ومن سورة المائدة
بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله جلَّ وعزَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّه يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (١)
خاطب اللّه جلَّ وعزَّ جميع المؤْمنين بالوفاءِ بالعقود التي عقدها اللّه
عليهم ، والعقود التي يعقدها بعضهم على بعضٍ على ما يوجبه الدين ، فقال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يا أيها الذين صدقوا النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أوْفوا بالعُقود ، والعقود العهود ، يقال : وفيت بالعهْدِ وأوفيتُ.
والعقود واحذها عَقْد ، وهي - أوكد العهودِ
يقال : عهدت إلى فلان في كذا وكذا ، تأويله ألزَمتُه ذلك.
فإنما قلت عاقدته عَقَدت عليه ، فتأويله أنك ألْزمْته ذلك باستيثاق.
وقال بعضهم أوفوا بالعقودِ أي كان عقد بعضُكم على بعض في
الجاهلية ، نحو الموالاة ، ونحو (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) والمواريث تنسخ العقودَ في باب المواريث.
يقال عقدت الحبلَ والعهد فهو معْقود.
قال الحطيئة :
قَوْمٌ إِذا عَقَدوا عَقْداً لجارِهمُ . . . شَدُّوا العِناجَ وشَدُّوا فَوْقَه الكَرَبَا
تأويله أنهم يوفون عهودَهم بالوفاءِ بها ، ويقال أعقَدْتُ العسَل ونحوه فهو
مُعقدَ وعَقِيدٌ ، وروى بعضهم : عقدت العسل والكلام أعقَدْت.
قال الشاعِر :
وكأَنَّ رُبّاً كحِيلاً مُعْقَداً حَشَّ القيانُ به جوانِبَ قُمْقُمِ
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ).
قال بعضهم : بهيمة الأنعام : الظباءُ والبقر الوحْشِيةُ والحُمْرُ الوحشيةُ.
والأنعام في اللغة تشتمل على الِإبل والبقر والغنم.
فالتأويل - واللّه أعلم - أحلت لكم بهيمة الأنعام ، أي أحلت لكم الِإبل
والبقرُ والغنمُ والوحْشُ . والدليل على أن الأنعام مشتملة على ما وصفنا
قوله عز وجلَّ : (وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وفَرْشاً) فالحمولة الإِبل التي تُحَمَّلُ
والفرْشُ صغار الِإبل ، قال (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ)
ثم قال : (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) وهذا مردود على
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ) ، وأنشأ (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا).
ثم ذكر ثمانية أزواج بدلاً من (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا).
والسورَة تدعَى سورة الأنعام ، فبهيمة الأنعام هذه ، وإِنما قيل لها بهيمة الأَنعام لأن كل حي لا يميز فهو بهيمة ، وإِنما قيل له بهيمة لأنه أبهم عن أي يميز ، فأعلم اللّه عز وجلَّ أن الذي أحِل لنا مما أبهِم هذه الأشياءُ.
و (إِلَّا مَا يُتْلَى عَليْكُم).
موضع ما نصب بـ (إِلَّا) ، وتأويله أُحلَّت لكم بهيمة الأنعام (إِلا ما يتلى عليكم) من الميتةِ والدم والموقُوذَةِ والمُتَرَديَةِ والنطِيحَة
(غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) أي أُحلَّتْ لكم هذه لا مُحِلينَ الصيْدَ (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ).
وقال أبو الحسن الأخفش : انتصب (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) على
(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) ، كأنَّه قيل : أوفوا بالعُقودِ غير مُحِلَى الصيْدِ.
وقال بعضهم يجوز أن تكون " ما " في موضع رفع على أَنه يذهب إِلى أنه يجوز جاءَ إخوتك إِلَّا زيدٌ ، وهذا عند البصريين باطل لأَن عند هذا القائل :
جاءَ إخوتك وزيد . كأنَّه يعطف بها كما يعطف بلا ، ويجوز عند البصريين
جاءَ الرجال إلا زيد على معنى جاءَ الرجال غَيرُ زيد ، على أن تكون صفة
للنكرة مَا قَاربَ النكرةَ من الأجناسِ.
و (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ).
أي مُحرمونَ . وأَحَدُ الخرُم حرام ، - يقال رجل حَرامٌ وقوم حُرُم.
قال الشاعر :
فقلتُ لها فِيئي إِلَيكِ فإِنَّني . . . حَرامٌ وإِني بعد ذاكَ لَبِيبُ
أي ملبٍّ.
و (إِنَّ اللّه يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ).
أي الخلق له عزَّ وجلَّ ، يُحِل منه ما يشاءُ لمنْ يشاءُ ، وُيحُرَمُ مَا يُرِيدُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللّه وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللّه إِنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢)
الشعائر واحدتها شعيرة ، ومعناه ما أشْعِرَ أي أعْلمَ ليُهدَى إِلى بيت اللّه
الحرام.
وقال قوم شعائر اللّه يُعنَى بِه جميع مُتَعَبداتِ اللّه التي أشْعَرهَا اللّه.
أي جعلها أعلاماً لنا.
(وَلَا الْهديَ)
الهَدْيُ واحِدَتُهُ هَدْيةٌ مثلُ جَدْيةَ وجَدْي يعني حَدَبةُ
السَّرج.
و (القلائد) كانوا يقلدون بِلِحاء الشَجرَ ويعتصمون بذلك وهذا كله كان
للمشركين ، وكان قد أمِرَ المسلمون بأن لا يحلوا هذه الأشياءَ التي يَتَقربُ بها
المشركون إِلى اللّه وكذلك (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ) وهذا كله منسوخ.
وكذلك (ولا الشهر الحرام) وهو المُحرم لأن القتَال كان مرفوعاً فيه ، فَنسخَ
جميع ذلك (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ).
و (وإِذَا حَلَلْتُم فاصطَادوا).
هذا اللفظ أمرٌ ومعناه الِإباحة ، لأن اللّه عزَّ وجل حرم الصيدَ على
المحرم ، وأباحَه لَهُ إِذَا حَلَّ من إِحْرامه ، ليس أنه واجب عليه إِذا حَلَّ أن
يصطاد ، ومثله (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّه) تأْويله أنه أبيح لكم بعد الفراغ من الصلاة ، ومثل ذلك في
الكلام : لا تَدْخُلَنَ هذه الدار حتى تُوديَ ثمنها ، فإِذا أديت فَادْخُلْها ، تأويله
فإذا أديت فقد أُبيح لك دُخولها.
و (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ).
أي لا يحملنكم بغضُ قومِ ، يقال شنئته شنآناً معناه أبغضته إِبغاضاً.
والشنآن مصدر مثل غَلَى غَليَاناً ، ونَزَا نَزَوَاناً ، فالمعنى لا يكْسَبَنكم بُغْضُ قومٍ
أن تعتدوا.
وموضع " أن " نصب ، أي تعتدوا لأن صَدوكم عَن المسْجد الحرامِ
فموضعُ أن الأولى نصب مفعول له ، وموضع أن الثانِيةِ نصب مفعول به.
لا يكسبنكم بغضُ قوم أي بغضكم قوماً الاعْتِدَاءَ بصدهم إِيَّاكُمْ عَنِ
المَسْجِدِ الحرامِ يُقالُ فلان جريمة أهله أي هو كاسبهم.
وقيل في التفسير لا يحملنكم بغض قوم ، والمعنى واحد.
وقال الأخفش لا يُحِقَّنَّ لكم بُغْضُ قَوْمٍ.
وهذه أَلفاظ مختلفة والمعنى واحد.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى).
وهذا كله منسوخ إِلا التعاوُنَ مِن المسلمين على البر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ).
أصله الميتَة بالتشديد ، إِلا أنه مخفف ، ولو قرئت الميتَةُ لجاز يقال
مَيِّت ، ومَيْت ، والمعنى واحد . وقال بعضهم الميِّت يقال لما لَمْ يَمتْ.
والميْتُ لما قَدْ مَاتَ ، وهذا خطأ إِنما ميِّت يصلح لما قد مات ، ولما سَيَمُوت.
قال اللّه عزَّ وجلَّ : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ).
وقال الشاعر في تصديق أن الميْتَ والميِّتَ بمعنى واحد :
ليس مَن مات فاسْتراحَ بمَيْتٍ إِنما المَيْتُ مَيِّتُ الأَحْياءِ
فجعل الميت مخففاً من الميت.
و (وَالدَّمُ).
قيل إنهم كانوا يجعلون الدم في المباعر ويشوونها ويأكلونها ، فأعلم
اللّه عزَّ وجلَّ أن الدم المسفوح ، أَي المصْبُوبَ حرام ، فأمَّا المُتَلَطَخُ بالدم
فهوكاللحم في الحل.
و (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِه).
موضعه رفع ، والمعنى : وحرم عليكم ما أهل لغير اللّه به ، ومعنى (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِه) ذكر عليه اسمُ غيرِ اللّه ، وقد فسرنا أن الِإهلال رفع الصوت
بالشيءِ فَمَا يتقَرَّب به من الذبح لغير اللّه ، ذكر غير اسمه فحرام.
(ولحم الخنزير) حرام ، حرم اللّه أكله ، وملكه ، والخنزير يشمل على الذكر والأنثى.
وقوله (وَالْمُنْخَنِقَةُ).
وهي التي تنخنق بِرِبْقَتِها أي بالحبل الذي تشدُّ به ، وبأي جِهة اختنقت
فهي حرام.
و (والمَوْقُوذةُ).
وهي التي تُقْتَلُ ضرباً ، يقال وَقَذْتُها أوْقِذُها وَقْذاً وأوقَذْتُها أوقِذُها إِيقَاذاً.
إذَا أثْخَنْتُهَا ضرباً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (والنطِيحَةُ).
وهي التي تَنْطِحُ تُنْطَحُ فَتَموتُ.
و (وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ).
موضع " ما " أيضاً رفع عطف على ما قبْلَها.
و (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ).
أي إِلا ما أدرَكْتُم ذَكاتَه مِنْ هَذه التي وصفْنَا ، وموضع " ما " نصب أي
حُرمت عليكم هذه الأشياءُ إِلَّا الشيء الذي أدْركَ ذَبحُه مِنْهَا ، وكل ذَبحٍ ذكاةٌ ، ومعنى التذكية أن يدركها وفيها بقية تَشْخبُ معها الأوداج ، وتضطرب اضطراب المذبوح الذي أدْرِكَتْ ذَكاتُه.
وأهل العلم يقولون إِنْ أَخْرجَ السَّبُع الحشْوةَ ،
قَطَعَ الجَوفَ قطعاً خرج معه الحَشْوة فلا ذكاة لذلك ، وتأويله إنَّه يصير في
حالة مَا لَا يُؤَثر في حياتِه الذبْحُ ، وأصل الذكاء في اللغة كلها تمام الشيءِ ،
فمن ذلك الذَّكاءُ في السن والفهم ، وهو تمام السن ، قال الخليل : الذَكاءُ في
السِّنِ أن يأتي على قروحِه سنة ، وذلك تمائم استِكمال القُوةِ.
قال زهير :
يُفَضّلُه إذا اجْتَهِدُوا عليْهِ . . . تمامُ السِّنِّ منه والذَّكاءُ
وَقيل جري المذْكِيَاتِ غِلاب . أي جَرْي المَسَانِّ التي قد تأسَّنتَ.
وتأويل تمام السِّن النهايةُ في الشباب فإِذا نقص عن ذلك زاد فلا يقال لها
الذكاء
والذكاء في الفهم أن يكون فَهِماً تامًّا سريعَ القَبول ، وذَكَيْتُ النارَ إِنما
هو مِنْ هذا . تأويله أتمَمت إشعالها.
(إِلا مَا ذَكيْتمْ) ما أذْكَيْتُم ذَبْحة على التمام.
و (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ).
والنُصبُ الحجارة التي كانوا يعْبدونَها ، وهي الأوثانُ واحِدُها نِصاب.
وجائز أن يكون واحدأاً، وجمعه أنصاب.
و (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ).
موضع " أن " رفع ، والمعنى وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام.
وواحد الأزلام زُلَم ، وزَلَم ، وهي سِهَام كانَتْ في الجاهلية مَكْتوب على بعضها " أمرَنِي رَبِّي " وعَلى بعضها : " نهاني رَبِّي - فإذا أراد الرَّجُلُ سَفَراً أمراً يهتَم به
اهتماماً شديداً ضرب تلك القِدَاح ، فإِن خرج السهم الذي عليه " أمرني رَبِّي
مضَى لحاجته ، وإن خرج الذي عليه " نهاني ربي " لم يمض في أمره ، فأعلم
اللّه عزَّ وجلٌ أن ذلك حرام ، ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجمين : لا تخرج من أجْل نَجْم كَذَاِ ، وأخرج من أجل طلوع نجم كذا ، لأن اللّه جلَّ وعزَّ قال : (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا)
وروي عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم -
" خمس لا يَعْلَمهِن إلا اللّه ، وذكر الآية التي في آخر سورة لقمان.
(إِنَّ اللّه عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ).
وهذا هو دخول في علم اللّه الذي هو غيب ، وهو حرام كالأزلام التي
ذكرها اللّه جلٌ وعز أنها حرام.
والاستقسام بالأزلام فسْق . والفِسْق اسم لِكُل ما أعلم اللّه أنه مُخْرِج
عن الحلال إِلى الحرام ، فقد ذَم اللّه به جميعَ الخارجين مِن متَعَبَّداته وأصله
عند أهْلِ اللغة قد فَسقَتِ الرَطَبَة إذَا خَرَجَتْ عَنْ قِشْرها.
ولو كان بَعض هذه المَرْفوعَاتِ نَصْباً على لجاز في غير القرآن.
لو قلتَ حرمَتْ على الناس الميتَةُ والدمَ ولحمَ الخنزير ، وتحمله على مَعْنَى
وحَرمَْ اللّه الدَمَ ولحمَ الخِنْزِير لجاز ذلك ، فأمَّا القرآن فخطأ فيه أن نقْرأ بما لم
يَقْرأ به مَنْ هو قُدْوةٌ في القِراءَةِ ، لأن القراءَة سنة لا تتَجاوَز.
و (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ).
"اليومَ " منصوب عَلى الظرف ، وَلَيْسَ يُرادُ به - واللّه أعلم - يوماً بعَيْنه .
معناه الآنَ يئِس الذين كفروا من دينكم ، وهذا كما تقول أنا اليومَ قَدْ كَبرْتُ.
وهذا الشأن لا يصلح في اليوم . تريد أنا الآن ، وفي هذا الزمان ومعناه : أن قد حَوَّل اللّه الخَوفَ الذي كاد يلحقكم منهم اليوم ويئِسُوا مِنْ بُطْلان الإِسْلَام
وجاءَكمْ مَا كُنتم توعدون من (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ).
والدِّينُ اسم لجميع ما تعَبَّدَ اللّه خلقَهُ ، وأمرهم بالإِقامة عليْه ، والذِي به يُجزون ، والذي أمرهم أن يكون عادَتَهم.
وقد بينَّا ذلك في (مَالِكِ يَوْمِ الدينِ).
و (فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ).
أي فليكن خوفكم للّه وحده ، فقد أمنْتُم أن يَظْهَرَ دين على الِإسلام
وكذلك - واللّه أعلم -.
(اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لكُمْ دينَكُمْ).
أي الآن أكملْت لكم الدين بأن كَفَيتكم خَوف عَدوكم وأظهرتكم
عليهم ، كما تقول : الآن كَمُلَ لَنَا الملكُ وكملَ لَنَا ما نريد ، بأن كفينا مَنْ كنا نَخافه.
وقد قيل أيضاً : (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لكُمْ دينَكُمْ) أي أكملت لكم فَرْض ما
تحتاجون إِليه في دينكم . وذلك جائز حسن ، فأَما أن يكون دين اللّه في وقت من الأوقات غيرَ كامل فلا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ).
أي فمن دَعته الضرورة في مجاعة ، لأن َ المخمصَةَ شدةُ ضمور
البطنِ.
(غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ).
أي غير مائِل إِلى إِثم.
(فَإِنَ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٍ).
أي فإِن اللّه أباحه ذلك رحمة منه وتسهيلاً على خلقه ، وكذلك فَمَنِ
اضْطر غَير بَاغٍ وَلَا عَادٍ ، أي غير آكل لها على جهة الاستحلال وَلا عَاد : أي مجاوزِ لقدر الحاجة ، وغير آكل لها على جهة التلذذ فإِن اللّه غَفُورٌ رحيم.
* * *
و (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّه فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّه عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللّه إِنَّ اللّه سَرِيعُ الْحِسَابِ (٤)
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ)
موضع " ما " رفع ، إِن شئت جَعلتها وحدها اسما ، ويكون خبرها
(ذا). ويكون أحل من صلة ما ، والتأويل : يسألونك أي شيءٍ أحِل لهم.
وجائز أن تكون " ما " ، و " ذا " ، اسماً واحداً ، وهي أيضاً رَفْعُ بالابتداءِ والتأويل على هذا : يسألونك أي شيءٍ أحِل لهُم ، وأحل لهم خبر الابتداءِ.
(قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ).
فالطيبات كل شيءٍ لم يأت تَحريمه في كتاب ولا سنة ، والكلام يدل
على أنهم سألوا عن الصيْدِ فيما سألوا عنه ، ولكن حُذِفَ ذكرُ صيدِ " مَا
عَلًمْتُمْ). . لأن في الكلام دليلاً عليه ، كما قال : (واسأل الْقَرْيَةَ).
واسأل أهل القرية.
" و (مُكَلِّبِينَ).
أي في هذه الحال يقال رجل مُكلِّب ، وكَلَّاب ، أي صاحب صيد
بالكلاب ، وفي هذا دليل أن لحم صيد الكلب الذي لم يُعلَّم حرام إِذا لم
تُدْرَك ذَكاتُه ، فإِذا أرسَل المرسلُ كلب الصيْدِ فصادَ فقَتَل صَيْدَه ، وقد ذكر الصائدُ اسم اللّه على الصيد فهوحلال بلا اختلاف بين الناس في ذلك .
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَكُلْوا مِمَّا أمْسَكْنَ عَلَيكمْ).
فاختلف الفقهاء فيه إِذا أكل من الصيدِ ، فقال بعضهم يْؤكل (منه) وإِن
أكل منه . وكل ذلك في اللغة غير مُمتنع لأنه قدْ يُمْسك الصيد إِذا قَتَله ولم
يأكل منه ، وقد يمسَكُ وقد أكل منه.
ومعنى : (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّه).
أي تؤدبونَهنَّ أنْ يمسِكنَ الصيدَ عليكمِ ، فإِنْ غَابَ الصيْد فماتَ فإِنه
غير ممْسَك . وفي الحديث : " كُلْ ما أَصْمَيْت ودع ما أَنْمَيْت).
ومعنى كل مَا أصْميْت أي إن صِدْتَ صيداً بكلبِ غيرِه فمات وأنْت تَرَاه ماتَ بصَيْدك فهو ما أصْمَيتَ ، وأصل الصمَيَان في اللَغة السرعةً والخِفة.
