سُورَةُ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ

مَكِّيَّةٌ وَهِيَ مِائَةٌ وَتِسْعُ آياَتٍ

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قولها عزَّ وجلَّ : (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (١)

قد بيَّنَّا في أول البقرةِ ما قيل من " الر " وما أشبه ذلك.

و (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ).

أي الآياتِ التي جرى ذِكرُها هِيَ آياتُ الكِتاب الحكيم.

* * *

٢

و (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (٢)

يعنى بالناس ههنا أهل مكة ، ويروى أنهم قالوا : العجب أن اللّه لم

يجد رسولاً يرسله إلى الناس إلا يتيمَ أبي طالب ، وجائز - واللّه أعلم - أنهم

عجبوا من أن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أنذرهم وبَشَّر الذين آمنوا ، والِإنذار والبِشَارَةُ مُتّصِلَان بالبعث والنشور ، فَعجِبوا أن أعلَمَهُمْ أنهم يبعثون ويجازَوْنَ بالحسنة والسيئةِ.

فقال : (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

فموضع (أن) الأولى رفع ،  : أكان للناس عَجباً وَحْيُنَا

وموضعُ " أن " الثَانِيةِ نصبٌ بـ أوْحَيْنَا ، وموضع " أنَّ " المشددة نصب بـ بَشِّرِ ، والقراءة

الفتح ، ويجوز كسرها : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ)

لأنَّ البِشارة قول ، فالمعنى : قُلْ لَهُمْ إِنَّ لهمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِهمْ ولكنَّه لا يُقْرأ بهَا إلا أن تثبتَ بها رواية لأن القراءةَ سنةٌ.

وَالقَدَم الصِّدْق : المنزلة الرفيعة.

(قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) - و (لَسَاحِرٌ مِبين) - جميعاً.

وإنما قالوا " لسحر مبين " لَمَّا أنذرهم بالبعث والنشور.

* * *

٣

و (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّه الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّه رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٣)

أعلمهم أنَّ الَّذِي خَلَق السَّمَاواتِ والأَرْضَ وَقدْرَتُه هذه القُدرَة قادِرٌ على

بَعْثِهِمْ بعْدَ مَوْتهم.

و (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ).

ولم يجر للشفيع ذكر قبل هذا ، ولكن الذِينَ خوطِبوا كانوا يقولون إنَّ

الأصنامَ شُفَعَاؤنا عندَ اللّه ، فالذَكْرُ جرى بعد في الشُّفَعَاء.

ف (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) أي لَا يَشفَعُ شَفِيع إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى اللّه.

قال اللّه - جلَّ وعزَّ : (وَلَا يَشْفَعُونَ إلا لِمَنِ ارْتَضى)

(ذَلِكُمُ اللّه رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ).

أي فاعبدوه وحده.

* * *

٤

و (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللّه حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٤)

يدُلُّ على أنَّ الأمْرَ في العَجَبِ كان في البَعْثِ والنشًورِ.

(جَمِيعًا) منصوب على الحال.

و (حَقًّا).

(وَعْدَ اللّه) منصوب على معنى وَعَدَكُم اللّه وَعداً ، لأن  (مَرْجِعُكُمْ)

معناه الوعدُ بالرجوع ، وَ (حَقًّا) منصوب على أَحُقُّ ذلك حَقًّا.

ويجوز من غير القراءة وَعْدُ اللّه حقٌّ.

(إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ).

قرئت (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، وقرئت أنَّه - بفتح الألف وكسرها.

جميعاً . كثيرتان في القراءة ، فمن فتح فالمعنى : إليه مَرْجعُكم جميعاً لأنه

يبدأ الخلق ، ومَن كَسرَ كَسرَ على الاسْتِئْنَافِ والابْتِدَاءِ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ).

أي بالعدل.

* * *

٥

و (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّه ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥)

(وَقَدَّرَهُ) يَعْنِي القَمَرَ ، لأنه المقدَّرُ لِعِلْمِ السِّنين والحساب ، وقد يجوز أن

يكون  وقدّرهما منازل فحذف أحدهما اختصاراً وإيجازاً كما قال

الشاعر :

نحن بما عندنا وأنت بما . . . عندك راضٍ والرأي مختلف

١٠

و (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللّهمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠)

معنى (دعواهم) دعاؤهم ، يعني إن دعاء أهلِ الجنة تنزيه اللّه وتعظيمه.

(وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ).

جائز أن يكون ما يُحَيِّي به بعضهم بعضاً سلام ، وجائز أن يكون اللّه

يحييهم منها بالسلام.

(وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ).

أعلم اللّه أنهم يبتدَئون بتعظيم اللّه رب العالمين.

وَ (أنِ الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ) - بالتخفيف - على حذف أنَّ الشديدة

والهاء ، والمعنى أنه الحمد للّه رب العالمين.

* * *

١١

و (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّه لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١)

يُروَى أنهم لَوْ أجِيبُوا في الدعَاءِ على أنفسهم وأهليهم ، كقول الرجُلِ

لابنه وحميمه : أماتَكَ اللّه ، وفعل بك كذا وكذا.

وجائز أن يكون عنى  (فَأمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ) ، وما أشْبَهَ ذلِكَ فلو عجل اللّه ذلك كما يُعجِّلُ لَهُم الخيرَ لأهْلَكَهُمْ بِه.

ونصب (استعجالهم) على مثل استعجالهم بالخير ، أي على نعت

مصدرٍ محذوف.

والمعنى : وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّه للنَّاسِ الشَر تَعْجيلاً مثل استعجالهم

بالخير ، (لَقُضِيَ إلْيهِمْ أجَلُهُمْ).

وَيقرأ : لقَضَى إليهم أجَلَهم جميعاً ، جَيِّدتَانِ ، وَلَقُضِيَ أحسنهما ، لأن

 (ولو يعجل اللّه للناس الشر) يتصل به (لقُضِيَ إلْيْهِمْ أجَلُهم).

(فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

الطغيان في كل شيء ارتفاعه وعُلوُّه.

والعَمَهُ التَحَير.

 فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في غُلُوهمْ وكُفْرِهِمْ يتحيرُونَ.

* * *

١٢

و (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ  قَاعِدًا  قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢)

 - واللّه أعلم - : وإذا مسَّ الِإنسانَ الضر من حال من الأحوال

فجائز أن يكون دعانا لجنبه ، ودعانا وهو سَطِيح ،  دَعَانَا قَائِماً.

ويجور أن يكون : وإذا مس الِإنسانَ الضر لجنبه  مَسَّهُ قاعداً ،  مَسَّهُ

قائِماً ، دَعَانَا.

(فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ).

