سُورَةُ النِّسَاءِ مَدَنِيَّةٌ

وَهِيَ مِائَةٌ وَسِتٌّ وَسَبْعُونَ آيَةً

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عزَّ وجلَّ - (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللّه الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللّه كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١)

ابتدأ اللّه السورة بالموعظة . أخبر بما يوجب أنه واحد وأن حقه

عز وجلَّ - أن يُتَقى فقال :

(الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)

يعني من آدم عليه السلام ، وإنما قيل في اللغة واحدة لأن لفظ النفس

مؤَنث ، ومعناها مذكر في هذا الموضع ، ولو قيل من نفس واحد لجاز.

(وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا)

حواءَ خُلِقتْ من ضِلْع من أضْلاع آدَم ، وبث اللّه جميع خلق الناس

منها.

ومعنى " بَث " نشر ، يقال : بث اللّه الخلق ، وقال - عزَّ وجلَّ -

(كَالفَرَاشِ المبْثُوثِ) ، ، فهذا يدل على بث.

وبعض العرب يقول أبث اللّه الخلقَ ، ويُقَال بَثَثتُك سِري وأبْثثتك سِري.

وقوله - عزَّ وجلَّ : (وَاتَّقُوا اللّه الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ)

بالتشديد ، فالأصل تتساءلون . وأدْغمت التاءُ في السين لقرب مكان هذه

من هذه . ومن قرأ بالتخفيف فالأصل تتساءَلُون ، إلا أن التاءَ الثانية حذفت

لاجتماع التَاءَيْن ، وذلك يُستثقل في اللفْظ فوقع الحذف استخفافاً ، لأن الكلام غيرُ مُلْبس.

ومعنى (تساءَلُون بِهِ) تَطْلُبُونَ حُقُوقكم بِهِ.

(والأرْحَامَ)

القراءَة الجيِّدةُ نصب الأرحام .  واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، فأما

الجر في الأرحامِ فخطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار شعر (١) ، وخطأ أيضاً

في أمْر الدين عظيم ، لأن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - قال :

" لا تحلفوا بآبائكم ".

فكيف يكون تساءَلون به وبالرحم على ذا ؟.

رأيت أبا إسحاق إسماعيل بن إسحاق يذهب إلى أن الحلف بغير اللّه

أمر عظيم ، وأن ذلك خاص للّه - عزَّ وجلَّ - على ما أتت به الرواية.

فأما العربية فإجماع النحويين أنه يَقْبحُ أنْ يُنْسق باسم ظاهر على اسم

مضمر في حال الجر إلا بإِظهار الجار ، يَسْتَقْبح النحوُيون : مررت به وزيدٍ.

وبك وزيدٍ ، إِلا مع إظهار الخافض حتى يقولوا بك وبزيد ، فقال بعضهم :

لأن المخفوض حرف مُتَصِل غيرُ منفصل ، فكأنَّه كالتنوين في الاسم ، فقبح أن

يعطف باسم يقُومُ بنفسه على اسم لا يقوم بنفسه . وقد فسر المازي هذا تفسيراً مُقْنِعاً فقال : الثاني في العطف شريك للأول ، فإِن كان الأول يصلح شريكاً

__________

(١) قال السَّمين :

  والأرحام  الجمهور/ على نصب ميم « والأرحام » وفيه وجهان ، أحدهما : أنه عطفٌ على لفظ الجلالة أي : واتقوا الأرحام أي : لا تقطعوها . وقَدَّر بعضهم مضافاً أي : قَطْعَ الأرحام ، ويقال : « إنَّ هذا في الحقيقة من عطفِ الخاص على العام ، وذلك أن معنى اتقوا اللّه : اتقوا مخالفَتَه ، وقطعُ الأرحام مندرجٌ فيها » . و

الثاني : أنه معطوفٌ على محل المجرور في « به » نحو : مررت بزيد وعمراً ، لَمَّا لَم يَشْرَكْه في الإِتباع على اللفظِ تبعه على الموضع . ويؤيد هذا قراءة عبد اللّه : « وبالأرحام » . وقال أبو البقاء : « تُعَظِّمونه والأرحام ، لأنَّ الحَلْفَ به تعظيمٌ له ».

وقرأ حمزة « والأرحامِ » بالجر ، وفيها قولان ، أحدهما : أنه عطفٌ على الضمير المجرور في « به » من غير إعادة الجار ، وهذا لا يجيزه البصريون ، وقد تقدَّم تحقيقُ القول في هذه المسألة ، وأنَّ فيها ثلاثةَ مذاهب ، واحتجاجُ كل فريق في قوله تعالىوَكُفْرٌ بِهِ والمسجد  [ البقرة : ٢١٧ ].

وقد طَعَنَ جماعة على هذه القراءة كالزَّجَّاج وغيره ، حتى يحكى عن الفراء الذي مذهبه جوازُ ذلك أنه قال : « حَدَّثني شريك بن عبد اللّه عن الأعمش عن إبراهيم قال : » والأرحامِ « بخفض الأرحام هو كقولهم : » أسألك باللّه والرحمِ « قال : » وهذا قبيحٌ « لأنَّ العرب لا تَرُدُّ مخفوضاً على مخفوضٍ قد كُنِيَ عنه ».

و

الثاني : أنه ليس معطوفاً على الضمير المجرور بل الواوُ للقسم وهو خفضٌ بحرفِ القسم مُقْسَمٌ به ، وجوابُ القسم : « إنَّ اللّه كان عليكم رقيباً » . وضُعِّف هذا بوجهين ، أحدهما : أن قراءتَيْ النصبِ وإظهار حرف الجر في « بالأرحام » يمنعان من ذلك ، والأصل توافقُ القراءات . و

الثاني : أنه نُهِيَ أن يُحْلَف بغير اللّه تعالى والأحاديثُ مصرحةٌ بذلك.

وقدَّر بعضُهم مضافاً فراراً من ذلك فقال : « تقديره : وربِّ الأرحام : قال أبو البقاء : وهذا قد أَغْنى عنه ما قبله » يعني الحلف باللّه تعالى . ولقائل [ أن يقول : ] « إنَّ للّه تعالى أن يُقْسِم بما شاء كما أقسم بمخلوقاتِه كالشمس والنجم والليل ، وإن كنا نحن مَنْهيين عن ذلك » ، إلا أنَّ المقصودَ من حيث  ليس على القسمِ ، فالأَوْلى حَمْلُ هذه القراءةِ على العطفِ على الضمير ، ولا التفاتَ إلى طَعْنِ مَنْ طَعَن فيها ، وحمزةُ بالرتبة السَّنِيَّة المانعةِ له مِنْ نقلِ قراءة ضعيفة.