فالمعنى : كلْ ما أصمَيتَ أي ما قتلته بصَيْدِك وأنت تراه أسرع في
الموت ، فرأيته وعلمت - لا محالة - إنَّه مات بصيدك ، ومعنى ما أنميت ، أي
ما غاب عنك فمات ولم تره ، فلست تدري أمات بصيدك أم عَرَضَ له عَارضٌ آخَر فقتله ، يقَال نمتِ الرَّمِيةً إِذا مضتْ والسهم فيها ، وأنميت الرميةَ إذَا رَميتُها فمضت والسهم فيها.
قال امرؤ القيس :
فهْو لا تَنْمِي رَمِيَّته . . . ما له لا عُدَّ مِنْ نَفَرِه
وقال الحَرِث بن وعْلَة الشَيْبَانِي : (
قالت سليمى قد غَنيتَ فتًى . . . فالآن لا تصمِي ولا تَنْمِي
وقوله جلَّ وعز : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٥)
(وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ)
أي ذبائح أهل الكتاب حل لكم ، وقد أجمع المسلمون أن ذبائحَ أهلِ
الكتاب حلال للمسلمين ، واختلفوا فيما سواها من الأطعمة ، والذبائح هى من الأطعمة ، فالظاهر - واللّه أعلم - أن جميع طعامهم حلال كالذبائح.
(وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ).
تأويله حل لكم أن تطعموهم ، لأن الحلال والحرام والفرائض بعد عقد
التوحيد ، إنما يعقد على أهل الشريعة والملة ، فأما الكفَارُ فالواجِب فيهم
القتلِ إِلَّا مَنْ أدَّى الجِزْيةَ مِنْ أهِل الكِتَابِ.
و (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)
أي وأحلَّ لكم المحصنات وهن العفائف وقيل الحرائر ، والكتاب يدل
على أن الأمَةَ إِذا كانت غيرَ مؤْمِنَةٍ لم يجز التزويج بها ، ل (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّه أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ).
فإِذا آتيتموهُنَّ أيإِذا أعطيتموهن الأجر على جهة التزويج لا على جهة
السِّفَاح وهو الزنَا.
و (وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ).
وهن الصديقات والأصدقاء ، فحرم اللّه عَز وجل الجماع على جهة
السفاح ، على جهة اتخاذ الصدِيقة ، وأحلَّة على جهة الإِحصَانِ ، وهو
التزويج ، على ما عليه جماعة العلماءِ.
و (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)
أي من بدل شيئاً مما أحَل اللّه فجعله حَراماً ، أحَل شيئاً مما حَرمَ اللّه
فهو كَافِرٌ بإجماعٍ ، وقد حَبِط عَمَلُهُ أي حَبِطَ جميع ما تَقَرب بِه إِلى اللّه جَل
ثَناؤه ، ومن غير ذلك.
* * *
و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى عَلَى سَفَرٍ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللّه لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)
إِذا أردتم القيام إِلى الصلاة ، وإِنما جاز ذلك لأن في الكلام
والاستعمال دليلًا على معنى الِإرادة ، ومثل ذلك قول اللّه عزَّ وجلَّ (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّه مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٩٨).
إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ باللّه من الشيطان الرجيم.
و (وأرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ).
القراءَة بالنصب ، وقد قرِئت بالخفض ، وكلا الوجهين جائز في العربية
فمن قَرَأ بالنصب فالمعنى : فاغسلوا وُجُوهَكُم وَأيديَكم إِلى المرافق وأرجُلَكم
إِلى الكعبين ، وامسحوا برؤُوسكم على التقْديم والتأْخير والواو جائز فيها ذلك كما قال جلَّ وعزَّ : (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣).
والمعنى واركعي واسجدي لأن الركوع قبل السجود ، ومن
قرأ : وَأرجُلِكم - بالجر عطف على الرؤوس.
وقال بعضهم نزل جبريل بالمسح ، والسنة في الغَسل.
وقال بعض أهل اللغة هو جَر على الجِوَارِ ، فأما الخفض على الجوار فلا يكون في كلمات اللّه ، ولكن المسح على هذا التحديد في القرآن كالغُسل لأن (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) ، فذكر الحدَّ في الغسل لليد إِلى المرافق ، ولليد من أطراف الأصابع إلى الكتفِ ، ففرض علينا أن نغسل بعض اليد من أطراف الأصابع إِلى المرفق ، فالمرفق منقَطِع مما لا يُغْسَل ودخل فيما يُغْسَل.
وقد قال بعض أهل اللغة معناهُ مع المرافق ، واليَدُ المرفق داخل فيها ، فلو كان اغسلوا أيديَكم مع المرفَق ، لم تكن في المرافق فَائِدة وكانت اليد كلها يجب أن تغسل ، ولكنه لما قيل إلى المرافق اقتطعت في الغسل من حَد المِرفق ، والمِرفَق في اللغة ما جاوز الإِبرة وهو المكان الذي يُرتَفَقُ به ، أي يتكأ عليه على المرفقة وغيرها.
فالمرافق حَد ما ينتهَي إِليه في الغسْل منها ، وليس يحتاج
إلى تأويل (مع).
ولما حدَّ في الرِّجْلِ إِلى الكعْبين ، والرِّجْل من أصل الفخذ إِلى القَدَم
عُلمَ أن الغُسْلَ من أطراف الأصابع إِلى الكعبين ، والكعبان هما العظمان
الناتئان في آخر الساق مع القدم ، وكل مِفْصَل من العظام فهو كعب ، إِلا أن
هذين الكعبين ظاهران عن يَمْنَة فوق القدم وَيسْرَتِه ، فلذلك لم يحتج إلى أن
يقال الكعبان اللذان صِفَتهما كذا وكذا.
فالدَّلِيل على أن الغسل هو الواجب في الرجل ، والدليل على أن
المَسْحَ على الرجل لا يجوز هو تحديد إِلى الكعبين كما جاءَ في تحديد
اليد إِلى المرافق ، ولم يجئْ في شيء في المسح تحديد ، قال فامسحوا
برؤوسكم بغير تحديد في القرآن وكذلك
(فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ)
ويجوز وأرجُلِكم بالجر على معنى واغسلوا ، لأن قوله إِلى الكعبين قد دل على
ذلك كما وصفنا ، وينسق بالغسل على المسح
كما قال الشاعر :
يا ليت بعلك قد غدا . . . متقلداً سيفاً ورمحا
متقلداً سيفاً وحاملاً رمحاً.
وكذلك قال الآخر :
علفْتها تبناً وماءً بارداً
وسقيتها ماءً بارداً.
و (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا).
يقال للواحد رجل جُنُبٍ ، ورجُلان جُنُبٌ ، وقوم جُنُب وامراة جُنب ، كما
يقال رَجُلٌ رِضًى وقوم رضًى وإِنما هو على تأويل ذَووا أجنُبٍ ، لأنه مصدر.
والمصدر يقوم مقام ما أضيف إِليه ، ومن العرب من يُثَنِّي ويَجْمَعُ ويجعل
المصدر بمنزلة اسم الفاعل ، وإِذا جمع جنب ، قلت في الرِّجال جُنبون ، وفي
النساءِ جُنُبات ، وللاثنين جُنبان.
و (فَاطَّهَّرُوا).
معناه فتطهروا ، إِلا أن التاءَ تدغم في الطاءِ لأنهما من مكان واحد.
وهما مع الدال من طرف اللسان ، وأصول الثنايا العليا ، فإِذا أدغمت التاء في الطاءِ . سقط أول الكلمة فزيد فيها ألف الوصل ، فابتدأت فقلت اطهروا.
وبين عزَّ وجلَّ ما طهارة الجنب في سورة النساءِ بالغسل فقال :
(وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا).
والغائط - كناية عن مكان الحَدَثِ ، والغِيطَان ما انخفض من الأرض.
و عزَّ وجلَّ : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا).
أي اقصدوا ، وقد بيَّنَّا الصعيد في سورة النساءِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَا يُرِيدُ اللّه لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ).
أي من ضيق.
(وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ).
واللام دخلت لتبيّنَ الِإرادة.
إِرادته ليطهركم.
قال الشاعر :
أرِيدُ لأنْسى ذكرها فكأنَّمَا . . . تَمثَلُ لي ليلَى بكُل سَبِيل
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للّه شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللّه إِنَّ اللّه خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٨)
(قَوَّامِينَ للّه شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ)
أي بالعدل .
(شهَدَاءَ).
أي مُبَينين عن دين اللّه لأن الشاهد يبيِّن ما شهد عليه.
و (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا).
فشنآن قوم معناه بُغْضٍ قوم.
أي : لا يحملنكم بغضكم المشركين على ترك العدل.
ومن قال شنآن قوم ، فمعناه بُغْضُ قوم ، ويقال : أجرَمَني كذا
وكذا ، وجَرَمَنِي ، وجرمني ، وأجرَمتً بمعنى واحد.
وقد قيل لا يَجْرِمَنَّكُمْ : لا يُدخِلَنَّكم في الجُرم كما تقول آثمته أي أدخلته في الِإثم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَعَدَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩)
هذا تمام الكلام ، يقال وعدت الرجل تريد وعدته خيراً ، وأوعَدتُ
الرجُلَ تريد أوعَدتُه شرا ، وَإِذَا ذكرت الموعود قُلْتَ فيهما جميعاً واعَدتُه . وإِذَا لم تذكر الموعود قلت في الخير وعدته وفي الشر أوعدتُه.
فقال عزَّ وجلَّ : (وَعَدَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ، فدل على الخير ، ثم بين ذلك الخير فقال :
(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أَي تغْطِية على ذنوبهم.
(وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) جزاء على إِيمانهم.
* * *
و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللّه وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)
يُرْوى في التفسير أَن بني قُرَيظة وبني النَضِير كانوا عاهدوا النبي - صلى اللّه عليه وسلم - على تَرك القِتَال وعلى أَنْ يُعينهم في دِيَاتِهم ويُعينُوه في ديات المسلمين ، فأصِيبَ رَجُلان من المسلمين فقال النبي - صلى اللّه عليه وسلم - لهم في دياتهما ، فَوَعَدُوه
لِوَقْتٍ يصير إليهم فيه ، فصار النبي هو وأبو بكر وعمرُ وعليٌّ ، فلما صاروا
إِليهم هموا بالغدرِ وأن يَقْتًلوا النبي - صلى اللّه عليه وسلم - ومن معه ، فأوحى اللّه إِليه وأعلمه ما عزموا عليه ، فخرجوا من المكان الذي كانوا فيه ، فأعلمهم إليهود أن قُدُورَهم تغلي ، فأعلمهم - صلى اللّه عليه وسلم - أنَّه قد نزل عليه الوحي بما عزموا عليه.
وهذه من الآيات التي تدل على نبوته.
وقيل إِن هذا مردود على (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ)
أي قَد أُعطِيتُم الظفَر عليهم ، فقال :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ).
وكلا الوجهين - واللّه أعلم - جائز ، لأن اللّه جل ثناؤه قد أظهر الِإسلام
على سائر الأديان.
* * *
و (وَلَقَدْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّه إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّه قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١٢)
أي أخذ اللّه منهم الميثاق على توحيده والإِيمان برسله.
(وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا).
النقيب في اللغة كالأمير ، والكفيل ، ونحن نُبَينُ حقيقَتَه واشتقاقه إِن شاءَ
اللّه.
يقال : نَقَبَ الرجل على القوم يَنْقبُ إذا صار نَقيباً عليهم ، وما كان
الرجل نقيباً ، ولقد نقبَ ، وصناعته النقابة وكذلك عَرَفَ عَليْهم إذَا صار عريفاً ،
ولقد عَرفَ ، ويقال لأول ما يبدو من الجرب النُّقْبة ، وُيجْمَعُ : النُّقُب.
قال الشاعر :
مُتَبَذِّلاً تَبدُو مَحاسِنُه . . . يَضَعُ الهِناءَ مواضِعَ النُّقْبِ
والنُّقْبَة وجمعُها نُقُب سراويل تلبسه المرأة بلا رجلين ، ويقال فلانة حسنة
النُّقْبة والنُّقَابِ ، ويقال في فلان مناقب جميلة ، وهو حسن النقِيبَة ، أي حسن
الخليقة ، ويقال كَلْبٌ نقِيبٌ ، وهو أن تُنْقَبَ حَنْجَرَةُ الكلْب لئلا يرتفع صوته في نُباحِه ، وإِنما يفعل ذلك البخلاءُ من العرب لئلا يطرقهم ضيف بسماع نُبَاح الكلاب.
وهذا الباب كله يجمعه التأْثير الذي له عمق ودخول ، فمن ذلك نقبتُ
الحائط ، أي بلغت في الثقب آخره ، ومن ذلك النقبة من الجَرَبِ لأنه داء
شديد الدخول ، والدليل على ذلك أن البعيرَ يُطْلَى بالهَنَاءِ فيوجد طعم القطران
في لحمه . ، والنُّقْبَةُ هذه السراويل التي لا رِجَلَينِ لها ، قد بُولغ في فتحها
ونَقْبِها ، وَنقاب المرأة وهو ما ظهر من تَلَثُّمِها من العينين والمَحَاجر ، والنَّقَبُ
والنُّقْب الطريق في الجبل ، وإِنما قيل نقيب لأنه يعلم دخيلة أمر القوم ويعرف
مناقبهم ، وهو الطريق إِلى معرفة أمورهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ).
قال أبو عبيدة : (عَزَّرْتُمُوهُمْ) عظمتموهم . قال غيره : عزرتموهم :
نَصَرْتموهم . وهذا هو الحق - واللّه أعلم - وذلك أن العَزْر في اللغة الرَّدُّ.
وتأْويل عزَّرْت فلاناً - أي أدَّبْتُه - فعلت به ما يَرْدَعُه عن القبيح كما أن نَكَّلتُ به ، فعلت به ما يجب أن ينكل معه عن المعاوَدَةِ ، فتأويل (عَزَّرْتُمُوهُمْ) نصرتوهم بأن تردوا عنهم أعداءَهم.
وقال اللّه عزَّ وجلَّ (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ)
فلو كان التعزير هو التوقير لكان الأجود في اللغة الاستعانة والنصرة إِذا وجبت ، فالتعظيم داخل فيها ، لأن نصرة الأنبياءِ هي المدافعة عنهم والذَبُّ عن دَمِهِم وتعظيمهم وتوقيرهم.
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ).
أي فقد ضل قصد السبيل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣)
(فَبِمَا نَقْضِهِمْ)
" ما " لغو ، : فبنقضهم ميثاقهم ، ومعنى " ما " الملغاة في العمل
توكيد القِصةِ.
(لَعَنَّاهُمْ) أي باعَدْنَاهم من الرَّحمةِ ، وجعلنا قلوبهم قاسية أي يابسةً ،
يقال للرجل الرحيم : لَيْنُ القلب ، وللرجل غير الرحيم : قاسي القلب ويابس القلب ، والقاسي في اللغة ، والقاسِح - بالحاءِ - : الشديد الصلابة.
و (يًحَرفونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِط).
الكلم جمع كلمة ، وتأويل يحرفون ؛ يُغيرونه على غير ما أنزل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ).
معنى نسوا : تركوا نصيباً مما ذكروا به.
و (وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ).
خائنة في معنى خيانة ، : لا تزال تطلع على خيانة منهم ، وفاعلة
في أسماءِ المصادر كثيرة ، نحو عافاه اللّه عافية ، و (فَأُهْلِكوا بِالطَّاغِيَةِ) ، وقد يقال رجل خائنة.
قال الشاعِر :
حَدَّثتَ نفسك بالوفاءِ ولم تَكُنْ . . .لِلغَدرِ خَائنةٌ مُغِلَّ الِإصبَع
قال خائنة على المبالغة لأنه يخاطب رجلاً ، يقول : لا تحملن فتغلل
اصبعك في المتاع فتدخلها للخيانة ، (ومُغِل يَدَك مِنْ خَائِنَةٍ)
ويجوز أن يكون - واللّه أعلم - على خائنة أن على فِرْقَةٍ خائنة.
و (إِلا قَليلاً مِنْهُمْ).
مَنصُوبٌ بالاستثناءِ.
و (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّه بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)
(فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)
يُعنَى به النصارى ، وَيعْنِي أغريْنَا ألصقْنَا بهم ذلك ، يقال : غريتُ بالرجل غَرىً - مَقْصُورٌ - إِذَا لصِقتَ بِه ، وهذا قول الأصمعي
وقال غيرُ الأصْمَعِي : غَرِيتُ به غَرَاءً ، وهو الغِرَاءُ الذي يُغْرَّى إِنما تلصق به الأشياءُ ، وتأويل (أغرَينا بينهم العداوة والبغضاءَ) أنَّهمْ صَارُوا فِرقاً يُكفِّر بعضهم بَعضاً ، مِنهُم النَسْطُوريةُ ، واليَعْقُوبيةُ والمَلْكَانِيَّةَ ، وهم الرُوم ، فكل فرقة مِنهم تعادي الأخرى.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللّه نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (١٥)
(قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللّه نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ).
النور هو : محمدٌ - صلى اللّه عليه وسلم - والهدى النور هو الذي يبين الأشياءَ ، وُيرى الأبْصَارَ حقيقتَها ، فمثل ما أتى به النبي - صلى اللّه عليه وسلم - في القلوب في بيانه وكشفه الظلمات كمثل النور.
* * *
(يَهْدِي بِهِ اللّه مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يَهْدِي بِهِ اللّه مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)
(يَهْدِي بِهِ اللّه مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ).
ورُضوانه - بالكسر والضم.
(سُبُلَ السَّلَامِ).
جميع سبيل ، والسُبُل : الطُرُق ، فجائز أن يكون - واللّه أعلم - طرق
السلام أي طرق السلَامَةِ التي من ملكها سلم في دينه ، وجائز أن يكون
- واللّه أَعلم - سبل السلام ، طرق اللّه ، والسلام اسم من أسماءِ اللّه .
و (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)
(عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ).
أي : على انقطاع ، لأن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - بُعث بعد انقطاع الرسل لأن الرسل كانت إِلى وقت رفع عيسى تَتْرى ، أي متواترة ، يجيءُ بعضها في إثر بعض.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ).
قال بعضهم معناه أنْ لَا تقولوا ما جاءَنا من بشير ، أي بعث اللّه
النبي - صلى اللّه عليه وسلم - لئلا تقولوا ما جاءَنا من بشير.
ومثله قوله عزَّ وجلَّ : (يُبَين اللّه لَكُمْ أن تَضِلوا) معناه أن لا تضلوا.
وقال بعضهم : أن تقولوا : معناه كَراهَةَ أن تَقُولوا.
وحذفت كراهة ، كما قال جلَّ وعزَّ : (وَاسْألِ الْقَرْيةَ).