 مَر في العافية على ما كان عليه قبل أن يبْتَلَى ، ولم يتعظ بما

نَالَه.

و (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

ويجوز زَيَّن للمسرفين.

موضع الكاف نصب على مفعول ما لم يسم فاعله  زُينَ

للمسْرِفين عملُهم كذلك أي مثل ذلك ، أي جعل جَزَاءَهم الإضلالَ بإسرافهم بكفرهم .

١٣

و (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣)

 كالمعنى من  (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ).

أعلم اللّه - جل ثناؤه أنهم لَا يؤمِئونَ وَلَوْ أبْقَاهمْ أبَداً . فجائز أن يكون جَعَلَ

جَزاءَهُمْ الطبْعَ عَلَى قُلوبِهم ، وَجَائز أن يكون أعلم ما قَدْ عَلِمَ منْهُمْ.

والدَّليلُ عَلَى أنَّه طبع على قلوبهم جَزَاءً لهم

 (كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ).

 (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ).

(كَأَنْ) مخففة من الشديدة ،  كأنَّه لَم يَدْعُنَا.

قالت الخنساء :

كأنْ لم يكونوا حِمًى يُتَّقَى . . . إذْ الناسُ إذ ذاك من عزَّ بزَّا

أي كأنهم لم يكونوا.

* * *

١٤

و (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)

موضع (كَيْفَ) نَصْبٌ بقوله (تَعْمَلُونَ) لأنها حرف استفهام ، ولَا يعمل

فيها (لِنَنظرَ) لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل في الاستفهام.

ولو قلت : لننظر أخيْراً تعمَلُونَ أمْ شَرًّا كان العاملُ في خيرٍ وشَيءٍ تَعْمَلُونَ.

* * *

١٥

و (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا  بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥)

منصوب على الحال.

(قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا).

لا يؤمنون بالبعث والنشور.

(ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا  بَدِّلْهُ).

أي إيت بقرآنٍ لَيس فيه ذكرُ البعْت والنُشُور وليس فيه عَيْبُ آلِهَتِنَا . .

 " بَدِّلْهُ " أي  بدل منه ذكر البعث والنشور.

(قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)

تأويله : إِنَّ الَّذِي أتَيْتُ به مِنْ عِنْدِ اللّه لا مِنْ عِنْدِي فأبدله.

* * *

١٦

(قُلْ لَوْ شَاءَ اللّه مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٦)

ويجوز (عُمْرًا) بإسكان الميم ، أي قد لبثت فيكم من قبل أن يُوحَى إليَّ لا

أتْلُو كِتَاباً ولا أخُطُه بيميني ، وهذا دليل على أنه أوحي إليَّ ؛ إذْ كنتم تعرفونني بينكم ، نَشأْتُ لا أقرأ كتاباً ، وإخْبارِي إياكُم أقَاصِيصَ الأولين مِنْ غَيرِ كِتابٍ ولا تلقينٍ يَدُلُ عَلَى أنَّ مَا أتيتُ به من عند اللّه وَحْي.

* * *

١٨

و (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّه بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨)

 : ما لا يَضرهم إن لم يعبدوه ، ولا ينفعهم إن عبدوه.

(وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّه بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ).

أي أتعبدون مَا لَا يسمعُ ولَا يُبصِرُ ولا يُميِّزُ ، وتزْعُمون أنها تَشْفعُ عندَ

اللّه ، فتُخْبِرونَ بالكَذَبِ.

* * *

١٩

(وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩)

قيل يعنى بالناس ههنا العرب الذين كانوا على الشرك.

اختلفوا : آمن بعضٌ وكفر بعضٌ.

وقيل : ما كانَ الناسُ إلا أُمَّةً واحدةً ، أي ولدوا على الفطرة ، واختلفوا

بعد الفطرة.

(وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ).

ويجوز لقَضَى بينهم ، أي لولا أنَّ اللّه - جلَّ وعزَّ - جعل لهم أجلاً في

- القضاء بينهم ، لفَصَلَ بينهم في وقت اختلافهم.

و (بَيْنَ) منصوبة لأنها ظرف.

* * *

٢١

و (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّه أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (٢١)

يُعنَى بالناس ههنا الكافرونَ.

و (إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا).

جواب الجزاء ، وهو ك

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ)

 وإن تصبهم سيئة قنطوا ، وإذا أذقنا الناس رحمة مكروا.

فإذا تنوب عن جواب الشرط كما ينوب الفعل.

* * *

٢٢

و (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢)

ويجوز هو الذي يَسِيركُمْ ، ولا أعلم أحَداً قَرأ بِها.

(حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ).

الفُلك يكون واحداً ويكون جمعاً ، كما أن فُعْلًا في قَوْلك أُسْدٌ ، جمع

أَسَدٍ ، وفُعْل وفَعَل من باب واحد ، جاز أن يَكُونَ جَمعُ الفَلَكِ فُلُكاً.

(وَجَرَيْنَ بِهِمْ).

ابتداءُ الكَلام خطابٌ ، وبعد ذلك إخبارٌ عن غائبٍ لأن من أقام الغائبَ

مقام مَنْ يُخَاطِبُه جاز أنْ يردَّه إلى الغائب.

قال الشاعر :

شطت مزار العاشقين فأصبحت . . . عسراً على طلابك ابْنَةَ مَخْرَمِ

ومثل الآية قول كثير.

أَسِيئي بنا  أَحْسِنِي لا مَلومةٌ . . . لَدَيْنا ولا مَقْلِيَّةٌ إنْ تَقَلَّتِ

وقرأ بعضهم : هو الذي يَنْشُركُمْ.

وأكثر ما جاء في التفسير في  (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً)

يعنى به آدم عليه السلام.

(فَاخْتَلَفُوا) اختلف هابيل وقابيل.

و (جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ).

 من كل أمكنة الموج.

(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ).

يقال لكل من وقع من بلَاء قد أحيط به ، أي أحاط به البلاء وَقيل

أحاطت بهم الملائكة.

* * *

٢٣

(فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣)

 فلمَّا أنجاهم بغَوْا ، والبغي التَّرامي في الفساد.

قال الأصْمَعِي :

يقال بغى الجَرْحُ يبغي بَغْياً إذا ترامى إلى فَسادٍ.

وبغت المرأة بِغَاءً إذا فَجَرَتْ.

و (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).

وتقرأ (متاعُ الحياة الدنيا) ، خبراً ل (بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ).

ويجوز أن يكون خبر الابتداء (على أنْفُسَكُمْ).

ويكون (متاعُ الحياة الدنيا) على إضمار هو.

ومعنى الكلام أن ما تنالونه بهذا الفساد والبغي إنما تتمتعون به في الدنيا

(ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ).