وقرأ عبد اللّه أيضاً : « والأرحامُ » رفعاً وهو على الابتداء ، والخبر محذوفٌ فقدَّره ابن عطية : « أهلٌ أَنْ توصل » ، وقَدَّره الزمخشري : و « الأرحامُ مِمَّا يتقى ،  : مما يُتَساءل به » ، وهذا أحسنُ للدلالة اللفظية والمعنوية ، بخلاف الأول ، فإنه للدلالة المعنوية فقط ، وقَدَّره أبو البقاء : « والأرحامُ محترمة » أي : واجبٌ حرمتُها . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

وقال العلامة الآلوسي :

 والأرحام  بالنصب وهو معطوف إما على محل الجار والمجرور إن كان المحل لهما ،  على محل المجرور إن كان المحل له ، والكلام على حدّ مررت بزيد ، وعمراً ، وينصره قراءة (تساءلون به وبالأرحام) وأنهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة باللّه تعالى ويقولون : أسألك باللّه تعالى وباللّه سبحانه وبالرحم كما أخرج ذلك غير واحد عن مجاهد ، وهو اختيار الفارسي وعلي بن عيسى؛ وإما معطوف على الاسم الجليل أي اتقوا اللّه تعالى والأرحام وصلوها ولا تقطعوها فإن قطعها مما يجب أن يتقى ، وهو رواية ابن حميد عن مجاهد والضحاك عن ابن عباس ، وابن المنذر عن عكرمة ، وحكي عن أبي جعفر رضي اللّه تعالى عنه واختاره الفراء والزَّجَّاج ، وجوز الواحدي النصب على الإغراء أي والزموا الأرحام وصلوها ، وقرأ حمزة بالجر ، وخرجت في المشهور على العطف على الضمير المجرور ، وضعف ذلك أكثر النحويين بأن الضمير المجرور كبعض الكلمة لشدة اتصاله بها فكما لا يعطف على جزء الكلمة لا يعطف عليه.

وأول من شنع على حمزة في هذ القراءة أبو العباس المبرد حتى قال : لا تحل القراءة بها ، وتبعه في ذلك جماعة منهم ابن عطية وزعم أنه يردها وجهان : أحدهما : أن ذكر أن الأرحام مما يتساءل بها لا معنى له في الحض على تقوى اللّه تعالى ، ولا فائدة فيها أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها ، وهذا مما يغض من الفصاحة ، و

الثاني : أن في ذكرها على ذلك تقرير التساؤل بها والقسم بحرمتها ، والحديث الصحيح يرد ذلك ، فقد أخرج الشيخان عنه صلى اللّه عليه وسلم : " من كان حالفاً فليحلف باللّه تعالى  ليصمت " وأنت تعلم أن حمزة لم يقرأ كذلك من نفسه ولكن أخذ ذلك بل جميع القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش والإمام بن أعين ومحمد بن أبى ليلى ، وجعفر بن محمد الصادق وكان صالحاً ورعاً ثقة في الحديث من الطبقة الثالثة.

وقد قال الإمام أبو حنيفة والثوري ويحيى بن آدم في حقه غلب حمزة الناس على القراءة والفرائض ، وأخذ عنه جماعة وتلمذوا عليه منهم إمام الكوفة قراءة وعربية أبو الحسن الكسائي ، وهو أحد القراء السبع الذين قال أساطين الدين : إن قراءتهم متواترة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ومع هذا لم يقرأ بذلك وحده بل قرأ به جماعة من غير السبعة كابن مسعود وابن عباس وإبراهيم النخعي والحسن البصري وقتادة ومجاهد وغيرهم كما نقله ابن يعيش فالتشنيع على هذا الإمام في غاية الشناعة ونهاية الجسارة والبشاعة وربما يخشى منه الكفر ، وما ذكر من امتناع العطف على الضمير المجرور هو مذهب البصريين ولسنا متعبدين باتباعهم ، وقد أطال أبو حيان في «البحر» الكلام في الرد عليهم ، وادعى أن ما ذهبوا إليه غير صحيح ، بل الصحيح ما ذهب إليه الكوفيون من الجواز وورد ذلك في لسان العرب نثراً ونظماً ، وإلى ذلك ذهب ابن مالك ، وحديث إن ذكر الأرحام حينئذ لا معنى له في الحض على تقوى اللّه تعالى ساقط من القول لأن التقوى إن أريد بها تقوى خاصة وهي التي في حقوق العباد التي من جملتها صلة الرحم فالتساؤل بالأرحام مما يقتضيه بلا ريب ، وإن أريد الأعم فلدخوله فيها وأما شبهة أن في ذكرها تقرير التساؤل بها ، والقسم بحرمتها والحديث يرد ذلك للنهي فيه عن الحلف بغير اللّه تعالى ، فقد قيل في جوابها : لا نسلم أن الحلف بغير اللّه تعالى مطلقاً منهي عنه ، بل المنهي عنه ما كان مع اعتقاد وجوب البر ، وأما الحلف على سبيل التأكيد مثلاً فمما لا بأس به ففي الخبر «أفلح وأبيه إن صدق».

وقد ذكر بعضهم أن قول الشخص لآخر : أسألك بالرحم أن تفعل كذا ليس الغرض منه سوى الاستعطاف وليس هو كقول القائل والرحم لأفعلن كذا ، ولقد فعلت كذا ، فلا يكون متعلق النهي في شيء ، والقول بأن المراد ههنا حكاية ما كانوا يفعلون في الجاهلية لا يخفى ما فيه فافهم وقد خرج ابن جني هذه القراءة على تخريج آخر ، فقال في «الخصائص» : باب في أن المحذوف إذا دلت الدلالة عليه كان في حكم الملفوظ به من ذلك.

رسم دار وقفت في طللّه . . .

أي رب رسم دار ، وكان رؤبة إذا قيل له : كيف أصبحت؟ يقول : خير عافاك اللّه تعالى أي بخير يحذف الباء لدلالة الحال عليها ، وعلى نحو من هذا تتوجه عندنا قراءة حمزة وفي «شرح المفصل» أن الباء في هذه القراءة محذوفة لتقدم ذكرها ، وقد مشى على ذلك أيضاً الزمخشري في «أحاجيه» ، وذكر صاحب «الكشف» أنه أقرب من التخريج الأول عند أكثر البصرية لثبوت إضمار الجار في نحو اللّه لأفعلن وفي نحو ما مثل عبد اللّه ولا أخيه يقولان ذلك والحمل على ما ثبت هو الوجه ، ونقل عن بعضهم أن الواو للقسم على نحو اتق اللّه تعالى فواللّه إنه مطلع عليك وترك الفاء لأن الاستئناف أقوى الأصلين وهو وجه حسن.

وقرأ ابن زيد  والأرحام  بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر ، أي والأرحام كذلك أي مما يتقى لقرينة  اتقوا   مما يتساءل به لقرينة  تَسَاءلُونَ  وقدره ابن عطية أهل لأن توصل وابن جني مما يجب أن توصلوه وتحتاطوا فيه ولعل الجملة حينئذ معترضة وإلا ففي العطف خفاء ، وقد نبه سبحانه إذ قرن الأرحام باسمه سبحانه على أن صلتها بمكان منه تعالى. ا هـ (روح المعاني . ٤ / ١٨٤ - ١٨٥).

للثاني وإلا لم يصلح أن يكون الثاني شريكاً له.

قال : فكما لا تقول مررت بزيد و " ك " فكذلك لا يجوز مررت بك وزيدٍ.

وقد جاز ذلك في الشعر.

أنشد سيبويه :

فاليوم قربْت تهجُونا وتشتُمنا . . . فاذْهب فما بك والأيَّامِ من عجب

* * *

٢

و (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (٢)

أي أعْطوهم أموالهم إذا آنستم منهم رشداً ، وإنما يسموْن يَتامَى - بعد

أن يؤنس منهم الرُّشُد ، وقد زال عنهم اسم يتامى - بالاسم الأول الذي كان لهُم ، وقد كان يُقالُ في النبي - صلى اللّه عليه وسلم - يتيم أبي طالب.