معناه : سَلْ أهلَ القَرْيَةِ.
وقد استقْصَيْنا شرح هذا في آخر سورة النساءِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (٢٠)
(وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا).
مثل جعلكم تملكون أمركم لا يَغْلبكم عليه غالب.
وقال بعضهم : جعلكم ذَوي مَنازِل لا يُدْخَل عليكم فيها إِلَّا بِإِذْن.
والمعنى راجع إِلى ملك الأمر.
و (وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ).
وهو أن اللّه - جلَّ وعزَّ - أنزَلَ علَيْهِم المَنَّ والسَّلْوَى ، وظلَّلَ عَلَيْهم
الغمام.
* * *
و (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّه لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (٢١)
المقدسة : المطهَّرة ، وقيل في التفسير إنها دمشق ، وفلسطين ، وبعض
الأردن وبيت المَقْدِسِ ، وإِنما سمِّي بالمَقْدِس لأن المَقْدِس : المكان الذي
يتطهر فيه . فتأويله البيت الذي يُطَهَرُ الِإنسان من العيوب ، ومن هذا قيل :
القدس ، أي الذي يتطهر منه ، كما قيل : مَطْهَرة لما يُتَوضأ مِنْه ، إنما
هي مَفْعَلَةً من الطهر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (٢٢)
تأويل الجبار من الآدميين : العاتي الذي يَجْبرُ النَّاسَ عَلَى مَا يُريدُ ، واللّه
- عزَّ وجلَّ - الجبار العَزِيزُ ، وهو الممتنع من أن يُزَلَّ ، واللّه عزَّ وجلَّ يأمر بما أراد ، لا رَادَّ لأمْرِه ، ولا مُعَقَبَ لحُكْمِه.
وإِنَّمَا وَصَفوهم بالقُدرَةِ والتكبُّر ، والمَنَعةِ.
و (قوماً) منصوب بـ أن ، و (جبارين) من صفتهم ، والخَبرُ (فيها).
* * *
وقوله (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّه فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣)
أي أنعَمَ اللّه عليهما بالِإيما أن.
(آدْخُفوا عَلَيهِم البَابَ).
فكأنَّهما عِلِمَا أن ذَلِك البابَ إِذا دُخِلَ منه وقع الغَلبُ.
* * *
و (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (٢٤)
أي لسْنَا نقْبل مَشُورَةً في دُخُوولها ، ولا أمراً ، وفيها هُؤلاءِ الجبارون ، فأعلم
اللّه جلَّ ثناؤه أن أهل الكتاب هؤلاءِ غير قابلين من الأنبياءِ قَبْلَ النبي - صلى اللّه عليه وسلم - ، وأن الخلافَ شأْنُهم.
وفي هذا الِإعلام دليل على تصحيح نبوة النبي - صلى اللّه عليه وسلم - لأنه أعلمهم
ما لا يُعْلَمُ إِلا من قراءَة كتاب إِخْبارٍ ، وَحْي ، والنبي - صلى اللّه عليه وسلم - منشؤه معروف بالخُلوِّ من ذكر أقاصيص بني إِسرائيل ، وبحيث لا يقرأ كتبَهُمْ ، فلم يبق في علم ذلك إِلا الوحي.
و (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا).
كلام العرب : اذهب أنت وزيد ، والنحويون يستقبحون اذهب وزيد.
لأنه لا يعطف بالاسم الظاهر على المضمر ، والمضمر في النية لا علامة
له ، فكان الاسم يصير معطوفاً على ما هو متصل بالفعل غير مفارق له.
فأمَّا (فَأجْمِعُوا أمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ) فمن رفع فإِنما يجوز ذلك
لأن المفعول يقوي الكلام ، وكذلك ضربْتُ زيداً وعمرٌو . كما يقوي الكلام
دُخولُ لا ، قال اللّه جل ثناؤه : (لَوْ شَاءَ اللّه مَا أشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا).
* * *
و (قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٢٥)
(أَخِي) في موضع رفع ، وجائز أن يكون في موضع نصبٍ.
: قال ربي إِني لا أملك إِلا نفسي ، وأخي أيضاً لا يملك إِلا
نفسه ، ورفعه من جهتين إِحداهما : أن يكون نَسَقاً على موضع إِنَي.
أَنا لا أملك إِلا نفسي وأخي كذلك.
ومثله (أَنَّ اللّه بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) وجائز أن يكون عطفاً على " ما " في قوله أملك
فالمعنى أنا لا أملك أنا وأخي إِلًا أنفسنا ، وجائز أن يكون أخي في موضع نصب من جهتين
إِحداهما : أن يكون نسقاً على الياء في إِني.
إني وأخي لا نملك إِلا أنفسنا ، وإني لا أملك إِلا نفسي.
وأن أخي لا يملك إلا نفسه ، وجائز أن يكون معطوفاً على نفسي ، فيكون لا أملك إِلا نفسي ، ولا أملك إِلا أخي ، لأن أخاه إِذا كان مطيعاً له فهو ملك طاعته.
و (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أنْبِياءَ).
لا يصرف (أنبياء) لأنه مبني على ألف التأنيث ، وهو غير مصروف في
المعرفة والنكرة لأن فيه علامة التأنيث ، وهي مع أنَّها علامة التأنيث مبنية مع
الاسم على غير خروج التأنيث عن التذكير نحو قائم ، وقائمة.
و (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٢٦)
يعني أن الأرض المقدسة محرَّمٌ عليهم دخولُها أيهم ممنوعون من
ذلك ، قال بعض النحويين : أربَعينَ سَنَةً يجوز أن تكون
منصوبة بقوله (مُحَرَّمَةٌ).
ويجوز أن يكون منصوباً بقوله (يَتِيهُونَ) ، أما نصبه ب (مُحَرَّمَةٌ) فخطأ ، لأن التفسير جاءَ بأنها محرمة عليهم أبداً.
فنصب أربعين سنة بقولهم (يتيهون).
وقيل عذبهم اللّه بأن مكثوا في التيه أربعين سنة سَيارَةً لا يقِرهُمْ قَرار إِلى أن مات البالغون الذين عصوا اللّه ونشأ الصغار ووُلدَ مَنْ لم يدخل في جملتهم في المعصية ، وقيل إن موسى وهارون كانا معهم في التَيهِ.
قال بعضُهم لم يكن موسى وهارون في التَيه لأن التَيه عذاب ، والأنبياءً لا يعذبون.
وجائز أن يكون
كانَا في التَيه وأن اللّه جل اسمه سَهّل عليْهما ذلك كما سهَّل على إبراهيم النار
فجعلها عليه بَرداً وَسَلاماً وشأنها الإِحراق.
و (فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ).
جائز أن يكون هذا خطاباً لموسى ، وجائز أن يكون خطاباً لمحمد - صلى اللّه عليه وسلم - أي لا تحزن على قوم لم يزل شأنهم المعاصي ومخالفة الرسل.
* * *
و (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّه مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧)
قيلَ كانا رجلين من بني إسرائيل لأن القُرْبانَ كان تأكله النار فى زمن
بني إسرائيل ، ومثل ذلك (إِنَّ اللّه عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ)
وقيل ابنا آدم لصلبه ، أحدهما هابيل والآخر قابيل ، فقربا قرباناً.
(فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ).
وكان الرجل إِذا قرب قُرباناً سجد وتَنْزِل النار فتأكل قربانه ، فذلك علامة
قبول القُرْبان ، فنزلت النار وأكلت قربان هابيل ، ولم تأْكل قربان قَابِيل.
فحسده قابيل وتوعده بالقتل فقال :
(لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّه مِنَ الْمُتَّقِينَ).
قال الذي لم يُتَقبَّلْ منه لاقتلنك ، وحذف ذكر الذي لم يتقبل
منه ، لأن في الكلام دليلاً عليه ، ومثل ذلك في الكلام إِذا رأيت الحاكم
والمظلوم كنت معه ، كنت مع المظلوم ، ويقال إِن السيف كان ممنوعاً
في ذلك الوقت كما كان حين كان النبي - صلى اللّه عليه وسلم - بمكة وكما كان ممنوعاً في زمن عيسى ، فقال :
(لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّه رَبَّ الْعَالَمِينَ (٢٨)
أي : ما أنا بمجازيك ولا مقَاتلكَ ، ولا قاتِلُكَ : (إِنِّي أَخَافُ اللّه رَبَّ الْعَالَمِينَ).
* * *
(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩)
أي أن ترجع إِلى اللّه بإثمي وإِثمك.
(فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ).
معنى بإِثمي : بإثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يُتَقَبًلْ قربانك أي
إِن قتلتني فأنا مريدٌ ذلك . وَذَلِكَ جزاءَ الظَّالِمِينَ.
* * *
(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٣٠)
(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ)
تَابَعَتْة.
وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ) فَغَلَتْ
من الطَوْع . والعرب تقول : طاع لهذه الظبية أصول هذه الشجرة ، وطاع له
كذا وكذا ، أي أتاه طوعاً.
و (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
أي مِمًن خَسِر حَسَناتِه.
وكان حين قتله سلَبه ثيابَه وتركه عَارِياً بالأرض
القفار.
* * *
(فَبَعَثَ اللّه غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)
قال بعضهم بعث اللّه غراباً يبحث على غراب آخر مَيت
(لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ).
وقيل بل أكرمه اللّه بأن بعث غراباً حثا عليه التراب ، (لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي).
(قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ).
يقال عَجَزْت عن الأمر أعْجِز عَجْزاً ومعْجَزةَ ومَعْجِزَةً ، فأما " يا وْيلَتَى "
فالوقف عليها في غير القرآن يا ويلتاه ، والنداءُ لغير الآدميين نحو (يا حسرة على البعاد) و (يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) ، وقال (يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ).
فإنما وقع في كلام العرب على تنبيه المخاطبين ، وأن الوقت الذي تدعى له
هذه الأشياءَ هو وقتها ، فالمعنى يا ويلتى تَعَالَيْ ، فإِنه من إِبَّانِك ، فإنه قد
لزمني الويل ، وكذلك يا عجباً ، يا أيها العجب هذا وقتك فعلى هذا
كلام العرب.
و (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)
الأجود أن يكون (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ).
يقال أجلْتُ الشيء أأجلَهُ أجلاً إِذَا جنيتُه قالَ خَوَّاتُ بن جبير :
وأَهلِ خباءٍ صالحٍ كُنتُ بينهم . . . قد احْتَرَبوا في عاجل أَنا آجله
أي أنا جَانِيه.
وتأويل الويل في اللغة قال سيبويه ، الويل كلمة تقال عند
الهلكة ، وقيل الوَيْلُ واد في جهنم ، وهذا غير خارج من مذاهب أهل اللغة.
لأن من وقع في ذلك فقد وقع في هلكة :
و (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ).
" فساد " معطوف على " نفس " ، بغير فسادٍ ، فكأنما قتل الناس جميعاً ،
أي المؤمنون كلهم خُصَماء القاتِلِ ، وقد وَتَرهم وتْرَ مَن قَصَد لِقَتلهم جميعاً.
(وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).
أي من استنقذها من غَرقٍ حَرقٍ هَدْمِ ، ما يُميت لا محالة ،
استنقذها من ضلالةٍ.
(فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).
أي أجره على اللّه أجرُ من أَحياهم أجمعين . وجائز أن يكون في
إِسدائه إِليهم المعروفَ بإحيائه أخاهم المْؤمِن بمنزلة من أحيا كلَّ واحد
منهم.
فإن قال قائل ، كيف يكون ثوابه ثوابَ من أحياهم جميعاً ؟
فالجواب في هذا كالجواب في قوله تعالى (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)
فالتأْويل أن الثواب الذي إِذا جعل للحسنة كان غاية مَا يُتَمَنَّى يُعطَى العاملُ لها عشرةَ أمثَالِه.
* * *
و (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّه وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا يُصَلَّبُوا تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٣٣)
موضع " أن " رفع : إِنما جزاؤهم القتل الصلب القطع
للأيدي والأرجل من خلاف ، لأن القائل إِذا قال : إِنما جزاؤك دينار.
فالمعنى ما جزاؤُك إِلا دينار.
ْوقولُ العلماءِ إنَّ هذه الآية نزلت في الكفار خاصة.
وروي في التفسير أن أبا بَرْزَة الأسْلَمِي كان عاهد النبي - صلى اللّه عليه وسلم - ألا يعرض لما يُريدُ النبي - صلى اللّه عليه وسلم -
بسوء ، وألا يمنع من ذلك ، وأن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - لا يمنع من يريد أبا بَرْزَةَ ، فمر قوم يريدون النبي بأبي بَرْزةَ ، فَعرَضَ أصحابه لهم فقتلوا وأخذوا المال فأنزل اللّه تعالى على نبيه وأتاه جبريل فأعلمه أنَّّ اللّه يأمره أن من أدركه منهم قَدْ قَتَلَ وأخذَ المالَ قَتَلَه وصَلَبه ، ومن قَتَل ولم يأخذ المال قَتَله ، ومن أخذ المال ولم يقتل قَطَع يدَة لأخذه المال وقطَع رجْلَه لِإخافة السبيل . . وقال بعضهم : المسلمون مخيرون في أمر المشركين ، إِن شاؤوا قتلوهم وصلبوهم قطعوا أيديَهم وأرجلَهم من خلاف.
ومعنى : (يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) فيه قولان.
قال بعضهم من قتله فَدَمُه هَدَرٌ أي لا يطالب قاتله بدمه.
وقيل : ( يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) أن يُقَاتَلُوا حَيْث تَوجهوا منها ، لا يترَكوا فارِين . يقال نفيت الشيءَ أنفِيه نَفْياً ونفَايَةً والنُّفَايَة ما يطرح ويُنْفَى ، القليل.
مثل البراية والنُّحَّاتَة.
و (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا).
يقال خَزِيِ الرجِل يَخْزَى خِزْياً إِذا افتضحَ وتَحيَّر فضِيحةً.
وقد خَزَى يَخْزِي خِزَاية ، إذَا استَحا كأنه يتحير أن يَفْعَلَ قبيحاً.
* * *
و (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)
جائز أن يكون موضع الذين رفعاً بالابتداءِ ، وخبره (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ).
غفور رحيم لهم ، : لكن التائبون من قبل القدرة عليهم.
فاللّه غفور رحيم لهم.
وجائز أن يكون (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ)
موضع " الذين " نصب ، فيكون جزاؤهم الذي وَصفَنَا إِلَّا التَائِبين.
ثم قال بعد : (أَنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ)
واللّه جلَّ وعزَّ ، جعل التوبةَ لك ، فادْرَأوا عنهم الحدود التي وجبت عليهم في كُفرهم ليكون ذلك أدعى إِلى الدخول في الِإسلام.
وجَعَل توبة المؤمنين من الزنا والقتل والسرقة لا ترفع عنهم إِقامة
الحدود عليهم ، وتدفع عنهم العذاب في الآخرة ، لأن في إِقامة الحدود
الصلاح للمؤمنين ، والحياةَ ، قال اللّه جل ثناؤه :
(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ).
* * *
و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥)
معناه اطلبوا إِليهِ القُرْبةَ.
(وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
أي لعلكم تظفرون بعَدُوكم ، والمُفْلح الفائز بما فيه غايةُ صلاح حاله.
* * *
و (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللّه وَاللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨)
اختلف النحويون في تفسير الرفع فيهما.
قال سيبويه وكثير من البصريين إِن هذا و (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ).
و (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا).
هذه الأشياء مرفوعة على معنى :
وفيما فَرض اللّه عليكم السارقُ والسارقة ، والزانِيَةُ والزانِي ، السارق
والسارقة فيما فرض اللّه عليكم.
ومعنى قولهمْ هذا : فيما فرض عليكم حكم السارق والسارقة.
وقال سيبويه : الاختيار في هذا النصبُ في العربيَّة.
كما تقول زيداً أضربْهُ ، وقال أبتِ العامَّةُ القراءَة إِلاَّ بالرَّفْع ، يعني بالعامة
الجماعةَ.
وقرأ عيسى ابن عمر : " وَالسَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ".
وكذلك الزانيةَ والزانيَ ، وهذه القِراءَةُ وإِن كان القارئ بها مقَدَّماً لا أحب أن يُقرأ بها ، لأن الجماعة أولى بالاتباع ، إذْ كانتِ القراءَة سنَة.
قال أبو إسحاق : ودلِيلِي أن القراءَةَ الجيدةَ بالرفع في . . والزَانيَةُ والزاني.
في ، (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) قوله جل ثناؤة : (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما).
وقال غير سيبويه من البصريين . وهو محمد بن يزيد المبرد : اختَارُ أن
يكون (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) رفعاً بالابتداءَ ، لأن القصد ليس إِلى واحدٍ بعينه.
فليس هو مثل قولك زيداً فأضربه ، إِنما هو كقولك : من سرق فاقطع يده.
ومن زنى فاجْلِدْه ، وهذا القول هو المختارُ ، وهو مذهب بعض البصريين
والكوفيين.
وقيل " أَيْدِيَهُمَا " يعْني به أَيْمانهُما
. وفي قراءَة ابن مسعود "والسَّارقون والسارقاتُ فاقْطَعُوا أَيْمانَهُمْ ."
قال بعض النحويين : إِنما جعلت تثنية ما في الإِنسان منه واحد ؛ لأنَّ أكثر
أَعضائه فيه منه اثنان فحمل ما كان فيه الواحد على مثل ذلك.
قال لأن للِإنسان عينين فإِذا ثنيت قلت عيونهما فجعلت قلوبكما وظهورهما في القرآن ، وكذلك أيديهما ، وهذا خطأ ، إِنما ينبغي أن يُفصل بين ما في الشيء منه واحد ، وبين ما في الشيء منه اثنان .
وقال قوم : إنَّمَا فَعلْنا ذلِك للفصل بين ما في الشيء منه واحد وبين ما
في الشيءُ منه اثنان فجعل ما في الشيء منه واحد تثنيته جمعاً نحو قول اللّه
عزَّ وجلَّ : (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللّه فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا).
قال أبو إسحاق : وحقيقة هذا الباب أن كل ما كان في الشيء منه واحد
لم يُثنَّ ، ولفِظَ به على لفظ الجمع ، لأن الِإضافة تُبينه ، فإِذا قُلْتَ أشْبَعت
بطونهما علم أن للاثنين بطنين فقط ، وأصل التثنية الجمعُ لأنك إِذا ثنيت
الواحدَ فقد جمعتَ واحداً إِلى واحِدٍ ، وكان الأصل أن يقال اثْنا رِجال ، ولكنْ " رجلان " يدل على جنس الشيء وعدده ، فالتثنية يحتاج إِليها للاختصار ، فإِذا لم يكن اختصار رُدَّ الشيءُ إِلى أصْله ، وأصلُهُ الجمع.
فإذا قلت قلوبهما فالتثنية في " هما " قد أغنتك عن تثنية قَلْب فصار الاختصار ههنا ترك تثنية قلب ، وإن ثني ما كان في الشيء منه واحد فذلك جائز عند النحويين.
