وسلم - وبالبعث والنشور.

* * *

(مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ).

أي مِنْ شدةِ كًفْرِهم وعَداوَتهم للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - لا يستطيعون أن يسمعوا ما يقول.

ثم بيّنَ - جلَّ وعزَّ - ضَرَرَ ذلك عليهم فقال :

٢١

(أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢١).

* * *

٢٢

و (لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢)

قال المفسرون :  جزاء حقاً ، أنهم في الآخرة هم الأخسرون

وزعم سيبويه أن جرم بمعنى حَق.

قال الشاعر .

ولقد طَعَنْت أبا عيينة طعنة . . . جَرمَت فزَارَة بعدها أن يَغضبُوا

معناه أحقَّت فزَارةَ الطعنةُ بالغضب.

ومعنى " لا " نفي لما ظنُّوا أنَّه ينفعُهم ، كأن  لا ينفعهم ذلك جرَمَ

أَنَّهم في الآخِرةِ هُمُ الَأخْسرون ، أي كَسَبَ ذلكَ الفعلُ لهم الخسرانَ ثم

ضرب اللّه مثلاً للمؤمنين والكافرين فقال :

٢٤

(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٢٤)

ومثل فريق الكافرين كالأعمى والأصم لأنهم في عداوتهم وتركهم التفهم

كمن لا يسمع ولا يبصر.

* * *

٢٥

و (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥)

كسر إنَّ في القراءة على معنى قال لهم إنِّي لكم نذير مُبين ، ويجوز

أَنِّي لكم نذير مبينٌ على معنى : لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه بالِإنذار أنْ لاَ تَعْبُدوا إِلَّا اللّه إِنِّي أنذركم لتُوَحدوا اللّه ، وأن تَتْركوا عبادَة غيره.

٢٦

(أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللّه إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦)

يجوز في غير القراءة : إني أخاف عليكم عذاب يومٍ ألِيماً ، لأن الأليم

صفة للعذاب ، وإنما وصف اليوم بالألم ، لأن الألمَ فيه يقع ، والمعنى عذاب

يومٍ مُؤلمٍ ، أي مُوجِعٍ.

٢٧

(فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (٢٧)

(الملأ) رُوسَاء القَوْمِ وكبراؤهم الَّذِينَ هم مُلاءٌ بالرأي وبما يحتاج إليه

منهم.

أي فأجابوه بهذا الجوابِ وَالْقوْلِ.

(مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا).

أي ما نراك إلا إنساناً مثلنا ، (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا).

أي لم يتَبِعْكَ الملأُ مِنا ، وإنما اتبعك أخِسَّاؤُنا.

و (بَادِيَ الرَّأْيِ).

بغبر همزٍ في بادي ، وأبو عَمْروٍ يهْمِزُ بَادِئَ الرأي ، أي اتبعوا اتباعاً في

ظاهر ما يرى ، هذا فيمن لم يهْمزْ ، ويكون التفسير على نوعين في هذا

أحَدهمَا أن يكون اتبعُوكَ في الظاهر ، وبَاطِنُهم عَلَى خلاف ذلِك.

ويجوز أن يكونَ اتبعوك في ظاهر الرأي ولم يتَدَبًرُوا مَا قُلتَ ولم يفكًرُوا فيه وقراءة أبي عمرو على هذا التفسير الثاني.

أي : اتبعوكَ ابتداء الرأي ، أي حين ابتدأوا ينظرون وإذا فكروا لم يتبعوك.

فأما نصب بَاديَ الرأيِ فعلى : اتبعوك في ظاهر الرأي ، وعلى ظاهر

الرأي ، كأنَّه قال : الاتباع الذي لم يفكروا فيه.

ومن قال باديَ الرأي فعلى ذلك نَصَبَه.

* * *

٢٨

(قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (٢٨)

(فَعَمِيَتْ)

كذا أكثر القراءة - بفتح العين والتخفيف - وقد قرِئَتْ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ -

بضم العَيْن وتَشْدِيد الميم -

هذا ما أجابهم به في أن قالوا : إن الذين اتبعُوكَ إنما اتبعوك غير

محقِّقِين . فأعلمهم أنهم مُحَققونَ بهذا القول لأنه إذا كان على بَينةٍ ، ممن آمن

به فعالِمٌ بَصِير مَفْضُول له ، وأن من لم يفهم البينَةَ فقد عَمِيَ عليه الصواب.

و (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ).

أي فعَمِيتِ البينَةُ عليكم

(أَنُلْزِمُكُمُوهَا).

القراءة بضم الميم ، ويجوز إسْكانُها عَلَى بُعْدٍ لِكثْرةِ الحركات وثقَل

الضَمَّةِ بعدَ الكسرة.

وسيبَوَيه والخليل لا يُجيزَانِ إسكانَ حرف الإعراب إلا في اضطرارٍ.

فأما ما رُوِيَ عن أبي عَمْرو مِن الِإسْكانِ فلم يُضبْط ذلك عنه ، ورواه

عنه سيبويه أنه كان يخفف الحركات ويختلسها ، وهذا هو الوجه.

* * *

٢٩

و (وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللّه وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (٢٩)

(وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ).

وَإذَا لَاقُوا ربًهُمْ جَازَى مَنْ ظَلَمهُمْ وطردَهُم ، بجزائِه من العَذَاب.

* * *

٣١

و (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّه وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللّه خَيْرًا اللّه أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١)

(وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللّه خَيْرًا).

(تَزْدَرِي) تستسفِل وتستخس.

يقال : ززيْت على الرجُل إذَا عِبْتُ عَلَيْه وخسَّسْتَ فِعْلَه.

وأزْريْتُ إذَا قَصَّرتُ به وتَزْدَرِي أصله تزتَرِي بالتاء ، إلا أن هذه

التاءَ تبدل بعد الزَّاي دَالًا ، لأن التاء من حروف الهمس ، وحروف الهمس

خفيَّة فالتاء بعد الزاي تخفى ، فأُبدِلَتْ منها الدال لِجَهْرِهَا ، وكذلك يفتعل من الزينة يَزْدَان ، تقول : أنت تزدان يا هذا.

و (وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللّه خَيْرًا).

لأنهم قالوا : (اتَبَعَكَ أرَاذِلُنَا).

و (اللّه أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ).

أي إن كنتم تزعمون أنهم إنما اتبعُوني في ظَاهِر الرَّأْي والذي أدعو إليه

توحيد اللّه ، فإذا رأيت من يُوَحد اللّه جل ثناؤه عملتُ على ظاهره ، واللّه أعلم بما في نفْسِه ، لا يعلم الغيب إلَّا اللّه.

* * *

٣٢

و (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢)

(فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا) ويقرأ فأكْثرتَ جَدَلنا ، والجَدَل والجِدال المبالَغة في الخصُومةِ

والمنافَرة ، وهو مأخوذٌ مِنَ الجَدْل وهو لتعدة الفتْل ، والصَّقْر يقال له أَجْدَل لأنَّه من أشَدِّ الطير.

* * *

٣٤

و (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللّه يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤)

(يُغْوِيَكُمْ) يُضِلكم ويهلككم.

* * *

٣٥

و (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)

معناه بل أيقولون افتراه.

(قل إن افتَريتُهُ فَعَلَى إِجْرَامِي).

من قولك أجرم الرجل إجرَاماً ، ويقال جَرمَ في معنى أجْرَمَ ، وأكثر ما

تستعمل أجرم فِي كَسْبِ الِإثم خاصَّةً يقال رجل مجْرِم وجَارم.

ويجوز فَعَليَّ أَجْرامي على جمع جُرْم وهو على نحو

(وَاللّه يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) وأَسْرَارَهُمْ إلا أن القراءة بكسر الألف.

وإجرامي على المصدَرِ.

* * *

٣٦

(وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)

فلذلك - واللّه أعلم - استجارَ نوح ب (لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (٢٧).

أعْلِمَ أنَّهم لَا يَلدُون إلاً الكَفَرةَ.

بقوله تعالى : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).

مَعْناهُ لا تحزن ولا تَسْتَكِنْ.

* * *

٣٧

و (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧)

الفلْك السفينة ، والفَلَك يكون واحداً ويكونُ جمعاً كما أنهم قالوا أَسَدٌ

وأُسْد ، قالوا في الواحد فَلَك وفي الجمع فلْك ، لأن فَعْلا وفَعَلا جمعها واحدٍ

ويأتيان بمعنى كثيراً ، يقال العُجْم والعَجَم ، والعُرْب والعَرَبِ والفُلكْ والفَلَكَ.

والفَلْكة يُقَال لكلّ شيءٍ مسْتَديرٍ  في استدارة.

ومعنى : (بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا).

أي بإبْصَارنا إليْكَ وحفظنا لك ، وبما أوحيْنا إليْك

(وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ).

 : لا تخاطبني في إمهال الذين كفروا إنهم مغرقون.

ثم أخبر اللّه - جَلً ثناؤه - بعَمله الفلك فقال :

٣٨

(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (٣٨)

يقال في التفسير إنهم كانوا يَقولون : هذا الذي يزعم أنه نبي مُرْسَل صار

نجَّاراً ، فقال : (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ).

أي نحن نستجهِلكُمْ كما تستجهلوننا ، ثم أعْلَمَهمْ بِمَا يَكون عاقبة

أمْرِهم فقال :

٣٩

(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٣٩)

أي فسوف تعْلَمون من هو أحق بالخْري ، ومن هو أحْمدُ عاقِبةً.

* * *

٤٠

(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (٤٠)

أعلم اللّه - جلَّ وعزَّ - نوحاً أنْ وَقْتَ إهلاكهم فَوْرُ التَّنُور.

وقيل في التَّنُور أقْوالٌ . قيل إن التَّنُورَ وجه الأرْض.

ويقال إن الماء فارَ من ناحيةِ مَسْجد الكُوفَةِ

ويقال إن الماء فار من تَنُورِ الخابزَةِ ، وقيل التَنُور تنوير الصبْح.

والجملة أن الماء فار من الأرض وجاءَ من السَّماء قال اللّه - جلَّ وعزّ -

(فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢).

فالماء فَوْرُه من تَنُّورٍ  من ناحية المسجد  من وجه الأرض ،  في

وقت الصبح لا يمنع أن يكون ذلك العلامةَ لِإهلاكِ القوم.

(قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ).

أي : من كل شيء ، والزوج في كلام العرب واحدٌ ويجوز أن يكون معه

واحد ، والاثنان يقال لهما زَوْجَانِ يقول الرجل : على زوجان من الخفاف.

وتقول : عِنْدي زوجان من الطير ، وإنما تريد ذكر  أنثى فقط.

وتقرأ من كلِّ زوجين - على الِإضافة - والمعنى واحد في الزَوْجين أضَفْتَ أم لم تضِفْ.

(وَأهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ).

أي واحملْ مَنْ آمَن ، ويقال إن الذين آمنوا معه كانوا ثمانين نفساً.

فقال تعالى : (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ).

لأن ثمانمين قليل في جُمْلَةِ أُمَّةِ قَوْمِ نوحِ.

* * *

٤١

(وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللّه مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١)

أي باللّه تجري ، وبه تستقرُّ.

ومعنى قًلْنَا بِاسْمِ اللّه أي باللّه.

وقد قرئت على وجوه ، قرئت مَجْرَاها بفتح الميم ، ومُرسَاهَا بضم

الميم . وقرئت مُجْراها ومُرْسَاها بضم الميمين جميعاً . ويجوز مَجْرَاها

ومَرْسَاها ، وكل صواب حسن.

فأما من قرأ مجراها بفتح الميم ، فالمعنى جَرْيُها ومُرْسَاها  وباللّه

يقع إرساؤها ، أي إِقْرارها.

ومن قرأ مُجْراها ومُرْسَاهَا . فمعنى ذلك باللّه إجرأؤها وباللّه إِرْسَاؤها يقال : أجريته مُجْرى وإجْراءً في معنى واحد.

ومن قال مَجرَاها ومَرسَاهَا ، فهو على جَرَتْ جَرْياً ومَجرى ، وَرَسَتْ رسُوَّا ومَرْسىً.

والْمُرسَى مستقرها.

والمعنى أن اللّه جلَّ وعزَّ أمَرَهُمْ أن يُسَمُّوا في وقت جريها ووقت

استقرارها.

ومُرْساها في موضع جر على الصفة للّه - جلَّ وعزَّ -.

ويجوز فيه شيء لم يقرأ به ولا ينبغي أن يقرأ به لأن القراءة سنة متبعة :

باسم اللّه مُجْرِيَها علي وَجْهيْنِ :

أحدهما الحال ،  مُجْرِياً لَهَا ومُرْسِياً لها.

كما تقول مررت بزيدٍ ضَارِبَها على الحال.

ويجوز أن يكون منصوباً على

المدح ، أعني مُجرِيَها ومُرْسِيَهَا.

ويجوز أن يكون مُجْرِيها ومُرْسِيها في موضع

رفع على إضمار هو مجريها ومرسيها.

* * *

٤٢

و (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (٤٢)

قيل إن السَّمَاءَ والأرضَ التقى ماؤهما فطبق بينَهُمَا وجرت السفينة في

ذلك الماء.

و (وَهِيَ تَجْرِيِ بِهِمْ فِي مَوْجٍ كالجِبَالِ).

إن الموج لا يكون إلا فوقِ الماء ، وجاء في التفسير أن الماء جَاوَزَ كل

شيء خَمَسَةَ عَشَر ذِرَاعاً ، قال اللّه - عزَّ وجلَّ : (فالْتَفَى الماءُعلى أمْرٍ قَدْ قُدِرَ).

فجائز أن يكون يلتقي ماء السماء وماء الأرض وما يطبق ما بينهما.

وجائز أن يطبق ما بينهما.

والموج تَمَوُّجُ المَاءِ ، وأكثر ما يُعْرَفُ تكونُه في عُلُوِّ الماء ، وجائز أن

يتموج داخل الماء . .

والرواية في السفينة أكثر ما قيل في طولها أنه كان ألفاً ومائتي ذراع.

وقيل ستمائة ذراع . وقيل إن نوحاً بعث وله أربعون سنةً ولبث في قومه كما قال اللّه - جل ثناؤه - ألْفَ سَنَةٍ إلا خَمْسين عَاماً . .

وعمل السفينة في خمسين سنة ولبث بعد الطوفان ستين سنة .

وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (٤٢)

(وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ).

يجوز أن يكون كان في معزل من دينه ، أي دين أبيه ويجوز أنْ يكونَ

- وهو أشبه - أن يكون في معزل من السفينة -

(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا).

الكسر أجود القراءة أعني كسر الياء ، ويجوز كسرها وفتحها من

جهتين ، إحداهما أن الأصل با بُنَيي ، والياء تحذف في النداء ، أعني ياء

الِإضافة ، وتبقى الكسرة تدل عليها ، ويجوز أن تحذَفَ الياء لسكون الراء منَ

ارْكبْ ، وتقَرُّ في الكتاب على ما هي في اللفظ.

والفتح من جهتين ، الأصل يا بُنيَّا فتبدل الألف من ياء الِإضافة.

العرب تقول : يا غلاما أقبل ، ثم تحذف الألف لسكونها وسكون الراء.

ويقَرُّ في الكتاب على حذفها في اللفظ ويجوز أن تحذف ألف النداء كما تحذف ياء الإضافة ، وإنما حذفت ياء الإضافة وألف الِإضافة في النداء كما يحْذَفُ

التنوين ، لأن ياء الِإضافة زيادة في الاسم كما أن التنوين زيادة فيه ، ويجوز

وجه آخر لم يقرأ به وهو إثبات الياء ، يا بُنَيِّي ، وهذه تَثْقُل لاجتماع الياءات.

* * *

٤٣

(قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّه إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣)

أي يمنعني من الماء ، والمعنى من تَغْرِيقِ الماء

(قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّه إِلَّا مَنْ رَحِمَ).