ومن نصب (متاعَ الحياة الدنيا) فعلى المصدر ،  تتمتعون متاع

الحياة الدنيا ، لأن قوله (إنما بغيكم عَلى أنفسكم) يدل على أنهم يتمتعون.

ومعنى (بغيكم على أنفسكم) أي عملكم بالظلم عليكم يرجع ، كما

قال جلَّ وعزَّ : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا).

٢٤

و (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا  نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤)

(حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ).

ويقرأ ، وأَزْيَنَتْ .

والزخرف كمال حسن الشيء ، فمن قرأ . . و " وَازَّيَّنَتْ " فالمعنى وتزَينَتْ

فأدغمت التاء في الزاي ، وسكنت الزاي فاجتلبت لها ألف الوصل ، ومن قرأ : " وأَزْيَنَتْ " بالتخفيف فهو على أفعلتْ أي جاءت بالزينة ، وازَّيَّنَتْ بالتشديد أجود في العربية ، لأن أزيَنَتْ الأجود فيه في الكلام أزانَتْ.

(وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَاا).

أي قادرون على الانتفاع بها.

و (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ).

أي كأن لم تَعْمَرْ بالأمس ، والمغاني المنازل التي يعمرها الناس بالنزول

بها ، يقال : غنينا بمكان كذا وكذا إذا نزلوا به.

* * *

٢٥

و (وَاللّه يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥)

السَّلَامُ : هو اللّه جلَّ وعزَّ - فاللّه يدعو إلى داره ، ودارُه الجنة.

وجوز - وَاللّه أعلم - أن يكون دار السلام الدار التي يُسْلَمُ فيها من الآفات.

* * *

٢٦

و (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٦)

الحسنى الجنة ، و " زِيَادَةٌ" في التفسير النظر إلى وجه اللّه - جلَّ وعزَّ.

ويجوز أن تكون الزيادة تضعيف الحسنات لأنه قال - جلَّ وعزَّ :

(مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا).

والقول في النظر إلى وجه اللّه كثير في التفسير

وهو مرويٌّبا بالأسانيد الصحاح) ، لا يشك في ذلك.

(وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ).

القتر : الغبرة التي فيها سواد ، (وَلَا يَرْهَقُ) لا يغشى

٢٧

وقوله جلَّ وعزَّ ، لأهل النار : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللّه مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٧)

(كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا).

ويقرأ قِطْعاً من الليل مظلماً من نعت القطْع ، ومن قرأ قِطَعاً جعل مظلماً

حالًا من الليل.

 أغْشِيَتْ وجوهُهُم قِطَعاً من الليل في حال ظُلْمته.

* * *

٢٨

و (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (٢٨)

(جميعاً) منصوب على الحال

(ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ).

مكانكم منصوب على الأمر ، كأنه قيل لهم انتظروا مكانكم حتى نَفْصِلَ

بينكم ، والعرب تتوعد فتقول مكانك ، وانتَظِرْ ، فهي كلمة جرت على الوعيد.

(فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ).

من قولك زِلْت الشيءَ عَنْ مَكانِه أَزِيلُه ، وزيَّلْت للكثرْة ، ومن هذا إذَا

نحيته عن مكانه.

* * *

٢٩

و (فَكَفَى بِاللّه شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (٢٩)

معناه كفى اللّه شهيداً ، و (شَهِيدًا) منصوب إن شئت على التمييز ، وإن

شثت على الحال.

* * *

(إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ).

معناه : ما كنا عن عبادتكم إلا غافلين.

٣٠

 (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللّه مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠)

(هنالك) ظرف.

 : في ذلك الوقت تبلو ، وهو منصوب بـ تبلو إلا أنه

غير متمكن ، واللام زائدة ، والأصل هناك ، وكسرت اللام لسكونها وسكون الألف ، والكاف للمخاطبة.

ومعنى (تَبْلُو) تُخْبَرُ ، أي تعلم كل نفس ما قدمت.

ومثل هنالك قول زهير

هُنالِكَ إنْ يستخْبِلُوا المال يَخْبلوا . . . وإن يُسْألُوا يُعطُوا وإن يَيسروا يُغْلوا

وقرئت - هنالك (تَتْلو) بتاءين ، وفسرها الأخفش وغيره من النحويين تتلو من التلاوة ، أي تقرأ كل نفس ، ودليل ذلك  (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) - إلى  (اقْرَأْ كِتَابَكَ).

وفسروه أيضاً : تَتْبَعُ كُل نَفْس ما أسلفت.

ومثله قول الشاعر :

قد جعلت دَلْوِي تَسْتَتْلِيْني . . . ولا أحب تبع القرين

أي تستتبعني ، أي تستدعي اتباعي لها.

(وَرُدُّوا إِلَى اللّه مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ).

القراءة (الْحَقِّ) من صفة اللّه عزَّ وجلَّ - ويجوز الحقُّ والحقَّ.

والنصب

من جهتين إحداهما رُدُّو حَقا ، ثم أدخِلت الألف واللام ، ويجوز على تقدير هو مَوْلَاهُمُ الحق ، أي يحق ذلك حقاً ، وفيه جهة ثالثة في النصب على المدح :

هي : اذكر مولاهم الحق.

ومن قرأ " الحقُّ " - بضم القاف - فعلى هو مولاهم الحق ، لا من جعلوا

معه من الشركاء.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ).

(فَذَلِكُمُ اللّه رَبُّكُمُ الْحَقُّ).

بعد أنْ قُرِّروا فقيل لهم :

٣١

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّه فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٣١) فَذَلِكُمُ اللّه رَبُّكُمُ الْحَقُّ).

لما خوطبوا بما لا يقدر عليه إلا اللّه - جلَّ وعزَّ - كان فيه دليل على

توحيده.

* * *

٣٣

و (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٣)

الكاف في موضع نَصْبٍ ، أي مثل أفعالهم جَازَاهُمْ رَبُّكَ.

و (أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ).

أي حق عليهم أنهم لا يؤمنون ، فإنهم لا يؤمنون بدل من كلمة رَبِّكَ.

أعلم اللّه أنهم بأعمالهم قد مُنِعُوا من الِإيمان ، وجائز أن تكون الكلمة

حَقت علَيهم لأنهم لا يؤمنون ، فإنهم لا يؤمنون بدل من كلمة ربك وتكون

الكلمة ما وُعِدوا به من العقاب .

٣٥

و (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّه يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥)

(قُلِ اللّه يَهْدِي لِلْحَقِّ).

تَقول هديت إلى الحق ، وهدَيتُ الحقَّ بمعنى واحدٍ ، لأن " هَدَيْتُ "

يتعدى إلى المهدِيين وإلى الحقِّ . يتعدى بحرف جر.