وقوله - عزَّ وجلَّ - : (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ)

الطيب مالكم ، والخبيث مالُ اليتيم وغيرُه مما ليس لكم ، فلا تأكلوا مال

اليتيم بدلًا منْ مَالِكم ، وكذلك لا تأكُلُوا (أيضاً) (أمْوالَهُمْ إِلَى أمْوالِكُمْ).

أي لا تُضِيفُوا أمْوالهم في الأكل إلى أموالكم ، أي إن احتجتم إِليها

فليس لكم أن تأكلوها مع أموالكم.

(إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا)

والحوبُ : الإثم العظيم ، والحُوبُ فعلُ الرجل ، تقول : حاب حُوباً

كقولك قدْ خان خُوناً.

* * *

٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً  مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (٣)

قال مجاهد : إِن تحرجْتُم أن تتركوا ولاية اليتامى إيماناً وتصْديقاً فكذلك

تحرجوا من الزنا ، وقال غيره : وإنْ خفْتم ألا تعدلوا في أمْر النساءِ فانكحوا ما ذكر اللّه عزَّ وجلَّ.

وقال بعض المفسًرين قولًا ثالثاً ، قال أهل البصرة من أهل

العربية : يقول ذلك المفسِّرُ - قال إنهم كانوا يتزوجُون العَشْر مِنَ اليتامَى ونحوَ ذلك رغْبةً في مالِهِن فقال اللّه - جلَّ وعزَّ - (وإن خفتم ألا تُقْسِطُوا في اليتامَى) أي في نكاح اليتامى.

ودل عليه(فانكحوا) كذلك

قال أبو العباس محمد ابن يزيد ، وهو مذهب أهل النظر من أهل التفسير.

(فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)

لم يقل من طاب والوجه في الآدميين أن يقال مَنْ ، وفي الصفاتِ

وأسماءِ الأجناس أن يقال (ما).

تقول : ما عندك ؟ فيقول فرس وطيبٌ.

فالمعنى فانكحوا الطيب الحلال على هذه العِدة التي وصفت ، لأن ليس

كل النساءِ طيباً ، قال - عزَّ وجلَّ - : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ).

فَلَيس ممن ذكر ما يطيبُ.

وقوله - عزَّ وجلَّ - (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)

بدل من (مَا طَابَ لكُمْ) ومعناه اثنين اثنين ، وثلاثاً ثَلاثاً ، وأربعاً أرْبعاً.

إلا أنه لا ينصرف لجهتين لا أعلم أن أحداً من النحويين ذكرهما ، وهي أنه

اجتمع فيه علتان أنَّه معدُول عن اثنين اثنين ، وثلاث ثلاثٍ ، وأنه عدل عن تأنيثٍ.

قال أصحابنا إنه اجتمع فيه عِلتان أنه عُدل عن تأنيث ، وأنه نكرة.

والنكرة أصل للأسماء بهذا كان ينبغي أن نخففه . لأن النكرة تخفف ولا

تعد فرعاً.

وقال غيرهم هو معرفة وهذا محال لأنه صفة للنكرة ، قال اللّه

- جلَّ وعزَّ - : (جَاعلِ المَلَائِكَةِ رُسُلًا أولي اجْنِحةٍ مَثْنَى وثُلَاثَ وَرَبَاعُ).

فهذا مُحال أن يكون أولي أجنحة الثلاثة والأربعة وإِنما معناه أولي أجنحة ثَلاثةً

ثَلَاثَةً وأرْبعةً أربعة.

قال الشاعر :

ولكنما أهلى بوادٍ أنيسُه ذِئَابٌ . . . تَبَغى الناسَ مَثنَى ومَوْحَدُ

فإِنْ قال قائل من الرافضة : إنه قَدْ أحِلَّ لَنا تسْعٌ ، لأنَّ

(مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) يراد به تِسَع ، قيل هذا يبطل من جهات :

أحدها في اللغة أن مثنى لا يصلح إلا لاثنين اثنين على التفريق.

ومنها أنه يصير أعْيى كلام . لو قال قائل في موضع تسعةٍ أعطيك

اثنين وثلاثة وأرْبعة يريد تسْعةً ، قيل تسعة تغنيك عن هذا ، لأن تسعة وضِعتْ لهذا العددِ كله ، أعني من واحد إِلى تسعة.

وبعد فيكون - على قولهم - من تزوج أقل من تسع  واحدة فعاصٍ

لأنه إِذا كان الذِي أبيح له تسعاً  واحدةً فليس لنا سبيل إِلى اثنين.

لأنه إِذا أمرك من تجب عليك طاعته فقال ادخل هذا المسجدَ في اليوم تسعاً

واحدة ، فدخلت غير هاتين اللتين حددهما لك من المرات فقد عصيْته.

هذا قول لا يُعرجُ على مِثله . ولكنَا ذَكرْنَاهُ ليعْلم المسلمون أن أهل هذه

المقالة مباينون لأهل الِإسلام في اعتقادِهم ، ويعتقدون في ذلك ما لا يشتبه

على أحد من الخطأ .

فأمَّا  (ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا)

(فمعناه) ذلك أقْربُ ألا تجُورُوا . وقيل في التَّفْسير : ألّاَ تميلوا ، ومعنى

تميلوا تجوروا . فأما من قال : (أَلَّا تَعُولُوا) : ألا تكثُر عيالُكُمْ ، فزعم جميع أهل اللغة أنَّ هذا خطأ ، لأن الواحدة تعول ، وإِباحةُ كل ما ملكَتْ اليمينُ أزْيدُ في العيال من أربع ، ولم يكن في العدد في النكاح حا حين نزلَتْ هذه

الآية.

والدليل على أنهم كانوا يرغبون في التزويج من اليتامى لمالهنَّ ، أنهم

كانوا لا يبالون ألَّا يعْدلوا في أمرهم.

وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ)

فالمعنى : وإِن خفتم ألا تقسطوا في نكاح يتامى فانكحوا الطيب الذي

قد أحل لكم من غَيْرهنَّ ، والمعنى إن أمنتُم الجور في اليتامى فانكحوا منْهنَ

كهذه العدة ، لأن النساءَ تشتمل على اليتامى وغيرهن.

٤

و (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (٤)

يقال هو صَدَاق المرأة ، وصدُقةُ المرأة ، وصُدْقَةُ المرأة . وَصَداقُ المرأة.

مفتوح أولها ، والذي في القرآن جمع صدقة.

ومن قال صُدْقَة قال صُدُقاتهنَّ ، كما يقول غرْفة وغُرفات ، ويجوز صدْقاتهنَّ ، وصُدَقَاتهنَّ . بضم الصاد وفتح

الدال. ويجوز صُدُقاتهنَّ ، ولا تقرأنَّ من هذا إِلا ما قد قرئ به لأن القراءَة

سُنة لا ينبغي أن يقرأ فيها بكل ما يجيزه النحويون ، وإِنْ تتبعْ فالذي روي من

المشهورُ في القراءَة أجْودُ عند النحويين ، فيجتمع في القراءَة بما قد روى

الاتباعُ وإِثباتُ ما هو أقوى في الحجة : إِن شاءَ اللّه.

ومعنى  (نِحْلةٌ)

فيه غير قولٍ ، قال بعضُهم فريضةً ، وقال بعضهم ديانةً ، تقول : فلان

ينتحل كذا وكذا ، أيْ يدينُ به ، وقال بعضهم هي نحلة من اللّه لهن أنْ جعل

على الرجال الصداق ، ولم يجعل على المرأة شيئاً من الغُرْم ، فتلك نحلة من

اللّه للنساءِ يقال - نحلتُ الرجل والمرأة - إِذا وهَبْتُ له - نِحْلةً ونُحْلاً ويقال : قد نَحِلَ جسم فلان ونَحَلَ إِذا دقَّ.