هذا استثناء ليس من الأول ، وموضع " مَنْ " نَصْبٌ  لكن مَنْ رَحم

اللّه ، فإنه مَعْصُوم ، ويكون (لاَ عَاصِمَ) معناه لا ذَا عِصْمَةٍ ، كما قالوا : (عِيشَة رَاضِيَةٌ) ، مَعناه مُرْضية وجاز راضية على جهة النسب أي في عيشةٍ ذات رضا .

وتكون " من " " على هذا التفسير في موضع رفع ، ويكون  لا مَعْصُومَْ

إلا المرحوم.

٤٤

و (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤)

(وَغِيضَ الْمَاءُ).

يقال غاض الماء يغيض إذا غاب في الأرض ، ويجوز إشْمامُ الضَم في

الغين.

(وَقُضِيَ الأمْرُ) أي هلاك قوم نوح.

(وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ).

والْجُودِيّ جبل بناحية آمِدَ.

* * *

٤٦

و (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (٤٥) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٤٦)

قرأ الحسنُ وابنُ سيرين " عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ " وكان مذهبُهمَا أنه ليس

بابنه ، لم يولد من صلبه ، قال الحسن : واللّه ما هو بابنه.

وقال ابن عباس وابن مسعود إنه ابنه ، ولم يبتل اللّه نبِيا في أهْلِه بمثلِ هَذِه البَلْوَى.

فأمَّا من قرأ : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ).

فيجوز أن يكون يعني به أنه ذو عمل غير صالح ، كما قالت الخنساء.

ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت . . . فإنما هي إقبال وإدبار

أي ذات إقبالٍ ، وقد قال اللّه - عزَّ وجلَّ - (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ) فنسبه إليه.

وللقائلِ أن يقول نسبه إليه على الاستعمال ، كما قال اللّه - جلَّ وعزَّ -

(أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) ، فنسبهم إليه على قولهم ، واللّه لا

شريك له ، ولكن الأجودَ في التفسير أن يكون : إنه ليس من أهلك الذين

وَعَدْتكَ أن أنَجِّيَهُمْ ، ويجوز أن يكون (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)

إنَّه لَيْسَ من أهلِ دينِك.

* * *

(فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).

ويقرأ " فلاتسألَنَّ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ".

* * *

٥٠

و (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّه مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (٥٠)

 وأرْسلنا إلى عادٍ أخاهُم هُودًا.

وقيل أخاهم من جهتين :

إحْدَاهُما أنه منهم وبيِّن بلسانهم ، والأخرى أنه أخوهم من ولد آدم ، بشر

مثلهم .

(قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّه مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ).

وإن شئت غَيرِه ، غيرِه من نعت الِإله ، و " غَيْرُه " على معنى ما لكم إلهٌ

عيرُه.

* * *

٥٢

(وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢)

كان أصابهم جَدْبٌ فاعْلَمَهُم أنَّهم إن اسْتَغْفَرُوا ربَّهُمْ وتابوا أرسل السماء

عليهم مدراراً.

والتوبة الندم على ما سلف ، والعزمُ على ترك العَوْدِ في الذنوب.

والإقامةِ على أداء الفرائض.

وَنصب (مِدْرَاراً) على الحال ، كأنَّه قال يرسل السماء عليكم دارَّة ، ومعنى

مدرار المبالغة ، وكان قومٌ هودِ - أعني عاداً - أهلُ بساتين وزُرُوع وعَمَارَةٍ.

وكانت مساكنهم الرمالَ التي هي بين الشام واليَمَن ، فدعاهم هودٌ إلى

توحيد اللّه واستغفاره وترك عبادة الأوثان ، فلم يطيعوه وتوعدهم بالعذاب

فأقاموا على كفرهم ، فبعث اللّه عليهم الريح ، فكانت تدخل في أنوفهم

وتخرج من أدْبَارِهم وتُقَطعُهمْ عُضْواً عُضْواً

(وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا).

أيْ يزِدْكم قوةَ في النعمة التي لكم

ويجوز أن يكون : ويزدكم قوةً في أبْدَانِكُمْ.

* * *

٥٤

(إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّه وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤)

أي ما نقول إلا مسَّك بعض أصنامنا بجنونٍ ، بِسَبِّكَ إيَّاهَا فقال لهم

٥٥

(إِنِّي أُشْهِدُ اللّه وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (٥٥)

وهذه من أعظم آيات الرسُل أن يكون الرسول وَحْدَه ، وأمتُه متعاونة

عليه ، فيقول لها : كِيدُونِي ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ، فلا يستطيِع وَاحدٌ مِنهم ضَرَّه.

وكذلك قال نوحٌ لِقَوْمِه : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (٧١).

وقال محمد - صلى اللّه عليه وسلم - (فَإنْ كَانَ لَكمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ).

فهذه هن أعظم آيات الرسل وأدَلَّها على رِسَالَاتِهِمْ.

* * *

٥٦

(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّه رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)

(مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا)

أي هي في قبضتِه ، وَتَنَالُهَا بِمَا تَشاء قُدرَتُه ، ثم قال :

(إن رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).

أي هو سبحانه وإن كانت قَدْرَته تنالها بما شاء ، فهو لا يشاء إلاَّ

العَدْل.

* * *

٥٧

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧)

 فإن تَتَولًوْا.

(فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ).

فجعل (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) في موضع قَدْ ثَبتَتِ الحجة عليكم

(وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ).

* * *

٥٨

و (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (٥٨)

(نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا)

يحتمل أن يكون بما أرَيْنَاهم من الهدى والبيان الذي هو رحمة ،

ويحتمل أن يكون (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أي لا ينجو أحد وإن اجتهد إلا برحمة من

اللّه - جلَّ وعزَّ -

(وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ).

أي مما عُذب بِهِ قوم عاد الكفار في الدنيا ومما يُعذبُونَ به في الآخرة.

* * *

٦٠

(وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)

" أَلَا " ابتداء وتنبيه . وَ (بُعْدًا) منصوب على أبْعَدَهُمُ اللّه بُعْدًا، ومعنى

بُعْدًا أي بُعْدًا من رحمة اللّه.

* * *

٦١

(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّه مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١)

 : وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً . وثمود لم ينصرف لأنه اسمِ

قبيلة ، ومن جعله اسماً للحيِّ صرفه وقد جاء في القرآن مصروفاً :

(الا إنَّ ثَمُودًا كَفَروا رَبَّهُمْ).

* * *

(قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).

ثم بين ما هي فقال :

(هَذِهِ نَاقَةُ اللّه لَكُمْ آيَةً).

يقال : إنها خرجت من حَجَرٍ ، وفي هذا أعظم الآيات ، ويقال إنها

كانت تَرِدُ المَاء لا تَرِدَ الماء معها دَابةٌ ، فإذا كان يوم لا تَرِد ، وردَتْ الوَارِدَةُ

كلها.

وفي هذا أعظَمُ آية .

ونَصْبٌ آية على الحَال.

 إن قال هذه نَاقَةُ اللّه آيةً  آية لكُمْ.

فكأنه قال : انتبهوا لها في هذه الحالة.

والآية العلامة.

٦٤

(فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّه وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (٦٤)

وتأكل من أرض اللّه ، فمن قرأ تَأكلْ بالجزم فَهوَ جَوَابُ الأمر.

وقد بيَّنَّا مثله في سورة البقرة ، ومن قرأ تأكلُ فمعناهُ فذروها في حال أكلها . ويجوز في الرفع وجه آخر ، على الاستئناف.

 فإنها تأكل في أرض اللّه.

(وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ).

(فَيَأْخُذَكُمْ) جواب النَهْيِ ، والمعنى عذاب يَقْرُبُ مِمن مَسَّها بالسُّوءِ.

أي فإن عقرتموها لم تُمْهَلُوا.

* * *

٦٥

(فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥)

فأهلكوا بَعْدَ الثلاثِ ، وَقَدْ بيَّنا في الأعراف كيف أهلكوا.

* * *

٦٨

و (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (٦٨)

معناه كان لم ينزلوا فيها.

قال الأصْمعي : المَغَانِي المَنازِل التي نزلوا بها.

يقال غَنِينَا بمكان كذَا وكَذا إذَا نَزَلوا به.

* * *

٦٩

وقوله - جلَّ وعزَّ - : (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩)

بالبشر ى ، بالولد.

(قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ).

وقَالوا سَلاَمٌ ، يُقْرأ أن جميعاً ، فأما قوله (سَلاماً) فمنصوبٌ على سَلَمْنا

سَلاَماً ، وأما سَلاَمٌ فمرفوع على معنى أمري سَلاَمٌ

(وَمَنْ قَرَا سَلامٌ) فمرْفُوعٌ عَلَى أمري سلام.

أي لَسْتُ مُرِيداً غير السلامة والصفح

(فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ).

أي ما أقام حتى جاء بعجل حنيذٍ.

والحنيذ المشويُّ بالحِجَارَة

وقيل : الحنيذ المشوي حَتَّى يَقْطُرَ.

والعربُ تقولً : احْنِذِ الفرس أي اجعل عليه الجُلَّ حَتَّى يقطرَ عَرقاً.

وقيل الحنيذ المشوي فقط.

وقيل : الحنيذ السَّمِيطُ.

ويقال حَنَذَته الشمس والنار إذَا شوته.

* * *

٧٠

(فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠)

لم يأكلوا لأنهم ملائكة ، ويقال إنهم كانت العلامةُ لديْهم في

الضيفان إذا قصدوا لِخيْرٍ الأكلَ.

يقال : نكِرْت الشيءَ وأنكرت ، ويقل في اللغة أنكر ويَقِل منكور.

والكلام أنكر ومنكور.

و (أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً).

معناه أضمر منهم خوفاً

(قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ).

ألا تراه قال في موضع آخر : (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣).

* * *

٧١

(وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (٧١)

يروى أنها ضحِكتْ لأنها كانت قالت لإبراهيم : اضْمُمْ لوطاً ابنَ أخيك

إليْك ، فإني أعلمُ أنه سينزل بهؤلاء القومِ عذابٌ ، فضحكت سروراً لمَّا أتى

الأمر على ما تَوَهَّمَتْ.

فأما مَن قال : ضحكت : حَاضَتْ فليس بشيء

(فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ).

يقرأ يعقوبُ ويعقوبَ - بالرفع والنصب

وفي هذه البشارة بشارة بالوَلَدِ وَوَلَد الوَلَدِ ، يقالُ هذا ابني من الوراء.

أي هذا ابن ابني.

فبشرناها بأنها تلد إسحاق وأنها تعيش حَتَى ترى وَلَدَه.

وروينا في التفسير أن عُمْرَهَا كان تسعاً وثمانين ، وأن عمر إبراهيم كان

تسعاً وتسعين في وقت البشارة.

فأما من قرأ : (وَمِن وراءِ إسحاقَ يعقوبَ) ، فيعقوب في موضع نصب

محمول على موضع فبشرناها بإسحاق ، محمول على  ،  : وهبنا

لها إسحاق ووهبنا لها يعقوب.

ومن قرأ يَعْقُوبُ فرفْعُه على ضربين ، أحدهما الابتداء مَؤخَّراً ، معناه

التَّقديم ، والمعنى ويعقوب مُحْدَثٌ لها من وراء إسحاق.

ويجوز أن يكون مرفوعاً بالفعل الذي يعمل في " مِنْ وَرَاء "

كأنَّه قال وثبت لها من وراء إسحاق يعقوب.

ومن زعم أن يعقوب في موضع جر فخطأ زعمُه ، ذلك لأن الجارَّ

لا يفصلُ بينه وبين المجرور ، ولا بينه وبين الواو العاطفة ، لا يجوز مررت بزيد

في الدارِ ، والبيْتِ عَمْروٍ ولا في البيتِ عَمْرو ، حتى تقولَ وَعَمروٍ في

البيت.

* * *

٧٢

(قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢)

المصحف فيه يا ويلتي بالياء ، والْقِراءَة بالألف ، إن شِئت على

التضخيم ، وَإِنْ شِئْتَ عَلَى الِإمَالة.

والأصل يَا ويلَتِي فَأبْدِلَ من الياء والكسرةِ الألف ، لأن الفتح والألف

أخف من الياء والكسرة.

ويجوز الوقف عليه بغير الهاء.

والاختيار أنْ يوقف عليه بأنهاء ، يا ويلَتَاهُ.

فأمَّا المصحف فلا يخالف ، ولا يوقف عليه بغير الهاء ، فإن اضطر

واقف وقف بغير الهاء.

فأمَّا الهمزتان بعد " يَا وَيلَتَى " ففيهما ثلاثة أوجه ، إن شئت حَقَّقْتَ الأولى

وخَفَّفْتَ الثانيةَ ، فقلتَ يا وَيلَتَى أألِدُ ، وإن شئتَ - وهو الاختيار خفَّفْت الأولى وخفَّفْتَ الثانية فقلت يا وْيلَتَى آلِدُ ، وإن شئت حَقَّقْتَهُما جميعاً فقلت أَألدُ

وتحقيق الهمزتين مذهب ابن أبي إسحاق.

(وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً).

القراءة النصب وكذلك هي في المصحف المجمع عليه ، وهو منصوب

على الحال ، والحال ههنا نصبها من لطيف النحو وغامضه.

ذلك أنك إذَا قلت هذا زيد قائما ، فإن كنت تقصد أن تخبر من

يعرف زيداً أنه زيدٌ لم يجز أن تقول : هذا زيد قائماً ، لأنه يكون زيداً ما دَام

قائماً ، فإذا زال عن القيام فليس بزيدٍ ، وإنما تقول ذاك لِلذي يعرف زيداً : هذا زيدٌ قَائِماً فيعمَلُ في الحال التنبيه ، والمعنى انتبه لزيد في حال قيامه.

وَأشِيرُ لك إلى زيد حال قيامه ، لأن " هذا " إشارة إلى ما حضر ، فالنصب الوجْهُ كما ذكرنا ويجوز الرفع.

وزعم سيبويه والخليلُ أن النصبَ من أربعةِ أوْجهٍ :

فوجه منها أن تقول : هذا زيد قائم فترفع زيداً بهذا وترفع قائماً خبر

ثانياً ، كأنك قلت : هو قائم  هذا قائم.

ويجوز أن تجعل زَيْداً وقَائِماً جميعاً خبرين عن هذا فترفعهما جميعاً

خبراً بهذا ، كما تقول : هذا حُلْوٌ حَامِضٌ تريد أنه جمعَ الطعمين.

ويجوز أن تجعلَ زيداً بدلاً من هذَا ، كأنك قلت زيد قائم.

ويجوز أن تجعل زيداً مبَيِّناً عن هذا ، كأنك أردت : هذا قائم ، ثم بينت

من هو بقولك زيد.

فهذه أربعة أوجه.

* * *

٧٤

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤)

الرَّوْعُ : الفزغ . يعني ارتياعُه لمّا نكرهم حين لم يأكلوا من العِجل.

والرُّوع - بضم الراء - النفس.

يقال وقر ذلك في رُوعِي ، أي في نَفْسي ومن خَلَدِي.

(وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ).

يجادلنا حكاية حال قد مضت لأن " لَمَّا " جعلت في الكلام ، لِمَا قد وقعَ

لوقوعِ غَيرِه . تقول : لما جَاءَ زيد جاء عمرو.

وَيجوز لمَّا جاء زيد يتكلم وعمرو ، على ضربين :

أحدُهُمَا أن إنْ لما كانت شرطاً للمستقبل وقع الماضي فيها في مَعنى

المستقبل ، نحو إن جاء زيد جِئتُ . والوجه الثاني - وهو الذي أختارُه - أن

يكون حالًا لحكاية قد مضت.

 فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءَتْه البُشْرى أخَذَ

يُجَادِلُنا في قوم لوط ، وأقبل يجادِلنَا . ولم يذكر في الكلام أخذ

وأقبل ، لأن في كل كلام يخاطب به المخاطب معنى أخَذَ وأقْبَلَ إذَا أرَدْتَ

حكايةَ الحَالِ ، لأنك إذَا قلتَ : قام زيد ، دللت على فعل ماضٍ.