قال الشاعر :
ظهراهما مثل ظهور الترسين.
فجاءَ بالتثنيةِ والجمع في بيت واحد.
وحكى سيبويه أنه قد يجمع المفرد والذي ليس من شيء إِذا أردت به التثنية.
وحُكِيَ عن العرب : " وَضَعَا رِحالهما " يريد رَحْلَيْ راحِلتِهما .
وأجمعت الفقهاء أن السارق يقطع حُرَّا كانَ عبداً ، وأن السارقة تقطع
حُرَّة كانت أمَة ، وأجمعوا أن القطع من الرسغ ، والرسغ المفصل بين الكف
والساعد ، ويقال رُسْغ ورُصْغ والشين أجود
(جَزَاءً بِمَا كَسَبَا).
(جَزَاءً) نصبٌ لأنه مفعول به.
فاقْطَعوا بجزاءِ فعلهم.
وكذلك (نَكَالًا مِنَ اللّه) ، وإِنْ شئتَ كانا منصوبين على المصدر الذي دل عليه فاقطعوا ، لأن معنى فاقطعوا جازوهم وَنكِّلُوا بهم.
* * *
وقوله جلَّ وعز : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللّه فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّه شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّه أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٤١)
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ)
إِن شئت قلت يَحْزُنُك وَيحزَنْكَ بالفتح والضم.
أي لا يحزنك مُسَارَعَتهُمْ في الكفر إِذ كنت موعوداً بالنصر عليهم.
واللّه أعلم.
و (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ).
أي لا تحزنك المسارعةُ في الكُفْر منَ المنَافِقين ومنَ الذِين هادُوا.
ثم قالَ : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ).
هذا تمام الكلام ، ورفع (سَمَّاعُونَ) من جهتين :
إحداهما هم (سَمَّاعُونَ) للكذب أي منافقون ، واليهود سماعون للكذب.
و (سَمَّاعُونَ) ، فيه وجهان - واللّه أعلم -
أحدهما أنَّهم مسمعُونَ لِلكَذِبِ ، أي قَابُلون للكَذب ، لأن الِإنسان يسمع
الحق والبَاطِلَ ، ولكن يقال : لا تسمع من فلان قوله أي لا تقبل قوله ، ومنه
" سَمِعَ اللّه لِمَنْ حَمِدَه " ، أَي تَقَبَّل اللّه حمده ، فتأويله أنهم يَقْبَلُونَ الكذِبَ.
والوجه الآخر في (سَمَّاعُونَ) أَن معناه أنهم يسمعون منك لِيَكذِبُوا عليك.
وذلك أَنهم إِذا جالسوه تهيأَ أن يقولوا سَمِعْنَا مِنْهُ كَذَا ، وكَذَا .
(سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ).
أي هم مستمعون منك لقوم آخرين " لَمْ يأتُوك " أي هم عُيُون لأولئكَ
الغُيَّبِ ويجوز أن يكون رفع " سماعون " على معنى ومن الذين هادوا
سماعون فيكون الِإخبار أن السَّماعين مِنهم ، ويرتفع منهم كما تقول : في
قومك عقلاءُ.
هذا مذهب الأخفش ، وزعم سيبويه أن هذا يرتفع بالابتداء.
و (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ)
أي من بعد أن وضَعه
اللّه موضِعَهُ أي فرض فروضَه ، وأحلَّ حلاله وحرًم حرامه
و (إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا).
(إِنْ أُوتِيتُمْ) هذا الحكمَ المحرَّفَ فخذوه.
(وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) أي احذروا إِن أفتاكم النبي - صلى اللّه عليه وسلم - بغير ما حدَّدْنَا لكم ، فاحذروا أن تَعْمَلوا به.
وكان السبب في هذا فيما رُوِيَ أن الزنَا كثُر في أشراف إليهودِ وخَيْبر.
وكان في التوراة أَن على المحصنين الرجم فزنى رجُل وامْراة ، فطمعت إليهودُ
أن يكون نزل على النبي - صلى اللّه عليه وسلم - الجلد في المحصنين ، وكانوا قد حَرَّفُوا وَصَارُوا يَجْلِدُون المحصنيْنِ وَيسُودُونَ وجُوهَهُمَا ، فأوحى اللّه جل ثناؤه أنَّهمْ يستفتونه في أمر هاتين المراتين ، وأعلَمَهُ أن اللّه يأمرهم عن أعلَمِهِمْ بالتوراة ، فأعلموه إنَّه ليس بحَاضِرٍ ، فقال النبي - صلى اللّه عليه وسلم - قَدْ علِمتُ ، وكان جبريل قد أعلمه مكانه فأمرهم أن يحضروه ، فأَحضروه ، وأَوحى اللّه إِلى نبيهِ أن يستحلفهم
ليصْدُقُنَّه ، فلما حَضَر عالِمُهم قال له النبي : أسالك بالذي أنزل التوراة على
موسى ، ورفع فوقكم الطور ، وفلق لكم البحرَ ، هل في التوراة أن يُرجمَ
المحصنان إِذا زَنَيَا ؟
قال : نَعَمْ . فوثب عليه سفلة إليهود ، فقال خفتُ إِن كذبْته
أن ينزل بنا عذابٌ.
ويقال إن الذي سأله النبي - صلى اللّه عليه وسلم - ابنُ صُورِيَا إليهودي ، وكان حديث السِّن ، فقال له النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أنت أعلم قومك بالتوراة ؟ قال : كذا يقولون.
وكان هو المخبر له بأن الرجم فيها ، وأنَّه ساءَل النبي - صلى اللّه عليه وسلم - عن أشياءَ كان يعرفها من أعلامه فلما أنبأه النبي - صلى اللّه عليه وسلم - بها قال أشهد أن لا إله إِلا اللّه وأنك رسول اللّه الأمي العربى الذي بشَّر به المرسلُونَ.
وهذا الذي ذكرناه من أمر الزانيين مشهور في روايةِ المفسرينِ وهو يُبَينَ
(إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا).
والقائل يقول ما تفسير هذا ، فلذلك شرحناه ، وباللّه الحول والقُوةُ.
و (وَمَنْ يُرِدِ اللّه فِتْنَتَهُ).
قيل فضيحته وقيل أيضاً كفره ، ويجوز أن يكون اختباره بما يظْهر به
أمره ، يقال فتنت الحديد إِذا أَحْمِيتُه ، وفتنت الرجل إِذا أزلته عما كان عليه ، ومنه (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) أي وإن كادوا
لَيُزِيلُونَكَ.
و (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّه أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ).
أي أن يُهينَهمُ.
(لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ).
قيل لهم في الدنيا فضيحة بما أظهر اللّه من كذبِهِمْ ، وقيل لهم في
الدنيا خزي بأخذ الجزية منهم ، وضرب الذَلةِ والمسكَنة عَلَيْهم ، ثم عاد
عزَّ وجل في وصفهم فقال :
(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢)
(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ)
ويقرأ (لِلسُّحُتِ) جميعاً ، تأويله أن الرشَا التي يأكلونها يعاقبهم اللّه بها أن
يُسْحِتَهمْ بعذَابِ ، كما قال جل وعز : (لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللّه كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ).
ومثل هذا (إنما يأكلون في بطونهم ناراً). أي يأكلون ما عاقبته
النار ، يقال سَحَته وأسْحَتَه إِذا استأصله ، وقال بعضهم سَحَتَه : اذْهَبَه قليلاً قليلاً إِلى أن استأْصله ومثل أسحته قول الفرزدق.
وعَضّ زمانٍ يا ابنَ مَرْوانَ لم يَدَعْ . . . من المالِ إِلاَّ مُسْحَتاً مُجَلَّفُ
ويجوز أن يكون سحتَه وأسْحتَهُ إِذا استأصله ، كان ذلك شيئاً بعد شيء.
كان دفعة واحدةً.
وقوله (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ).
أجمعت العلماء على أن هذه الآية تدل على أن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - مُخَيَّر بها في الحكم بين أهل الذَمَّةِ.
وقيل في بعض الأقاويل : إِن التخيير نسخ ب
(وأن احكم بينهم بما أنزل اللّه).
و (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ). أي العَدْل .
و (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللّه وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّه فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (٤٤)
أي فيها نور أي بيان أن أمْر رَسُول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - حق ، وفيها بيان الحكم الذي جاءوا يستفتون فيه النبي - صلى اللّه عليه وسلم - ، ويجوز أن يكون على التقديم والتأخير ، على معنى : إنا
أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا ، يحكم بها النبيون الذين أسلموا
والربانِيون ، ويجوز أن يكون " يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا.
أي يحكم النبي - صلى اللّه عليه وسلم - فيما سألوهُ بما في التَوْراة.
ويجوز أن يكون للذين هادوا للذين تابوا ، أي النبيون والربانيون هم العلماءُ والأحبار وهم العلماءُ الخُيارُ يحكمُون للتائبين مِن الكفر.
(بما استُحْفِظُوا مِنْ كتَابِ اللّه).
أي استُوعُوا.
و (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّه فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)
أي من زعم أن حكماً من أحكام اللّه التي أتَتْ بها الأنبياءُ عليهم
السلام باطل فهو كافر ، أجمعت الفقهاءَ أن من قال إِن المحصَنَين لا يجب أن
يرجما إذا زنيا وكانا حُرَّين - كافِرٌ ، وإنما كفر من رد حكماً من أَحكام النبي - صلى اللّه عليه وسلم - لأنه مكذِبٌ له ، ومن كذب النبي فهو كافر.
* * *
و (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّه فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)
أي في التوراةِ.
(أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ).
وروي أن النبي قرأ والعَينُ بالعَيْنِ والقراءة والعَيْنَ بالعَيْن
(وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ).
بالرفع والنصب جميعاً لا اختلاف بين أهل العربية في ذلك ، فَمَنْ قرأ
العَيْنَ بالعيْنِ أراد أن العيْنَ بالعَيْنِ ، ومن قرأ ، والعَيْنُ بالعين فَرفْعُهُ على
وجهين ، على العطف على موضع النفس بالنفس والعاملِ فيها.
وكتبنا عليهم النفسُ بالنَفِس ، أي قلنا لهم النفس بالنفس ، ويجوز كسر إن ، ولا أعلم أحداً قرأ بها فلا تقرأنَّ بها إِلا أن تثبت رواية صحيحة.
ويجوز أن تكون العينُ بالعَيْن ، ورفعُه على الاستئناف.
وفيها وجه آخر ، يجوز أن يكون عطفاً على المضمر في النفس ، لأن المضمر في النفس في موضع رفع.
أن النفس مأخوذة هي بالنفس ، والعَيْنُ معطوفة على هي.
و (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ)
قال بعضهم من تصدق به أي بحقه فهو كفارة للجارحِ إذا ترك
المجروحُ حقَهُ ، رفع القصاص عن الجارح.
وقال بعضهم هو كفارة للمجروح
أي يكفر اللّه عنه بعفوه ما سلف من ذنوبه.
* * *
و (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّه وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللّه لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨)
(وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)
رواها بعضهم ومهيمَناً - بفتح الميم الثانية - وهي عربية ولا أحب القراءَة
بها ، لأن الِإجماع في القراءَة على كسر الميم في (المؤمن المهيمِنُ).
واختلف الناس في تفسير (المؤمنُ المُهَيْمِنُ) ، واختلف الناس في
تفسير (وَمُهَيْمِناً عَلَيْه)
فقال بعضهم : معناه وشاهداً عليه ، وقال بعضهم رقيباً عليه ، وقال
بعضهم معناه مُؤتَمَناً عليه . وقال بعضهم : المهيمنُ اسم من أسماءِ اللّه في
الكتب القديمة ، وقال بعضهم : مُهيمِن في معنى مؤتمن إلا أن الهاءَ بدل من
الهمزة ، والأصْلُ مؤتمناً عليه كما قالوا : هَرَقْتُ الماءَ ، وأرقت الماءَ ، وكما
قالوا : إِياك وهياك ، وهذا قول أبي العباس محمد بن يزيد ، وهو على مذهب
العربية حَسَن ومُوافِق لِبعْضِ ما جاءَ في التفسير ، لأن معناه مؤتمن.
و (ولْيَحْكُمْ أهْلُ الإنْجِيلِ).
قرئت بإسكان اللام وجزم الميم على مذهب الأمر ، وقرئت ولِيَحْكمَ
بكسر اللام وفتح الميم على معنى ولأن يحكمَ ويجوز كسر اللام مع الجزم
وَلِيَحكُمْ أهل الإنجيل ، ولكنه لم يقرأ به فيما علمتُ ، والأصل كان كسر
اللام ، ولكن الكَسرَةَ حُذِفَت استثقالَاَ . والِإنجيل القراءَة فيه بكسر الهمزة.
ورويت عن الحسن الأنجيل بفتح الهمزة ، وهذه قولةٌ ضعيفة ، لأن أنجيل
أفعيل ، وليس في كلام العرب هذا المثال ، وإِنجيل إِفعِيلُ من النجل وهو
الأصل ، وللقائل أن يقول إِن إنجيل اسم أعجَمي فلا يُنْكَرُ أن يقع بفتح الهمزة
لأن كثيراً من الأسماء الأعجمية تخالف أمثلة العرب نحو آجرّ وإِبرَاهيم وهَابيل
وقابيل ، فلا ينكر أن يجيء إنجيل وإِنما كُرِهَتِ القراءَة بها لأن إِسنادها عن
الحسن لا أدري هل هو من ناحية يوثق بها أم لا.
* * *
و (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّه حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)
أي تطلب إليهود في حكم الزانيين حكماً لم يأَمر اللّه به وهو أهل
الكتاب كما تفعل الجاهلية.
و (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّه حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) .
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّه حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)
أي من أيْقَنَ تبيَّن عدلَ اللّه وحكمَهُ.
و (حُكْمًا) منصوب على التفسير.
* * *
و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١)
(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ).
أي من عاضدهم على المسلمين فإنه من عاضدَه.
* * *
و (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللّه أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (٥٢)
والمرض ههنا النفاق في الدِّين ، ومعنى يسارعون فيهم ، أي في
معاونتهم على المسلمين.
(يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ).
أي نخشى ألَّا يتم الأمر للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - ، ومعنى دائرة أي يدور الأمر عن حاله التي يكون عليها.
و (فَعَسَى اللّه أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ).
أي فعسى اللّه أن يُظْهِر الْمسلِمين.
و " عَسَى " من اللّه جلَّ وعزَّ واجبة.
وقوله عزَّ وجلَّ : ( أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) ، أي أن يؤمر النبي - صلى اللّه عليه وسلم - بإظهار أمر المنافعين بقتلهم.
(فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ).
* * *
و (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (٥٣)
أي يقول المؤمنون الذين باطنهم وظاهرهم واحد : هُؤلاءِ الذين حَلَفوا
وأكَدوا أيمَانَهم أنهم مْؤمِنُونَ وأنهم معكم أعوانكم على من خالفكم.
(حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ).
أي ذَهَب مَا أظْهروهُ مِنَ الإيمان ، وبطل كل خيرٍ عَمِلُوه بكفرهم وصَدهِم.
عن سبيل اللّه كما قال : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّه أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ).
ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت ، أي في وقتٍ يظهر اللّه
نفاقهم فيه.
* * *
و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّه بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤)
فيها من العربية ثلاثة أوجه ، مَنْ يَرتدِدْ ، ومن يَرْتَد بفتح الدال وَمَنْ يَرْتَد
مِنْكُم ، بكسر الدال . ولا يجوز في القراءَة الكسر لأنه لم يُرْوَ أنه قرئ به.
وأمَّا (مَنْ يَرتدِدْ) فهو الأصل ، لأن التضعيف إِذا سَكَنَ الثانِي من المضَعَفَيْنِ
ظَهرَ التضعيف ، نحو (إِنْ يمسَسكُم قرحٌ) ولو قرئت إن يمسكم
قرح كان صواباً ، ولكن لا تَقْرَأن بِهِ لمخالفتِه المصحفَ ، ولأن القراءَة سُنَّة.
وقد ثبت عن نافع وأهل الشام يرتدِدْ بدالَيْنِ ، وموضع يرتد جزم ، والأصل كما قُلْنَا يرتدد ، وأدغمت الدال الأولى في الثانية ، وحركت الثانية بالفتح لالتقاءِ السَّاكنين ، قال أبو عبيدٍ : إنهم كَرِهوا اجتماعَ حَرْفَيْن متحركين وأحسبه غلِطَ ، لأن اجتماع حرفين متحركين من جنس واحد أكثر في الكلام من أنْ يحصَى نحو شَرَرٍ وَمَددٍ ، وَقِدَدٍ ، وخدَدٍ ، والكسر في قوله من يرتَد يجوز لالتقاءِ السَّاكنين لأنه أصل.
والفاءُ جواب للجزاءَ ، أي إِن ارتد أحدٌ عن دينه ، أي الذي هو الِإيمان .
(فَسَوْفَ يَأْتِي اللّه بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ).
أي بقوم مؤمنين غير منافقين.
(أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).
أي جانبهم ليِّنٌ على المؤمنين ، ليس أنهم أذلاء مهَانون.
(أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ).
أي جانبهم غليظ على الكافرين.
و (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ).
لأن المنافقين كانوا يراقبون الكفارَ ويظَاهِرونَهم ، ويخَافونَ لَوْمَهُم.
فأعلم اللّه عزَّ وجلَّ أن الصحيحَ الإيمانِ لا يخاف في نصرة الدين بِيدِه ولا
لِسَانِه لَوْمَةَ لَائِم.
ثم أعلم اللّه عزَّ وجلَّ أن ذلك لا يكون إلا بتسديده
وتوفيقه فقال عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ فَضلُ اللّه يؤتيهِ مَنْ يَشَاءُ).
أي محبتهم للّه ولين جانبهم للمسلمين ، وشدتهم على الكافرين فضل
من اللّه عزَّ وجلَّ عليهم ، لا توفيق لهم إِلا به عزَّ وجلَّ.
* * *
و (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (٥٥)
بيَّن من هم المؤمنون فقال : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ).
وإِقامتها تمامها بجميع فَرْضِها ، وأولُ فروضها صحة الِإيمان بِها وهذا
كقولك : فلان قائم بِعِلْمِه الذِي وَليَه ، تأويله إنَّه يوَفَي العَمَلَ حقوقه ، ومعنى
" يُقِيمُونَ " من قولك هذا قِوام الأمر ، فأما (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). فمخفوض على نعتِ قوم ، وإن شئت كانت نصباً على وجهين أحدهما الحال ، على معنى يحبهم ويحبونة في حال تذللّهم على المؤمنين وتعززِهِم عَلى الكافرين ، ويجوز أن يكون نصباً على المدح.
* * *
فأما قوله عزَّ وجلَّ : (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ).
أي قفينا على آثَارِ الرسل بعيسَى أي جعلناه يقفوهم.