والنَّحْلُ جائز أن تكون سميت نحلاً ، لأن اللّه جلّ ثناؤُه نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها.

وقوله - جلَّ ؛ عزّ - (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا)

أي عن شيءٍ من الصداق.

و " لكم " خطاب للأزواج ، وقال بعضهم للأولياءِ ههنا . و " نفساً " منصوب على التمييز لأنه إِذا قال : طبْن لكم ، لم يعلم في أي صنْف وقع الطيبُ.

 : فإِن طابت أَنفسهن بذلك.

وقد شرحناه قبل هذا المكان شرحاً وافياً.

و (فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا)

يقال : هنأَني الطعامُ ومراني . وقال بعضهم : يقال مع هنأني مراني.

فإذا لم تذكر هنأَني قلت أَمْرَأَني بالألف.

وهذا حقيقته أن مرأني تبَينتُ أنه

سينهضم وأحمد مغبتهُ ، فإذا قلت أمْرأني الطعام فتأويله أنه قد انهضم وحُمدتْ

فإن قال قائل : إنما قيل : (فَإِنْ طبْنَ لكمْ عَنْ شَيءٍ منْه نَفْساً)

فكيف يجوز أن يقبل الرجل المهر كله ، وإنما قيل له منه ؟

فالجواب في ذلك أن " منه " ههنا للجنس لما قال عزَّ وجلَّ - : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ).

فلم نْؤمر أن نجتنب بعض الأوثان ، ولكن  اجتنبوا

الرجس الذي هو وثن.

أي فكلوا الشيءَ الذي هو مهْر.

* * *

٥

و (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّه لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (٥)

قال بعضهم : السفهاء النساء والصبْيان ، وقال بعضهم : السفهاء

اليتامى ، والسفهاء يدل على أنَّه لا يعني به النساء وحدهن ، لأن النساءَ أكثر ما يستعمل فيهن جمع سفيهة وهو سفائه ، ويجوز سفهاء ، كما يقال فقيرةٌ

وفقراء.

وقال بعضهُمْ : معناه لا تهبوا للسفهاء أموالكم ، وهذا عندي - واللّه

أعلم - غير جائز . كذلك قالَ أصْحابنا البصْريونَ بل السفيه أحَق بالهبة لتعذُّر الكسب عليه ، ولو مُنِعْنَا منَ الهبَة لهم لما جاز أنْ نوَرِّثهمْ ، وإِنما معْنَى : (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) ، لا تؤتوا السفهاءَ أمْوالهم ، والدليل على ذلك  (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ)

و (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ).

وإِنما قيل أموالكم لأن معناه الشيءَ الذي به قوام أمركم ، كما قال

اللّه : (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ)

ولم يكن الرجل منهم يقتل نفسه ،

ولكن كان بعضهم يقتل بعْضاً ، أي تقتلون الجنس الذي هو جنسُكُمْ.

وقرئت " اللاتي جعل اللّه لكمْ قياماً "، وقيماً . يقال : هذا قوام الأمْر

وملاكه.

 : التي جعلها اللّه تقيمكم فتقومون بها قياماً ، فهو راجع إلى

هذا ، والمعنى جعلها اللّه قيمة الأشياءِ فبها يقوم أمْركم.

(وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا)

أي : علموهم - مع إطعامكم إياهم ، وكسوتكم إيَّاهم - أمْر دينهمْ . . .

* * *

٦

وقوله - عزَّ وجلَّ - : (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّه حَسِيبًا (٦)

معناه : اختبروا اليتامى.

(حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا)

معنى : " آنسُتْم " : عَلِمْتمْ.

ومعنى (الرشد) : الطريقة المستقيمة التي تَثقُونَ

مَعَهَا بأنَّهم يحْفظُون أمَوالهُمْ ، فادْفَعُوا إِليْهمْ أمْوالَهمْ.

(وَلَا تَأكُلُوهَا إسْرَافاً وَبِدَاراً أنْ يكْبُروا)

أي مُبادرة كبرهمْ.

قال بعضهم لا تأكلوها إسرافاً ، لا تأكلُوا منْها ، وكلوا القوت على قدر

نفعكم إِياهُمْ في توليكم علَيهمْ.

وقال بعضهم : معنى : (ومَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيأكلْ بِالْمَعْرُوفِ).

أي يأكل قرضاً ولا يأْخذ من مال اليتيم شيئاً ، لأن َ المعروف أن يأكل

الإنسانُ مالَه ، ولا يأكُل مال غيره قال :

والدليل على ذلك  (فَإذَا دَفَعْتُم إِلَيْهِمْ أمْوَالَهُمْ فَأشْهِدُوا عَلَيهِمْ).

* * *

٧

و عزَّ وجلَّ : (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ  كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (٧)

كانت العرب لا تُورِّثُ إِلا منْ طَاعن بالرماحِ وزاد عن المال وحاز

الغنيمة ، فأعلم اللّه - عزَّ وجلَّ - أن حق الميراث على ما ذكر من الفرض.

وجاءَت امرأة إلى النبي - صلى اللّه عليه وسلم - ومعها بنات لها تُوفِّي أبوهُنَّ وهو زوجُها.

وقدْ همَّ عمَّا البنات بأخذ المال فنزلت : (يُوصِيكُمُ اللّه فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) الآية.

فقال العمَّان : يا رسول اللّه أيرثُ من لا يُطاعن بالرماحِ ولا يزُودُ عن

المال ولا يحُوزُ الغنيمة ؟

فقال - صلى اللّه عليه وسلم - : أعطيا البنات الثلثين ، وأعطيا الزوجة

- وهي أمُّهنَّ - الثمُن ، وما بقي فلكما ، فقالا : فمن يتولى القيام بأمرهما ؟

فأمرهما النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أنْ يتوليا ذَلكَ.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (نَصِيباً مَفْرُوضاً)

هذا منصوب على الحال ،  لهؤُلاءِ أنْصِبة على ما ذكرناها في

حال الفرض ، وهذا كلام مؤَكِّد لأن قوله - جل ثناؤُه - (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ . . .) معناه : إنَّ ذلك مفروض لهنَّ.

* * *

٨

وقوله - عزَّ وجلَّ - : (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (٨)

أي : فأعطوهم منه .

قال الحسن رحمة اللّه عليه ، والنخَعِي : أدركنا الناس وهم يَقْسِمون

عَلى القَرَاباتِ والمساكين . واليَتَامَى من العَين ، يَعْنيانِ الوَرِقَ ، والذهَبَ ، فإذا قُسِمَ الوَرِق والذهب وصارت القسمةُ إلى الأرَضِين والرقيق وما أشبَهَ ذلك ؛ قالوا لهم قولاً معروفاً . كانوا يقولون لهم : بورك فيكم.

وقال قوم : نَسَخَ الأمَرَ للمَسَاكينِ ومَنْ ذُكرَ في هذه الآية الفَرضُ في

القِسْمَةِ ، وإِباحةُ الثلث للميِّتِ يجعله حيث شاءَ.