وإذا قلت أخَذ زيْدْ يَقُولُ دللت على حال ممتدة من أجلها ذكرتَ أخَذَ وأقْبَلَ . وكذلك جعل زيد يقول كذا وكذا ، وكَرَبَ يَقول كذا وكذا

وقد ذكرنا (الأوَّاه) في غير هذا الموضع ، وهو المبتهل إلى اللّه

المتخشع في ابتهاله ، الرحيم الذي يكثر من التأوه خوفاً وإشفاقاً من الذنوب.

ويروى أن مجادلته في قوم لوط أنه قال للملائكة وقد أعلَمُوه أنهم

مُهلِكُوهم ، فقال أرأيتم إنْ كانَ فِيها خمسُونَ من المؤمنين أتهلكونَهُمْ

مَعَهمْ إلى أن بلغ خمسةً ، فقالوا لا ، فقال اللّه - عزَّ وجلَّ - : (فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦).

ويروى أنهم كانوا جَمْعاً كثيراً ، أكثرُ ما رُوِي فيهم أنهم كانوا أربعة

آلاف.

٧٦

(يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦)

 جَادَلَنا فقلنا يا إبراهيم أعْرض عن هذا.

ويروى أن إبراهيم لَمَّا جَاءته الملائكةُ كان يعمَلُ في أرض له وكلما

عمل دَبْرَةً من الدِّبَارِ وهي التي تسمى المشارات غَرَّز بَالَتَهُ وصَلَّى ، فقالت

الملائكة حقيق على اللّه أن يتَّخِذَ إبراهيم خليلاً.

* * *

٧٧

و (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧)

معناه ساءَه مَجيئُهم ، لأنهم استضافوه فخاف عليهِمْ قومَه ، فلما مَشَى

معهُمْ قليلاً قال لهنَّ : إن أهل هذه القرية شَرُّ خلقِ اللّه وكان قَدْ عُهِدَ إلى

الرسُل ألَّا يهلكوهم حتى يَشْهَد عليهم لوط ثلاث مرات ، ثم جَازَ عليهم بعد

ذلك قليلاً ، وردَّ عليهم القول ثم فَعلَ ذلكَ ثالثةً ومَضَوا معه.

(سِيءَ بِهِمْ) أصله سُوِئ بهم ، من السّوءِ إلا أن الواو أُسكِنتْ وثُقِلت

كسرتها إلى السِّين ، ومن خفَّفَ الهمزة قال : سِي بِهِمْ (وضاق بهم ذَرْعاً). يقال ضاق زيد بأمْرِهِ ذَرْعاً إذا لم يجد من المكروه في ذلك الأمر مَخْلَصاً.

(وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ).

أي شديد ، فلما أضافهم مضت امرأته - عجوز السوء - فقالت لقومه إنه

استضاف لوطاً قومٌ ، لمْ أر أحْسنَ وجوهاً مِنْهُمْ وَلَا أطْيَبَ رَائِحةً ، ولا أنظف

ثياباً.

* * *

٧٨

(وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللّه وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨)

أي يسرعون في المجيء ، فراوَدوه عن ضيفه ، وحاولوا فتح بابه.

فأعلمته الملائكة أنهم رسل اللّه وأن قومَه الفسقَةَ لن يصلوا إليهم.

فقال لهم لوط حين رَاوَدوه : (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللّه وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي).

فقيل إنهم عُرِضَ عليهم التزويج ، وكأنه عرضه عليهم إنْ أسْلَمُوا

وقيل : (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي) : نساء أُمَّتِي ، فكأنَّه قال لهم التزويج أطهر لكم.

فلما حاولوا فتح البابِ طمس اللّه أعْينَهمْ.

قال اللّه - عزَّ وجلَّ - : (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ).

ولما استعجلوه بالعذاب ، قالت لهم الرسل : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ).

(هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)

القراءة بالرفع في أطْهر ، وقد رُوِيتْ عن الحسن هن أطهرَ لكم ، وعن

عيسى بن عمر.

وذكر سيبويه إنْ ابنَ مَروانَ لَحَن في هَذِه في نَصْبَهَا.

ْوليس يُجيز أحدٌ من البصريين وأصحَابِهِمْ نصبَ أطْهر ، ويجيزها

غيرهم . والذين يجيزونها يجعلون " هُنَّ " في هذا بمنزلتها في " كان " فإذا

قالوا : هؤلاء بَنَاتِي أطْهَر لَكم ، أجازوا هُنُّ أطهَر لَكمْ ، كما يجيزون كان زيد

هو أطهر مِنْ عَمْروٍ.

وهذا ليس بمنزلة كان . إنما يجوز أن يقع " هو " وتثنيتها وجمعها

" عماداً " فيما لا يتم الكلام إلا به ، نحو كان زيد أخاكَ.

لأنهم إنما أدخلوا " هُمْ " ليُعْلِمُوا أن الخَبَرَ لا بد منه ، وأنه ليس بصفة للأول . وباب " هذا " يتم الكلام بخبره ، إذا قلت : هذا زيد فهو كلام تام.

ولو جاز هذا لجاز جاء زيد هو أنْبَلُ من عمرو.

وإجماع النحويين الكوفيين والبصريين أنه لا يجوز قدمَ

زيد هو أنْبلَ مِنك حتى يرْفَعوا فيقولوا هو أنبل منك.

وبعد فالذين قرأوا بالرفع هم قُراءُ الأمْصارِ ، وهم الأكثر.

والحسن قد قرأ " الشياطون " والشياطون ممتنع في العربيةِ.

وقد قال بعضهم : إن المشركين في ذلك الدهر قد كان لهم أن يتزوجوا

من المسلمين.

* * *

٨١

و (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١)

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ).

أي بظلمةٍ من الليل . يقال : معنى قِطْع من الليل أي قطعةٍ صالحةٍ ،

وكذلك مَضى عِنْك من الليل ، وسعْوٌ مِنَ الليْلِ.

ويقرأ : (فَأسْرِ) بإثباتِ الهمزَةِ في " اللفظ ، ويقرأ : فَاسْرِ يقال أسْرَيْت

وسَرَيْت إذَا سِرْت ليلاً.

قال الشاعر :

سرَيْت بهم حتى تكلَّ مَطيُّهم . . . وحتى الجِيادُ ما يُقَدْن بأَرْسانِ

وقال النابغَة

أسرَتْ عَلَيْهِمْ من الجوزاء سارِية . . . تزْجِي الشمَال عليها جامدُ البَردِ

وقد روَوْا في هذا البيت سَرَتْ.

وقال اللّه - جَل وعز - . : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ).

و (إِلَّا امْرَأَتَكَ).

يجوز فيه النصب والرفعُ فمن قرأ : (إِلَّا امْرَأَتَكَ) . بالنصْبِ فَعَلَى معنى

فأسر بأهلك (إِلَّا امْرَأَتَكَ) ، ومن قرأ بالرفع ، حَمَلَهُ عَلَى مَعْنَى : (ولا يلتفِتْ منكم أحدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ).

* * *

٨٢

و (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢)

(جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا).

يقال إن جبريل جعل جناحه في أسْفَلِهَا ثم رَفَعها إلى السماء حتَى سمع

أهلُ السماءِ نُباحَ الكِلابِ وصِيَاح الدجَاجِ ، ثم قَلَبَها عَلَيْهِمْ.

٨٣

(وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)

وقد قال الناس في سِجيل أقْوالًا ، ففي التفسير أنها مِنْ جِلٍّ

وحِجَارَة . وقال أهل اللغة : هو فارِسِي مُعرَّبٌ ، والعرب لا تعرف هذا . والذي عندي أنه إذَا كان هذا التفسيرُ صَحيحاً فهو فارِسي أعْرِبَ لأن اللّه

- جلَّ وَعَزَّ - قد ذكر هذه الحجارة في قصة قوم لوط ، فقال :

(لِنُرْسِلَ عَليْهِمْ حِجَارةً مِنْ طِينٍ) فقد تبين للعرب ما عُنِيَ بـ سجيل.

وَمِنْ كلام الفرسِ ما لا يحْصَى مما قد أعْرَبتْهُ العَرَبُ.

نحو جاموس وديباج . فلا أنْكِرَ أن هذا مِما أعْرِبَ.

وقال أبو عبيدة معمرُ بنُ المثَنَّى : تأويله كسَيْرَة شديدة ، وقالَ إن مثل

ذلك قول الشاعر :

ورَجْلةٍ يَضْرِبون البَيْضَ عن عُرُضٍ . . . ضَرْباً تَوَاصَتْ به الأَبْطالُ سِجِّينا

والبيت لابن مُقْبِل ، وسِجين وسِجيل بمعنى وَاحدٍ.

وقال بعضهم :

سِجيل من أسْجَلتهُ أي أرْسَلْتَهُ فكأنَّها مُرْسَلَة عَلَيهْم.

وقال بعضهم من سِجيلٍ ، من أسْجَلْتُ إذا أعْطيتُ ، فجعله من السَّجْل

وهو الدلْو.

قال الفَضلُ بنُ عباس :

من يُساجِلْنِي يساجِل ماجداً . . . يَملأ الدلو إلَى عَقْد الكَربُ

وقيل من سِجيل كقولك مما سُجِّلَ أي مما كتب لهم ، وهذا القول إذا

فُسِّرَ فهُوَ أثبتها . لأن في كتاب اللّه تعالى دَلِيلاً عليه.

قال - جلَّ وعزَّ - : (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (٨) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (٩).

سِجيل في معنى سِجين.

فالمعنى إنها حجَارَة مما كتب اللّه - جل ثناؤه - أنه يُعَذَبُهُمْ بها.

وهذا أحْسنُ ما مَرَّ فيها عِنْدِي.

فامّا  (مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ).

فمعناه أن بعضها يأتي مَعَ بَعْض كالمطرِ.

وأما (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) فروي عن الحسن أنها مُعْلَّمَة ببياض وحُمْرةٍ.

وقال غيرُه : مُسَوَّمَةً بعَلامَةٍ يعلم بها أنها ليست مِنْ حِجَارةِ أهْلِ الدنيا ، وتُعْلَم

بسيماها أنها مما عذب اللّه بها.

(وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ).

قِيلَ إنها ما هي من ظالمي هذه الأمة بِبَعِيدٍ.

* * *

٨٤

(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّه مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤)

 أرسلْنا إلى أهل مَدين أخَاهُمْ شعَيْباً ، فحذف أهل وأقام مَدْين

مقامَه.

ومَدْين اسمُ المَدينة  القبيلة فلذلك لم ينصرف.

* * *

٨٦

و (بَقِيَّتُ اللّه خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦)

ومعناه طاعة اللّه (خيرٌ لكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

ويجوز أنْ يكون مَعْنَاهُ الحال التي تَبْقَى لكم من الخير خير لكم.

* * *

٨٧

(قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا  أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧)

ويقرأ : أصَلَواتك.

(تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا).

هذا دليل أنهم كانوا يعبدون غير اللّه - جلَّ وعزَّ -

( أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ).

 إنا قَدْ تَرَاضَيْنَا بالبخس فيما بَيْنَنَا.

وفي التفسير أنَّه نهاهم أن يَحْذِفُوا الدرَاهِمَ . أي (أن) يكسروها.

(إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ).

قيل كنى بذَا عن أنهُمْ قالوا له : إنك السَّفِيهُ الجاهِل.

وقيل إنهُمْ قالوا له هذا على وجه السِّخرِيّ.

* * *

٨٨

و (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللّه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨)

وجواب الشرط ههنا متروك.

 : إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي اتَّبعُ الضلاَلُز

فترك الجواب لعلم المخَاطَبينَ بالمعنى ، وقد مر ما تُرِكَ جَوَابُه لأنه

مَعْلُوم وشرحُه في أمكنتِه.

و (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا).

أي : حَلالاً ، وقيل : . رزقاً حَسَناً ما وُفقَ لَه مِنَ الطاعَةِ.

(وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ).

أي لست أنهاكم عن شيء وأدْخُلُ فيه ، وإنما أختار لكم ما أختار

لنفسي ، ومعنى " مَا أخَالِفُكَ إليه " ، أي ما أقصد بخلافك القَصْدَ إلى أن

أرْتكِبَهُ.

(إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ).

أي بقدر طاقَتِي ، وَقَدْرُ طَاقَتِي إبْلَاغُكم وإنذَارُكم ، ولست قادراً على

إجبَاركم على الطاعةِ.

ثم قال :

(وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللّه).

فأعْلَمَ أنه لا يقدر هو ولا غيرُه على الطاعة إلاَ بتوفيق اللّه.

ومعنى (إِلَيْهِ أُنِيبُ) إليه أرجع.

* * *

٨٩

(وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ  قَوْمَ هُودٍ  قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩)

مَوضع أنْ نَصْبٌ ،  لا تكْسِبَنَّكُمْ عداوتُكم إيَّايَ أنْ يُصيبَكم عذابُ

العاجلة (مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ  قَوْمَ هُودٍ  قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِي).

وكان إهلاك قوم لوط أقربَ الإهْلَاكات التي عرفوها ، فكأنَّه قال لهم :

العظةُ في قوم لوط قريبة مِنكم.

* * *

٩١

(قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (٩١)

وكان ضرِيراً.

وحِمْيرُ تُسمَي المكفوف ضعيفاً ، وهذا كما قيل ضَرِير أي قد ضُر

بذهاب بَصَرِهِ ، وكذلك قد كُفَّ عن التصَرفِ بذهاب بصره.

(وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ).

أي لولا عشيرتك لرجمناك أي لَقَتلناك بالرجْم ، والرجم من سَيئ

القتلات ، وكان رهطه من أهل مِلَّتِهِمْ فلذلك أظهروا الميل إلَيْهِمْ والإكرام

لهم.

* * *

٩٢

(قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللّه وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢)

أي أنتم تزعمون أنكم تتركون قَتْلِي إكراماً لِرهْطِي - واللّه - جلَّ وعزَّ -

أولى بأن يتبعَ أمْرُه.

(وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا).

أىْ نَبَذْتُموه رَرَاءَ ظهوركم ، والعرب تقول لكل من لا يعبأ بأمْرٍ قد جعل

فلانٌ الأمر بظهره.

قال الشاعر :

تَمِيمُ بنَ قَيْسٍ لا تَكونَنَّ حاجَتِي . . . بظَهْرٍ فلا يَعْيا عَليَّ جَوابُها

* * *

٩٤

وقوله - جلَّ وعزَّ - : (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٩٤)

يروى أن جبريلَ صَاحَ بِهِمْ صَيْحَةً فماتوا في أمْكِنَتِهمْ ، فأصبحوا جاثمين

لا يقدرون على حركة قَدْ مَاتوا.

* * *

٩٥

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥)

كان لم ينزلوا فيها ، يقال : غَنِينَا بِانمَكانِ اذَا أنزَلْنَا بِهِ).

(أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ).

(ألَا) حرف يُبتدأ الكلام به ، وهو تنبيه للمخاطب

ومعنى (بُعْدًا لِمدْيَنَ) أنهم قد بُعُدوا مِنْ رَحْمةِ اللّه ، وهو منصوب على

المصدر ،  أبْعَدَهُم اللّه فبعُدوا بعدًا.

ودليل ذلك : (كما بَعِدتْ ثَمُودُ).

ويجوز بعَدَت وَبَعُدَتْ.

* * *

٩٦

و (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٩٦)

أي بعلاماتنا التي تدل على صِحة نبوته.

(وَسُلْطَانٍ مُبينٍ).

أي وحجة بَينةٍ . والسُّلْطانُ إنَّما سُمِّيَ سُلْطَاناً لأنه حُجةٌ اللّه في أرْضِه.

واشتقاق السلطان مِنَ السليط ، والسليط ما يُضَاءُ بِهِ ، ومن هذا قيلَ للزيْت

سَليط.

* * *

٩٧

(إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧)

مَلؤهُ أشرافُ قوْمِهِ ، الَّذِينَ هم مِلَاءٌ بالرأيِ والمَقْدِرَة

(فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ).

أي استحبُّوا العَمَى علىَ الهُدَى.