 يهدي من يشاء للحق.

(أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى)

أي : قُررُوُا ، فقيلَ لهم : أيٌّ أولى بالاتباع ؛ الذي يهدي أم الذي لا يَهْدِي إلَّا

أَنْ يُهْدَى.

وجاء في التفسير أنه يعنى به الأصنام.

وفي يهدي قراءات ، قرأ بعضهم أَمَّنْ لَا يَهْدْي بإسْكان الهاءِ والدال.

وهذه القراءة مَرْوِيَة إلا أن اللفظ بها ممتنع ، فلست أدري كيف قرئ بها وهي

شاذَّة . وقد حكى سيبويه أن مثلها قد يتكلم به.

وقرأ أبو عمرو بن العلاء أَمَّنْ لَا يَهَدِّي - بفتح الهاء - وهذا صحيح جَيدٌ

بالغ - الأصل يَهْتَدِي فأدْغَم التاء في الدال وطرح فتحتها على الهاء والذين

جمعوا بين ساكنين . الأصل عندهم أيضاً يَهْتَدِي ، فأدغمت التاء في الدال

وتركت الهاء ساكنة ، فاجتمع ساكنان.

وقرأ عاصم أَمَّنْ لَا يَهِدِّي ، وهي في الجودة كفتح الهاء في الجودة.

والهاء على هذه القراءة مكسورة لالتقاء السَّاكنين.

ورويت عن عاصم أيضاً " يَهِدِّي " بكسر الهاء والياء.

أتْبَعَ الكسرةَ الكسرةَ ، وهي رديئة لنقل الكسر في الياء .

وقرئت أَمَّنْ لَا يَهْدِي بدال خفيفة.

فهذه خمسة أوجه قد قرئ بها هذَا الحرفُ

و (فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).

(مَا لَكُمْ) كلام تام ، كأنَّه قيل لهم : أي شيء لكم في عِبادَةِ الأوثانِ ، ثم

قيل لهم : (كيْفَ تحكُمُون) أي : على أي حال تحكمون ، فموضع كيف نصب بـ (تحكُمُون).

* * *

٣٧

و (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللّه وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٣٧)

هذا جواب لقولهم : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا  بَدِّلْهُ).

وجَوَابٌ لقولهم افتراه ، والمعنى وما كان هذا القرآن لأن يفترى من دون اللّه ويجوز ُ أن يكون  : وما كان هذا القرآن افتراءً ، كما تقول : وما كان هذا الكلام كِذباً.

(وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بيْنَ يَدَيْهِ).

وفيه وجهان أحدهما أن يكون تصديق الشيء الذي القرآن بين يديه ، أي

الذي قبل سماعكم القرآن ، أي تصديقٌ من أنباء الأمَمِ السالفة وأقاصيص

أنْبائِهِم.

ويجوز أن يكون " ولكن تصديق الذي بين يدي القرآن " ، أي تصديق

الشيء الذي تقدمَه القرآن أي يدل على البعث والنشور.

وقرئ ولكن تَصْدِيقٌ الذي بين يديه ، فمن نصب فإن  ولكن كان

تصديق الذي بين يديه ، ومن رفع فعلى ولكن تصديق الذي هو بين يديه.

ومن رفع قال : (وَتَفْصِيلُ الكِتَابِ).

٣٨

و (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّه إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٨)

 بل أيَقَولُونَ افْتَراهُ هذا تقرير لهم لإقامةِ الحجةِ عليهِمْ :

(قُلْ فَأتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ).

أي أتقولون النبى اختلقه وأتَى به من ذَاتِ نَفْسِه ، فَأتُوا بسُورةٍ من مثله.

أي بسورة مثل سُوَرِةٍ منه ، وإنما قيل مثله ، يراد سُورةٌ منه لأنه إنما التمس من

هذا شبه الجنس.

(وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ).

ممن هو في التكذيب مثلكم ، وإنْ خالفكم في أشياء.

(إنْ كُنْتُم صَادِقِينَ) في أنَّه اختلقه.

* * *

٣٩

(بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩)

هذا - واللّه أعلم - قيل في الذين كذبوا ، وهم شَاكوُنَ (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ).

أي لم يكن معهم عِلْمُ تَأويله ، وهذا دليلٌ أن علم التأويل ينبغي أن يُنْظَرَ

فِيه ، ويجوز أن يكون : (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) لَمْ يأتِهمْ ما يؤول إليه أمرهم في

التكذيبِ به من العقوبة.

ودليل هذا القول : (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ).

(كيْفَ) فِي مَوْضِع نَصْبٍ على خبر كان ، ولا يجوز أن يعمل فيها . . " انْظَر "

لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه.

* * *

٤٠

و (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠)

أي منهم من يعلم أنه حق فيصدِّق به ،  يعاند فيظهر الكفر ،

(وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ) أي منهم من يشك ولا يُصَدِّقُ.

* * *

٤٢

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (٤٢)

أي ظاهرهم ظاهر من يستمع ، وهم لِشَدةِ عَدَاوَتهم وبغضهم للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - وسوء استماعهم بمنزله الصُّم.

(وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ).

أي ولو كانوا مع ذلك جُهَّالاً.

وهذا مثل قول الشَّاعر.

أصم عما ساءه سميعُ

* * *

٤٣

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (٤٣)

أي يُقْبل عليك بالنظر وهو كالأعمى من بُغْضه لك وكراهته لما يراه من

آياتك ، كما قال اللّه - جل ثناؤه -

(يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ).

* * *

٤٥

و (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللّه وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥)

أي قَرُب عندهم ما بين مَوْتهِم وبَعْثِهِم ، كما قال - عزَّ وجلَّ :

(لَبِثْنَا يَوْمًا  بَعْضَ يَوْمٍ).

(يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ).

يَعْرفً بعضهُم بعضاً ، وفي معرفة بعضِهِم بعضاً وعلم بعضهم بإضلال

بعض ، التوبيخُ لهم وإثبات الحجةِ عَلَيْهِمَ.

* * *

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللّه).

يجوز - واللّه أعلم - أن يكون هَذا إعْلَاماً من اللّه - جَلَّ وعَزَ - بعد أن

بيَّن الدَلالة على أمْرِ البَعْثِ والنُشُورِ ، أنَّه من كذبَْ بَعْدِ هذه الآية فقد خَسِرَ

وَيجوز أن يكون - واللّه أعلم - بِتَعارُفِهِمْ بَيْنَهُم يقولون قَدْ خَسر الَّذِينَ كَذَبُوا بلقاء اللّه.