قال أبو إسحاق وقد أجمعوا أن الأمر بالقسمة من الميراث للقرابة

والمساكين واليتامى قَد أمِر بهما ، ولم يجمعوا على نسخها ، والأمر في ذلك

على ما أجْمعَ عَليْه ، واللّه أعلم.

* * *

٩

وقواعه : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّه وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٩)

الكلام في ذُريًة بضم الذال ، ويجوز ذِرية ، - بكسر الذال ، وقد قرئ

بهما ، إلا أن الضمَّ أجودُ وهي منسوبة إِلى الذر ، وهي فُعْلِيَّة منه.

ويجوز أن يكون أصلها ذُرُّورَة ، ولكن الراءَ أبدلت ياء وأدغمت الواو

فيها ، فأما الكسر في الذال فلكسر الراءِ كما قالوا في عُتَي : عِتي.

وضِعَاف جمعَ ضعيف وضعيفة ، كما تقول ظَريف وظِراف وخبيث

وخباث . وإن قيل ضُعفاءُ جاز ، تقول ضعيف وضُعفاءُ.

قيل : ومعنى الآية أنهم كانوا يُوصون بأموالهم على قَدْر أهوائهم.

ويتركون ضعفة ذراريهم وأولاَدِهم فأمرهم اللّه - عزْ وجل - أن يُوصُوا لهم ، وأن يُجرُوا ذلك من سدَادٍ.

وقِيل : قيلَ لَهُم هَذَا بسببِ اليتامى . فوُعظُوا في تَوليتهم اليتامى بأن يفعلُوا كما يحبونَ أنْ يُفعل بأولاَدِهم من بعدهم.

وكلا القولين جائر حسن ، ألا أن تسميةَ الفرائض قد نَسخَ ذلك بما جعلَ

من الأقسام للأولادِ وذَوِي العصبةِ.

ثم خوَّف اللّه عزَّ وجلَّ وغَلًظَ في أمر اليتامى وأوعدَ فقال :

١٠

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (١٠)

(يُقْرأ) (وَسَيُصَلَوْنَ).

في هذا - أعني في قوله. . يأكُلونُ أموالَ اليتَامَى " - دليلُ أن مال اليتيم إن

أُخِذَ منه على قدْرِ القيامِ له ولم يُتجاوزْ ذلك جاز.

بل يستظهر فيه إن أمكن ألا يُقْرب ألبتَّةَ لشدة الوعيد فيه ، بأنْ لا يْؤكل

منه إِلا قرْضاً ، وإن أُخِذَ القَصْدُ وقَدْرُ الحاجةِ على قَدْر نَفْعِه فلا بأس إن شاءَ اللّه.

١١

وقوله - عزَّ وجلَّ - (يُوصِيكُمُ اللّه فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا  دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللّه إِنَّ اللّه كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (١١)

معنى " يُوصِيكم " : يفرض عليكم ، لأن الوصية من اللّه - عزْ وجل -

فرض ، والدليل على ذلك  (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّه إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ).

وهذا من المحكم علينا.

(لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)

 : يستقر للذكر مثلُ حظ الأنثيين ، له الثلثان وللابنة الثلث.

(فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ)

يجوز واحدةً ووَاحِدةٌ ههنا ، وقد قرئ بهما جميعاً إِلا أن النَصبَ عندي

أجودُ بكثيرٍ ، لأَن  (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) قد بين أن  فإِن كان الَأولادُ نساءً ، وكذلك ، وإِنْ كانَتْ المَولُودَة واحدةً

فلذلك اخترنا النصبَ ، وعليه أكثر القراءَة.

فإِن قال قائل إِنما ذكر لنا ما فوق الثنتين وذكرت واحدة فلم أُعْطيَتِ

البنتان الثلثين فَسوِّيَ بينَ الثَنْتَين والجماعةِ ؟

فقد قال الناس في هذا غير قول :

قال بعضهم : أعطيتِ البنتَانِ الثلثين بدليلٍ لا تُفْرَضُ لهما مُسمَى.

والدليل أهو ،  (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) .

فقد صار للأخت النصف كما أن للابنةِ النصفَ ، (فَإِن كَانَتَا اثْنَتين فَلَهُمَا الثُلُثانِ) فأعطيت البنتان الثلثين كَمَا أعُطِيتَ الأختان ، وأعطِيَ جملة

الأخوات الثلثين قياساً على ما ذكر اللّه - عزَّ وجلَّ - في جملة البنات ، وأعلم اللّه في مكان آخر أن حظ الابنتين وما فوقهمَا حَظ واحِد في  (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً  امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ  أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ).

فدلت هذه الآية أن حظَّ الجماعة إِذا كان الميراث مسمى حظ واحدة.

وهذا أيضاً في العربية كذا قياسُه لأن منزلة الاثنتين من الثلاث كمنزلة

الثلاث من الأربع فالاثنان جمع كما أن الثلاثَ جمعُ ، وَصَلَاةُ الاثْنَيْن وَصَلاةُ

الاثنتين جَماعَةٌ ، والاثنان يحجبان كما تحجب الجماعة.

فهذا بيِّن واضحٌ.

وهذا جعله اللّه في كتابه يدل بعضُه على بعضٍ تفْقيهاً لِلمسْلِمينَ

وتعليماً ، ليعلموا فيما يحزبُهمْ من الأمور على هذه الأدلة.

وقال أبو العباس محمد بن يزيد ، وكذا قال إسماعيل بن إسحاق - أنه

قال : في الآية نفسها دليل أن للبنتين الثلثين ، لأنه إِذا قال : للذكر مثل

حَظ الأنثيَين ، وكان أولُ العددِ ذكراً وأنثى ، فللذَّكر الثلثان وللأنثى الثلث ، فقد بأن من هذا أن لِلبنْتَين الثلثين ، واللّه قد أعلم أن ما فوق الثنثين لهما

الثلثان .

وجميع هذه الأقوال التي ذكرنا حسن جميل بين ، فأمَّا ما ذُكِرَ عن ابن

عباس من أن البنتين بمنزلة البنت فهذا لا أحسبه صحيحاً عن ابن عباس وهو

يَسْتَحيلُ في القِياسِ لأن منزلة الاثنين منزلة الجمع ، فالواحد خارج عن

الاثنين.

ويقال ثلُثْ وربُع وسُدُس ، ويجوز تخفيف هذه الأشياءِ لِثقلِ الضَم.

فيقال ثِلْث وَرُبْع وسُدْسْ . ومنْ زعم أن الأصل فيه التخفيف وأنَّه ثُقَل فخطأ ، لأن الكلامَ موضوع على الإيجاز والتخفِيفُ.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ).

فالأم لها في الميراث تسمية من جهتين ، تسمية السدس مع الولد.

وتسمية السدُس مع الإخوة ، وتسمية الثلث إِن لم يكن له ولد.

والأب يرث من جهة التسمية السدسَ ، ويرث بعد التسمية على جهة

التعصيب.

والأم يحجبها الإخوة عن الثلث فترث معهم السدَس.

قال أبو إسحاق : ونذكر من كل شيءِ من هذا مسألةً ، إذْ كان أصل

الفرائض في الأموال والمواريث في هذه السورة.

فإِن مات رجل  امْرأة فخلفا أبوَيْن ، فلام الثلث ، والثلثان الباقيان

للأب . بهذا جاءَ التنزيل وعليه اجتمعت الأمة . فإِن خلَّف الميت وَلَداً وكان

ذكرا فللأم السدس وللأب السدس ، وما بقي فللابن ، فإن خلَّف بنتا وأبوين ، فللبنت النصف وللأم السدس ، وما بقي للأب يأخذ الأب سدساً بحق

التسمية ، ويأخذ السدس الآخر بحق التعصِيب.