* * *

٩٨

(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨)

يقال قَدَمْتُ القَوْم أقدُمُهُمْ قَدْماً وقُدُوماً إذَا تَقدْمتُهُمْ.

أي يقدُمُهم إلى النَّارِ ، ويدُل على ذلك  (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ).

٩٩

و (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩)

كل شيءٍ جعَلْتَه عَوْناً لِشَيْء وأسندتَ به شيئاً فقدْ رَفَدْتَه ، يقال عمدتُ

الحائِطَ وأسنَدْتُه ورَفَدْتهُ بمعنى واحدٍ ، والمرْفَدُ القَدَح العظيم.

* * *

١٠٠

و (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠)

أي : من القُرى التي أهْلِكتْ قَائِمٌ قد بقيت حِيطَانُه ، نحو  (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ).

(وَحَصِيدٌ) مخسوف به ، وهي مأ قَد انمحى أثَرُه.

* * *

١٠١

و (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١)

(وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ).

معناه غير تخسير ، ومنه قوله (تَبَّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ) أي خسِرَت.

* * *

١٠٣

و (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣)

فأعلم اللّه - عَز وجل - أنه يحيي الخلق ويبعثهم في ذلك اليوم ويشهدوا به.

* * *

١٠٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥)

الذي يختاره النحويون : يوم يأتي لا تكلم نفس إلآ بإذنه . بإثبات الياء.

والذي في المصحف وعليه القراء القراءات بكسر التاء من غير ياء.

وهذيل تستعمل حذف هذه الياءات كثِيراً.

وقد ذكر سيبويه والخليل أن العربَ تقول لا أدْرِ فتحذف الياء وتجتزي بالكسْرِ ، إلا أنَّهم يزعمون أن ذلك لكثرة الاستعمال.

والأجود في النحو إِثبات الياء والذي أراه اتباع المصحف مع

إجماع القراء ، لأن القراءة سنة ، وقد جاء مثله في كلام العرب.

وهذة الآية فيها سؤال أكثر ما يَسْألُ عنه أهل الإلحاد في الدِّين فيقولون

لم قال : (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ، و (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦)

وقال في مواضع من ذكر القيامة (فَأقْبَلَ بَعْضهُمْ عَلَى بَعْضِ يَتَلَاوَمُونَ).

وقال : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا)

وقال : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ).

وقال (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ).

ونحن نفسر هذا على ما قالت العلماء المتقدمون في اللغة المسلمون

الصحيحو الِإسلام :

قالوا : قوله - عزَّ وجلَّ - : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ)اللّه عالم بأعمالهم

فَسألهُم سؤال توبيخ وتقرير لإيجاب الحجة عليهم.

و (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) أي لا يُسْألُ ليُعْلَمَ ذلك منه ، لأن اللّه قد علم أعمالهم قبل أن يعملوها.

وكذلك قوله عزَّ وجلَّ : (لا ينطقون) ، أي لا ينطقون بحجة تجبُ لَهم ، وإنما يتكلمون بالإقْرارِ بذنوبِهِمْ ولَوْمِ بعضهم بعضاً وطَرْحِ بَعضِهِم

الذنوبَ على بعض ، فأمَّا التكلم والنطق بحجة لهم فلا ، وهذا كما تقول

للذي يخاطبك كثيراً وخطابه فارغ من الحجة : ما تكلمت بشيء ، وما نطقت

بشيء فسمي مَن تكلم بما لاحجةَ له فيه ، غير متكلم -

كما قال عزَّ وجلَّ : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهمْ لَا يُبصِرونَ) وهم يُبْصِرون وَيسْمعُونَ إلا أنهم في أنهم لا يقبلون ولا يُفكَرُونَ فيما يسمعون ولا يتأتَلونَ ، بمنزلة الصمّ.

قال الشاعر :

أصم عما ساءه سميعُ

فهذا قولٌ حسن.

وقال قوم : ذلك اليوم طويل وله مواضع ومواطن ومواقف ، في بعضها

يُمْنَعُونَ منِ الكلام وفي بعضها يطلق لهم الكلامُ.

فهذا يدل عليه (لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ).

وكلا القولين حسن جميل.

* * *

١٠٦

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦)

من شديد الأنين وقبيحه.

(وَشَهِيقٌ)

والشهيق الأنين الشديد المرتفع جدا.

وزعم أهل اللغة من البصريين والكوفيين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار في النهيق ، والشهيق بمنزلة آخر صوته

في النهيق.

١٠٧

وقوله تعالى : (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (١٠٧)

(إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ).

فيها أربعة أقوال (١). قولان منها لأهل اللغة البصريين والكوفيين جميعاً.

قالوا :  خالدين فيها إلا ما شاء ربك بمعنى سوى ما شاء ربُّك.

كما تقول : لو كان معنا رجل إلا زَيْداً أي رجل سوى زيدٍ ولك عندي ألف

درهم سوى الألفين ، وإلا الألفين اللذين لك عِنْدِي.

فالمعنى على هذا خالدين فيها مقدار دوام السَّمَاوَات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلو والزيادة كما قلت سوى الألفين اللتين عَليَّ.

وقالوا قولًا آخر : (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) ولا يشاء أن يخرجهم منها ، كما

تقول أنا أفعل كذا وكذا إلا أن أشاء غير ذلك ثم تقيم على ذلك الفعل وأنت

قادر على غير ذلك ، فتكون الفائدة في هذا الكلام أن لو شاء يخرجهم لَقَدَرَ ، ولكنه قد أعلمنا أنهم خالدون أبداً.

__________

(١) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه :

ثم قال تعالى : خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلا ما شاء رَبَّكَ وفيه مسألتان :

المسألة الأولى :

قال قوم إن عذاب الكفار منقطع ولها نهاية ، واحتجوا بالقرآن والمعقول.

أما القرآن فآيات منها هذه الآية والاستدلال بها من وجهين :

الأول : أنه تعالى قال : مَا دَامَتِ السموات والأرض دل هذا النص على أن مدة عقابهم مساوية لمدة بقاء السموات والأرض ، ثم توافقنا على أن مدة بقاء السموات والأرض متناهية فلزم أن تكون مدة عقاب الكفار منقطعة.

الثاني : أن  إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ استثناء من مدة عقابهم وذلك يدل على زوال ذلك العذاب في وقت هذا الاستثناء ومما تمسكوا به أيضاً قوله تعالى في سورة عم يتساءلون :

لابثين فِيهَا أَحْقَاباً [ النبأ : ٢٣ ] بين تعالى أن لبثهم في ذلك العذاب لا يكون إلا أحقاباً معدودة.

وأما العقل فوجهان :

الأول : أن معصية الكافر متناهية ومقابلة الجرم المتناهي بعقاب لا نهاية له ظلم وأنه لا يجوز.

الثاني : أن ذلك العقاب ضرر خال عن النفع فيكون قبيحاً بيان خلوه عن النفع أن ذلك النفع لا يرجع إلى اللّه تعالى لكونه متعالياً عن النفع والضرر ولا إلى ذلك المعاقب لأنه في حقه ضرر محض ولا إلى غيره ، لأن أهل الجنة مشغولون بلذاتهم فلا فائدة لهم في الالتذاذ بالعذاب الدائم في حق غيرهم ، فثبت أن ذلك العذاب ضرر خال عن جميع جهات النفع فوجب أن لا يجوز ، وأما الجمهور الأعظم من الأمة ، فقد اتفقوا على أن عذاب الكافر دائم وعند هذا احتاجوا إلى الجواب عن التمسك بهذه الآية.

أما  خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض فذكروا عنه جوابين :

الأول : قالوا المراد سموات الآخرة وأرضها.

قالوا والدليل على أن في الآخرة سماء وأرضاً قوله تعالى : يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسموات [ إبراهيم : ٤٨ ] و وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء [ الزمر : ٧٤ ] وأيضاً لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم ، وذلك هو الأرض والسموات.

ولقائل أن يقول : التشبيه إنما يحسن ويجوز إذا كان حال المشبه به معلوماً مقرراً فيشبه به غيره تأكيداً لثبوت الحكم في المشبه ووجود السموات والأرض في الآخرة غير معلوم وبتقدير أن يكون وجوده معلوماً إلا أن بقاءها على وجه لا يفنى ألبتة غير معلوم ، فإذا كان أصل وجودهما مجهولاً لأكثر الخلق ودوامهما أيضاً مجهولاً للأكثر ، كان تشبيه عقاب الأشقياء به في الدوام كلاماً عديم الفائدة ، أقصى ما في الباب أن يقال : لما ثبت بالقرآن وجود سموات وأرض في الآخرة وثبت دوامهما وجب الاعتراف به ، وحينئذ يحسن التشبيه ، إلا أنا نقول : لما كان الطريق في إثبات دوام سموات أهل الآخرة ودوام أرضهم هو السمع ، ثم السمع دل على دوام عقاب الكافر ، فحينئذ الدليل الذي دل على ثبوت الحكم في الأصل حاصل بعينه في الفرع ، وفي هذه الصورة أجمعوا على أن القياس ضائع والتشبيه باطل ، فكذا ههنا.

والوجه

الثاني : في الجواب قالوا إن العرب يعبرون عن الدوام والأبد بقولهم ما دامت السموات والأرض ، ونظيره أيضاً قولهم ما اختلف الليل والنهار ، وما طما البحر ، وما أقام الجبل ، وأنه تعالى خاطب العرب على عرفهم في كلامهم فلما ذكروا هذه الأشياء بناء على اعتقادهم أنها باقية أبد الآباد ، علمنا أن هذه الألفاظ بحسب عرفهم تفيد الأبد والدوام الخالي عن الانقطاع.

ولقائل أن يقول : هل تسلمون أن قول القائل : خالدين فيها ما دامت السموات والأرض ، يمنع من بقائها موجودة بعد فناء السموات ،  تقولون إنه لا يدل على هذا  ، فإن كان الأول ، فالإشكال لازم ، لأن النص لما دل على أنه يجب أن تكون مدة كونهم في النار مساوية لمدة بقاء السموات ويمنع من حصول بقائهم في النار بعد فناء السموات ، ثم ثبت أنه لا بد من فناء السموات فعندها يلزمكم القول بانقطاع ذلك العقاب ، وأما إن قلتم هذا الكلام لا يمنع بقاء كونهم في النار بعد فناء السموات والأرض ، فلا حاجة بكم إلى هذا الجواب ألبتة ، فثبت أن هذا الجواب على كلا التقديرين ضائع.

واعلم أن الجواب الحق عندي في هذا الباب شيء آخر ، وهو أن المعهود من الآية أنه متى كانت السموات والأرض دائمتين ، كان كونهم في النار باقياً فهذا يقتضي أن كلما حصل الشرط حصل المشروط ولا يقتضي أنه إذا عدم الشرط يعدم المشروط : ألا ترى أنا نقول : إن كان هذا إنساناً فهو حيوان.

فإن قلنا : لكنه إنسان فإنه ينتج أنه حيوان ، أما إذا قلنا لكنه ليس بإنسان لم ينتج أنه ليس بحيوان ، لأنه ثبت في علم المنطق أن استثناء نقيض المقدم لا ينتج شيئاً ، فكذا ههنا إذا قلنا متى دامت السموات دام عقابهم ، فإذا قلنا لكن السموات دائمة لزم أن يكون عقابهم حاصلاً ، أما إذا قلنا لكنه ما بقيت السموات لم يلزم عدم دوام عقابهم.

فإن قالوا : فإذا كان العقاب حاصلاً سواء بقيت السموات  لم تبق لم يبق لهذا التشبيه فائدة ؟

قلنا بل فيه أعظم الفوائد وهو أنه يدل على نفاذ ذلك العذاب دهراً دهراً ، وزماناً لا يحيط العقل بطوله وامتداده ، فأما أنه هل يحصل له آخر أم لا فذلك يستفاد من دلائل أخر ، وهذا الجواب الذي قررته جواب حق ولكنه إنما يفهمه إنسان ألف شيئاً من المعقولات.

وأما الشبهة الثانية : وهي التمسك بقوله تعالى : إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ فقد ذكروا فيه أنواعاً من الأجوبة.

الوجه

الأول : في الجواب وهو الذي ذكره ابن قتيبة وابن الأنباري والفراء.

قالوا هذا استثناء استثناه اللّه تعالى ولا يفعله ألبتة ، كقولك : واللّه لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك مع أن عزيمتك تكون على ضربه ، فكذا ههنا وطولوا في تقرير هذا الجواب ، وفي ضرب الأمثلة فيه ، وحاصله ما ذكرناه.

ولقائل أن يقول : هذا ضعيف لأنه إذا قال : لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك ، معناه : لأضربنك إلا إذا رأيت أن الأولى ترك مضرب ، وهذا لا يدل ألبتة على أن هذه الرؤية قد حصلت أم لا بخلاف  خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ فإن معناه الحكم بخلودهم فيها إلا المدة التي شاء ربك ، فههنا اللفظ يدل على أن هذه المشيئة قد حصلت جزماً ، فكيف يحصل قياس هذا الكلام على ذلك الكلام.

الوجه

الثاني : في الجواب أن يقال : إن كلمة إِلا ههنا وردت بمعنى : سوى.

والمعنى أنه تعالى لما قال : خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض فهم منه أنهم يكونون في النار في جميع مدة بقاء السموات والأرض في الدنيا ، ثم قال سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود الدائم فذكر أولاً في خلودهم ماليس عند العرب أطول منه ، ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له ب إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ  : إلا ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها.

الوجه الثالث : في الجواب وهو أن المراد من هذا الاستثناء زمان وقوفهم في الموقف فكأنه تعالى قال فأما الذين شقوا ففي النار إلا وقت وقوفهم للمحاسبة فإنهم في ذلك الوقت لا يكونون في النار ، وقال أبو بكر الأصم المراد إلا ما شاء ربك وهو حال كونهم في القبر ،  المراد إلا ما شاء ربك حال عمرهم في الدنيا وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة ، والمعنى : خالدين فيها بمقدار مكثهم في الدنيا  في البرزخ  مقدار وقوفهم للحساب ثم يصيرون إلى النار.

الوجه الرابع : في الجواب قالوا : الاستثناء يرجع إلى  لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [ هود : ١٠٦ ] وتقريره أن نقول :  لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالدين فِيهَا يفيد حصول الزفير والشهيق مع الخلود فإذا دخل الاستثناء عليه وجب أن يحصل وقت لا يحصل فيه هذا المجموع لكنه ثبت في المعقولات أنه كما ينتفي المجموع بانتفاء جميع أجزائه فكذلك ينتفي بانتفاء فرد واحد من أجزائه فإذا انتهوا آخر الأمر إلى أن يصيروا ساكنين هامدين خامدين فحينئذ لم يبق لهم زفير وشهيق فانتفى أحد أجزاء ذلك المجموع فحينئذ يصح ذلك الاستثناء من غير حاجة إلى الحكم بانقطاع كونهم في النار.

الوجه الخامس : في الجواب أن يحمل هذا الاستثناء على أن أهل العذاب لا يكونون أبداً في النار ، بل قد ينقلون إلى البرد والزمهرير وسائر أنواع العذاب وذلك يكفي في صحة هذا الاستثناء.

الوجه السادس : في الجواب قال قوم : هذا الاستثناء يفيد إخراج أهل التوحيد من النار ، لأن  فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار يفيد أن جملة الأشقياء محكوم عليهم بهذا الحكم ، ثم  إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ يوجب أن لا يبقى ذلك الحكم على ذلك المجموع.

ويكفي في زوال حكم الخلود عن المجموع زواله عن بعضهم ، فوجب أن لا يبقى حكم الخلود لبعض الأشقياء ، ولما ثبت أن الخلود واجب للكفار وجب أن يقال : الذين زال حكم الخلود عنهم هم الفساق من أهل الصلاة ، وهذا كلام قوي في هذا الباب.