و (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ).
أي لما تَقَدًم من التوراة ، ونصب " مُصَدِّقًا " على الحال وهو جائز أن
يكون من صفَةِ الِإنجيل فهو منصوب ب " آتيناه "
. آتيناه الإنجيل مُستقِراً فيه هدًى ونورٌ ومصدقاً.
ويجُوزُ أن يكونَ حالًا من عيسى.
وآتيناه الإنجيل هَادِياً ومُصَدِّقًا ، لأنَّهُ إِذا قيل آتيناه الِإنجيل فيه هدى ، فالذي أتى بالهدى هو هادٍ والأحسَنُ أنْ يكونَ على معنى وقَفَيْنَا بِعِيسَى آتِياً بالِإنْجيل وهادياً ومصدقاً لما بين يديه من التوراة ، والدليل على أنه من صفة عيسى (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّه إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ).
* * *
و (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا).
قال بعضهم : الشَرعَةُ الدينُ والمنهاج الطريق ، وقيل : الشرعة والمنهاج
جميعاً الطريق ، والطريق ههنا الدين ، ولكن اللفظ إِذا اختلف أتِي مِنْهُ بألفاظ
تُؤَكدُ بِها القصة والأمر
نحو قول الشاعر :
حُيِّيتَ مِن طللٍ تقادم عهدُه . . . أقوى وأقفر بَعْدَ أمِّ الْهَيْثَم
فإِن معنى أقوى وأقفر يدل على الْخَلْوَةِ ، إِلا أن اللفظين أوكد في الخُلوِّ
من لفط واحد.
وقال أبو العباس محمد بن يزيد : (شرعة) معناها ابتداءُ الطريق.
والمنهاج الطريق المستَمِر ، قال : وهذه الألفاظ إِذا تكررت في مثل هذا
فللزيادة في الفائدة ، قال وكذلك قول الحطيئة :
ألا حَبَذَا هِنْدٌ وَأرْضٌ بها هندُ . . . وَهِنْدُ أتى مِنْ دونها النَّأْيُ والبُعْدُ
قال : النَّأْيُ لكل ما قل بعده منك كثرَ ، كأنَّه يقول :
النأي المفارقة قلَّت كثرتْ ، والبُعْدُ إِنَّمَا يسْتَعْمَلُ في الشيءِ البعيد
ومعنى البعيدِ عندَه ما كَثرتْ مسافةُ مُفَارقَتِه ، وكانَّهُ يقُول لِمَا قرب منه هو ناءٍ عني ، وكذلك لما بعُدَ عنه ، والنأْي عنده المفارقة.
* * *
و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللّه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧)
هُزءَاً فيه لغات ، إِن شئت قلت هُزُؤا بضم الزاي وتحقيق الهمزة ، وهو
الأصل والأجْودُ ، وإِن شئت قلت هُزُواً وَأبدَلتَ من الهمزة واواً ، لانضمام ما قبلها وأنها مفتوحة ، وإِنْ شئتَ قلت : هُزْءاً بإسكان الزاي وتحقيقِ الهمزة.
فهذه الأوجه الثلاثةُ جَيدَة يُقْرأ بِهِنَّ.
وفيها وجه آخر . ولا تجوز القراءَة به لأنه لم يقرأ به ، وهو أن يقول هُزَاً مثل هُدًى وذلك يجوز إِذا أردت تخفيفَ همزة
هُزءٍ فيمن أسكن الزاي أن يقول هُزَاً . تطرح حركتها على الزاي كما تقول
رَأيْتَ خَباً تُريدُ خَبْئاً.
* * *
و (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ).
النصب فيه على العطف على (لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا) أي ، ولَا تَتخِذُوا الكُفَّار أوْلياءَ ، ويجوز والكفارِ أولياءَ على العطف
على الَّذِينَ أوتوا الكتاب ، من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وَمِن الكفارِ أولياءَ.
* * *
و (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللّه وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (٥٩)
يقال : نقَمْتُ على الرجُلِ أنقِمُ ، ونقِمْتُ عليه أنقَم.
والأجْودُ نقَمْتُ أنقِمُ ، وكذلك الأكثر في القراءَة : (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللّه الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).
وأنشد بيت ابن قيس الرقيات.
مَا نَقِمُوا مِنْ أُميَّة إِلَّا . . . أنهمْ يحْلُمُون إِن غَضِبُوا
بالفتح والكسر ، نقَمُوا ونقِمُوا ، ومعنى نقمت بالغت في كراهة الشَيءِ.
و (وأنَّ أكْثَرَكُمْ فَاسِقونَ).
: هل تكرهون منا إِلا إِيماننا وفِسْقَكُمْ ، أي إِنما كرهتم إِيماننا
وأنتم تعلمون أنا على حق لأنكم فَسَقْتُمْ ، بأن أقمتم على دينكم لمحبتكم
الرياسة ، وكسبكم بها الأموالَ.
فإِن قال قائل : وكيف يعلم عالِمٌ أن دِيناً من الأدْيانِ حق فيْؤثر الباطِل على الْحق ؟
فالجواب في هذا أن أكثر ما نشاهده كذلك . مِنْ ذلِكَ أنَّ الإنسانَ يعْلَمُ أن الْقَتْل يُورِدُ النار فَيقْتُلُ ، إِما إِيثَاراً لِشِفَاءِ غيظه لأخْذِ مال.
ومنها أنَّ إِبْلِيسَ قَدْ علِم أنَّ اللّه يُدْخِلُه النَّارُ بِمعْصِيتِهِ فآثر
هواه على قُرْبه من اللّه ، وعمِل على دُخول النارِ وهذا بابٌ بينٌ.
* * *
و (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللّه مَنْ لَعَنَهُ اللّه وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (٦٠)
أي : بِشَرٍّ مما نَقَمْتُمْ مِن إِيماننا ثواباً ، و " مَثُوبَةً" منصوب على التمييز.
و (مَنْ لَعَنَهُ اللّه).
وضع " منْ " إِن شئت كان رفعاً ، وإِن شئت كان جراً فأما من جر فيجعله
بدلًا مِنْ شَر . أؤنبئُكُمْ بمن لعنه اللّه ، ومَن رفع فبإِضمار هو ، كأن
قائلًا قال : منْ ذلك ؟ فقيل هو من لعنه اللّه ، كما قال جلَّ ثناؤه :
(قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ) كأنه فال : هي النار.
و (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ).
الطاغُوتُ هو الشيطان ، وتأويل وَعَبَدَ الطاغوتَ : أطاعه فيما سَوَّلَ لَه
وأغراهُ به ، وقَدْ قُرئَتْ : (وعَبْدَ الطَاغوتِ).
والذي أختارُ (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ)
وروي عن ابن مسعودٍ وعَبَدوا الطَاغوتَ ، وهذا يقوي (وَعَبَدَ الطَاغُوتَ) ، ومن قال وعَبُدَ الطاغوتِ . فَضم الباءَ وجَر الطاغوت ، فإِنه عند بعض أهل
العربيةِ ليس بالوجه من جهتين إِحداهما ، أن عَبُد على فَعُلٍ ، وليس هذا
من أمثلة الجمع ، لأنهم فسروه خَدَمُ الطاغوتِ والثاني أن يكونَ محمولاً
على وجعل منهم عَبُدَ الطاغوتِ . فأما من قرأ " وَعُبُدَ الطاغُوتِ " فهو جمع
عبيد وَعُبُد ، مثلُ رغِيفٍ ورغُفُ وسَرِيرٍ وسُررٍ ، ويكون على معنى وجعل منهم عُبُدَ الطاغوتِ على جعلت زيداً أخاك ، أي نَسَبْتُه إِليكَ ، ووجه وعَبُد
الطاغوت - بفتح العين وضم الباء - أن الاسم يبنى على فَعُل كما قالوا
عَلُمٌ زيد . وكما أقول رَجُل حَذُر ، تأويل حَذرٍ أنَّه مبالغ في الحَذَرِ ، فتأويل عَبُد أنهُ بلغ الغاية في طاعة الشيطان ، وكان اللفظَ لفظُ واحدٍ يَدُل على الجمع.
كما تقول للقوم : منكم عَبُدُ العصا ، تريد منكم عَبِيدُ العَصَا.
ويجوز بعد هذه الثَلَاثَةِ الأوْجُهِ الرفعُ في قوله وعَبُدَ الطاغوتِ ، فيقول وعَبُدُ الطاغوتِ ، وكذلك وعُبُدُ الطَاغُوتِ بالرفع ، ولا تقرأن بِهذين الوجهين وإِن كانا جائزين ، لأن القراءَة لا تبتدع على وجه يجوز ، وإِنما سبيل القراءَة اتباع مَنْ تَقَدَّم ، فيجوز رفع ، وعَبُدُ الطَاغُوتِ ، وعُبُدْ الطاغوت ، على معنى الذًمً ، والمعنى وهم عُبُد الطاغوت ، كأنَّه لما قال : (مَنْ لَعَنَهُ اللّه وغَضِبَ عَلَيهِ وجَعَلَ مِنْهمُ القِرَدَةَ والخنازيرَ) ، دَل الكلامُ على اتبَاعِهم الشَيَاطينَ ، فقيل وهم عُبُدُ الطاغوتِ.
ويجوز أن يكون بدلًا من " مَنْ " في رَفع " مَنْ " كَأنه لما قِيل منهم من
لعَنَهُ اللّه ، وغضِبَ عليه ، قيلَ هم عَبُدُ الطاغوت وعُبُدُ الطاغُوتِ ، ويجوز في
الكلام أيضاً ، وعَبْدَ الطاغوت - بإسكان الباء - وفتح الدال.
ويكون على وجهين ، أحدهما أن يكونَ مخفَفاً من عَبُد -
كما يُقَال في عَضدٍ عَضْد.
وجائز أن يكون " عَبْد " اسْماً واحداً يدل على الجنس ، وكذلك يجوز في عبد الرفع
والنصب من جهتين كما وصفنا في عبد ، ويجوز أن يكون النصبُ من جهتين : إِحداهما على وجعل منهم عَبْدَ الطاغوتِ ويجوز أن يكون منصوباً عاد الذم ، على أعني عبدَ الطاغوت ، . ويجوز في وعَبْد وعَبُد وعُبُد الجر على البَدَل من " من " ويكون : هل أُنَبِّئُكُمْ بمَنْ لعنه اللّه وعَبدِ الطاغوت.
ولا يجوز القراءَة بشيء من هذه الأوجه إِلا بالثلاثة التي رُوَيتْ وقرأ بها القراء وهي عَبَدَ الطَاغُوتَ . وهي أجودها ، ثم وعَبُدَ الطاغُوتِ ثم وعُبُدَ الطاغوتِ.
و (أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ).
أي هُؤلاءِ الذين هذه صَفْتهم (شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ).
أي عن قصد السبيل ، و " مكاناً " منصوب على التفسير.
* * *
و (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)
وهم علَماؤهم ورؤساؤهم.
والحَبْر " العالِمُ ، والحِبْرُ المِدَادُ بالكسرِ ، فأعلم اللّه أن رؤساءَهم وسِفْلتَهمْ
مُشْترِكون في الكفر.
ومعنى : (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ) : هلَّا ينهاهم ، ثم أخبَرَ عَزَّ وجلَّ بعظيم
فِريتهم فقال :
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّه مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّه وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللّه لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤)
أَي : قالوا يده مُمْسِكة عن الاتساع علينَا . كما قال اللّه جَلَّ وعزَّ
(وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) تَأويله لا تمسِكها عنِ الِإنفاق
قال بعضهم : معنى (يَدُ اللّه مَغْلُولَةٌ) نعْمَتُه مقبوضة عَنَّا ، وهذا القول خطأ ينقضُه : (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ).
فيكون : بلْ نِعْمَتَاهُ مبسُوطتانِ ، نِعَمُ اللّه أكثرُ مِن أن تُحصى .
وقال بعضهم : وقالوا يَدُ اللّه مغْلُولة عَنْ أعدائنا ، أي لا يُعذَبُنا.
وقال بعض اهل اللغة إنَّما أجِيبُوا على قَدْرِ كَلَامِهِمْ . كما قالُوا يدُ اللّه مغْلُولة ، يريدون به تبخيل اللّه.
فقيل : (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ). أي هو جَوَاد (يُنْفِق كَيْفَ يشَاءُ) ومعنى (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) أي جُعِلُوا بُخَلَاءَ . فهُم أبخَلُ قَوْم
وَقيلَ (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) أي غُلتْ فِي نَارِ
جُهَنم.
و (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا).
أي كلما نزل عليك شيء من القرآن كفروا به فيزِيدُ كفرهم والطغيان
الغُلو والكفر هَهُنَاكَ.
و (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) جعلهم اللّه
مختلفين في دينهم متباغضين ، كما قال : (تحسَبُهم جميعاً وقُلُوبُهُمْ شتَّى)
فألقى اللّه بينهم العداوة ، وهي أحدُ الأسباب التي أذهب اللّه بها جَدَّهم
وشَوْكَتَهُمْ.
و (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّه).
هذا مثل أي كلما جمعوا على النبي والمسلمين وأعدوا لحِربِهم فرق
اللّه جمعهم وأفْسد ذات بينِهمْ.
و (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا).
اي يجتهدون في دفع الِإسلام ومحو ذكر النبي - صلى اللّه عليه وسلم - من كُتُبِهِمْ.
* * *
و (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (٦٦)
أي لَوْعَمِلُوا بِمَا فِيهِمَا ، ولم يكتُمُوا ما علموا من ذكر النبي - صلى اللّه عليه وسلم - فيهمَا.
(وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ).
وهو - واللّه اعلَم - القرآن . أي لو عَمِلُوا بما في هذه الكتب من ذكر
النبي - صلى اللّه عليه وسلم - ، وأظهروا أمره.
(لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ).
قيل إِنه كان أصابهم جَدْبٌ ، فأعلمَ اللّه أنَّهم لو اتَقوا لأوسع عليهم في
رِزقِهِمْ ، ودَلَّ بهذا على ما أصابَهُم من الجدب فيما عاقبَهمْ بِه.
ومعنى (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ).
أي لأكلوا من قطر السماءِ.
(وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ).
مِن نَبَات الأرضِ . وقيل قد يكون هذا من جهة التوسِعَةِ كما تقول فلان
في خير من قرنِه إِلى قدمِه ، وقد أعلم اللّه جل وعَزَّ أن التُّقى سعة في
الرزق فقال : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا).
وقال : (وَمَنْ يَتَّقِ اللّه يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) وقال في قصة نوح : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (١٠) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) وهي البساتين . فوعدهم اللّه أتم الغنى على الِإيمان
والاستغفار.
و (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ).
أي من أهل الكتاب ، قال بعضهم يعنى بهذا مَنْ آمَن مِنْهُمْ وقيل يعنى
به طائفة لم تُناصِب النبى - صلى اللّه عليه وسلم - مناصبة هؤلاءِ ، والذي أظُنُّه - واللّه أعلم - أنَّه لا يسمي اللّه من كان على شيءٍ من الكفر مُقْتصِداً.
(وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ).
بئس شيئاً عَمَلُهم.
* * *
و (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٦٧)
وتقرأ رسالاته . والمعنى بلغ جميع ما أنزل إِليْكَ مِنْ رَبك ، وإِن تركت
منه شيئاً فما بلغتَ ، أي لا تراقبن أحداً ولا تتركن شيئاً من ذلك خوفاً مِنْ أن
ينالك مكروه.
(وَاللّه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).
أي يحُول بَيْنَهُمْ وبيَن أن ينَالكَ منهم مَكْروهٌ ، فَأَعْلَمَه اللّه جلَّ وعزَّ أنه
يَسْلَمْ مِنهمْ.
وفي هذا آية للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - بَيِّنَة.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩)
اختلف أهل العربية في تفسير رفع الصابئين ، فَقَالَ بعضهم نَصْبُ " إِنَّ "
ضَعُفَ فنسقَ بـ (الصَّابِئُونَ) على " الَّذِينَ " لأَن الأصل فيهم الرفع.
وهو قول الكسائي ، وقال الفراءُ مثل ذلك إِلا أَنه ذكر أَن هذا يجوز في النسق على مثل " الذين " وعلى المضمر ، يجوز إِني وزيد قائمان ، وأنه لا يجيز إِنَّ زيداً وعمرو قائمان.
وهذا التفسير إِقدام عظيم على كتاب اللّه وذلك أَنهم زعموا أن نَصْبَ
" إِنَّ " ضعيف لأنها إِنما تغيِّرُ الاسم ولا تغير الخبرَ ، وهذا غلط لأن " إنَّ " عملت عَملَيْن النَصْبَ ، والرفع ، ولَيْسَ في العربية ناصب ليس معه مرفُوع لأن كل منصوب مشبه بالمفعول ، والمفعول لا يكون بغير فاعل إِلا فيما لم يسم فاعله ، وكيف يكون نصب " إِنَّ " ضعيفاً وهي تتخطى الظروف فتنصب ما بعدها.
نحو " (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ) ونَصْبً إِنَّ مِنْ أقْوَى
المنْصوبَاتِ.
وقال سيبويه والخليلً ، وجميع البصريين إِن (وَالصَّابِئُونَ) محمول.
على التأخير ، ومرفوع بالابتداءِ . إِن الذين آمنوا والذين هادوا مَنْ آمن باللّه واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ، والصابئون والنصارى كذلك أَيْضاً ، أي من آمن باللّه واليوم الآخر فلا خوف عليهم ، وأنشدوا في ذلك قول الشاعر :
وإلا فاعلموا أنَّا وأنتم . . . بغاة ما بقينا في شقاق
وإِلا فاعلموا أنَّا بغَاة ما بقينا في شقاق ، وأنتم أيضاً كذلك.
وزعم سيبويه أن قوماً من العرب يغْلِطونَ فيقولون إِنهم أجمعونَ
ذاهبون ، وإِنك وزيد ذاهبان . فجعل سيبويه هذا غلطاً وجعله كقول
الشاعر :
بدا لي أنى لسْتُ مدرِك مَا مَضى . . . ولا سَابِقٌ شيئاً إِذا كان جائياً
فأما (مَن آمَنَ بِاللّه) وقد ذكر الذين آمنوا ، فإنما يعني الذين آمنوا هَهنا
المنافقين الذين أظهروا الِإيمان بألْسنتهم ، ودل على أن هنا مَا تقدَّم
من (لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ).
ومعنى الصابئ الخارج عن جملة الأدْيان لأنهم لا يدينون بالكتُب.
والعرب تقول قد صبأ نَابُ البعير ، وصبأ سِنُّ الصَّبِيِّ إِذا خرج.
فأمَّا قولهم ضبأت بالضادِ المعجمة فمعناه اختبأت في الأرض.
ومنه اشتُق اسم ضابئ.