فإِن خلَّف الميت - وكانت امراة - زوجاً وأبوين ، فللزوجِ النصف وللأم

ثلث ما بقي للأب ثلثا ما بقيَ ، وهو ثلث أصل المال.

وقد ذكر عن ابن عباس إنَّه كان يعطي الأمَّ الثلث من جميع المال.

ويعطي الأب السدَس . فيفضل الأم على الأب في هذا الموضعِ.

والِإجماع على خلاف ما روي عنه.

وقال الذين احتجُوا مع الِإجماع : لو أعلمَنا اللّه - عزَّ وجلَّ - أن المال

بين الأب والأم ولم يسم لكل واحد لوجب أَن نقسمه بينهما نصفين ، فلما

أعلمنا اللّه - عزَّ وجلَّ - أنَّ للأم الثُلثَ علمنا أَن للأب الثلثين ، فلما دخل على الأب والأم داخل أخذَ نِصْف المال ، دخل النقص عليهما جميعاً ، فوجب أن يكون الميراث للأبوين إِنَّما هوَ النص ، فصار للأم ثلث النصف ، وللأب ثلثا النصف . .

وقيل في الاحتجاج في هذا قول آخر :

قال بعضهم : إِنما قيل : (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ)

ولم يرثه ههنا أبواه فقط ، بل ورثه أبواه وورثه مَعَ الأبويْن غير الأَبويْن ، فرجع ميراث الأم إِلى ثلث ما بقي .

وقال أصحاب هذا الاحتجاج : كيف تفضَلُ الأم على الَأب والإخوة

يمنعون الأم الثلث فيقْتصر بها على السدس ، ويوفر الباقي على الأب.

فيأخذُ الأب خمسة أسْداسٍ ، وتأْخُذُ الأم سُدُساً.

فإِن توفي رجلٌ  امراة ، وخلَّف إِخوةً ثلاثة فما فوق ، وأمًّا وأباً أخذت

الأم السدس وأخذ الأبُ الباقِي . هذا إجماع.

وقد روي عن ابن عباس في هذا شيء شاذ :

رَوَوْا أنَّه كان يُعْطِي الِإخوة هذا السدس الذي منع الإخوةُ الأم أن

تأخذهُ ، فكان يعطي الأمَّ السُّدسَ ، والِإخوة السُّدسَ . ويعطي الأب الثلثين.

وهذا لا يقوله أحد من الفقهاءِ . وقد أَجمعتِ فقهاءِ الأمصار أن الإخوة لا

يأخذون مع الأبوين.

فإِنْ توَفِّي رجُل وخلف أخوين وأبَوَيْن ، فقد أجمع الفقهاءِ أن الأخوين

يحجبان الأم عن الثلث ، إِلا ابن عباس فإِنه كان لا يحجب بأخوين.

وحجته أن اللّه - عزَّ وجلَّ - قال : (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ)

وقال جميع أهل اللغة إِن الأخوين جماعة ، كما أن الِإخوة جماعة ، لأنك إِذا

جمعت واحداً إِلى واحد فهما جماعة ، ويقال لهما إِخوة.

وحكى سيبويه أَن العرب تقول : قد وضعا رحالهما ، يُريدُون رحليْهمَا.

وما كان الشيءُ منه واحداً فتثنيتهُ جمع ، لأنَّ الأصل هو الجمعُ.

قال اللّه تعالى : (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللّه فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا).

وقال : (وَلِأَبَوَيْهِ) لأن كل واحد منهما قد ولدُهُ .

والأصل في " أًم " أن يقال " أَبَة " ، ولكن استُغْنِيَ عنها بأم . وأَبوان تثنية

أب ، وأبة ، وكذلك لو ثنيت ابناً وابنة ، - ولم تخَفِ اللبَس - قلت : ابنان.

(فَلِأُمِّهِ)

تقرأ بضم الهمزة وهي أكثر القراءَات ، وتقرأ بالكسر " فلِإمِّهِ " ، فأما إِذا كان قبل الهمزة غير كسْرٍ ، فالضم لا غيْر ، مثل

(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) لا يجوز وإِمَّه ، وكذلك  (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ) ، وإِنما جاز " لِإمِّه " و (فِي أُمِّهَا رَسُولًا) بالكسر ، لأن قبل الهمزة كسرة.

فاستثقلوا الضمة بعد الكسْرةِ ، وليس في كلام العرب مثل : " فِعُل " بكسر الفاءِ وضم العيْن ، فلما اختلطت اللام بالاسم شُبهَ بالكلمة الواحدة ، فأبدل من الصفَة كسرة ، . ومن قال : فلامه كح - بضم الهمزة . أتى بها على أصلها ، على أَن اللام تقديرها تقدير الانفصال.

وقوله عزَّ وجل : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا  دَيْنٍ)

أي إِن هذه الأنصبة إِنما تجب بعد قضاءِ الدين ، وإِنفاذ وصية الميت في

فإِن قال قائل : فلم قال  دَيْنٍ ، وهلا كان " من بَعْدِ وصية يوصي بها

وَدَيْن ؟

فالجواب في هذا أن "  " تأْتي للإِباحة ، فتأْتي لواحد واحدٍ على

انفراد ، وتضم الجماعة فيقال جالس الحسن  الشعبي ، والمعنى كل واحد

من هؤلاءِ أهل أن يجالس ، فإِن جالست الحسن فأنت مصيب ، ولو قلت

جالس الرجلين فجالست واحداً منهما وتركت الآخر كنت غير متبع ما أمرْت.

فلو كان " مِن بعدِ وصيةِ يُوصِي بهَا وديْن "

احتمل اللفظ أن يكون هذا إِذا اجتمعت الوصية والدينُ ، فإِذا انفردا كان حكم آخر ، فإِذا كانت "  " دلَّت على أن أحدهما إِن كان فالميراث بعده ، وكذلك إِن كانا كلاهما

وقوله - عزَّ وجلَّ - : (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا)

في هذا غير قول :

أمَّا التفسير فإِنه يروى أن الابن إِنْ كان أرفع دَرجةً من أبيه في الجنة

أن يرفع إِليه أبوه فيرفع ، وكلذلك الأبُ إِن كان أرفعَ درجةً من ابنه سأل يُرْفع ابنه إِليه فأنتم لا تدرون في الدنيا أيهم أقرب لكم نفعاً.

أي إِن اللّه - عزَّ وجلَّ - قد فرض الفرائض على ما هي عنده حكمة ، ولو

ذلك إِليكم لم تعلموا أيهم لكم أنفع في الدنيا ، فوضعْتُم أنتم الأموال على

غير حكمة.

(إِنَّ اللّه كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)

أَي عليم بما يصلح خلقه - حكيم فيما فرض من هذه الأَموال وغيرها.

و (فريضةً مِن اللّه).

منصوب على التوكيد والحال من . . ولأبَويْهِ . . . أي ، ولهؤُلاءِ الورثة ما

ذكرنا مفروضاً . ففريضة مَؤكدة لقوله (يوصيكم اللّه).

ومعنى (إنَ اللّه كانَ علِيماً حكِيماً) فيه ثلاثة أقوال :

قال سيبويه : كَان القوم شاهدوا علماً وحكمة ومغفرة وتَفَضلا ، فقيل لهم

إِن اللّه كان كذلك ولم يزل ، أي لم يزل على ما شاهدتم.