فإن قيل : فهذا الوجه إنما يتعين إذا فسدت سائر الوجوه التي ذكرتموها ، فما الدليل على فسادها ، وأيضاً فمثل هذا الاستثناء مذكور في جانب السعداء ، فإنه تعالى قال : وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِى الجنة خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إلا مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ .

قلنا : إنا بهذا الوجه بينا أن هذه الآية لا تدل على انقطاع وعيد الكفار ، ثم إذا أردنا الاستدلال بهذه الآية على صحة قولنا في أنه تعالى يخرج الفساق من أهل الصلاة من النار.

قلنا : أما حمل كلمة «إلا» على سوى فهو عدول عن الظاهر ، وأما حمل الاستثناء على حال عمر الدنيا والبرزخ والموقف فبعيد أيضاً ، لأن الاستثناء وقع عن الخلود في النار ، ومن المعلوم أن الخلود في النار كيفية من كيفيات الحصول في النار ، فقبل الحصول في النار امتنع حصول الخلود في النار ، وإذا لم يحصل الخلود لم يحصل المستثنى منه وامتنع حصول الاستثناء.

وأما قوله الاستثناء عائد إلى الزفير والشهيق فهذا أيضاً ترك للظاهر ، فلم يبق للآية محمل صحيح إلا هذا الذي ذكرناه ، وأما قوله المراد من الاستثناء نقله من النار إلى الزمهرير.

فنقول : لو كان الأمر كذلك لوجب أن لا يحصل العذاب بالزمهرير إلا بعد انقضاء مدة السموات والأرض.

والأخبار الصحيحة دلت على أن النقل من النار إلى الزمهرير وبالعكس يحصل في كل يوم مراراً فبطل هذا الوجه ، وأما قوله إن مثل هذا الاستثناء حاصل في جانب السعداء فنقول : أجمعت الأمة على أنه يمتنع أن يقال : إن أحداً يدخل الجنة ثم يخرج منها إلى النار ، فلأجل هذا الإجماع افتقرنا فيه إلى حمل ذلك الاستثناء على أحد تلك التأويلات.

أما في هذه الآية لم يحصل هذا الإجماع ، فوجب إجراؤها على ظاهرها فهذا تمام الكلام في هذه الآية.

واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا الاستثناء قال : إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ وهذا يحسن انطباقه على هذه الآية إذا حملنا الاستثناء على إخراج الفساق من النار ، كأنه تعالى يقول أظهرت القهر والقدرة ثم أظهرت المغفرة والرحمة لأني فعال لما أريد وليس لأحد عليَّ حكم ألبتة. أ هـ مفاتيح الغيب حـ ١٨ صـ ٥١ - ٥٤

وقال السَّمين :

وقوله تعالى :  خَالِدِينَ  : منصوبٌ على الحال المقدرة . قلت : ولا حاجةَ إلى قولِهم مقدرة ، وإنما احتاجوا إلى التقدير في مثل قوله  فادخلوها خَالِدِينَ  [ الزمر : ٧٣ ] ؛ لأنَّ الخلودَ بعد الدخول ، بخلافِ هنا.

  مَا دَامَتِ  « ما » مصدرية وقتية ، أي : مدة دوامهما . و « دام » هنا تامةٌ لأنها بمعنى بَقِيت.

  إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ  فيه أقوال كثيرة منتشرة لخّصتها في أربعةَ عشرَ وجهاً ، أحدها : وهو الذي ذكره الزمخشريُّ فإنه قال : « فإنْ قلت : ما معنى الاستثناء في   إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ  وقد ثَبَتَ خلودُ أهلِ الجنة والنار في الأبد مِنْ غير استثناء؟ قلت : هو استثناء مِن الخلود في عذاب النار ، ومن الخلود في نعيم أهل الجنة ، وذلك أنَّ أهل النار لا يُخَلَّدون في عذابها وحدَه ، بل يُعَذَّبون بالزمهرير ، وبأنواعٍ أُخَرَ من العذاب ، وبما هو أشدُّ من ذلك وهو سُخْط اللّه عليهم ، وكذا أهل الجنة لهم مع نعيم الجنة ما هو أكبرُ منه ك  وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّه أَكْبَرُ  [ التوبة : ٧٢ ] ، والدليل عليه   عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ  [ هود : ١٠٨ ] ، وفي مقابله  إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ  ، أي : يَفْعل بهم ما يريد من العذاب ، كما يعطي أهل الجنة ما لا انقطاعَ له » . قال الشيخ : « ما ذكره في أهل النار قد يتمشى لأنهم يَخْرُجون من النار إلى الزمهرير فيصحُّ الاستثناء ، وأما أهل الجنة فلا يخرجون من الجنة فلا يصحُّ فيهم الاستثناء » . قلت : الظاهر أنه لا يصحُّ فيهما؛ لأنَّ أهلَ النار مع كونهم يُعَذَّبون بالزمهرير هم في النار أيضاً.

الثاني : أنه استثناءٌ من الزمان الدالِّ عليه  « خالدين فيها ما دامَتِ السماواتُ والأرضُ » والمعنى : إلا الزمان الذي شاءه اللّه فلا يُخَلَّدون فيها.

الثالث : أنه مِنْ  « ففي النار » و « ففي الجنة » ، أي : إلا الزمان الذي شاءَه اللّه فلا يكون في النار ولا في الجنة ، ويمكن أن يكون هذا الزمانُ المستثنى هو الزمان الذي يَفْصِل اللّه فيه بين الخلق يومَ القيامة إذا كان الاستثناءُ مِن الكون في النار  في الجنة ، لأنه زمانٌ يخلو فيه الشقيُّ والسعيدُ مِنْ دخول النار والجنة ، وأمَّا إن كان الاستثناءُ مِنْ الخلود يمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار ، ويكون الزمانُ المستثنى هو الزمان الذي فات أهلَ النارِ العصاةَ من المؤمنين الذي يَخْرجون من النار ويَدْخلون الجنة فليسوا خالدين في النار ، إذ قد أخرجوا منها وصاروا إلى الجنة . وهذا  مَرْوِيٌّ عن قتادة والضحاك وغيرهما ، والذين شَقُوا على هذا شامل للكفار والعصاة ، هذا في طرفِ الأشقياء العُصاة ممكنٌ ، وأمَّا حقُّ الطرف الآخر فلا يتأتَّى هذا التأويلُ فيه؛ إذ ليس منهم مَنْ يدخلُ الجنةَ ثم لا يُخَلَّد فيها.

قال الشيخ : يمكن ذلك/ باعتبار أن يكونَ أريد الزمان الذي فاتَ أهلَ النار العصاة من المؤمنين ،  الذي فات أصحابَ الأعراف ، فإنه بفوات تلك المدة التي دخل المؤمنون فيها الجنة وخُلِّدوا فيها صَدَقَ على العصاة المؤمنين وأصحابِ الأعراف أنهم ما خُلِّدوا في الجنة تخليدَ مَنْ دخلها لأولِ وَهْلة «.

الرابع : أنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهو  » ففي النار « و » ففي الجنة «؛ لأنه لمَّا وقع خبراً تحمَّل ضميرَ المبتدأ.

الخامس : أنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الحال وهو » خالدين « ، وعلى هذين القولين تكون » ما « واقعةً على مَنْ يعقل عند مَنْ يرى ذلك ،  على أنواعٍ مَنْ يعقل ك  مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء  [ النساء : ٣ ] والمراد ب » ما « حينئذٍ العصاةُ من المؤمنين في طرفِ أهل النار ، وأمَّا في طرف أهل الجنة فيجوز أن يكونوا هم  أصحابُ الأعراف ، لأنهم لم يدخلوا الجنة لأولِ وهلة ولا خُلِّدوا فيها خلودَ مَنْ دَخَلها أولاً.

السادس : قال ابن عطية : » قيل : إنَّ ذلك على طريقِ الاستثناء الذي نَدَبَ الشارعُ إلى استعماله في كل كلامٍ فهو ك  لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ اللّه آمِنِينَ  [ الفتح : ٢٧ ] ، استثناء في واجب ، وهذا الاستثناء هو في حكم الشرط ، كأنه قال : إنْ شاء اللّه ، فليس يحتاج أن يُوْصَفَ بمتصل ولا منقطع «.

السابع : هو استثناءٌ من طول المدة ، ويروى عن ابن مسعود وغيره ، أنَّ جهنمَ تخلو مِن الناس وتَخْفِق أبوابُها فذلك   إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ  . وهذا مردودٌ بظواهر الكتابِ والسنة ، وما ذكرته عن ابن مسعود فتأويله أنَّ جهنم هي الدَّرَك الأَعْلى ، وهي تَخْلو من العُصاة المؤمنين ، هذا على تقديرِ صحةِ ما نُقِل عن ابن مسعود.

الثامن : أن » إلا « حرفُ عطفٍ بمعنى الواو ، فمعنى الآية : وما شاءَ ربُّك زائداً على ذلك.

التاسع : أن الاستثناءَ منقطعٌ ، فيقدَّر ب » لكن «  ب » سوى « ، ونَظَّروه بقولك : » لي عليك ألفا درهم ، إلا الألفَ التي كنت أسلفتك « بمعنى سوى تلك ، فكأنه قيل : خالدين فيها ما دامت السماواتُ والأرضُ سوى ما شاء ربك زائداً على ذلك . وقيل : سوى ما أعدَّ لهم مِنْ عذابٍ غيرِ عذابِ النار كالزَّمْهرير ونحوِه.

العاشر : أنه استثناءٌ من مدة السماوات والأرض التي فَرَطَت لهم في الحياة الدنيا.

الحادي عشر : أنه استثناءٌ من التدرُّج الذي بين الدنيا والآخرة.

الثاني عشر : أنه استثناءٌ من المسافات التي بينهم في دخول النار ، إذ دخولُهم إنما هو زُمَراً بعد زُمَر.

الثالث عشر : أنه استثناءٌ من  » ففي النار « كأنه قال : إلا ما شاء ربُّك مِنْ تأخُّر قوم عن ذلك ، وهذا القولُ مرويٌّ عن أبي سعيد الخدري وجابر.

الرابع عشر : أنَّ » إلا ما شاء « بمنزلة كما شاء ، قيل : ك  مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ  [ النساء : ٢٢ ] ، أي : كما قَدْ سَلَفَ. اهـ (الدر المصون).

فهذان المذهبان من مذاهب أهل اللغة.

وقولان آخران :

قال بعضهم إذا حُشِرُوا وبُعِثُوا فهم في شروط القِيامَةِ فالاستثناء وقع من

الخلود بمقدار موقفهم للحساب.

والمعنى خالدين فيها ما دامت السَّمَاوَات والأرض إلا مقدار موقفهم للمحاسَبةِ.

وفيها قول رابع : أن الاستثناء وقع على أن لهم فيها زفيراً وشهيقاً إلا ما

شاء ربك من أنواع العذاب التي لم تُذكر.

وكذلك لأهل الجنة نعيمُ ما ذُكر ولهم ما لم يذكر مما شاء ربكَ.

ويدل عليه - واللّه أعلم - عَطاءً غَيرَ مَجْذُوذٍ).

أي غير مقطوع.

قَالَ النابعةُ

تقُدُّ السُّلُوقِيَّ المُضاعَفَ نَسْجُه . . . وتوقِد بالصُّفَّاحِ نارَ الحُباحِبِ

يصف السيوف وأنها تقطع الدُّرُوع

* * *

١٠٩

وقوله - عزَّ وجلَّ - : (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩)

أي نوفيهم ما يصيبهم من خير  شر.

* * *

١١١

و (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١)

قرئت بتشديد النون وتخفيفها ، وقرئت " لَمَا " بتخفيف الميم ولَمَّا

بتشديدها (١).

فأمَّا تشديد " إنَّ " والنصب فعلى باب إنَّ ، وأما تخفيفها وترك

النصب على حاله فلأن " إنَّ " مشبهة بالفعل فإذا حذف منها التشديد بقي

العمل على حاله ، وأما تخفيف " لَمَا " فهو الوجه والقياس.

ولام لمَّا لام إن و " مَا " زَائدةٌ مؤكدة . لم تغيِّر  ولا العمل.

وأمَّا التشديد في " لَمَّا " فزعم بعض النحويين أن معناه " لَمَنْ مَا " ثم انْقلبتْ النون ميماً فاجتمع ثلاث ميمات فحذفت إحداها - وهي الوسطى ، فبقيت لَمَّا - وهذا القول ليس بشيء لأن " مَنْ " لا يجوز حذفها ، لأنها اسم على حرفين ، ولكن التشديد فيه قَوْلَانِ :

أحدهما يروى عن المازني.

زعم المازنى أن أصْلَها لَمَا ثم شددت الميم.

وهذا القول ليس بشيء أيضاً . لأن الحروف نحو " رُبَّ " وما أشبهها تخفف.

ولسنا نثَقل ما كان على حرفين فهذا منْتَقِض.

وقال بعضهم قولًا لا يجوز غيره - واللّه أعلم - أن " لَمَّا " في معنى :

إلا . . كما تقول سألتك لَمَّا فعلت كذا وكذا.

وَإِلَّا فعلت كذا . ومثلهُ : (إنْ كل نَفْس لَمَّا عَلَيْهَا حَافِط).

معناه " إلا " وتأويل اللام مع " إن " الخفيفة إنما هو تأويل الجُحد والتحقْيقِ ، إلا أن " إنْ " إذا قلت إنْ زَيداً لَعَالم هي " مَا "

ولكن اللام دخلت عليها لئلا يُشْبِهَ المنفي المثبتَ فتكون المشددة بدخول اللام

عليها بمعنى المخففة إذَا دخلت عليها اللام.

فعلى هذاجاءَتْ " أن " الناصبة.

فجائز أن تكون " أنَّ " النَاصِبَةُ مِنْ حيث دخلت عليها اللام كما دخلت على إن غير الناصبة دخلت عليها " لَمَّا " ودخلت عليها " إلا " فصار الكلام في تخليص التحقيق له بمنزلة ما نفى عنه غير المذكور بعد " لما " ، ووجب له ما بعد " لَمَّا "

__________

(١) قال السَّمين :

قوله تعالىوَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ  : هذه الآيةُ الكريمة مما تَكَلَّم الناسُ فيها قديماً وحديثاً ، وعَسُر على أكثرِهم تلخيصُها قراءةً وتخريجاً ، وقد سَهَّل اللّه تعالى ، فذكرْتُ أقاويلهم وما هو الراجحُ منها.

فقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر عن عاصم : « وإنْ » بالتخفيف ، والباقون بالتشديد . وأمَّا « لمَّا » فقرأها مشددةً هنا وفي يس ، وفي سورة الزخرف ، وفي سورة السمآء والطارق ، ابنُ عامر وعاصمٌ وحمزةُ ، إلا أن عن ابن عامر في الزخرف خلافاً : فروى عنه هشامٌ وجهين ، وروى عنه ابن ذكوان التخفيفَ فقط ، والباقون قرؤوا جميع ذلك بالتخفيف . وتلخص من هذا : أنَّ نافعاً وابن كثير قرآ : « وإنْ » و « لَمَا » مخففتين ، وأنَّ أبا بكر عن عاصم خَفَّفَ « إنَّ » وثَقَّل « لمَّا » ، وأن ابن عامر وحمزة وحفصاً عن عاصم شددوا « إنَّ » و « لمَّا » معاً ، وأن أبا عمرو والكسائي شدَّدا « إنَّ » وخَفَّفا « لَمَّا » . فهذه أربعُ مراتب للقراء في هذين الحرفين.

هذا في المتواتر ، وأمَّا في الشاذ ، فقد قرىء أربعُ قراءاتٍ أُخَر ، إحداها : قراءةُ أُبَيّ والحسن وأبان بن تغلب « وإنْ كل » بتخفيفها ، ورفع « كل » ، « لَمَّا » بالتشديد ، الثانية : قراءة اليزيدي وسليمان بن أرقم : « لمَّاً » مشددة منونة ، ولم يتعرَّضوا لتخفيف « إنَّ » ولا لتشديدها . الثالثة : قراءة الأعمش وهي في حرف ابن مسعود كذلك : « وإنْ كلٌّ إلا » : بتخفيفِ « إنْ » ورفع « كل » . الرابعة . قال أبو حاتم : « الذي في مُصْحف أبي  وإنْ مِنْ كلٍ إلا لَيُوَفِّيَنَّهم .