* * *

٤٦

و (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ  نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّه شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (٤٦)

يقال في التفسير إنه يعنى به وَقْعَةُ بَدْرٍ ، وقيل إنَّ اللّه - جلَّ وعزَّ - أعلم

النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أنه ينتقم من بعض هذه الأمَّةِ ولم يُعْلِمْه أيكونُ ذلك قبل وفاته أم بَعْدَهَا.

والذي تدل عليه الآية أنَّ اللّه - جَل وعز - أعلمَه أنه إن لم ينتقم منهم في

العاجل انتقم منهم في الآجل ، لأن  ( نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّه شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ) يدل على ذلك.

وقد أعلم كيف المجازاة على الكفر والمعاصي.

* * *

٤٧

و (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٤٧)

 - واللّه أعلم - أنَّ كل رسول شَاهِدٌ على أمَّتِه بإيمانهم وكُفْرهم.

كما قال - جلَّ وعزَّ - (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا).

وكما قال جلَّ وعزَّ : (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (٣٠).

ويجوز - واللّه أعلم - أنَّ اللّه أعلم أنه لا يعذِّبُ قوماً إلا بعد الإعذَارِ

إليهم والإِنذار ، أي لم يعذبهم حتى يجيئهم الرسول ، كما قال - جلَّ وعزَّ - :

(وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).

وكَما قال : (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّه حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).

* * *

٥٠

وقوله - جلّ وعزَّ : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا  نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠)

البَيَاتُ كلً ما كان بِليْلٍ ، وهو منصوبٌ على الوَقْتِ.

و (مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ).

(ما) في موضع رفع من جهتين :

إحداهما أن يكون ذَا بمعنى . . " ما الَّذِي "

يستعجِلُ منه المُجرِمُونَ ، ويجوز أن يكون " مَاذَا " اسماً وَاحِداً ، ويكون

 : أي شيء يستعجل منه المجْرِمُون والهاء في منه يعود على العذاب

نصب ، فيكون  : أي شيء يستعجل المجرمون من اللّه - جلَّ وعزَّ -.

والأجْوَدُ أن تكون الهاء تعود على العذاب ، ل (أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ).

و (آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ).

 : آلْآنَ تْؤمِنُونَ ، فَزعمَ القراءُ أن . . " آلأن " إنما هو " أَأَنْ كَذَا

وكَذَا " ، وأن الألف واللام دخلت على جهة الحكاية.

وما كان على جهة الحكاية نحو قولك " قام " إذا سميت به فجعلته مبنياً

على الفتح لم تدخله الألف واللام.

وَ " الآن " عِند سيبويه مبني على الفتح . نحو " نحن لِنَ الآنَ نصيرُ

إليك). فتفتح لأن الألف واللام إنما تدخلُ لِعهْدٍ.

و " الآنَ " لم تعهده قبل هذا

الوقت ، فدخلت الألف واللام للِإشارة إلى الوقتِ.

والمعني نحن من هذا الوقت نفعل ، فلما تضمنت معنى هذا ، وجب أنْ تَكُونَ موقوفة ففتحت لالتقاء السَّاكنين ، وهما الألف واللام.

* * *

٥٣

و (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣)

أي لستم ممن يُعْجِزُ أن يُجازَى عَلى كفْره.

* * *

٥٤

(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٥٤)

(وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ).

هَؤُلاء الدُّعاةُ الرؤَسَاءُ الكفرة ، أسَروا ندامتهم.

* * *

٥٧

و (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧)

(قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).

يعني القرآنَ.

* * *

٥٨

و (قُلْ بِفَضْلِ اللّه وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨)

اللام أصلها الكسر . و (فَبِذَلك) بدل من قوله . . (بِفَضْلِ اللّه وَبِرَحْمَتِهِ).

وهو يدل على أنه يعني به القرآن أيضاً.

* * *

٥٩

و (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللّه لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللّه أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّه تَفْتَرُونَ (٥٩)

" مَا " في موضع نصب بـ (أَنْزَلَ) ، والمعنى إنكم جعلتم البحائر والسوائب

حراماً واللّه لم يحَرَّمْ ذلك .

٦١

و (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦١)

أيْ أيُّ وَقْتٍ تكونُ في شأن من عبادة اللّه ، وما تلوتَ بهِ - من الشَأنِ مِنْ

قُرآنٍ.

(إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ)

أي إذ تَنْتَشِرُونَ فيه ، يُقال : أفاض القوم في الحديث إذَا انْتَشَرُوا فيه

وخاضوا.

(وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ).

يقرأ يَعْزُبُ وَيعْزِبُ - بضم الزاي وكسرها - ومعناه ما يبْعُد ، والمثقال :

والثقْلُ في معنًى واحدٍ.

(وَلَا أصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أكْبَرَ).

فالفتح على . . ما يعزب عن ربك من مثقال ذَرة ولا مِثْقَالٍ أصْغَرَ مِنْ

ذَلِكَ ولا أكبرَ ، والموضع موضع جر إلا أنه فتح لأنه لا يصرف.

ومن رفع فالمعنى : ما يَعْزُبُ عن ربك مثقالُ ذرَّةٍ ولا أصْغَرُ من ذلك ولا أكبَرُ إلا في كِتَابٍ مُبين.

والخبر  (إِلَا في كِتَابٍ مُبينٍ).

* * *

٦٤

و (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّه ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤)

جاء في أكثر التفسير . البشرى ، الرؤيا الصالحة يراها المؤمن في منامه.

وفي الآخرة ، الجنة ، وهو - واللّه أعلم - أن البشرى ما بشرهم اللّه به ، وهو

 (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١).

وهذا يدل عليه : (لَا تَبْدِيلَ لِكلِمَاتِ اللّه).

٦٥

وقوله (وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ للّه جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥)

أي لا يحزنك إيَعادُهمْ وتكذيبهم وتظاهرهم عليكَ.

(إِنَّ الْعِزَّةَ للّه).

إن الغلبة للّه فهو ناصِركَ وناصر دينه.

* * *

٦٦

(أَلَا إِنَّ للّه مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (٦٦)

يفعل فيهم ما يشاء.

* * *

٦٨

و (قَالُوا اتَّخَذَ اللّه وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللّه مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦٨)

(إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا).

 ما عندكم من حجة بهذا.

* * *

٦٩

(قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (٦٩)

هذا وقف التمام ، و

٧٠

(مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)

مَرْفُوع على معنى ذلك متاع في الدنيا ، ولو كانت نصباً لجَازَتْ ، إِلا أنه

لا يقرأ بها لمخالفة المصحف.

* * *

٧١

و (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّه فَعَلَى اللّه تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (٧١)

(فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ).

ويقرأ . . فاجْمَعُوا أمرَكم وشُركاءَكُمْ.