وقال الكسائي ، الصابئون نسق على ما في هادوا ، كأنه قال هادوا هم
والصابئون . وهذا القول خطأ من جهتين ، إِحداهما أن الصابى يشارك إليهودِي في إليهودية وَإِن ذَكَرَ أن هادوا في معنى تابوا فهذا خطأٌ في هذا الموضع أيضاً لأن معنى الذين آمنوا ههنا إِنما هو إِيمان بأفواههم ، لأنه يُعْنَى بِه المنَافِقُونَ ، ألا ترى اأه قال من آمَنَ باللّه ، فلو كانوا مؤمنين لم يحتج أن يقال إِنْ آمنوا فلهم أجرهم.
و (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (٧٠)
كلًمَا جَاءَهُم رسُولٌ كذبوا فريقاً وقَتَلوا فريقاً.
أمَّا التَكْذيبُ فاليهودُ والنصارى مشتركة فيه ، وأمَّا القتل فكانَتْ إليهود خاصَّة - دون
النَّصَارى - يَقْتُلون الأنبياءَ ، وكانت الرسل على ضربين ، رسل تأتي بالشرائع والكتب نحو موسى وعيسى وإبراهيم ومحمد - صلى اللّه عليهم وسلم - ، فهؤُلاءْ معصومون من الخلق ، لم يوصل إِلى قتل واحدٍ منهم ، ورُسُل تأتي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحث على التمسك بالدين نحو يحيى وزكريا - صلى اللّه عليهما وسلم.
* * *
و (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللّه عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللّه بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (٧١)
تقرأ (أَلَّا تَكُونَ) بالنصْب ، و (أَلَّا تَكُونُ) بالرفْع.
فمن قرأ بالرفع فالمعنى أنه لا تكون فتنة ، أي حسبوا فعلهم غير فَاتنٍ لهم وذلك أنهم كانوا يقولون إِنهم أبناءُ اللّه وأحباؤه.
(فَعَمُوا وَصَمُّوا).
هَذا مثل ، تأويله أنهم لم يعملوا بما سمعوا ولا بما رَأوْا من الآيات.
فصاروا كالعُمْى الصُّمِّ.
(ثُمَّ تَابَ اللّه عَلَيْهِمْ).
أي أرسل إِليهم محمداً - صلى اللّه عليه وسلم - يعلمهم أن اللّه جلَّ وعزَّ
قد تاب عليهم إِن آمنوا وصَدَّقوا ، فلِم يُؤمنوا أكثرهم ، فقال عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ).
أي بعد أن ازداد لهم الأمر وضوحاً بالنبي عليه السلام . كثير منهم يرتفع
من ثلاثة أوجه ، أحدها أن تكون بدلًا من الواو ، كأنه لما قال
(عَمُوا وَصَمُّوا) أبدل الكثير منهم ، أي عمي وصم كثير منهم كما تقول : جاءَني قومُك أكثرهُمْ ، وجائز أن يكون جُمعَ الفعلُ مُقَدَّماً كما حكى أَهل اللغة أكلوني
البراغيث ، والوجه أن يكون كثير منهم خبر ابتداءٍ محذوف ، ذوو
العمى والصمم كثير مِنهم.
* * *
و (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّه ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣)
معناه أنهم قالوا اللّه أحد ثلاثة آلهة ، وَاحِد من ثلاثة آلهة ، ولا يجوز
في ثلاثة إِلا الجر ، لأن أحد ثلاثة ، فإن قلت زيد ثالث اثنين رابع
ثلاثة جاز الجر والنَّصْبُ ، فأما النصب فعلى قولك كان القوم ثلاثة فَرَبَعَهُم.
وأنا رابعهم غداً ، رابع الثلاثة غداً ، ومن جر فعلى حذف التنوين ، كما
قال عزَّ وجلَّ : (هَدْيَاً بالغَ الكَعْبَة).
و (ومَا مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ).
دخلت " من " مَؤكدة ، والمعنى ما إِله إِلا إِله واحد.
و (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
معنى الذين كفروا منهم . الذين أقاموا على هذا الدين وهذا القول.
* * *
و (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)
أي إِبراؤُه الأكمه والأبرص وإتيانه بالآيات المعجزات ليس بأنه إِله ، إِنما
أتى بالآيات كما أتى موسى بالآيات ، وكما أتى إِبراهيم بالآيات.
(وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ).
أي مبالغة في الصدق والتصديق ، وإِنما وقع عليها صِدِّيقَةٌ لأنه أرسل
إِليها جبريل ، فقال اللّه عزَّ وجلَّ : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ) ،
وصِدِّيق فِعيلٌ من أبنية المبالغة كما تقول فلان سِكيت أي مبالغ في السكوت.
و (كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ).
هذا احتجاج بين ، أي إِنما يعيشان بالغذاءِ كما يعيش سائر الآدميين.
فكيف يَكُون إِلَهاً من لا يقيمه إِلا أكل الطعام.
و (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ).
أي العلامات الواضحة.
(ثُمَّ انْظُرْ) أي انظر بعد البيان.
(أَنَّى يُؤْفَكُونَ).
أي من أين يصرَفُونَ عَن الحق الواضح.
وكل شيءٍ صرفته عن شيءٍ وقَلَبْتَه عَنْه ، تقول أفَكْتُه آفِكه إفْكاً ، والِإفك
الكذب إِنما سمِّيَ لأنه صرف عن الحق ، والمؤْتفكات الرياح التي تأتي من
جهات على غير قصد واحد.
و (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (٧٧)
أهواءَ جمع هوى ، وهَوَى النفْسِ مقمبورٌ لأنه مثل الفَرقَ وفَعل جمعه
أفْعال ، وتأويله لا تتبعوا شَهَواتِهمْ لأنهم آثروا الشهوات على البيان والبرهان.
وما في القرآن مِن ذكر اتباع الهَوَى مَذْمُوم نحو
(وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّه)
و (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى) و (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى).
ومعنى (وَأَضَلُّوا كَثِيرًا) الكثير اتبعوهم.
(وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ).
أي ضلوا بإضلالهم عن قصد السبيل.
* * *
و (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨)
تأويل لعِنوا بُوعِدُوا من رحمة اللّه.
(عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)
جاءَ في التفسير أن قوماً اجتمعوا على منْكرٍ ، فأتاهم داود عليه السلام
ينهاهم عنه ، فاستأذن عليهم فقالوا نحن قرودٌ وما نفقه ما تقول ، فقال كونوا
قِردَةً ، فمسخهم اللّه قِردَةً ، وأن قوماً اجتمعوا على عيسى يَسُبُّونه في أُمِّه
وًيرْجمونَه فسأل اللّه أن يجعلهم خنازير فصاروا خنازير ، وذلك لعنهم على
لسان داودَ وعيسَى.
وجائز أن يكون داود وعيسى أعْلِمَا أن محمداً - صلى اللّه عليه وسلم - نَبيُ وأنهُما لعنا مَنْ كَفَرَ بِه.
وقوله ؛ (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ).
أي ذلك اللعْن بمعصيتهم واعتدائهم.
و " ذلك " الكاف فيه للمخاطبة ، واللام في ذَلِك كسرتْ لالتقاء السَّاكنين.
ولم يذكر الكوفيون كسر هذه اللام في شيءٍ من كُتبهم ولا عَرفُوه ، وهذه من الأشياءِ التي كان ينبغي أن يتكلموا فيها ، إِذ كان " ذلك " إِشارة إِلى كل
متراخ عنك ، إِلا أن تركهم الكلام أعودُ علَيْهم مِنْ تَكلُّمِهمْ إذ كان أول ما
نطقوا به في فَعِلَ قد نقض سائر العربية ، وقد بيَّنَّا ذلك قديماً .
و (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩)
أي لبئس سْيئاً فعِلهم ، واللام دَخَلَتْ للقَسم والتوكِيد وقد بيَّنَّا لِم
فُتِحت ، وسائر الحروف التي جاءَت يعْني لم فتِحتْ وكسرت ولم يبين
الكوفيون شيئاً من ذلك.
و (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللّه عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (٨٠)
(أَنْ سَخِطَ اللّه عَلَيْهِمْ)
(أنْ) يجوز أن يكون نصباً على تأويل بئس الشيءُ ذلك لأنْ سخط اللّه
عَلَيْهم ، أي لأن أكسبهم السَّخْطةَ ، ويجوز أن يكون " أنْ " في موضع رفع
على إضمار هو ، كأنَّه قيل هو أن سَخط اللّه عَليهمْ ، كما تقول نِعْمَ الرجُلُ.
* * *
و (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢)
وذلك أن اليَهودَ ظاهَروا المشركين على المؤْمنين ، والمؤْمنون يُؤمنون
بموسى والتوراة التي أتى بها ، وكان ينبغي أن يكونُوا إلى من وافقهم في
الِإيمان بنَبيهمْ وكتابهم أقرب ، فظاهروا المشركين حَسَداً للنبي - صلى اللّه عليه وسلم -.
و (لَتَجِدَنَّ) هذه اللام لام القسم ، والنون دَخَلَتْ تَفْصِلُ بينَ الحال
والاسْتقْبَالِ ، هذا مذهب الخليل وسيبويه ، ومن يُوثق بعِلْمِه.
و (عَدَاوَةً) مَنْصُوب على التمييز.
(وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى).
في هذه غير وجه ، جاءَ في التفسير أن نيفاً وثلاثين من الْحَبَشِ من
النصارى جاءُوا وجماعةً معهم ، فأسلموا لمَّا تلا عليهم النبي - صلى اللّه عليه وسلم - (القرآن).
وجائز أن يكون يُعْنَى بِه النَصارَى لأنهم كانوا أقَل مظاهرة للمشركِينَ من
اليهود ، ويكون (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ).
على معنى (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا) ، ومنهم قوم إِذَا سَمِعُوا ما
أُنْزلَ إلى الرسولِ ، يعني به ههنا مؤمنيهم ، والقُسُّ والقِيس من رؤَساءِ
النصَارَى ، فأمَّا القَس في اللُغَة فهي النميمة ونشر الحديث ، يقال : قس
فلان الحديث قسًّا.
ومعنى (فَاكتُبْنَا مَعَ الشًاهِدينَ).
أي مع من شهد من أنْبِيائك عليْهِم السلام ومؤمِني عِبَادك بأنَكَ لا إِله
غيْرك.
* * *
و (وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللّه وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤)
موْضع (لَا نُؤْمِنُ بِاللّه) نصب على الحال ، أي شيء لنا تاركين
للإيمان ، أي في حال تركنا للإِيمان ، وذلك أن قومهم عنفوهم على إيمَانِهم
فأجابُوهم بأن قالوا ما لنا لا نؤمن باللّه.
* * *
وقوله عزَّ وجل : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (٨٦)
الجَحِيم النَّار الشديدة الوَقُود ، وقد جَحِمَ فلان النار إذا شدَّد وقودَها ، -
وُيقال لِعَيْن الأسَد جَحْمة لشدة توقدها ، ويقال لوقود الحرب ، وهو شدة القتال فيها : جَاحِم.
قال الشاعر :
=
والخيل لا يبقى لجاحمها التخيل والمراحُ
إِلا الفتى الصّبَّارُ في النَجَداتِ والفرس الوَقَاحُ
* * *
و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّه لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّه لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧)
هذه قيل نزلت لأن َ جماعةً من أصحاب النبي كانوا هَمُّوا بأن يرفضوا
الدنيا ويجتنبوا الطيبات ويخْصُوا أنفسهم ، فأعلم اللّه أن شريعة نبيه عليه
السلام غير ذلك ، والطيبات لا ينبغي أن تجتنب ألبتَّة ، وسمي الخصاءُ اعتداءً ، فقال عزَّ وجلَّ : (ولا تعتدوا) ، أي لا تَجُبُّوا أنفسكم فإِن ذلك اعتداء.
* * *
و (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ كِسْوَتُهُمْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)
اللغو في كلام العرب ما اطرح ولم يعقد عليه أمر ، ويسمَّى ما ليس
مُعتَدًّا به - وإِن كان مَوجُوداً - لغواً.
قال الشاعر :
مِائةً تجعل أولَادَها . . . لَغْواً وعُرْضُ المائةِ الجَلْمَدُ
(الذي يعارضها في قوة الجلمد) ، يعني بذلك نوقاً ، يقول : مائة لا
تجعل أولادها من عددها.
أعلم اللّه عزَّ وجلَّ أن اليمين التي يُؤاخَذُ بها العَبْدُ وتجب في بعضها
الكفارَةُ ما جرى على عقدٍ ، ومعنى فكفارته إطعامُ عَشَرةِ مَسَاكين ، أي فكفارة المُؤَاخَذَةِ فيه إِذا حَنَثَ أن يُطْعَم عَشَرَة مساكين إِن كانوا ذكوراً إِناثاً وذكوراً أجزأه ذلك ، ولكن وقع لفظ التذكير لأنه المُغَلَّبُ في الكلام.
ومعنى (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ).
قال بعضهم أعدله كما قال جلَّ وعزَّ : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)
أي عَدْلاً ، و (أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) على ضربين أحدهما أوسطه في
القدر والقيمة ، والآخر أوسَطه في الشبع لا يكون المأكول يفرط في أكله فيؤكل منه فوق القصدِ وقدر الحاجة ، ولا يكون دون عن الجوع.
( كِسْوَتُهُم).
والكسوة أن يكسوهم نحو الِإزَار والعِمَامة ما أشبه ذلك.
( تَحرِيرُ رَقَبةٍ).
فخير الحالف أحدَ هذه الثلاثة ، وأفضلها عند اللّه أكثَرُها نَفْعاً ، وأحسنُها
موقعاً من المساكين ، من المعتق ، فإِن كان الناس في جَدْب لا يقدرون
على المأْكول إِلا بما هو أشد تكلفاً من الكسوة الِإعتاق ، فالِإطعام أفضل.
لأن به قِوَامَ الحياةِ وإِلا فالِإعتاق الكسوة أفضل.
(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ).
أَي من كان لا يقدر على شيء مما حُذدَّ في الكفارة ، فعليه صيام ثلاثة
أيامٍ ، وصيام ثلاثة مرتفع بالابتداءِ ، وخبره كفارته فكفارته صيام ثلاثة
أيام.
ويجوز فصيامٌ ثلاثةَ أَيامٍ كما قال عزَّ وجلَّ : ( إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤).
( عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا).
(ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ).
أي ذلك الذي يغطي على آثامكم ، يقال كَفَرْتُ الشيءَ إِذا غطَّيتُه ، ومنه
قوله عزَّ وجلَّ : (أعجب الكفَارَ نباتُه) ، والكفار الذين يغطون الزرع
ويصلحونه ، والكافر إِنما سمي كافراً ، لأنه ستر بكفره الِإيمان.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠)
فالخمر معروف وهو ما خامر العقل ، وقد فسرناه ، والميسرُ القَمارُ
كله ، وأصله إنَّه كان قماراً في الجزور ، وكانوا يقسمون الجَزورَ في قول
الأصمعي على ثمانية وعشرين جزءاً ، وفي قول أبي عمرو الشيباني على عشرة
أجزاء ، وقال أبو عبيدة لا أعرف عَدَدَ الأجزاء ، وكانوا يضربون عليها بالقداح وهي سهامُ خَشبٍ . لها أسماء نبينها على حقيقتها في كتابنا إِن شاءَ اللّه ، فيحصل كل رجل من ذلك القمار على قدر إِمكانه ، فهذَا أصْل الميْسرِ ، والقمار كلُّه كالميْسر وقد بيَّنَّا الأنصاب والأزلام في أول السورة.
فأعلمَ اللّه أن القِمارَ والخَمرَ والاسْتِقْسَامَ بالأزْلامِ وعبادةَ الَأوثان رجسٌ.
والرجس في اللغة اسم لكل ما استُقْذِرَ من عمل ، فبالغ اللّه في ذَمَ هذه
الأشياء ، وسماها رجْساً ، وأعلم أَن الشيطان يُسَوِّلُ ذلك لِبَني آدم ، يقال رَجِسَ الرجلً يَرْجَسُ ، ورجَسَ يَرْجُسُ ، إِذَا عمل عملاً قبيحاً ، والرجْسُ بفتح الراء
شِدَّةُ الصوْتِ ، فكان الرجس العمل الذي يقبح ذكره ، ويرتفع في القبح.
ويقال سحاب ورَعْد رجَّاسٌ إِذا كان شديد الصوت.
قال الشاعر :
وكل رَجَّاسٍ يَسُوقَ الرُّجَّسَا
وأمَّا الرجز بالزاي فالعذابُ ، العمل الذي يَؤدي إِلى العذاب.
قال اللّه : (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ) أي كشفت عنا العذاب ، و (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) قالوا عبادة الأوثان.
وأصل الرجْز في اللغة تتابع الحركات ، فمِنْ ذلك قولهم رجزاءَ إِذا كانت ترتعد قوائمها عند قيامها.
ومن هذا رَجَزُ الشَعر لأنه أقْصَر أبيَاتِ الشَعْرِ ، والانتقال فيه من بيت إلى بيت سريع نحو
يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع
ونحو قولهم :
صَبْراً بَنِي عَبْدِ الدارِ
ونحو قولهم :
ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا
وزعم الخليل أن الرجَزَ ليس بشعر ، وإِنما هو أنصاف أبْيَات أَثلاث.
ودليل الخليل في ذلك ماروي عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا وتأتيك من لم تزوَّدْ بالأخبار.
قال الخليل : لوكان نصف البيت شعراً ما جرى على لسان النبي - صلى اللّه عليه وسلم -
سَتُبدِي لك الأيَّامُ مَا كَنْتَ جَاهِلاً
وجاءَ النصف الثاني على غير تأْليف الشعر ، لأن نصف البيت لا يقال له
شِعرٌ ولا بَيتٌ ، ولو جاز أن يقال لنصف البيت شعر لقيلَ لِجُزْءٍ منه شعر.
وجرى على لسان النبي - صلى اللّه عليه وسلم - فيما روَى :
أَنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب
قال بعضهم : إِنما هوَ لا كذِبَ أنا ابن عبد المطلب ، بفتح الباءِ على
الوصل.
قال الخليل : فلو كان شعراً لم يجر على لسان النبي - صلى اللّه عليه وسلم -، قال اللّه : (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) ، أي ما يَسَفَل له.
قال الأخفش كان قول الخليل إِن هذه الأشياءَ شعرٌ ، وأنا أقول : إِنها ليست بشعر ، وذكر أنه ألْزَم الخليلَ أن الخليل اعتقده.
ومعنى الرجز العذاب المُقَلْقِلُ لشدتِه قلْقَلةً شَدِيدَةً متتابعة.
ومعنى فاجتَنِبُوهَ : أَي اتركوه .
واشتقاقه في اللغة كونوا جانباً منه أي في ناحية.
* * *
و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّه بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّه مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٩٤)
هذه اللام لامُ القَسَمِ ، واللام مفتوحة لالتقاءِ السَّاكنين في قول بعضهم اغزُوَنَ يا رَجُل ، فأمَّا لام لَتُبْلَوُن ، فزعم سيبويه أنها مبنية على الفتح.