هذا ما يتعلَّق بها من جهة التلاوة ، أمَّا ما يتعلق بها من حيث التخريجُ فقد اضطرب الناسُ فيه اضطراباً كثيراً ، حتى قال أبو شامة : » وأمَّا هذه الآيةُ فمعناها على القراءات من أشكلِ الآيات ، وتسهيلُ ذلك بعون اللّه أنْ أذكرَ كلَّ قراءةٍ على حِدَتِها وما قيل فيها.

فأمَّا / قراءةُ الحَرَمِيَّيْن ففيها إعمال إنْ المخففة ، وهي لغة ثانية عن العرب . قال سبويه : « حَدَّثَنا مَنْ نثق به أنه سَمع مِن العرب مَنْ يقول : » إنْ عمراً لمنطلقٌ « كما قالوا :

٢٧١١ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كأن ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ

قال : » ووجهُه مِن القياس أنَّ « إنْ » مُشْبِهَةٌ في نصبها بالفعل ، والفعلُ يعمل محذوفاً كما يَعْمل غيرَ محذوف نحو : « لم يكُ زيد منطلقاً »  فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ  [ هود : ١٠٩ ] وكذلك لا أَدْرِ « . قلت : وهذا مذهبُ البصريين ، أعني أنَّ هذه الأحرفَ إذا خُفِّف بعضُها جاز أن تعملَ وأن تُهْمَلَ ك » إنْ « ، والأكثر الإِهمالُ ، وقد أُجْمع عليه في   وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا [ مُحْضَرُونَ ]  ، وبعضُها يجب إعمالُه ك » أنْ « بالفتح و » كأنْ « ، ولكنهما لا يَعْملان في مُظْهَرٍ ولا ضميرٍ بارزٍ إلا ضرورةً ، وبعضُها يَجِبُ إهمالُه عند الجمهور ك » لكن «.

وأمَّا الكوفيون فيُوجبون الإِهمالَ في « إنْ » المخففةِ ، والسَّماعُ حُجَّةٌ عليهم ، بدليل هذه القراءة المتواترة . وقد أنشدَ سيبويهِ على إعمالِ هذه الحروفِ مخففةً

٢٧١٢ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كأنْ ظبيةٌ تَعْطُو إلى وارِقِ السَّلَمْ

قال الفراء : « لم نَسْمَعِ العربَ تُخَفِّفُ وتَعْمل إلا مع المكنى ك

٢٧١٣ - فلو أنْكِ في يومِ الرَّخاء سَأَلْتِني . . . طلاقَكِ لم أَبْخَلْ وأنتِ صديقُ

قال : » لأنَّ المكنى لا يَظْهر فيه إعرابٌ ، وأمَّا مع الظاهر فالرفع « . قلت : وقد تقدَّم ما أنشده سيبويهِ وقولُ الآخر :

٢٧١٤ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كأنْ ثَدْيَيْه حُقَّانِ

و [ قوله ] :

٢٧١٥ كأنْ وَرِيْدَيْه رِشاءُ خُلْبِ . . . هذا ما يتعلق ب » إنْ « . وأمَّا » لَمَا « في هذه القراءة فاللامُ فيها هي لامُ » إنْ « الداخلةُ في الخبر . و » ما « يجوز أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي واقعةً على مَنْ يَعْقل كقوله تعالى :  فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء  [ النساء : ٣ ] فأوقع » ما « على العاقل . واللام في » ليوفِّيَنَّهم « جوابُ قسمٍ مضمر ، والجملةُ مِن القسم وجوابِه صلةٌ للموصول ، والتقدير : وإنْ كلاً لَلذين واللّه ليوفيَّنهم . ويجوز أن تكونَ هنا نكرةً موصوفةً ، والجملةُ القسميةُ وجوابُها صفةٌ ل » ما « والتقدير : وإنْ كلاً لخَلْقٌ  لفريقٌ واللّه ليوفِّيَنَّهم ، والموصولُ وصلتُه  الموصوفُ وصفتُه خبرٌ ل » إنْ «.

وقال بعضُهم : اللامُ الأولى هي الموطِّئةُ للقسَم ، ولمَّا اجتمع اللامان ، واتفقا في اللفظ فُصِل بينهما ب » ما « كما فُصِل بالألف بين النونين في » يَضْرِبْنانِّ « ، وبين الهمزتين في نحو : أأنت . فظاهرُ هذه العبارة أنَّ » ما « هنا زائدةٌ جي بها للفصل إصلاحاً لِلَّفظ ، وعبارةُ الفارسي مُؤْذِنَةٌ بهذا ، إلا أنه جَعَلَ اللامَ الأولى لامَ » إنْ « فقال : » العُرْفُ أن تُدْخِل لامَ الابتداء على الخبر ، والخبرُ هنا هو القَسَمُ وفيه لام تَدْخل على جوابه ، فلمَّا اجتمع اللامان والقسمُ محذوفٌ ، واتفقا في اللفظ وفي تَلَقِّي القسم ، فَصَلوا بينهما كما فَصَلوا بين إنَّ واللام «.

وقد صَرَّح الزمخشري بذلك فقال : » واللامُ في « لَمَا » موطِّئةٌ للقسم و « ما » مزيدةٌ « ونَصَّ الحوفيُّ على أنها لام » إنْ « . وقال أبو شامة : » واللامُ في « لَمَا » هي الفارقة بين المخففة من الثقيلة والنافية « وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ الفارقةَ إنما يؤتى بها عند التباسِها بالنافية ، والالتباسُ إنما يجيء عند إهمالها نحو : » إنْ زيدٌ لقائم « وهي في الآية الكريمة مُعْمَلة فلا التباسَ بالنافية ، فلا يُقال إنها فارقة.

فتلخَّص في كلٍ من اللام و « ما » ثلاثة أوجه ، أحدها : في اللام : أنها للابتداء الداخلة على خبر « إنْ » .

الثاني : لامٌ موطئة للقسم . الثالث : أنَّها جوابُ القسم كُرِّرَتْ تأكيداً . وأحدها في « ما » : أنها موصولة .

الثاني : أنها نكرة . الثالث : أنها مزيدة للفصل بين اللامين.

وأمَّا قراءةُ أبي بكر ففيها أوجه/ ، أحدها : ما ذهب إليه الفراء وجماعة من نحاة البصرة والكوفة ، وهو أن الأصل : لَمِنْ ما ، بكسر الميم على أنها مِنْ الجارة دخلت على « ما » الموصولة «  الموصوفة كما تقرَّر ، أي : لَمِنَ الذين واللّه ليوفِّيَنَّهم ،  لَمِنْ خَلْقٍ واللّه ليوفِّينَّهم ، فلمَّا اجتمعت النونُ ساكنةً قبل ميم » ما « وجب إدغامُها فيها فقُلِبَتْ ميماً ، وأُدْغمت فصار في اللفظ ثلاثةُ أمثال ، فخُفِّفَتْ الكلمةُ بحذف إحداها فصار اللفظُ كما ترى » لمَّا « . قال نصر ابن علي الشيرازي : » وَصَلَ « مِنْ » الجارة ب « ما » فانقلبت النون أيضاً ميماً للإِدغام ، فاجتمعت ثلاث ميمات فَحُذِفت إحداهن ، فبقي « لمَّا » بالتشديد « . قال : و » ما « هنا بمعنى » مَنْ « وهو اسم لجماعة الناس كما قال تعالى :  فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء  أي مَنْ طاب ، والمعنى : وإنْ كلاً مِن الذين ليوفِّينَّهم ربُّك أعمالهم ،  جماعة ليوفِّيَنَّهم ربُّك أعمالَهم ».

وقد عَيَّن المهدويُّ الميمَ المحذوفة فقال : « حُذِفت الميمُ المكسورة ، والتقدير ، لَمِنْ خلقٍ ليوفِّيَنَّهم ».

الثاني : ما ذهب إليه المهدويُّ ومكي وهو : أن يكونَ الأصل : لمَنْ ما بفتح ميم « مَنْ » على أنها موصولة  موصوفة ، و « ما » بعدها مزيدةٌ فقال : « فقلبت النونُ ميماً ، وأُدْغمت في الميم التي بعدها ، فاجتمع ثلاثُ ميمات ، فحُذِفَت الوُسْطى منهن ، وهي المبدلةُ من النون ، فقيل » لَمَّا « . قال مكي : » والتقدير : وإنْ كلاً لَخَلْقٌ لَيوفينَّهم ربك أعمالهم « ، فترجعُ إلى معنى القراءة الأولى بالتخفيف ، وهذا الذي حكاه الزَّجَّاج عن بعضهم فقال : » زَعَمَ بعضُ النحويين أن أصله لمَنْ ما ، ثم قلبت النون ميماً ، فاجتمعت ثلاثُ ميمات ، فَحُذِفت الوسطى « قال : » وهذا القولُ ليس بشيءٍ ، لأنَّ « مَنْ » لا يجوز حَذْفُ بعضها لأنها اسمٌ على حرفين «.

وقال النحاس : » قال أبو إسحاق : هذا خطأ ، لأنه تُحْذف النونُ مِنْ « مَنْ » فيبقى حرفٌ واحد « . وقد رَدَّه الفارسيُّ أيضاً فقال : » إذ لم يَقْوَ الإِدغام على تحريك الساكن قبل الحرف المدغم في نحو « قدم مالك » فأَنْ لا يجوزُ الحَذْفُ أَجْدَرُ « قال : » على أنَّ في هذه السورة ميماتٍ اجتمعَتْ في الإِدغام أكثرَ ممَّا كانَتْ تجتمع في « لَمَنْ ما » ولم يُحذفْ منها شيءٌ ، وذلك في قولِه تعالى :

 وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ  [ هود : ٤٨ ] ، فإذا لم يُحْذَفْ شيءٌ مِنْ هذا فأن لا يُحْذَفَ ثَمَّ أَجْدَرُ « . قلت : اجتمع في » أمم ممَّن مَعَك « ثمانيةُ ميماتٍ وذلك أن » أمماً « فيها ميمان وتنوين ، والتنوين يُقْلب ميماً لإِدغامه في ميم » مِنْ « ومعنا نونان : نونُ مِنْ الجارة ونون مَنْ الموصولة فيقلبان أيضاً ميماً لإِدغامهما في الميم بعدهما ، ومعنا ميم » معك « ، فحَصَّل معنا خمسُ ميماتٍ ملفوظٌ بها ، وثلاثٌ منقلبةٌ إحداها عن تنوين ، واثنتان نون.

واستدلَّ الفراء على أن أصل » لَمَّا « » لمِنْ ما « بقول الشاعر :

٢٧١٦ وإنَّا لمِنْ ما نَضْرِبُ الكبشَ ضَرْبَةً . . . على رأسِه تُلقي اللسانَ من الفم

وبقول الآخر :

٢٧١٧ وإني لَمِنْ ما أُصْدِرُ الأمرَ وجهَه . . . إذا هو أَعْيا بالسبيل مصادرُهْ

قلت : وقد تقدَّم في سورة آل عمران في قراءة مَنْ قرأ  وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم  [ آل عمران : ٨١ ] بتشديد » لمَّا « أن الأصل : » لمن ما « فَفُعل فيه ما تقدَّم ، وهذا أحد الأوجه المذكورة في تخريج هذا الحرف في سورته ، وذكرْتُ ما قاله الناسُ فيه ، فعليك بالنظر فيه.

وقال أبو شامة : » وما قاله الفراء استنباطٌ حسنٌ وهو قريبٌ من قولهم :  لَّكِنَّ هُوَ اللّه رَبِّي  [ الكهف : ٣٨ ] إن أصله : لكن أنا ، ثم حُذِفت الهمزة ، وأُدْغِمَتِ النونُ في النون ، وكذا قولهم : « أمَّا أنت منطلقاً انطلقت ، قالوا :  لأِنْ كنتَ منطلقاً » . قلت : وفيما قاله نظرٌ؛ لأنه ليس فيه حَذْفٌ ألبتَّةََ ، وإنما كان يَحْسُنُ التنظيرُ أن لو كان فيما جاء به إدغامٌ ، ثم حُذف ، وأمَّا مجرَّدُ التنظير بالقلبِ والإِدغامِ فغيرُ طائلٍ.

ثم قال أبو شامة : « وما أحسنَ ما استخرج الشاهد من البيت » يعني الفراء ، ثم الفراء أراد أن يجمع بين قراءتَي/ التخفيف والتشديدِ مِنْ « لمَّا » في معنى واحد فقال : « ثُمَّ تُخَفَّفُ كما قرأ بعض القراء  والبغي يَعِظُكُمْ  [ النحل : ٩٠ ] . بحذف الياء عند الياء ، أنشدني الكسائي :

٢٧١٨ وأَشْمَتَّ العُداةَ بنا فأَضْحَوا . . . لَدَيْ يَتباشَرُون بما لَقِينا

فحذف ياءَه لاجتماع الياءات » . قلت : الأَوْلى أن يُقال : حُذِفت ياءُ الإِضافة مِنْ « لديّ » فبقيت الياءُ الساكنةُ قبلَها المنقلبةُ من الألف في « لدى » وهو مِثْلُ قراءةِ مَنْ قرأ  يا بني  بالإِسكان على ما سَبَق ، وأمَّا الياء مِنْ « يتباشرون » فثابتةٌ لدلالتها على المضارعة.

ثم قال الفراء : « ومثلُه :

٢٧١٩ كأنَّ مِنْ آخِرِها إلقادِمِ . . . يريد : إلى القادم ، فحذف اللام عند اللام ».

قلت : توجيهُ قولهم : « من آخرها إلقادم » أن ألف « إلى » حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين ، وذلك أن ألف « إلى » ساكنة ولام التعريف من « القادم » ساكنةٌ ، وهمزةُ الوصل حُذِفت دَرْجاً ، فلمَّا التقيا حُذِف أولهما فالتقى لامان : لامُ « إلى » ولامُ التعريف ، فحُذِفت الثانيةُ على رأيه ، والأَوْلى حَذْفُ الأُوْلى؛ لأنَّ الثانيةَ دالة على التعريف لم يَبْقَ مِنْ حرف « إلى » غير الهمزة فاتصلت بلام « القادم » فبقيَتِ الهمزةُ على كسرها ، فلهذا تَلَفَّظ بهذه الكلمة مِنْ آخرها : « ءِ القادم » بهمزة مكسورةٍ ثابتة درجاً لأنها همزةُ القطع.

قال أبو شامة : « وهذا قريبٌ مِنْ قولهم » مِلْكذب « و » عَلْماءِ بنو فلان « و » بَلْعنبر « يريدون : من الكذب ، وعلى الماء بنو فلان ، وبنو العنبر » . قلت : يريد

٢٧٢٠ أبْلِغْ أبا دَخْتنوسَ مَأْلُكَةً . . . غيرُ الذي [ قد ] يُقال مِلْكذب

وقول الآخر :

٢٧٢١ - فما سَبَقَ القَيْسِيَّ مِن سُوءِ فِعْلِهِ . . . ولكنْ طَفَتْ عَلْماءِ غُرْلَةُ خالدِ

وقد ردَّ بعضُهم قولَ الفراء بأنَّ نونَ « مِنْ » لا تُحْذف إلا في ضرورة وأنشد : مِلكذبِ.