زعم القراءُ أنَّ معناه : فاجْمَعُوا أمرَكم وادْعُوا شركاءكم.

وهذا غلط لأن الكلام لا فائدة فيه ، لأنهم إن كانوا يدعون شركاءهم لأنْ يجمعوا أمرهم ،

فالمعنى فأجمعوا أمركم مع شركائكم ، كما تقول لو ترِكَتِ الناقَةُ وفصِيلَها

لَرَضعها ،  لو تُرِكَت مَعَ فصيلها لَرَضعَها.

ومن قرأ - " وشُرَكَاؤُكُمْ " جاز أن يعطف به على الواو ، لأن المنصوب قد

قوَّى الكلام.

لو قلت لو تُرِكْتَ اليومَ وزيد لعلمت جاز ، ولو قلت لو تركت

وزيدٌ لقبح ، لأنك لا تعطف على الضمير المرفوع حتى تقوِّيَ المرفوع بلفظ

معه.

ومن قرأ . . " وشُركاءَكم " في قوله فاجْمَعُو أمركم - بوصل الألف.

فنصبه على ضربين :

أحدهما العطف على الأمر ،  فاجْمَعوا أمركم

واجمَعُوا شُركاءكم ، ويكون فاجمعوا مع شركائكم أمْرَكُم.

(ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً).

أي ليكن أمركم ظاهراً منكشفاً ، كما قال رؤبة :

بَلْ لَو شَهِدتَ النَّاسَ إذ تُكُمُّوا . . . بغمة لو لم تُفَرّجْ غُمُّوا

غُمُوا بالمكروه ، بِغُمَّةٍ ، أي ما يَسْتَرهم ، واشتقاق ذَلكَ من الغَمَامَةِ التي

تستُر ، ويجوز ثم لا يكن أمركم عليكم غُمَّةً أي غَمًّا .

(ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ).

قرئت ثم أفضوا إِلَيَّ ، فمن قال : (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ) فالمعنى : ثم افعلوا ما

تريدون . و " ثُمَّ افْضوا " - بالفاء - وهي قريبة  منها.

* * *

٧٧

و (قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧)

هذا الكلام تقرير لقولهم :

(فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ).

هذا اللفظ ؛ أيْ إنَّ هذا لسحر مبين . ثُمَّ قَررَهُمْ فقال :

(أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ).

والمفلح الذي يفوز بإرادته أي فكيف يكون هذا سحراً وقد أفلح

الذي أتى به ، أي فاز ، وفلح في حجتَه.

* * *

٧٨

(قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (٧٨)

أيْ لتَصْرِفَنَا وَتَعْدِلَنَا ، يقال لفَتُّه عن الأمر ألفِته لَفْتاً إذا عَدَلْته عنه ، ومن

هذا قولهم التفت إليه أي عدل وجْهَه إليه.

(وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ).

الْكِبْرِيَاءُ : الملك ، وإنما سُمِّيَ الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلَب من أمر

الدنيا.

٨١

و (فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّه سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّه لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١)

(مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ).

أي قال موسى : الذي جئتم به السِّحْر ، ويقرأ ما جئتم به ، آلسِّحرَ.

والمعنى أي شىء جئتم به آلسِّحرُ . هوعلى جهة التوبيخ لهم.

* * *

٨٣

(فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣)

قيل إنه مكث يدعو الآباء فلم يؤمنوا ، وآمنت طائفة من أوْلادِهم.

(عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهمْ أنْ يَفْتِنَهُمْ).

جاز أن يقال - مَلَئِهِمْ لأن فرعون ذو أصحابٍ يأتمرون له ، والملأ من

القوم الرُؤَسَاءُ الًذِينَ يُرْجَعُ إلىَ قولهم.

* * *

٨٥

و (فَقَالُوا عَلَى اللّه تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥)

أي لا تُهلكنا وتعَذَبْنَا فَيَظُنُ آلُ فرعون إنا إنما عُذَبْنَا لأنَنَا على ضلال.

* * *

٨٧

و (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧)

(وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً).

جاء في التفسير : اجعلوا صلاتكم إلى البيت الحرام ، وقيل : اجعلوا

بيوتكم قبلة أي صلوا في بيوتكم لتأمنوا من الخوف لأنهم آمنوا على خوف من فرعون.

* * *

٨٨

و (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٨٨)

(رَبَّنَا لِيَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ).

ويقرأ (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) أي ، إنك آتيت فرعون وملأه زينةً وأمْوَالاً في

الحياة الدنيا فأصَارَهم ذلك إلى الضلال كما قال - جلَّ وعزَّ - (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) أي فالتَقَطُوهُ وآلَ أمرُه أنْ صار لهم عَدُوًّا وَحَزَنًا ، لا أنهم قصدوا إلى أتى يكون لهم عدواً وحزناً.

(رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ).

جاء في التفسير أي اجعل سُكَرَهُمْ حجارة . وتأويل تطميس الشيء

إذهابُه عن صورتِه والانتفاع به على الحال الأولى التي كان عليها.

(وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ).

أي اطبع على قلوبهم.

(فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ).

دعاءٌ أيضاً عليهم.

ويجوز - واللّه أعلم - ما قاله محمد بن يزيد.

ذكر أن  (فَلَا يُومِنُوا) عطف على  (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ)

أي ربنا إنك آتيتهم ليضلوا فلا يؤمنوا.

* * *

٨٩

* و (قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٨٩)

يروى في التفسير أن موسى دعا ، وأن هارون أمَّن عَلَى دُعائِهِ.

وفي الآية دليل أنهما دَعَوَا جَميعاً لأن  (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا)

يدل أن الدعْوةَ منهما جميعاً ، والمُؤَمِّنُ عِلى دُعاء الداعي دَاعٍ أيْضاً لأن قوله " آمين " تأويله استجب فهو سائل كسؤال الداعي.

و (وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ).

موضع (تَتَّبِعَانِّ) جزم ، إلا أن النون الشديدةَ دخلت للنهي مؤكِّدةً.

وكُسِرتْ لسكونها وسُكون النون التي قبلها ، واختير لها الكسر لأنها بعد

الألف ، فشبهت بنون الاثنين.

٩٠

(وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠)

جعلهُ اللّه يَبَساً حتى جَاوَزُوه.

* * *

٩٢

و (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (٩٢)

(نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) نلقيك عُرياناً وقيل ننجيك ببدنك نلقيك على نَجْوةٍ

من الأرض ، وإنما كان ذلك آيةً لأنه كان يَدَّعِي أنَّه إلهٌ وكان يعبُده قومُه ، فبيَّنَ اللّه أمْرَه وأنه عَبْدٌ.