وقد أَحكمنا شرحَ هذا قبل هذا الموضِع.
ومعنى : " ليبلونكم " : ليختبرنَّ طاعتكم من معصيتكم.
ميه بِشيءٍ مِنَ الصيدِ).
فَقال عزَّ وجلَّ بشيءٍ من الصيْدِ فبَّعض ، وهو يحتمل وَجْهَيْن
أَحدهما أنه على صيد البَر دُونَ صَيْدِ البَحْر ، والثاني أَنه لَمَّا عَنى الصَّيدَ ما داموا في الإحرام كان ذلك بعضَ الصََّيْدِ . وجائز أن يكون على وجه ثالث ، ويكون " مِنْ " هذه تبين جنساً من الأَجناس ، تقول : لأمتحننك بشيءٍ من الوَرِق ، أي لامتحننك بالجنس الذي هو ورق ، كما قال جلّ ثناؤُه : (وفَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ) والأَوثان كلها رجس.
فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن.
ومعنى (تَنالُه أَيدِيكمْ ورماحُكُمْ).
الذي تناله الأيدي نحو بيض النَعام وفراخِه وما كان صغيراً ينهض من
مجْثمِهِ مِن غَيرِ النعام وسائر ما يفوق اليد بحركته من سائر الوحش.
فحرم جميع صيد البر الجراد وكل ما يصطاد فحرام صيده ما داموا حرماً . وبيَّن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - أَنَّ كل ما اصْطِيد في الحرم حرام ، كانوا محرمين غير محرمين.
وقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّه عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللّه مِنْهُ وَاللّه عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٩٥)
(وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا)
أي عمداً لِقتلِه ، كأنه ناسٍ إنَّه محرِم ، ومتَعمِّد للقتل ، وجائز أن يقصد
القتل وهو يعلم أنَّه محرم.
و (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ).
و (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ)برفع مثل وجرَها ، فمن رفَعهُما جميعاً فرفعه على
معْنى فعليه جزاء مثل الذِي قَتلَ ، فيكون " مِثْل " من نَعْتِ الجزاء ، ويكون أن ترفع " جزاءَ " على الابتداءِ ويكون مثل قتَل خبر الابتداءِ ، ويكون فجزاء ذلك الفعل مِثلُ ما قَتَلَ ، ومن جرَّ أراد فعليه جزاءُ مِثل ذلك المقتول من النَّعمِ ، والنعمً في اللغة هي الِإبل والبقر والغَنَمُ ، وإِن انفَردت الِإبل منها قيل لها نَعم وإِن انفردت الغنمُ والبقرُ لم تسَمَّ نعَماً.
فكان عليه بحذاءِ حمار الوحش وبقرةِ الوحش بَدَنةً ، وعليه بحذاءِ الظباءِ
من الغنم شاة.
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ).
أَي من أَهل ملتكم ، فعلى قاتل الصيد أَن يسْألى فقيهيْنِ عَدْلَيْن عن جزاءِ
ما قَتَل ، ويقولان له : أَقتلتَ صيْداً قبْل هَذَا وأنْتَ مُحرِم فإِن اعْترف بأنه قتل صيداً قبْل ذَلِك لم يَحْكُمَا عليه بشيء ، لقول اللّه عزَّ وجلَّ :
(ومن عاد فيَنتَقِمُ اللّه مِنْهُ).
وإِن لم يعترف نَظَرا فيما قتل . فإِن كان كالِإبل حكماً عليه بها
(هَدْياَ بَالِغَ الكعْبةِ) وإِن كان كالشاءَ حكما عليه بمثل ذلك.
وإِن كانت القيمة لا تبلغ نظرا فقدرا قيمة ذلك ، وأطعم بثمن ذلك المساكين ، كل مِسكين - قال بعضهم - صاعاً من حِنطة ، وقال بعضهم نصف صاع صَامَ بعَدْلِ ذلك على ما توجِبُه السُّنَّةُ.
ويجوز أَن تكون " " - وهو الَأجود في اللغة - للتخيير ، فإن
شاءَ أَهدىَ وإن شاتَ قوَّما له الهدْيَ وأَطْعَم بدلَه على ما وصفنا.
وجعل مثل ذلك صياماً لَأن " " للتخيير ، وقال بعضهم كأَنَّهُ إِن لم يقدر على الِإبلِ والغَنمِ
فينبغِي أن يُطعِم يصُومَ ، والذي يوجبه اللفظُ التخييرُ ، وأهلُ الفِقْهِ أعلمُ
بالسنة في ذلك ، إِلَّا أَني أختارُ على مذهب اللغة أنَّه مخير.
و (هَدْياً بَالِغَ الكعْبَةِ).
منصوب على الحال . يحكمان به مقَذَراً أن يُهْدَى.
و (بالغ الكعبة) لفظُه لفظ مَعْرفة ، ومعناه النكرة ، بالغاً الكعبة ، إِلا أن التَّنْوِينَ حُذِف استِخفَافاً.
ومعنى (أوعَدْلُ ذلِك).
مِثل ذلك ، قال بعضهم عَدْلُ الشيء مثله من جنسه ، وعَدْلُه مثله من
غير جنسه - بفتح العين ، وقال إِلا أن بعض العرب يغلط فيجعل العَدْل والعِدْل في معنى المثل ، وإِن كان من غير جنس الأول.
قال البصريون العَدْل والعِدل في معنى المثل ، والمعنى واحد كان ، لمثل من الجنس من غير الجنس ، كما أن المثل ما كان من جِنْسِ الشيءِ ومِنْ غير جِنْسِه ، مِثْل ، ولم يقولوا إِن العرب غلطت ، وَلَيْسَ إِذا أخْطا مخطئ يوجب أن تقول أن بعض العرب غلط.
و (صِيَاماً).
منصوب على التمييز . مثل ذلك من الصيام.
(لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِه).
" الوَبَالُ " ثِقْلُ الشيءِ في المكروه ، ومنه قولهم طعام وبيل ، وماء وبيل ، إِذا
كانا ثقيلين غيرُ نَامِيَينِ في المَالِ ، قال عزَّ وجلَّ : (فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا)
أَي ثقتيلَاَ شديداً ، والوبيلُ خشبةُ القصَّارِ ومن هذا قيل لها وبيل.
قال طرفة ابن العبدِ .
عقيلة شيخ كالوبيل يلنْدَدٍ
و (وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللّه مِنْهُ).
الفاءٌ جواب الجزاء والمعنى أنه - واللّه أعلم - ومن عاد مستَحِلًّا للصيد
بعد أنْ حَرمَه اللّه منه فينتقم اللّه مِنه أي فيعذبه اللّه.
وجائز أن يكون : من عاد مستخفًّا بأمر اللّه فجزاؤُه العذاب كجزاءِ قاتل النفس.
* * *
و (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللّه الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)
أي أحل لكم صيدَ البحر ، وأحل لكم طَعَامَ البحر للسَّيَّارَةِ ، فَأمَّا صَيدُه
فمعروفٌ ، وأمَّا طَعَامُه فقد اختُلِفَ فيه ، فقالَ بعضهم : ما نَضَبَ الماءَ عنه
فأخِذَ بغَيْر صَيد فهو طعامه ، وقال طعامه هو كل ما سقاه الماء فأنبت فهو طعام البحر ، لأنه نبت عن ماءِ البحر ، فأعلمهم اللّه أن الذي أحل لهم كثير في البر والبحر ، وأن الذي حُرمَ عَليهم إنما هو صيد البر في حال الإِحرام . وسَنَ النبيُّ - صلى اللّه عليه وسلم - تحريمَ الصيد في الحرم ليكون قد أعْذَر إِليهم من الانتقام ممن عاود ما حرم اللّه عليه مع كثرة ما أحل اللّه لَهُ.
و (مَتَاعاً) : منصوب مصدر مؤكد ، لأنه لما قال أجل لكم كان دَليلاً على أنه
قد مَتَّعَهُمْ به ، كما أنه لما قال : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ)
كان دليلَاَ على أنه قد كتب عليهم ذلك ، فقال : (كِتَابَ اللّه عَلَيْكُمْ).
وقوله جلَّ وعزَّ : (جَعَلَ اللّه الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّه يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧)
قيل إِنما سُمِّيتِ الكعبةَ لتربيع أعلاها.
ومعنى (قِياماً للناسِ) أي مما أمِروا بِه أن يقوموا بالفرض فيه.
وكذلك : (والشَهْرَ الحَرامَ والهَدْيَ والقَلائِدَ).
فأمَّا مَن قَال إِنه أمن فلأنَّ اللّه قال : (وَمَنْ دَخَله كَانَ آمِناً) ولم تَزَلْ
العرب تترك القتال في الشهر الحرام ، وكان يسمى رَجَب الأصَمّ لأنه لا يسمع فيه صوت السلاح.
وأما من قال جُعِلت هذه الأشياء ليَقومَ الناس بها فإنما عنى
متعبداتهم بالحج وَأسْبَابِه.
و (ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّه يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ).
فيه قولان : أحدهما أن اللّه لما آمَنَ مِنَ الخوف البلدَ الحَرَامَ ، والناسق
كان يقتل بعضعهم بعضاً ، وجعلَ الشهرَ الحرامَ يُمتَنَع فِيه من القتل ، والقوم
أهل جاهلية ، فدل بذلك أنه يعلم ما في السَّمَاوات ومَا في الأرْض إذْ جَعَل في
أعْظمِ الأوْقَاتِ فساداً ما يؤمن به ، وفيه قول آخر وهو عندي أبين ، وهو أن
ذلك مَرْدُود على ما أنبأ اللّه به على لسان نبيه في هذه السورةِ من (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ).
فأخبر بنفاقهم الذي كان مسْتَتَراً عن المسلمين ، وما أخبر به أنهم
(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ).
فأظهر اللّه ما كانوا أسَروه من قصة الزانيين ، ومسألتِهمْ إياه - صلى اللّه عليه وسلم - وما شَرَحْناه مما كانوا عليه في ذلك.
فأظهر اللّه جلَّ وعزَّ : نبيه والمؤمِنِينَ على جميع ما ستروا عَنْهُمْ .
فالمعنى - واللّه أعلم - ذلك لتعلموا الغيب الذي أنْبأتُكُمْ به عن اللّه.
يدلكم على إنَّه يعلم ما في السَّمَاوَات وما في الأرض.
ودليل هذا القول قوله جلَّ وعزَّ :
(مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللّه يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (٩٩).
* * *
و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّه عَنْهَا وَاللّه غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١)
(تُبْدَ لكم) - تُظْهَر لَكُم ، يقال بدا لي الشَيء يبدو إذَا ظَهَر.
جاءَ في التفسير أن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - خطب الناس فأعلمهم أن اللّه قد فرض عليهم الحج ، فقام رجل من بني أسدٍ فقال : يا رسول اللّه أفي كل عام ؟
فأعرض عنه - صلى اللّه عليه وسلم - فعادَ الرجلُ ثانية ، فأعرض عنه ، ثم عاد ثالثة فقال - صلى اللّه عليه وسلم -
ما يُؤمنك أن أقول نَعَمْ فَتجبُ فلا تقومون بها فتكفرون.
تأويل " تكفرون " ، - واللّه أعلم - ههنا أنكم تَدْفَعُونَ لِثِقَلِهَا وُجُوبَهَا
فتكفرون.
وقال - صلى اللّه عليه وسلم - : " اتركوني ما تركْتُكُمْ فإِنما هلك منْ كَانَ قَبلَكم بكثرة اخْتِلَافِهِمْ على أنبيائهم ".
وسأله - صلى اللّه عليه وسلم - رجل كان يتنازعه اثنان يدَّعِيَ
كل واحد منهما أنَّه أبوه فأخبر - صلى اللّه عليه وسلم - بأبيه منهما ، فأعلم اللّه عزَّ وجلَّ أن السوال عن مثل هذا الجنس لا ينبغي أن يقع.
فإنه إِذَا ظهرَ منهُ الجوابُ سَاءَ ذَلِك . وخاصَّةً في وقت سُؤَالِ النبي - صلى اللّه عليه وسلم - عن جهة تبيين الآيات ، فنهى اللّه عن ذلك ، وأعلم أنَّه قد عفا عنها ، ولا وجهَ عَن مسألة ما نهى اللّه عنه ، وفيه فضيحة على السائل إِن ظهر .
و (أشياءَ) في موضع جر إلا أنها فتحت لأنها لَا تَنْصرِفُ.
وقال الكسائي أشبه آخرُها آخَرَ حَمْرَاءَ ، ووزْنُها عندَه أفْعال ، وكثر اسْتِعْمَالَهُمْ فلم تُصْرَف.
وقد أجمع البصريون وأكثر الكوفيين على أن قول الكسائي خطأ في
هذا ، وألزموه ألا يصْرفَْ أبناءً وأسماءً.
وقال الأخفش - سعيدُ بنُ مسعدة -
والْفَراءُ : أصلها أفعلاءَ كما تقول هَيْن وأهوِنَاءَ إلا إنَّه كان الأصلُ أشْيئاءَ على وزْنِ " أشبِعاع ، فاجْتَمَعَتْ هَمزتَان بينهما ألف ، فحذفت الهمزة الأولى.
وهذا غلط أيضاً ؛ لأن شيئاً فَعْلٌ ، وفَعْل لا يجمع على أفعلا " فأما هَين.
فأصله أهيِنُ ، فجمع على أفعلاءَ ، كما يجمع فعيل على أفعلاء مثل نصيب
وأنصباءَ.
وقال الخليل : أشياءَ اسم للجميع كان أصله فعلاءَ - شيئاء
فاستثقلت الهمزتان فقلبت الأولى إلى أول الكلمة فَجعلَت لفْعاءَ كما قالوا
أنْوق فقلبوا أينق ، كما قلبوا قووس فقالوا قِسيّ.
ويُصَذقُ قولَ الخليل جمعهُم أشياءَ على أشاوى ، وأشَايَاه وقول
الخليل هو مَذهَب سيبويه وأبِي عُثْمانَ المازني وجميعِ البصريين إِلا
الزيادى منهم ، فإنه كان يميل إلى قول الأخفش.
وذكروا أن المازني ناظر الأخفش في هذا فقطع المازنى الأخْفَشَ.
وذلك أنه سأله : كيف تُصغرُ أشياءَ فقال : أشَيَّاء ، فاعلم.
ولو كانت أفعلاءُ لرُدَّتْ في التصغير إلى واحدها ، فقيل شُيَيْئَات ، وإِجماع البصريين أن تصغير
أصدقاءَ إذا كان للمَؤنثات صُديِّقَات وإن كان للمذكرين صُدَيِّقُون.
* * *
و (مَا جَعَلَ اللّه مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٠٣)
أثبتُ ما رَوينا في تفسير هذه الأسماء عن أهل اللغة ما أذكره ههنا :
قال أهل اللغة : الْبَحِيرةُ ناقةٌ كانت إذا نُتجت خمسة أبطُن وكان آخرُها
ذكراً ، نحروا أذْنَها - أي شَقوهَا - وامتنعوا من ركوبها وذبْحهَا ، ولا تطرد عن ماءٍ ولا تمنع مِن مَرْعًى ، وإِذا لقِيها المعُيى لم يركبها.
والسائبة . كان الرجل إذَا نذَر لقدوم من سَفَر بُرءٍ منْ عِلَّة ما أشبه
ذلك قال ناقتي هذه سائبة ، فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها وأنْ لَا تُجْلَى
عن مَاء ولا تَمْنعُ من مَرْعًى.
وكان الرجل إذا أعتَقَ عبداً قال هو سائِبةٌ ، فلا عقل بينهما ولا
ميراث.
وأما الوَصِيلَةُ ففي الغنم ، كانت الشاة إِذا ولدت أنثى فهي لهم وإِذا
ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها ، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم.
وأمَّا الحامِي فالذكر من الإبل . كانت العرب إِذا نتجت من صلب الفحل
عشرة أبْطن ، حُمِي ظهرهُ فلا يحمل عليه ، ولا يمنع من ماءٍ ولا مرعى.
فأعلم اللّه أنَّه لَمْ يُحَرَمْ من هذه الأشياءِ شيئاً ، وأن الذين كفروا افْتروْا على
اللّه.
* * *
و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
معناه إِنما ألزمكم اللّه أمرَ أنْفُسَكُمْ .
(لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ).
أي لا يُؤاخذكم اللّه بذنوب غيركم ، وليس يُوجبُ لفظُ هذه الآيةِ ترك
الأمْرِ بالمعروف والنهيِ عَن المنكر ، وأعلم أنه لا يضر المْؤمِنَ كفرُ الكافِرِ.
فإذا تَركَ المؤْمنُ الأمرَ بالْمَعروفِ وهو مستطيع ذلك فهو ضَال ، وليس بِمُهْتَدِ.
وَإِعْرًابُ : (لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ) الأجود أن يكون رفعاً
ويكون على جهة الخبرِ.
ليس يضُركم مَنْ ضَل إِذَا اهْتَدَيتُم.
ويجُوزُ أن يكونَ موضعُهُ جزماً ، ويكون الأصل لا يضرُركم إِلا أن الراءَ الأولى أدغِمَتْ في الثانِيَةِ فَضُمَّتِ الثانية لالتقاءِ السَّاكنين ، ويجوز في العرَبِيةِ على جهة النهيِ لا يضركم بفتح الراءِ ، ولا يَضُركم بكسرها.
ولكن القراءَة لا تُخَالَفُ ، ولأنَّ الضم أجْوَدُ كان الموضعُ رفعاً جَزْماً.
فأمَّا من ضَمَّ لالتقاءِ السَّاكنين فأتبع الضمَّ الضمَّ ، وأمَّا من كسر فلان
أصل التقاءِ السَّاكنين الكسر ، وأمَّا من فتح فلخفة الفتح فتح لالتقاءِ السَّاكنين.
وهذا النهي للفظ غائب يراد به المخاطبون ، إذا قلت : لا يَضْررْكَ كفرُ
الكافر ، فالمعنى لا تَعُدَّنَ أنت كفْرُه ضَرَراً ، كما أنك إِذَا قلتَ لا أرنيك ههنا ، فالنهي في اللفظ لنفسك ، ومعناه لمخَاطَبِكَ ، معناه لا تكونن ههنا.
* * *
و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّه إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّه إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦)
معناه أنَّ الشَهادةَ في وقت الوصية هي للموت ليس أن الموتَ حاضرُه
وهو يُوصِي بما يَقُولُ الموصِي ، صحيحاً كان غَير صحيحٍ : إِذا حَضَرَنِي
الموتُ ، إذَا مِتُ فافعلوا واصْنَعُوا.
والشهادة ترتفع من جهتين :
أحدهما أن تَرتَفِعَ بالابتداءِ ويكون خبرها " اثنان " ، والمعنى شهادة هذه الحال شهادةُ اثنين ، فتحذف شهادة ويَقُومُ اثنان مقامها .