وقال الحسن : كان عليماً بالأشياءِ قبل خلقها ، حكيماً فيما يقدر تدبيره

منها.

وقال بعضهم : الخبر عن اللّه في هذه الأشياءِ بالمُضِى ، كالخبر

بالاستقبال والحال ، لأن الأشياءَ عند اللّه في حال واحدةٍ ، ما مضى وما يكونُ

وما هو كائن.

والقولان الأولان هما الصحيحان لأن العرب خوطبت بما تعقل ، ونزل

القرآن بلغتها فما أشبه من التفسير كلامها فهو أصح ، إِذ كان القرآن بلغتها

نزل.

وقال بعضهم : الأب تجب عليه النفقة للابن إِذا كان محتاجاً إِلى ذلك.

وكذلك الأب تجب نفقته على الابن إِذاكان محتاجاً إِلى ذلك ، فهما في النفع

في هذا الباب لا يدرى أيهما أقرب نَفْعاً.

والقول الأول هو الذي عليه أهل التفسير.

* * *

١٢

وقوله عزَّ وجل : (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا  دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا  دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً  امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ  أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا  دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللّه وَاللّه عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢)

(وإِنْ كَانَ رَجُل يُورَثُ كلَالَةً) :

يقرأ يُورث وُيورِث . . بفتح الراءِ وكسرها - . فمن قرأ يُورِث - بالكسر - فكلالة . . مفعول ، ومن قرأ " يُورَثُ " فكلالة منصوب على الحال.

زعم أهل اللغة أن الكلالة من قولك " تكللّه النسب ، أي لم يكن الذي

يَرثُه ابنَه ولا أبَاه . والكلالة سوى الولَدِ والوَالِدِ ، والدليل على أن الأب ليس بكلالة

قول الشاعر :

فإِن أبا المرءِ أحمى له . . . ومولى الكلالة لا يغضبُ

وإِنما هو كالإكليل الذي على الرأس . وإنما استُدِل على أن الكلالةَ

ههنا الِإخوة لأمٍّ دون الأب بمَا ذُكر في آخر السورة أن للأختين الثلثين وأن

للِإخوة كل المال ، فعلم ههنا لما جُعِلَ للواحد السدسِ ، وللاثنين الثلثَ ، ولم

يُزادُوا على الثلث شيئاً ما كانوا ، عُلِم أنه يعني بهم الِإخوةُ لأمٍّ.

فإِن ماتت امراة وخلَّفتْ زوجاً وأُمًّا وإِخوةً لأمٍّ فللزوج النصف وللام

السدس ، وللِإخوة من الأم الثلث.

فإِن خلَّفتْ زوجاً وأُمًّا وإِخوة لأبٍ وأمٍّ وإِخوة لأمٍّ فإن هذه المسألة

يسميها بعضهم المسألة المشتركة ، وبعضهم يسميها الحمارية.

قال بعضهم : إِن الثلث الذي بقي للِإخوة للأمِّ دون الِإخوة للأب والأم ، لأن لهؤُلاءِ الذين للأمِّ تسمية وهي الثلث وليس للإِخوة للأب والأم تسمية ، فأعطيناهم الثلث.

كما أنَّه لو مات رجلٌ وخلَّف أخوين لأمٍّ ، وخلَّف مائة أخ لأبٍ وأمٍّ

لأعطِي الأخوان للأمِّ الثلث وأعطي المائة الثلثين ، فقد صار الِإخوة للأمِّ

يفْضلُون في الأنصباءِ الإخوة للأب والأمِّ الأشقاء.

وقال بعضهم : الأمُّ واحِدة .

وسموها الحمارية بأن قالوا : هَبْ أباهم كان حماراً واشتركوا بينه.

فسمِّيتْ المشتركة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللّه).

غير منصوب على الحال .  يوصي بها غير مضار ، فمنع اللّه

عزَّ وجلَّ من الضِّرارِ في الوصيةِ.

وروي عن أبي هريرة : من ضارَّ في وَصية ألقاهُ اللّه في واد من جَهنَّم

 من نارٍ ".

فالضرار راجع في الوصية إِلى الميراث.

(واللّه عَلِيم حَلِيمٌ).

أي عليم ما دبر من هذه الفرائض ، حليم عمَّنْ عصاه بأن أخرَّهُ وقبل

توبته.

* * *

١٣

(تِلْكَ حُدُودُ اللّه وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣)

أي الأمكنة التي لا يَنْبَغِي أنْ تتجَاوَزَ.

(وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَرَسُولَهُ).

أي يقيم حُدَودَه على ما حَدَّ.

(يُدْخِلْهُ جَنَاتٍ تَجرِي مِنْ تَحتِهَا الأنْهَارُ خَالِدينَ فِيهَا).

أي يدخلهم مقدَّرين الخلود فيها ، والحال يستقبل بها ، تقول : مَرَرْتُ بِه

مَعَهُ بازٍ صَائِداً به غداً ، أي مقدراً الصيدَ به غداً.

* * *

١٤

(وَمَنْ يَعْصِ اللّه وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٤)

أي يجاوز ما حدَّه اللّه وأمر به.

(يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا).

خالداً من نعتِ النار ، ويجوز أن يكون منصوباً على الحال أي يدخله

مقدَّراً له الخلود فيها.

١٥

قوله جلَّ وعزَّ : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ  يَجْعَلَ اللّه لَهُنَّ سَبِيلًا (١٥)

الفاحشة الزنا ، والتي يُجْمَع اللاتي ، واللواتي.

قال الشاعر :

من اللواتي والتي واللاتي . . . زَعَمْن أنِّي كبِرَتْ لِدَاتِي

ويجمع اللاتي بإِثبات الياءِ ويُحذَف الياءُ.

قال الشاعر :

من اللاءِ لم يحججن يبغينَ حِسْبة . . . ولكن ليقتلن البريء المغَفَّلا

(فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهنَّ أربَعةً مِنْكُمْ).

أي من المسلمين.

(فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ  يَجْعَلَ اللّه لَهُنَّ سَبِيلًا).

هذا كان الفرضَ في الزنا قبل أن ينزل الجَلْدُ ، وَيأمُرَ النبى - صلى اللّه عليه وسلم - بالرجْم ، فكان يُحبَسُ الزانيان أبداً.

ْوقال بعضهم : ( يَجْعَلَ اللّه لَهُنَّ سَبِيلًا) هو الحد الذي نسخ التخليد

في الحبْس والأذى.

١٦

(وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللّه كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (١٦)

قال بعضهم : كان الحبسُ لِلثيبينِ ، والأذَى للبِكْرَيْنِ ، يوبخان ، فيقال

لهما زنيتما وفَجَرْتُمَا وانتهكتما حرمات اللّه ، وقال بعضهم : نسخ الأذى لهما مع الحبس ، وقال بعضهم : الأذى لا ينبغي أن يكون منسوخاً عنهما إِلا أن يتوبا ، وإِن قوله عزَّ وجلَّ : (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢). هو من التوبيخ لهما بأن يفضحا على رُؤُوسِ الملأ.

أمَّا ما سلف مما كان في أمر الفاجرين فقد استغنى عنه إِلا أن الفائدة

فيه أن الشهادة لم تزل في الزنا شهادةَ أربعة نفَر.