الثالث : أنَّ أصلَها « لَما » بالتخفيف ثم شُدِّدت ، وإلى هذا ذهب أبو عثمان . قال الزَّجَّاج : « وهذا ليس بشيءٍ لأنَّا لَسْنا نُثَقِّل ما كان على حرفين ، وأيضاً فلغةُ العرب على العكس من ذلك يُخَفِّفون ما كان مثقَّلاً نحو : » رُبَ « في » رُبَّ « . وقيل في توجيهه : إنما يكونُ في الحرف إذا كان آخراً ، والميم هنا حشوٌ لأن الألف بعدها ، إلا أن يقال : إنه أجرى الحرف المتوسط مُجرى المتأخر ك

٢٧٢٢ . . . مثلَ الحريقِ وافَقَ القَصَبَّا

يريد : القصبَ ، فلمَّا أشبع الفتحة تولَّد منها ألف ، وضعَّف الحرف ، وكذلك

٢٧٢٣ ببازِلٍ وَجْناءَ  عَيْهَلِّي . . . شدَّد اللام مع كونِها حَشْواً بياء الإِطلاق . وقد يُفَرَّق بأن الألف والياء في هذين البيتين في حكم المطَّرح ، لأنهما نشآ من حركةٍ بخلافٍ ألف » لما « فإنها أصليةٌ ثابتة ، وبالجملة فهو وجهٌ ضعيفٌ جداً.

الرابع : أن أصلَها » لَمَّاً « بالتنوين ثم بُني منه فَعْلى ، فإنْ جَعَلْتَ ألفَه للتأنيث لم تصرِفْه ، وإنْ جَعَلْتَها للإِلحاق صَرَفْتَه ، وذلك كا قالوا في » تَتْرى « بالتنوين وعدمِه ، وهو مأخوذٌ مِنْ قولك لَمَمْتُه أي : جَمَعْته ، والتقدير : وإنْ كلاً جميعاً ليوفِّينَّهم ، ويكون » جميعاً « فيه معنى التوكيد ككل ، ولا شك أن » جميعاً « يفيد معنى زائداً على » كل « عند بعضهم . قال : » ويدل على ذلك قراءةُ مَنْ قرأ « لمَّاً » بالتنوين «.

الخامس : أن الأصل » لَمَّاً « بالتنوين أيضاً ، ثم أَبْدل التنوينَ ألفاً وقفاً ، ثم أَجْرى الوصل مُجْرى الوقف . وقد مَنَع من هذا الوجهِ أبو عبيد قال : » لأن ذلك إنما يجوز في الشعر « يعني إبدالَ التنوين ألفاً وصلاً إجراءً له مُجْرى الوقف ، وسيأتي توجيهُ قراءةِ » لَمَّاً « بالتنوين بعد ذلك.

وقال أبو عمرو ابن الحاجب : « استعمالُ » لَمَّا « في هذا  بعيد ، وحَذْفُ التنوين مِنْ المنصرف في الوصل أبعدُ ، فإن قيل : لَمَّاً فَعْلى من اللَّمِّ ، ومُنِعَ الصرف لأجل ألف التأنيث ، والمعنى فيه مثل معنى » لمَّاً « المنصرف فهو أبعدُ ، إذ لا يُعرف » لمَّا « فعلى بهذا  ولا بغيره ، ثم كان يلزَمُ هؤلاء أن يُميلوا كمَنْ أمال ، وهو خلافُ الإِجماع ، وأن يكتبوها بالياء ، وليس ذلك بمستقيم ».

السادس : أنَّ « لَمَّا » زائدة كما تزاد « إلا » قاله أبو الفتح وغيرُه ، وهذا وجهٌ لا اعتبارٌ به فإنه مبنيٌّ على وجه ضعيف أيضاً ، وهو أنَّ « إلا » تأتي زائدةً.

السابع : أنَّ « إنْ » نافيةٌ بمنزلة « ما » ، و « لمَّا » بمعنى « إلا » فهي ك  إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا  [ الطارق : ٤ ] أي : ما كلُّ نفسٍ إلا عليها ،  وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ  [ الزخرف : ٣٥ ] أي : ما كل ذلك إلا متاع/ . واعتُرِض على هذا الوجه بأنَّ « إنْ » النافية لا تَنْصِبُ الاسمَ بعدها ، وهذا اسمٌ منصوب بعدها . وأجاب بعضهم عن ذلك بأن « كلاً » منصوبٌ بإضمار فعلٍ ، فقدَّره قومٌ منهم أبو عمر ابن الحاجب : وإنْ أرى كلاً ، وإن أعلمُ ، ونحوه ، قال : « ومِنْ ههنا كانت أقلَّ إشكالاً مِنْ قراءة ابن عامر لقبولها هذا الوجهَ الذي هو غيرُ مستبعَدٍ ذلك الاستبعاد ، وإن كان في نصب الاسم الواقع بعد حرف النفي استبعادٌ ، ولذلك اختلُفِ في مثلِ

٢٧٢٤ ألا رجلاً جزاه اللّه خيراً . . . يَدُلُّ على مُحَصِّلةٍ تَبيتُ

هل هو منصوب بفعلٍ مقدَّر  نُوِّن ضرورةً؟ فاختار الخليلُ إضمارَ الفعلِ ، واختار يونس التنوين للضرورة » ، وقدَّره بعضهم بعد « لمَّا » مِنْ لفظ « ليُوَفِّينَّهم » والتقدير : وإن كلاً إلا ليوفِّيَنَّ ليوفِّينَّهم . وفي هذا التقدير بُعْدٌ كبيرٌ  امتناع؛ لأنَّ ما بعد « إلا » لا يعمل فيما قبلها . واستدلَّ أصحابُ هذا القول أعني مجيء « لَمَّا » بمعنى « إلا » بنص الخليل وسيبويه على ذلك ، ونصره الزَّجَّاج ، قال بعضهم : « وهي لغة هُذَيْل يقولون : سألتك باللّه لمَّا فعلت أي : إلا فعلت » . وقد أنكر الفراء وأبو عبيد ورودَ « لمَّا » بمعنى إلا ، قال : أبو عبيد : « أمَّا مَنْ شدَّد » لمَّا « بتأويل » إلا « فلم نجدْ هذا في كلامِ العرب ، ومَنْ قال هذا لزمه أن يقولَ : » قام القوم لمَّا أخاك « يريد : إلا أخاك ، وهذا غيرُ موجودٍ ».

وقال الفراء : « وأمَّا مَنْ جَعَلَ » لَمَّا « بمنزلة » إلا « فهو وجهٌ لا نعرفه ، وقد قالت العربُ في اليمن : » باللّه لمَّا قمت عنا « ، و » إلا قمت عنا « ، فأمَّا في الاستثناء فلم نَقُلْه في شعر ولا في غيره ، ألا ترى أن ذلك لو جاز لسمعْتَ في الكلام : ذهب الناس لمَّا زيداً ».

فأبو عبيد أنكر مجيء « لمَّا » بمعنى « إلا » مطلقاً ، والفراء جَوَّز ذلك في القسم خاصةً ، وتبعه الفارسي في ذلك فإنه قال في تشديد « لمَّا » في هذه الآية : « لا يصلح أن تكون بمعنى » إلا «؛ لأن » لَمَّا « هذه لا تفارق القسم » وردَّ الناس قوله بما حكاه الخليل وسيبويه ، وبأنها لغة هُذَيْل مطلقاً ، وفيه نظرٌ ، فإنهم لمَّا حَكَوا اللغة الهذيلية حَكَوْها في القسم كما تقدم مِنْ نحو : « نَشَدْتُك باللّه لمَّا فعلت » و « أسألك باللّه لمَّا فعلت » . وقال أبو علي أيضاً مستشكلاً لتشديد « لمَّا » في هذه السورة على تقدير أن « لمَّا » بمعنى « إلا » لا تختص بالقسم ما معناه : أن تشديد « لمَّا » ضعيف سواء شددت « إن » أم خَفَّفْت ، قال : « لأنه قد نُصِب بها » كلاً « ، وإذا نُصب بالمخففة كانت بمنزلة المثقلة ، وكما لا يَحْسُن : » إنَّ زيداً إلا منطلق « ، لأن الإِيجابَ بعد نفي ، ولم يتقدَّمْ هنا إلا إيجابٌ مؤكد ، فلذا لا يَحْسُن : إن زيداً لَمَّا مُنْطلق » لأنه بمعناه ، وإنما ساغ : « نَشَدْتُك اللّه إلا فعلت ولمَّا فعلت » لأنَّ معناه الطلب ، فكأنه قال : ما أطلب منك إلا فِعْلك ، فحرفُ النفي مرادٌ مثل :  تَاللّه تَفْتَؤُاْ  [ يوسف : ٨٥ ] ، ومَثَّل ذلك أيضاً بقولهم : « شَرٌ أهرُّ ذاناب » أي : ما أهرَّه إلا شرٌّ ، قال : « وليس في الآية معنى النفي ولا الطلبِ . وقال الكسائي : » لا أعرف وجه التثقيل في لمَّا « . قال الفارسي : » ولم يُبْعِدْ فيما قال « . ورُوي عن الكسائي أيضاً أنه قال : » اللّه عَزَّ وجَلَّ أعلمُ بهذه القراءة ، لا أعرف لها وجهاً «.

الثامن : قال الزَّجَّاج : » قال بعضهم قولاً ولا يجوزُ غيرُه : « إنَّ » لمَّا « في معنى إلا ، مثل  إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ  [ الطارق : ٤ ] ثم أَتْبَع ذلك بكلام طويل مشكل حاصِلُه يَرْجِع إلى أن معنى » إنْ زيدٌ لمنطلق « : ما زيد إلا منطلق ، فَأَجْرَيْتَ المشددة كذلك في هذا  إذا كانت اللام في خبرها ، وعملُها النصبَ في اسمها باقٍ بحاله مشددةً ومخففةً ، والمعنى نفيٌ ب » إنْ « وإثباتٌ باللام التي بمعنى إلا ، ولَمَّا بمعنى إلا ».

قلت : قد تقدَّم إنكارُ أبي علي على جوازِ « إلا » في مثلِ هذا التركيب فكيف يجوز « لمَّا » التي بمعناها؟

وأمَّا قراءةُ ابنِ عامر وحمزة وحفص ففيها وجوه ، أحدها : أنها « إنَّ » المشددةَ على حالها ، فلذلك نُصب ما بعدها على أنه اسمُها ، وأمَّا « لمَّا » فالكلامُ فيها كما تقدم مِنْ أنَّ الأصلَ « لَمِنْ ما » بالكسر  « لَمَنْ ما » بالفتح ، وجميعُ تلك الأوجهِ التي ذكرْتُها تعودُ ههنا . والقولُ بكونها بمعنى « إلا » مُشْكِلٌ كما تقدَّم تحريرُه عن أبي علي هنا.

الثاني : قال المازنيٌّ : « إنَّ » هي المخففة ثُقِّلَتْ ، وهي نافيةٌ بمعنى « ما » كما خُفِّفَتْ « إنَّ » ومعناها المثقلة و « لَمَّا » بمعنى « إلا » . وهذا قولٌ ساقطٌ جداً لا اعتبارَ به ، لأنه لم يُعْهَدْ تثقيلُ « إنْ » النافية ، وأيضاً ف « كلاً » بعدها منصوبٌ ، والنافيةُ لا/ تَنْصِبُ.

الوجه الثالث : أنَّ « لَمَّا » هنا هي الجازمة للمضارع حُذِف مجزومُها لفهم  . قال الشيخ أبو عمرو ابن الحاجب في أماليه : « لمَّا » هذه هي الجازمةُ فحُذِف فِعْلُها للدلالةِ عليه ، لِما ثبت من جواز حَذْفِ فِعْلِها في قولهم : « خَرَجْتُ ولمَّا » و « سافرتُ ولمَّا » و هو شائعٌ فصيح ، ويكون  : وإنَّ كلاً لمَّا يُهْمَلوا  يُتْرَكوا لِما تقدَّم من الدلالةِ عليه مِنْ تفصيل المجموعين بقوله  فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ  [ هود : ١٠٥ ] ، ثم فَصَّل الأشقياءَ والسعداء ، ومجازاتَهم ، ثم بَيَّن ذلك بقولِه  لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ  ، قال : « وما أعرفُ وجهاً أشبهَ مِنْ هذا ، وإن كانت النفوسُ تستبعده مِنْ جهةِ أن مثلَه لم يَرِدْ في القرآن » ، قال : « والتحقيقُ يأبى استعبادَه » . قلت : وقد نَصَّ النحويون على أن « لمَّا » يُحذف مجزومُها باطِّراد ، قالوا : لأنها لنفيِ قد فَعَلَ ، وقد يُحذف بعدها الفعل ك

٢٧٢٥ أَفِدُ الترحل غيرَ أن رِكابَنا . . . لَمَّا تَزُل برحالِنا وكأنْ قَدِ

أي : وكأن قد زالت ، فكذلك مَنْفِيُّه ، وممَّن نَصَّ عليه الزمخشري ، عَلى حَذْفِ مجزومها ، وأنشد يعقوب على ذلك في كتاب « معاني الشعر » له قولَ الشاعر :

٢٧٢٦ فجِئْتُ قبوَرُمْ بَدْءاً ولمَّا . . . فنادَيْتُ القبورَ فلم يُجِبْنَهْ

قال : « قوله » بدءاً « ، أي : سيداً ، وبَدْءُ القوم سيِّدهم ، وبَدْءُ الجَزْور خيرُ أَنْصِبائها ، قال : » وقوله « ولما » ، أي : ولما أكنْ سَيِّداً إلا حينَ ماتوا فإني سُدت بعدهم ، كقول الآخر :

٢٧٢٧ خَلَتِ الدِّيارُ فسُدْتُ غيرَ مُسَوَّدِ . . . ومن العَناءِ تَفُّردي السُّؤْدُدِ

قال : « ونظيرُ السكوتِ على » لمَّا « دونَ فعلها السكوتُ على » قد « دونَ فعلِها في قول النابغة : أَفِدَ الترحُّل : البيت ».

قلت : وهذا الوجهُ لا خصوصيةً له بهذه القراءة ، بل يجيءُ في قراءة مَنْ شدَّد « لمَّا » سواءً شدَّد « إن »  خفَّفها.

وأمَّا قراءةُ أبي عمرو والكسائي فواضحةٌ جداً ، فإنها « إنَّ » المشددة عَمِلَتْ عملها ، واللام الأولى لام الابتداء الداخلة على خبر « إنَّ » ، والثانية جواب قسم محذوف ، أي : وإنَّ كلاً للذين واللّه ليوفِّينَّهم ، وقد تقدَّم وقوعُ « ما » على العقلاء مقرَّراً ، ونظيرُ هذه الآيةِ قولُه تعالىوَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ  [ النساء : ٧٢ ] غير أنَّ اللامَ في « لمَنْ » داخلة على الاسم ، وفي « لمَّا » داخلة على الخبر . وقال بعضهم : « ما » هذه زائدة زِيْدت للفصل بين اللامَيْن : لامِ التوكيد ولامِ القسم . وقيل : اللام في « لَمَا » موطئةٌ للقسم مثلَ اللامِ في قوله تعالىوَلَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ  [ الزمر : ٦٥ ] ، والمعنى : وإنَّ جميعهم واللّه ليوفِّينَّهم ربُّك أعمالَهم مِنْ حُسْنٍ وقُبْحٍ وإيمانٍ وجُحود.

وقال الفراء عند ذكره هذه القراءة : « جَعَل » ما « اسماً للناس كما جاز  فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء  [ النساء : ٣ ] ، ثم جَعَلَ اللامَ التي فيها جواباً لإِنَّ ، وجعل اللامَ التي في » ليوفِّيَنَّهم « لاماً دَخَلَتْ على نيةِ يمينٍ فيما بين » ما « وصلتِها كما تقول : » هذا مَنْ لَيَذْهَبَنَّ « ، و » عندي ما لَغَيْرُه خيرٌ منه « ومثلُه :  وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ  [ النساء : ٧٢ ] . ثم قال بعد ذلك ما يدلُّ على أن اللامَ مكررةٌ فقال : » إذا عَجَّلَت العربُ باللام في غيرِ موضعِها أعادُوها إليه نحو : إنَّ زيداً لإِليك لمُحْسن ، ومثله :

٢٧٢٨ - ولو أنَّ قومي لم يكونوا أعِزَّةً . . . لبَعْدُ لَقَد لاقيتُ لا بُدَّ مَصْرَعا

قال : « أَدْخَلها في » بَعْد « ، وليس بموضعِها ، وسمعت أبا الجراح يقول : » إني لبحمد اللّه لصالحٌ «.