ويجوز أن يكون رفع (شهادةُ بينِكم) على قوله وفِيما فرض اللّه عليكم
في شهادتكم أن يشهد اثنان ، فيرتفع اثنان بشهادة ، والمعنى أن يشهد اثنان
فيرتفع اثنان بشهادة ، والمعنى أ، يشهد اثنان ذوا عَدْل منكم.
معنى " مِنْكُمْ " قيل فيه قولان ، قال بعضُهم منكم من أهل دينكم.
( آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكمْ) من غير أهْلِ مِلَّتكم.
وقال بعضهم : (ذَوَا عَدْل مِنْكم) من أهل الميت ، آخرَان مِن غَيْركم
مِن غَيرِ أهلِ الميِّت ، واحتجِ هؤلاءِ بأن (فَيَقْسِمَان باللّه إِن ارتَبتم لَا نَشْتَرِي بِه ثَمَناً وَلَو كَانَ ذَا قربى) يَدل على أن مِنْكم مِنْ ذَوِي قَراباتِكم.
وقال هؤلاءِ إِذا كانوا أيضاً عُدولًا مِنْ قَرَابَاتِ الميِّتِ ، فهم أولى لأنهم
أعلم بأحوال الأهْل مِن الغرائب ، وأعلم بما يُصلِحُهم ، واحتجوا أيضاً بأن
(ذَوَى عَدْل) لا يكونان من غير أهل ملة الِإسلام لأن الكفر قد باعدَ من
العدالة.
فأَعلم اللّه عزَّ وجلَّ أن الوصيةَ ينبغي أن يكونَ شاهدها عَدلَيْن من أهل
الميت من غير أهله إِن كان الْموصِي في حضرٍ وكذلك إِن كان في سفر.
ف (إِن أَنتمْ ضَرَبتُم في الأرضِ فَأصابَتْكُمْ مصِيبَةُ الْمَوْتِ).
ذكر الموت في السفر بعد إِذا حضر أحدكم الموت حين
الوصية ، فكان في الآية - واللّه أعلم - دليلًا على الشهادة في الحضر والسفر.
وقد جاءَ في التفسير أن اثنين كانا شَهِدَا في السفر غير مسلمين
وللإِجماع أن الشهود لا يجب أن يحلفوا.
وقد أجاز قوم في السفر شهادة الذِّميين.
وقال اللّه عَز وجل : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للّه) وقال : (مِمَّنْ تَرضَونَ منَ الشهَدَاءِ)
والشاهد إِذا عُلِمَ أنه كذاب لم تجر أن تقْبَل شهادته ، وقد علمنا أن النصارى زعمت أن اللّه ثالث ثلاثة وأن إليهود قالت إن الْعَزَيرَ ابنَ اللّه وعَلِمنَا أنهم كَاذِبُونَ ، فكيف يجوز أن تُقْبَلَ شهادَة منْ هوَ مقِيمٌ عَلى الْكَذِب ؟
ومعنى (تَحبِسُونَهُمَا من بَعْد الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّه).
كان الناس بالحجاز يحلفون بعد صلاة العصر ، لأنه وقت اجتماع
الناس.
و (إِن ارتَبْتُمْ).
إِنْ وَقَعَ في أنفسِكم مِنهم رَيْبٌ ، أي ظننتم بهم رِيبَة.
و (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّه لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧)
أي فإِن اطلِع على أنهما قَد خَانَا.
(فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ).
وقد قرئت الأولَيْنَ ويجوز (مِن الَّذِينَ اسْتَحَق عَلَيْهِمً الأَوْلَيَانِ) وهذا
موضع من أصعب ما في القرآن في الإعراب.
فأوليان في قول أكثر البصريين يرتفِعان على البدل مما في (يقومان).
: " فَلْيَقًمْ الأولَيان بالميت مقام هذين الخائنين).
(فَيُقْسِمَانِ بِاللّه لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا).
فإِذا ارتفع الأوليان على البدل ، فاللذان في استحق من الضمير معنى
الوصية ، فليقم الأوليان من الَّذِينَ استحقت الوصية عليهم ، استحق
الِإيصاء عليهم.
وقال بعضهم : مَعْنَى (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) معناه : استُحِق
فيهم ، وقامت " على " مقام " في " كما قامت " في " مقام " على " في
(وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) ومعناه : على جذوع النخل.
وقال بعضهم معنى على (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) كما قال :
(الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) أي إِذا اكتالوا من الناس.
وقيل أن في " استحق " ذكر الِإثم ، لأن قوله عزَّ وجلَّ : (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ)
كان : الذين جَنِيَ الإِثْمُ عَلَيْهِم.
وقيل إِن " الأولَيَانِ " جائز أن يرتفعا باستحق ، ويكون
معناهما الأوليان باليَمِينِ ، أي بأن يُحلفا من يشهدُ بعدهما ، فإِن جاز شهادة
النَّصرانيين كان " الأولَيَانِ " على هذا القول النصرانيين ، الآخران من غير
بيت الميت.
وأجود هذه الأقوال أن يكون الأولَيَان بَدَلا ، على أن :
لِيَقُمِ الأولَيَانِ من الذين استحق عليهم الوصية.
ومن قرأ (الأوَّلينَ) رده على الذين ، وكان من الذين استحق عليهم الإِيصاء الأولين.
واحتج من قرا بهذا فقال : أرأيت إِن كان الأولَيَانِ صغيرين ؟.
* * *
و (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللّه وَاسْمَعُوا وَاللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (١٠٨)
أي ذلك أقرب من الإتيان بالشهادة على وجهها ، وأقرب إِلى أن يخافوا.
* * *
و (يَوْمَ يَجْمَعُ اللّه الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١٠٩)
أَما نَصْبُ " يوم " فمحمول على قوله . . . (وَاتَّقُوا اللّه وَاسْمَعُوا) أي ، وَاتَّقُوا يومَ يجمَع اللّه الرسل ، كما قال : (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا).
ومعنى المسألة من اللّه تعالى للرسل تكون على جهة التوبيخ للذين
أرسلوا إِليهم ، كما قال عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩).
فَإِنَّمَا تسأل ليوَبَّخ قَاتِلُوهَا ، وأمَّا إِجابة الرسل وقولهم : " لَا عِلْم لَنَا "
فقد قال الناس في هذا غير قول :
جا ءَ في بعض التفسير إنَّه عزَبَتْ عنهم أفهامهم لهول يوم القيامة فقالوا :
لا علم لنا مع عِلْمِك.
وقال بعضهم : لو كانت عزبت أفهامهم لم يقولوا إِنك
أنت علام الغيوب.
وَقَال بعضهم معنى قول الرسل (لا علم لنا) أي بما غاب
عَنا مِمن أرْسِلْنَا إِليه ، أنت يا رَبنَا تَعْلم بَاطِنَهم ولَسنَا نعلم غيبهم إِنك أنت
علام الغيوب.
* * *
و (إِذْ قَالَ اللّه يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠)
أمَّا نعمته على وَالِدَتِه فَإِنه اصطفاها وطهرها واصطفاها على نساءِ
العالمين ، وكان رِزْةُها يأتيها من عنده وهي في محرابها.
و (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ).
أي أيَّدتك بجبريل ، جائز أن يكون قوله به ، إِذ حاولت بنو إِسرائيل
قتله ، وجائز أن يكون أيَّده به في كل أحواله ، لأن في الكلام دليلاً على ذلك.
و (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ).
أي أيَّدتُكَ مُكَلِّماً النَّاسَ في المهد (وَكَهْلًا) أي أيدتُكَ كَهْلا ، وجائز
أن يكون (وَكَهْلًا) محمولاً على تكلم ، كان أيدتك مخاطباً للناس
في صغرك ومخاطباً الناس كهلاً ، وقرأ بعضهم : " أَأْيَدْتُكَ " على أفْعَلتكَ من
الأيد وقرأ بعضهم آيَدْتك على فاعلتك أي عاونتك.
و (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي).
الأكمه قال بعضهم : الذي يولد أعمى ، قال الخليل هو الذي يولد
أعمى ، وهو الذي يَعْمَى بعد أن كان بصيراً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (١١١)
قال بعضهم : (أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ) أي أَلْهَمتُهم كما قال : (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا) أي ألهمها.
وقال بعضهم (أوحيت إِلى الحواريين)معناه : أمرهم.
وأنشدوا قول الشاعر :
الحمد للّه الذي استَهلًَّت . . . بإِذنه السَّماءُ واطمأنَّت
أوحَى لها القَرارَ فاسْتَقَرت
قالوا معناه : أمرها.
وقال بعضهم : معنى (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ) أتيْتُهمْ في الوحي
إِليك بالبراهين والآيات التي استدلوا بها على الِإيمان فآمنوا بي.
* * *
و (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللّه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢)
جائز أن يكون موضع " عيسى " نصباً ، كما تقول : يا زيدَ بنْ عَمْرو ، لأن
ابْناً إِذا أضيف إِلى اسمٍ مَعْروفٍ عَلم أضيف إِلى كُنيةٍ معروفة جُعِلَ وما
قبله كالشيء الواحد فجميع النحويين يختارون يا زيدَ بنَ عَمْرٍو ، وكلهم
يجيزون : " يا زيدُ بنَ عَمروٍ.
وعلى هذا جائز أن يكونَ موضع عيسى موضِعَ
اسم مبني على الضمِّ ، قَالوا كلُّهم فَإِنْ قلت يا زيدُ بنَ أخِينا ، ويا زيدُ ابنَ
الرجلِ الصالحِ فضممت زيداً لا غيْر . لأن النصب إِنما يكون إِذا أضيف
ابن إِلي عَلَمٍ كما وصفنا.
وقد قُرئ : (هل تَسْتَطِيعُ رَبَّك) و (هل يَستَطيعُ رَبُّك).
فمن قرأ (هل تَسْتَطِيعُ رَبَّك) . فالمعنى هل تستدعي إِجَابَتَه وطاعَتَه في
أن يُنْزِلَ علينا ، ومن قراها (هل يَستَطيعُ رَبُّك) كان معناه هل يقدر ربُّك.
قال أبو إسحاق : وليس عندي - واللّه أعلم - أنهم جهلوا أن اللّه
يقدر على أن ينزل مائدة ، ولكن وجه السؤال هل ترينا أنت أن ربَّك يُرينَا ما
سَألنَا من أجلِكَ من آياتك التي تدل على نبوتك.
فأمَّا المائدة فقال أبو عبيدة : إنها في مَفعُولة ولفظها فاعلة ، قال : وهي مثل عِيشَةٍ راضية ، وقال إِن المائدة من العطاءِ ، والممتاد المفتَعل المطلوب منه العطاءَ.
قال الشاعر :
إِنَي أميرُ المؤْمِنين المُمتَاد
وَمَادَ زيد عمراً إذا أعطاه . والأصل عندي في مائدة أنها فاعلة من ماد
يميدُ إِذَا تحرَّكَ فكأنَّها تميد بما عليها.
وقيل في التفسير إِنها أنزلت عليهم في يوم الأحد وكان عليها خبز
وسمك ، فالنصارى تجعل الأحد عيدا - فيما قيل - لذلك.
وقال بعضهم إِنها لم تنْزَل للتَّهَوُّدِ الذي وقع في الكفر بعد نزولها ، والأشبه أن تكون لأن نزولَها قد جَاءَ ذكره في هَذِه القِصةِ.
قال اللّه عزَّ وجلَّ : (إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ)
وقال غير أهل الِإسلام إِنها نزلت ، والأخبار أنها انتهت ، فالتصديق بها
واجب.
فأمَّا وجه مَسْألةِ الحواريين عيسى المائدة فيحمل ضربين أحدهما أن
يكُونوا ازْدَادُوا تثبيتاً ، كما قال إبراهيم : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى).
وجائز أن تكون مسألتهم المائدة قبل علمهم أنه أبرأ الأكمه والأبرص وأنَّه أحيا الموتى.
وأما قول عيسى للحواريين :
(اتَّقُوا اللّه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
فإِنَّما أمَرهم ألَّا يقترحوا هم الآيات ، وألَّا يقوموا بين يدي اللّه ورسوله.
لأن اللّه قد أراهم الآيات والبراهين بإحياءِ الموتى وهو أوكد فيما سألوا
وطلبوا.
* * *
و (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللّهمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤)
ذكر سيبويه أن (اللّهمَّ) كالصوتِ وأنه لَا يُوصَف ، وأن (رَبَّنَا) منصوب على
نداءٍ آخر ، وقد شرحنا هذا قبل شرحاً تاماً.
ومعنى (وآيةً مِنْك).
أي فتكون لنا علامة منك.
وأمَّا (قَالَ اللّه إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (١١٥)
فجائز ، أن يكون يُعجِّلُ لهم العذابَ في الدنيا ، وجائز أن يكون في الآخرة ل (لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ)
* * *
و (وَإِذْ قَالَ اللّه يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّه قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١١٦)
فَالمسألة ههنا على وَجْهِ التَوْبيخِ للذين ادَّعَوْا عليه لأنهم مجْمِعونَ أنه
صادق الخبر وأنَّه لا يكذبهم وهو الصادق عندَهم فذلك أوكَدُ في الحجةِ
عَلَيْهِمْ وأبلَغُ في توبيخهم ، والتوبيخ ضَرْبٌ من العقوبة.
قال : (سبْحَانَكَ). أي براءٌ أنت من السوءِ.
(مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ).
وأمَّا (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).
و " الْغُيُوبِ " بالكسر والضم.
قال أبو إسحاق : هذا موضع أعني (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) يُلَبِّسُ به أهلُ الِإلحَادِ على مَنْ ضَعُف علمه باللغة ولا تعلم حقيقة هذا
إلا من اللغة ، قال أهل اللغة : النفس في كلام العرب تجري على ضربين
أحدهما قولك خرجت نفس فلان وفي نَفْسِ فلانٍ أن يَفْعَل كذا وكذا.
والضرب الآخر معنى النفس فيه معنى جملة الشيء ومعنى حقيقة الشيءِ ، قتلَ
فلان نفسه ، وأهْلك فلان نفسه ، فليس معناه أن الِإهلاك وقع ببعضه ، إِنما
الِإهلاك وقع بذاته كلها ، ووقع بحقيقته ، ومعنى تعلم ما في نفسي ، أي تعلم
ما أضْمره ، ولا أعلم ما في نفسك . لا أعلم ما في حقيقتك وما عندي علمه ، فالتأويل أنك تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم ، ويدل عليه : (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).
فإِنما هو راجع إِلى الفائدة في المعلوم والتوكيد أن الغيب لا يعلمه إلا
اللّه جلّ ثناؤه.
* * *
و (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللّه رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧)
(أَنِ اعْبُدُوا اللّه رَبِّي وَرَبَّكُمْ)
جائز أن تَكُون في معنى " أي " مُفَسِّرةً ، ما قلت لهم إِلا ما
أمرتني به أي اعبدوا ، ويجوز أن تكون " أن " في موضع جَر على البَدَل من
الهاءِ ، وتكون " أن " موصولة ب (اعبدوا اللّه) ومعناه إِلا مَا أمرْتَني بِهِ بأن يَعبدوا اللّه.
ويجوز أن يكونَ موضعها نصباً على البدل ، من (ما).
ما قلت لهم شيئاً إِلا أن اعبدوا اللّه ، أي ما ذكرت لهم إِلا عبادة اللّه.
* * *
و (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)).
معنى قول عيسى - عليه السلام - (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ)
اختلف أهل النظر في تفسير قول عيسى : (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ).
فَقَال بعضُهم معناه إِن تغفر لَهُمْ كذِبَهُم عليَّ.
وقالوا لا يجوز أن يقول عيسى عليه السلام : إِن اللّه يجوز أن يغفِرَ
الكُفْرَ ، وكأنه على هذا القول : إِن تغفر لهم الحكاية فقط ، هذا قول أبي
العباس محمد بن يزيد ،
ولا أدري أشَيءٌ سَمِعَه أم اسْتَخْرجَه ، والذي عندي واللّه أعلم ، أن عيسى قد علم أن منهم من آمن ومنهم من أقام على الكفر ، فقال عيسى في جملتهم . (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) أي إِن تعذبْ من كفر منهم.
فإنهم عبادك وأنت العادلُ عليهم لأنك أوضحت لهم الحق وكفروا بعد وجوب الحجة عليهم ، وَإنْ تَغْفِرْ لمن أقلعَ منهم وآمن فذلك تفضل منك لأنه قد كان لك ألا تَقْبلهم وألا تغفر لهم بعد عظيم فريتهم ، وأنت في مغفرتك لهم عزيز لا يمتنع عليك ما تريد ، " حكيم " في ذلك.
وقال بعض الناس : جائز أن يكون اللّه لم يُعْلمْ عِيسى أنَّه لَا يَغْفِرُ
الشرك ، وهذا قول لا يعرج عليه لأن قوله تعالى (إِنَّ اللّه لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) لا يخص شيئاً من أمَّة محمد - صلى اللّه عليه وسلم - دون غيرها ، لأن هذا خبر والخبر لا ينسخ ، وهذا القول دار في المناظرة وليس شيئاً يعتقده أحد يوثق بعلمه.
* * *
و (قَالَ اللّه هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩)
القراءَة برفع " اليوم " ونصب " اليوم " جميعاً ، فأمَّا من رفع اليوم فعلى خبر هذا اليوم ، قال اللّه اليوم ذو منفعة صدق الصادقين ومن نصب فعلى أن يوم
منصوب على الظرف ، قال اللّه : هذا لعيسى في يوم ينفع الصادقين
صدقهم ، أي قال اللّه هذا في يوم القيامة ، ويجوز أن يكون قال اللّه هذه
الأشياء وهذا الذي ذكرناه يقع في يوم ينفع الصادقين صدقهم ، وزعم بعضهم أن (يوم) منصوب لأنه مضاف إِلى الفعل ، وهو في موضع رفع بمنزله يومَئذ
مبني على الفتح في كل حال ، وهذا عند البصريين خطأ ، لا يجيزون هذا يومَ
آتيك يريدون هذا يوم إِتيانك لأن آتيك فعلٌ مضارع ، فالإِضافة إِليه لا تزيل
الِإعراب عن جهته ولكنهم يجيزون ذلك يومَ نفعَ زيداً صِدْقه ، لأن الفعل
الماضي غيرُ مضارع ، فهي إِضافة إلى غير متمكن وإِلى غير ما ضارع
المتمكن ، وفيها وجه ثالث . (هذا يومٌ يَنْفَعَ الصادقين) بتنوين " يوم " على إِضمار (هذا يوم ينفع - فيه الصادقين صدقهم) ، ويكون ك
(وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا).
ومثله قول الشاعر :
وما الدَّهرُ إِلا تارتان فمنهما أموتُ . . . وأخرى أبتغي العَيْشَ أكدَحُ
فمنهما تارة أموت فيها .