وفيه من الآية أنه غرِق القومُ وأُخْرِجَ هو مِنْ بيْنهم فكان في ذلك آية.

* * *

٩٤

و (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٩٤)

هذه آية قد كثر سُؤَالُ الناسِ عنها وخوضُهم فيها جِدَّا ، وفي السورة ما

يدل على بيانها وكشف حقيقتها :

والمعنى أن اللّه - جلَّ وعزَّ - خاطب النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وذلك الخطاب شامل للخلق فالمعنى : إن كنتم في شك فاسألوا.

والدليل على ذلك قوله في آخر السورة :

(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّه الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ).

فأعلم اللّه - جلَّ وعزَّ - أن نبيه - صلى اللّه عليه وسلم - ليس في شَكٍّ ، وأمرُه أن يتْلُو عليهم ذَلِكَ.

ويروى عن الحسن أنه قال : لم يَسألْ ولم يَشُد ، فهذا بَيِّن جداً.

والدليل على أن المخاطبة للنبي مخاطبةٌ للناس

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ).

فقال (طَلَّقْتُمُ) ولفظ أول الخَطاب للنبي - صلى اللّه عليه وسلم -

وحده فهذا أحسن الأقوال وفيها قولان آخران.

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ) ، كما تقول للرجل : إن

كنت أبي فتعطف عليَّ ، أي إن كنت أبي فواجِبٌ أن تتعطف على ، ليس أنه

شك في أنه أبوه.

وفيها وجْهٌ ثَالِثٌ : أن تكون " أنْ " في معنى " مَا " فَيكون  ما كنت

في شك مِما أنْزَلنا إليْكَ ، فاسأل الذين يقرأون ، أي لسنا نأمرك لأنك شاك.

ولكن لتزداد ، كما قال إبراهيم : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)

فالزيادة في التثبيت ليست مما يبطل صحة القَصد (١).

* * *

٩٨

(فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (٩٨)

فهلَّا كانت قرية.

قال الشاعر.

تَعُّدُونَ عَقْرَ النِّيبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُم . . . بَنِي ضَوْطَرَى لَوْلا الكَمِيَّ المُقَنَّعَا

__________

(١) قال الإمام فخر الدين الرَّازي ما نصُّه :

اختلف المفسرون : في أن المخاطب بهذا الخطاب من هو ؟ فقيل النبي عليه الصلاة والسلام.

وقيل غيره ، أما من قال ب

الأول : فاختلفوا على وجوه.

الوجه

الأول : أن الخطاب مع النبي عليه الصلاة والسلام في الظاهر ، والمراد غيره كقوله تعالى : يا أيها النبى اتق اللّه وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين [ الأحزاب : ١ ] وك لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [ الزمر : ٦٥ ] وك ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَءنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ [ المائدة : ١١٦ ] ومن الأمثلة المشهورة : إياك أعني واسمعي يا جاره.

والذي يدل على صحة ما ذكرناه وجوه :

الأول : قوله تعالى في آخر السورة يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى [ يونس : ١٠٤ ] فبين أن المذكور في أول الآية على سبيل الرمز ، هم المذكورون في هذه الآية على سبيل التصريح.

الثاني : أن الرسول لو كان شاكاً في نبوة نفسه لكان شك غيره في نبوته أولى وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية.

والثالث : أن بتقدير أن يكون شاكاً في نبوة نفسه ، فكيف يزول ذلك الشك بأخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهم في الأكثر كفار ، وإن حصل فيهم من كان مؤمناً إلا أن قوله ليس بحجة لا سيما وقد تقرر أن ما في أيديهم من التوراة والإنجيل ، فالكل مصحف محرف ، فثبت أن الحق هو أن الخطاب ، وإن كان في الظاهر مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم إلا أن المراد هو الأمة ، ومثل هذا معتاد ، فإن السلطان الكبير إذا كان له أمير ، وكان تحت راية ذلك الأمير جمع ، فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص ، فإنه لا يوجه خطابه عليهم ، بل يوجه ذلك الخطاب على ذلك الأمير الذي جعله أميراً عليهم ، ليكون ذلك أقوى تأثيراً في قلوبهم.

الوجه

الثاني : أنه تعالى علم أن الرسول لم يشك في ذلك ، إلا أن المقصود أنه متى سمع هذا الكلام ، فإنه يصرح ويقول : « يا رب لا أشك ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب بل يكفيني ما أنزلته علي من الدلائل الظاهرة » ونظيره قوله تعالى للملائكة : أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ [ سبأ : ٤٠ ] والمقصود أن يصرحوا بالجواب الحق ويقولوا : سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن [ سبأ : ٤١ ] وكما قال لعيسى عليه السلام : أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ اللّه [ المائدة : ١١٦ ] والمقصود منه أن يصرح عيسى عليه السلام بالبراءة عن ذلك فكذا ههنا.

الوجه الثالث : هو أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان من البشر ، وكان حصول الخواطر المشوشة والأفكار المضطربة في قلبه من الجائزات ، وتلك الخواطر لا تندفع إلا بإيراد الدلائل وتقرير البينات ، فهو تعالى أنزل هذا النوع من التقريرات حتى أن بسببها تزول عن خاطره تلك الوساوس ، ونظيره قوله تعالى : فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [ هود : ١٢ ] وأقول تمام التقرير في هذا الباب إن  فَإِن كُنتَ فِي شَكّ فافعل كذا وكذا قضية شرطية والقضية الشرطية لا إشعار فيها ألبتة بأن الشرط وقع  لم يقع.

ولا بأن الجزاء وقع  لم يقع ، بل ليس فيها إلا بيان أن ماهية ذلك الشرط مستلزمة لماهية ذلك الجزاء فقط ، والدليل عليه أنك إذا قلت إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة بمتساويين ، فهو كلام حق ، لأن معناه أن كون الخمسة زوجاً يستلزم كونها منقسمة بمتساويين ، ثم لا يدل هذا الكلام على أن الخمسة زوج ولا على أنها منقسمة بمتساويين فكذا ههنا هذه الآية ، تدل على أنه لو حصل هذا الشك لكان الواجب فيه هو فعل كذا وكذا ، فأما إن هذا الشك وقع  لم يقع ، فليس في الآية دلالة عليه ، والفائدة في إنزال هذه الآية على الرسول أن تكثير الدلائل وتقويتها مما يزيد في قوة اليقين وطمأنينة النفس وسكون الصدر ، ولهذا السبب أكثر اللّه في كتابه من تقرير دلائل التوحيد والنبوة.