وقال الفارسي في توجيهِ هذه القراءة : » وجهُها بيِّن وهو أنه نَصَب « كلاً » بإِنَّ ، وأدخل لامَ الابتداء في الخبر ، وقد دَخَلَتْ في الخبر لامٌ أخرى ، وهي التي يُتَلقَّى بها القسم ، وتختص بالدخول على الفعل ، فلمَّا اجتمعت اللامان فُصِل بينهما كما فُصِل بين « إنَّ » واللامَ ، فدخَلَتْها وإن كانَتْ زائدةً للفصل ، ومثلُه في الكلام : « إن زيداً لَمَا لينطلقَنَّ ».

فهذا ما تلخَّص لي من توجيهاتِ هذه القراءات الأربع ، وقد طعن بعض الناس في بعضها بما لا تَحَقُّق له ، فلا ينبغي أن يُلْتفت إلى كلامِه ، قال المبرد : وهي جرأةٌ منه « هذا لحنٌ » يعني تشديدَ « لمَّا » قال : « لأن العرب لا تقول : » إن زيداً لَمَّا خارج «.

وهذا مردودٌ عليه . قال الشيخ : « وليس تركيبُ الآية كتركيبِ المثال الذي قال وهو : » إنَّ زيداً لَمَّا خارج « ، هذا المثالُ لحنٌ » /.

قلت : إنْ عنى أنه ليس مثلَه في التركيب من كل وجه فمُسَلَّم ، ولكن ذلك لا يفيد فيما نحن بصددِه ، وإن عنى أنه ليس مثلَه في كونه دخلت « لمَّا » المشددةُ على خبر إنَّ فليس كذلك بل هو مثلُه في ذلك ، فتسليمُه اللحنَ في المثال المذكور ليس بصوابٍ ، لأنه يَسْتلزم ما لا يجوز أن يقال.

وقال أبو جعفر : « القراءةُ بتشديدهما عند أكثر النحويين لحن ، حُكِيَ عن محمد بن يزيد أنه قال : » إنَّ هذا لا يجوز ، ولا يقال : « إنَّ زيداً إلا لأضربنَّه » ، ولا « لَمَّا لأضربنَّه » . قال : « وقال الكسائي : اللّه عَزَّ وجلَّ أعلم ، لا أعرف لهذه القراءة وجهاً » وقد تقدَّم ذلك ، وتقدَّم أيضاً أن الفارسي قال : « كما لا يحسن : » إنَّ زيداً إلا لمنطلق «؛ لأنَّ » إلا « إيجاب بعد نفي ، ولم يتقدم هنا إلا إيجابٌ مؤكَّد ، فكذا لا يحسن » إنَّ زيداً لما منطلق « ، لأنه بمعناه ، وإنما ساغ » نَشَدْتُك باللّه لمَّا فعلت « إلى آخر ما ذكرته عنه . وهذه كلُّها أقوالٌ مرغوبٌ عنها لأنها معارِضة للمتواترِ القطعي.

وأمَّا القراءات الشاذة فأوَّلُها قراءةُ أُبَيّ ومَنْ تبعه :  وَإِن كُلٌّ لَّمَّا  بتخفيف » إنْ « ورفع » كل « على أنها إنْ النافية و » كلٌّ « مبتدأ ، و » لمَّا « مشددة بمعنى إلاَّ ، و » لَيُوَفِّيَنَّهم « جوابُ قسمٍ محذوفٍ ، وذلك القسمُ وجوابُه خبرُ المبتدأ . وهي قراءةٌ جليَّة واضحةٌ كما قرؤوا كلُّهم :  وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ  [ يس : ٣٢ ] ومثلُه :  وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ  [ الزخرف : ٣٥ ] ، ولا التفاتَ إلى قولِ مَنْ نفى أنَّ » لمَّا « بمنزلةِ إلاَّ فقد تقدَّمَتْ أدلتُه.

وأمَّا قراءةُ اليزيدي وابن أرقم » لَمَّاً « بالتشديد منونةً ف » لمَّاً « فيها مصدرٌ مِنْ قولهم : » لَمَمْتُه أي جمعته لمَّاً « ، ومنه قولُه تعالى :  وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً  [ الفجر : ١٩ ] ثم في تخريجه وجهان ، أحدُهما ما قاله أبو الفتح ، وهو أن يكونَ منصوباً ب » ليوفينَّهم « على حَدِّ قولِهم : » قياماً لأقومَنَّ ، وقعوداً لأقعدَنَّ « والتقدير : توفيةً جامعةً لأعمالهم ليوفِّيَنَّهم ، يعني أنه منصوبٌ على المصدر الملاقي لعاملِه في  دون الاشتقاق.

و

الثاني : ما قاله أبو عليّ الفارسي وهو : أن يكونَ وصفاً ل » كل « وصفاً بالمصدر مبالغةً ، وعلى هذا فيجب أن يقدَّرَ المضافُ إليه » كل « نكرةً ليصحَّ وَصْفُ » كل « بالنكرة ، إذ لو قُدِّر المضافُ معرفةً لتعرَّفَتْ » كل « ، ولو تَعَرَّفَتْ لامتنع وَصْفُها بالنكرة فلذلك قُدِّر المضافُ إليه نكرةً ، ونظيرُ ذلك قولُه تعالى :

 وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً  [ الفجر : ١٩ ] ، فوقع « لمَّا » نعتاً ل « أكلاً » وهو نكرة.

قال أبو عليّ : « ولا يجوزُ أن يكونَ حالاً لأنه لا شيءَ في الكلامِ عاملٌ في الحال ».

[ وظاهر عبارة الزمخشري أنه تأكيدٌ تابعٌ ل « كلاً » كما يتبعها أجمعون ،  أنه منصوبٌ على النعت ل « كلاً » ] فإنه قال :  وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ  كقوله « أكلاً لمَّاً » ملمومين بمعنى مجموعين ، كأنه قيل : وإنْ كلاً جميعاً ، كقوله تعالى :  فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ  [ الحجر : ٣٠ ] انتهى . لا يريد بذلك أنه تأكيدٌ صناعيٌّ ، بل فَسَّر معنى ذلك ، وأراد أنه صفةٌ ل « كلاً » ، ولذلك قَدَّره بمجموعين . وقد تقدَّم لك في بعضِ توجيهات « لَمَّا » بالتشديد من غير تنوين أن المنون أصلُها ، وإنما أُجري الوصلُ مجرى الوقف ، وقد عُرِف ما فيه . وخبرُ « إنْ » على هذه القراءة هي جملة القسم المقدَّر وجوابه سواءً في ذلك تخريجُ أبي الفتح وتخريجُ شيخه.

وأمَّا قراءةُ الأعمش فواضحةٌ جداً وهي مفسرةٌ لقراءة الحسنِ المقتدمة ، لولا ما فيها مِنْ مخالفة سواد الخط.

وأمَّا قراءةُ ما في مصحفِ أُبَي كما نقلها أبو حاتم فإنْ فيها نافية ، و « مِنْ » زائدةٌ « في النفي ، و » كل « مبتدأ ، و » ليوفِّينَّهم « مع قَسَمه المقدَّر خبرُها ، فَتَؤُول إلى قراءة الأعمش التي قبلها ، إذ يصير التقديرُ بدون » مِنْ « :  وإنْ كلٌ إلا ليوفِّينَّهم .

والتنوين في » كلاً « عوضٌ من المضافِ إليه . قال الزمخشري : » يعني : وإنَّ كلَّهم ، وإنَّ جميعَ المختلفين فيه « . وقد تقدَّم أنه على قراءةِ » لَمَّاً « بالتنوين في تخريج أبي علي له لا يُقَدَّر المضافُ إليه » كل « إلا نكرةً لأجل نعتِها بالنكرة.

وانظر إلى ما تضمَّنَتْه هذه الآيةُ الكريمة من التأكيد ، فمنها : التوكيد ب » إنَّ « و ب » كل « وبلام الابتداء الداخلة على خبر » إنَّ « وزيادةِ » ما « على رأيٍ ، وبالقسمِ المقدر وباللامِ الواقعةِ جواباً له ، وبنون التوكيد ، وبكونها مشددةً ، وإردافِها بالجملة التي بعدها من قوله  إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ  فإنه يتضمَّن وعيداً شديداً للعاصي ووعداً صالحاً للطائع.

وقرأ العامَّةُ » يعملون « بياء الغيبة ، جرياً على ما تقدَّم مِن المختلفين . وقرأ ابن هرمز » بما تعملون « بالخطاب فيجوز أن يكونَ التفاتاً من غَيْبة إلى خطاب ، ويكون المخاطبون هم الغيب المتقدِّمون ، ويجوز أن يكونَ التفاتاً إلى خطاب غيرهم.

اهـ (الدر المصون).

فتقول على هذا الحد إن كلهم لَمَّا يُحبّني - معناه يؤول إلى معنى ما كلهم إلا

يُحبّني ، وكذلك يجوز إنْ كلًّا لما يُحِبُّني ، بحذاء إنْ كلًّا لَما يُحِبُّنِي ، فدخلت

" لَمَّا " محققَةً كما دخلت اللام محَققةً وصار تأويل الجملة تأويل المنفي

والمحقق.

وحكى سيبويه وجميع البصريين أن " لَمَّا " تستعمل بمعنى إلا.

ويجوز إن كلا لَمًّا لَيُوفينهم ، معناه وأن كُلًّا لَيُوفَينهم جَمْعاً.

لأن معنى اللَّمّ الجمع

يقال لممت الشيء ألمُه لَمًّا إذا جَمعْتُه.

فَأمَّا قولهم : لَمَّ اللّه شَعَثَك ، فتأويله جمع اللّه لك ما يُذْهِبُ شَعَثَك.

* * *

١١٤

وقوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤)

فَطَرفا النهار غُدُوُّه وعَشِيه ، وصلاة طرفي الئهارِ الغدَاة والظهر والعصرُ.

(وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ).

ويجوز وزُلُفاً من الليل - بضم الزاي واللام - وهو منصوب على الظرف

كما تقول حَيِّنَا طَرفي النهارِ وأول الليل - ومعنى (زُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) الصلاة القريبة من أول الليل ، وزلَفاً جمع زُلْفة ، يعنى بالزلف من الليل المغرب وعشاء الآخرة.

(إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ).

أي إن هذه الصلوات تكفر ما بينها من الذنوب.

وهذا يُصَدِّقُ ما في الخبر مِنْ تكفير الصَّلَواتِ الذنوبَ.

والزُلُف واحد مثل الحُلُم . وجائز أنْ يكونَ جَمْعاً - على زَلِيف مِنَ الليل

فيكون مثلَ القَرِيبِ والقُرُب ، ولكن الزُّلَف أجودُ في الجمع.

وما علمت أنَّ زَليفاً يستعملُ في الليْل

١١٦

و (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦)

(أُولُو بَقِيَّةٍ).

معناه أولو تمييز ، ويجوز أن يكون معناه " أولو " طاعة.

ومعنى البقية إذَا قلتَ فلان في بَقِيَّةٍ ، معناه فيه فضل فيما يمدح به.

(إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ).

استثناء منقطع ،  لكنَّ قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ ممن نهى عن

الفساد.

(وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ).

معناه اتبعوا الشيء الذي به تدوم لهم التُرْفَةُ والنعيم ، وركنوا إلى الدنيا

فلم يقبلوا ما ينقص تُرْفَتَهُمْ في كسب  عمل.

* * *

١١٧

(وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (١١٧)

يجوز أن يكون وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ أحداً وهوَ يظلمهُ -

كما قال : (إِنَّ اللّه لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا). وجائز أن يكون معناه : وما كان ربك لِيهلِك القرى - ومعناه أهل القرى - بظلم وأهلها يتَعاطَوْن فيما بينهم بالنصفة.

١١٨

(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨)

أي لو شاء لجمعهم على هدايته ، كما قال - عز وجل - :

(وَلَوْ شَاءَ اللّه لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى).

* * *

١١٩

(وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩)

" مَنْ " استثناء ، على معنى : لكن من رحم ربك فإنه غير مخالف .

و (وَلذَلِكَ خَلَقَهُمْ).

أي خَلَقَهُمْ للسعادة والشقاء ، فاختلافهم في الدِّين يؤدي بهم إلى سعادة

شَقَاء.

وقيل : ولذلكَ خَلَقَهُمْ أي لرحمته خَلَقَهم ، لقوله (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ).

والقوْلُ الأول يدل عليه.

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

(لَأَمْلَأَنَّ) لَفْظُ القَسمِ ، أيْ فتمَّ قَولُه (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) (١).

* * *

١٢٠

(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠)

(كُلًّا) منصوب بـ (نَقُصُّ) ،  وكل الذي يُحتاجُ إليه من أنباء الرسل

نقُص عليْكَ.

و " ما " منصوبة بدل من كل.

 : نقص عليك ما نُثبتُ به فؤادك.

ومعنى تَثْبِيْتُ الفؤادِ تسكين القلب ، وهو ههنا ليس للشك ، ولكن كلما كان الدلالة والبرهان أكثر كان القلب أثبت كما قال إبراهيم :

(وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).

(وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ).

يجوز أن يكون وجاءك في هذه السُّورة ، لأن فيها أقاصيص الأنبياء

ومواعظ وذكر مَا فِي الجنَّةِ والنَّارِ.

ويجوز أن يكون  (وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ).

أي في ذكري هذه الآيات التي ذُكِرَتْ قبل هذا الموضع.

أي جاءك الحق في أن الخَلقَ يُجَازَوْنَ بأنْصِبَائِهِمْ في

(وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) ، وَفِي  (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ).

__________

(١) قال الإمام زين الدين محمد بن أبى بكر الرَّازى

فإن قيل : قوله تعالى : (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) إشارة إلى ماذا ؟

قلنا : قلنا هو إشارة إلى ما عليه الفريقان من حال الاختلاف ، أهل الرحمة

للرحمة ، وقد فسره ابن عباس رضى أللّه عنهما فقال : خلقهم فريقين فريق رحمهم فلم يختلفوا ، وفريق لم يرحمهم فاختلفوا ، وقيل : هو إشارة إلى معنى الرحمة وهو الترحم وعلى هذا يكون الضمير في خلقهم للذين رحمهم فلم يختلفوا وقيل : هو إشارة إلى الاختلاف والضمير في خلقهم للمختلفين ، واللام على الوجه الأول والثالث لام العاقبة والضرورة لا لام كى وهى التى تسمى لام الغرض والمقصود ، لأن الخلق للاختلاف في الدين لا يليق بالحكمة ، ونظير هذه اللام قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا).

وقول الشاعر :

لدوا للموت وابنوا للخراب . . . فكلكم يصير إلى التراب

وقيل : إنها لام التمكين والاقتدار كما في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا) وقوله تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا) والتكمين والاقتدار حاصل ، وإن لم يسكن بعض الناس في الليل ، ولم يركب بعض هذه الدواب ، ومعنى التمكين والاقتدار هنا أنه سبحانه وتعالى أقدرهم على قبول حكم الاختلاف ومكنهم منه ، وقيل : اللام هنا بمعنى على ، كما في قوله تعالى : (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) وقول تعالى : (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا).

أ هـ أنموذج جليل في أسئلةٍ وأجوبةٍ عن غرائبِ آي التنزيل صـ ٢١٣ - ٢١٤

وقد جاءَهُ في القرآن كُلِّهِ الحقُّ ، ولكنه ذكرها هنا توكيداً ، وليس إذا قيل

قد جاءك في هذه الحق وجب أن يكون لم يأتك الحق إلا في هذه ، ولكن

بعض الحق أوكدُ من بَعض في ظهوره عندنا وخفائه علينا ، لا في عينه.

إذَا قُلْتَ : فُلانٌ في الحق وأنت تريد أنه يجود بنفسه ، فليس هو في غير تلك

الحال في باطل ، ولكن ذِكْرُ الحق ههنا أغنَى عَنْ ذكر الموتِ لعظمه وأنه

يحصل عنده على الحق .