والوجه الرابع : في تقرير هذا  أن تقول : المقصود من ذكر هذا الكلام استمالة قلوب الكفار وتقريبهم من قبول الإيمان ، وذلك لأنهم طالبوه مرة بعد أخرى ، بما يدل على صحة نبوته وكأنهم استحيوا من تلك المعاودات والمطالبات ، وذلك الاستحياء صار مانعاً لهم عن قبول الإيمان فقال تعالى : فَإِن كُنتَ فِي شَكّ من نبوتك فتمسك بالدلائل القلائل ، يعني أولى الناس بأن لا يشك في نبوته هو نفسه ، ثم مع هذا إن طلب هو من نفسه دليلاً على نبوة نفسه بعد ما سبق من الدلائل الباهرة والبينات القاهرة فإنه ليس فيه عيب ولا يحصل بسببه نقصان ، فإذا لم يستقبح منه ذلك في حق نفسه فلأن لا يستقبح من غيره طلب الدلائل كان أولى ، فثبت أن المقصود بهذا الكلام استمالة القوم وإزالة الحياء عنهم في تكثير المناظرات.

الوجه الخامس : أن يكون التقدير أنك لست شاكاً ألبتة ولو كنت شاكاً لكان لك طرق كثيرة في إزالة ذلك الشك كقوله تعالى : لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ اللّه لَفَسَدَتَا [ الأنبياء : ٢٢ ] والمعنى أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعاً ، لزم منه المحال الفلاني فكذا ههنا.

ولو فرضنا وقوع هذا الشك فارجع إلى التوراة والإنجيل لتعرف بهما أن هذا الشك زائل وهذه الشبهة باطلة.

الوجه السادس : قال الزَّجَّاج : إن اللّه خاطب الرسول في  فَإِن كُنتَ فِي شَكّ وهو شامل للخلق وهو ك يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء [ الطلاق : ١ ] قال : وهذا أحسن الأقاويل ، قال القاضي : هذا بعيد لأنه متى كان الرسول داخلاً تحت هذا الخطاب فقد عاد السؤال ، سواء أريد معه غيره  لم يرد وإن جاز أن يراد هو مع غيره ، فما الذي يمنع أن يراد بانفراده كما يقتضيه الظاهر ، ثم قال : ومثل هذا التأويل يدل على قلة التحصيل.

الوجه السابع : هو أن لفظ إن في  إِن كُنتَ فِى شَكّ للنفي أي ما كنت في شك قبل يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك لكن لتزداد يقيناً كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى يقيناً.

وأما الوجه

الثاني : وهو أن يقال هذا الخطاب ليس مع الرسول فتقريره أن الناس في زمانه كانوا فرقاً ثلاثة ، المصدقون به والمكذبون له والمتوقفون في أمره الشاكون فيه ، فخاطبهم اللّه تعالى بهذا الخطاب فقال : إن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته ، وإنما وحد اللّه تعالى ذلك وهو يريد الجمع ، كما في  يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم * الذى خَلَقَكَ [ الانفطار : ٦ ، ٧ ] و يا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ [ الانشقاق : ٦ ] و فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ [ الزمر : ٤٩ ] ولم يرد في جميع هذه الآيات إنساناً بعينه ، بل المراد هو الجماعة فكذا ههنا ولما ذكر اللّه تعالى لهم ما يزيل ذلك الشك عنهم حذرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني وهم المكذبون فقال : وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بآيات اللّه فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين . ا هـ مفاتيح الغيب حـ ١٧ صـ ١٢٨ - ١٣٠

أي فهلَّا تَعُدُّون الكميَّ ، والكمي الداخل في السلاح.

والمعنى : فهلَّا كان أهل قرية آمنوا.

وقوله (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ).

استثناء ليس من الأول ، كأنه قال لكن قوم يونس لما آمنوا.

و (فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا).

معناه هلَّا كانت قرية آمنت في وقت ينفعهم الِإيمان ، وجرى هذا بعقب

قول فرعون لما أدركه الغرق : (آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ).

فأعلم اللّه - جلَّ وعزَّ - أن الِإيمان لا ينفع عند وقوع العذاب ولا عند حُضُورِ الموت الذي لَا يُشَك فيه.

قال اللّه - جلَّ وعزَّ - : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ).

وقوم يونس - واللّه أعلم - لم يقع بهم العذاب ، إنما رأوا الآية التي تدل

على العذاب ، فلما آمنوا كُشِفَتْ عنهم.

ومثل ذلك العليل الذي يتوب في مَرَضِه وهو يرجو في مرضه العافيةَ ولا

يخافُ الموتَ فتوْبتُه صحيحة

أما الذي يعاين فلا توبة له ، قال اللّه - عزَّ وجلَّ في قِصتِه : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ).

فأمَا النصب في قوله (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) فمثله من الشعر قول النابغة :

وَقَفْتُ فيها أُصَيْلالاً أسائلُها . . . عَيَّتْ جواباً وما بالرَّبْعِ مِنْ أحدِ

إلاَّ الأَوارِيَّ لأْياً ما أُبَيِّنُها . . . والنُّؤْيُ كالحَوضِ بالمَظلُومة الجَلَدِ

ويجوز الرفع على أن يكون على معنى فَهَلَّا كانت قرية آمنت غير قومِ

يونس ، فيكون . . (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) صفة.

ويجوز أن يكون بدلاً من الأول ، لأن معنى قوم يونس محمول على

معنى هَلَّا كان قوْمُ قريةٍ ،  قوم نبي آمنوا إلا قوم يونس.

ولا أعلم أحداً قرأ بالرفع.

وفي الرفع وجه آخر وهو البدل ، وإن لم يكن الثاني من جنس

الأول ، كما قال الشاعر.

وبلدة ليس بها أنيس . . . إلا اليعافير وإلا العيس

* * *

١٠٠

و (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللّه وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (١٠٠)

معناها وما كان لنفس الوصلة إلى الِإيمان إلا بمَا أعْلَمها اللّه منه.

ويكون أيضاً إلا بتوفيق اللّه ، وهو إذنه.

(وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ).

والرجس العذاب ، ويقال هو الرجزُ.

* * *

١٠٣

و (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣)

ونُنْجِى ، أي إذا أهلكت قرية أنجى اللّه الأنبياء ، والمؤمنين مما يَنْزِل

بأهْلها.

فإن قال قائل : فهلَّا كانت قرية آمَنَت ، ألم يؤمن أحَدٌ من أهل القرى ؟

فالمعنى أن أهل القرى ذكر اللّه في جمهورهم الكفر ، فقال :

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦).

فأما من قرأ . . " نجِّي المومِنِينَ " فلا وجه له.

وقد نجِّي النجاء المؤمنين . .

وهذا روي في القراءة عن عاصم في سورة الأنبياء ولا وجْهَ له . .