* * *

١٧

وقوله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّه لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللّه عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّه عَلِيمًا حَكِيمًا (١٧)

ليس معناه أنهم يعملون السوءَ وهُم جُهَّال ، غيرُ مُميزينَ فإن من لا عقل

له ولا تمييز لا حدَّ عليه ، وإنَّمَا معنى بجهالة أنهم في اختيارهم اللذة الفانية

على اللذة الباقيةِ جُهَّال . فليس ذلك الجهل مسقطاً عنهم العذابَ . لو كان

كذلك لم يعذب أحَد ولكنه جهل في الاختيار.

ومعنى (يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) يتوقفون قبل الموت ، لأن ما بين الإنسان

وبين الموت قريب ، فالتوبة مقبولة قبل اليقين بالموت.

١٨

و (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٨)

(حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) إِنما لم تكن له

التوبة ، لأنه تاب في وقت لا يمكن الإقلاع بالتصرف فيما يحقق التوبة.

(أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).

أي مؤلماً مُوجِعاً ، والمؤلم الذي يبلغ إِيجاعُه غاية البُلوغِ .

١٩

وقوله - عزَّ وجلَّ - : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّه فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (١٩)

معناه تكرهوهن على التزويج بِكم.

وهذه نزلت لأَنهم كانوا إِذا مات زوج المرأة وَلَه ولَد من غيرها ضَرَبَ

ابنه عليها حجاباً ، وقال : أنا أحقُّ بها ، فتزوجها على العقد الذي كان عقده

أبوه من تزوجها ليرثها ما ورثت من أبيه ، فأَعلم اللّه - عزَّ وجلَّ - أن ذلك

حرام.

وقوله تعالى : (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ).

هؤلاءِ غير أُولَئِكَ.

حرم اللّه أن تًعْضل المرأة ، ومعنى تعضل تحبس عن التزوج.

كان الرجل منهم إِذا تزوج امرأَة ولم تكن من حاجَتِه حَبَسها لتفتدَي منه ، فأعلم اللّه عزّ وجلَّ - أَن ذلك لا يحل.

و " تعضلوهن " يصلح أن يكون نصْباً ويصلح أن يكون جزماً.

أما النصب فعلى : أَن لا يحل لكم أن ترثوا النساءَ وَلَا أن تعضلوهن ، ويصلح أن يكون جزما على النَّهي.

(إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ).

والفاحشة الزنا.

(وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

أي بالنصفة في المبيت والنفقة ، والإِجمال في القول .

٢٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (٢٠)

معناه إِذا أردتم تخلية المرأة ، إِذا أراد الرجل أن يستبدل مكانها

وَلمْ تُرِدْ.

هذا شددَ اللّه فيه ب (وَلَا تعْضُلُوهُنَّ لتذهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتيتُموهُن).

(وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا).

القنطار المال العظيم ، وقد بيَّنا ما قاله الناس فيه في سورة آل

عمران.

وقوله - عزَّ وجلَّ : (فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا).

فحرم اللّه الأَخذ من المهر على جهة الإِضرار ب (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا).

والبهتان الباطلُ الذي يُتحيًر من بُطلانه ، وبهتان حال موضوعة في موضع

المصدرِ ،  أتأْخذونه مُبَاهتين وآثمين.

* * *

٢١

(وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (٢١)

الإِفضاءُ أصله الغشيان ، وقال بعضهم إذا خلَا فقد أفضى ، غشي  لم

و (أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا).

قال بعضهم : هو عقدُ المَهر ، وقال بعضهم : الميثاق الغليظ

(فإِمسَاك بِمَعرُوفٍ  تسْرِيحٌ بِإِحْسَان)

وقوله (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا)

والتسريح بإِحسان لا يكون بأن تأخذ منها مهرها.

هذا تسريح بإساءَة لا بإِحسَان.

* * *

٢٢

وقوله - جلَّ وعزَّ - (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (٢٢)

 : لا تنكحُوا كما كان مَن قبلكم يَنكحُ ما نَكَح أبوه ، فهذا معنى

(إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ).

(إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً).

 إِلا ما قد سلف فإِنه كان فاحشةً ، أي زناً (وَمَقْتًا).

والمقت أشد البُغْض.

(وَسَاءَ سَبِيلًا).

أي وبئسَ طريقاً. أي ذلك الطريق بئس طريقاً.

فالمعنى أنهم أعلموا أن ذلك في الجاهلية كان يقال له مقت ، وكان

المولود عليه يقال له المَقْتِي . فأعْلِمُوا أن هذا الذي حرم عليهم لم يزل منكراً

في قلوبهم ممقوتاً عندهم.

وقال أبو العباس محمد بن يزيد : جائز أن تكون " كان " زائدة ، فالمعنى

على هذا : إِنه فاحِشَة ومقت ، وأنشد في ذلك قول الشاعر :

فكيف إِذا حللتُ بدار قومٍ . . . وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ

قال أبو إسحاق : هذا غلط من أبي العباس ، لأنَّ " كان " لو كانت زائدة

لم تنصب خبرها . والدليل على هذا البيتُ الذي أنشده :

وجيران لنا كانوا كرام

ولم يقل : كانوا كراماً.

* * *

٢٣

و - جلَّ وعزَّ - : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّه كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٢٣)

هذا يسمى التحريمَ المبهم ، وكثيرٌ من أهل العلم لا يفرق في المبهم

وغير المبهم تفريقاً مقنعاً ، وإِنما كان يسمى هذا المبهم من المحرمات لأنه لا

يحل بوجه ولا سبب ، واللاحقُ به (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ) والرضاعة قد أدخلت هذه المحرمات في الِإبهام.

(وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ).

قد اختلف الناس في هذه فجعلها بعضهم مبهمة وجعلها بعضهم غير

مبهمة . فالذي جعلها مبهمة قال إِنَّ الرجل إِذا تزوج المرأة حرمت عليه أمها

دخل بها  لم يَدخُل بها . واحتج بأن (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) إِنما هو متصل

بالربائب.

وروي عن ابن عباس أنه قال : (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ) من المبهمة .

(وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ).

قال أبو العباس محمد بن يزيد : (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) نعت للنساءِ اللواتي

هن أمهات الربائب لا غير ، قال : والدليل على ذلك إِجماع الناس أن الربيبة

تحل إِذا لم يُدْخل بأمها ، وأن من أجاز أن يكون  (مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) هو لأمهات نسائكم ، يكون  على تقديره ، وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنَّ.

فيخرج أن يكون اللاتي دخلتم بهن لأمهات الربائب.

والدليل على أن ما قاله أبو العباس هو الصحيح أن الخبرين إِذا اختلفا

لم يكن نعتهما واحداً.

لا يجيز النحويون : مررت بنسائك وهربت من نساءِ

زيد الظريفات ، على أن تكون الظريفات نعتاً لهؤُلاءِ النساءِ وهُؤلاءِ النساءِ.

والذين قالوا بهذا القول أعني الذين جعلوا أمهات نسائكم بمنزلة  (مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) إِنما يجوز لهم أن يكون منصوباً على " أعني "

فيكون  أعني اللاتي دخلتم بِهنَّ ، وأن يكون (وأمهاتُ نسائكم) تمام

هذه التحريمات المبهمات ، ويكون الربائب هن اللاتي يحللن إِذا لم يُدْخل

بأمهاتهِنَّ قط دون أمهات نسائكم هو الجَيِّد البالغ.

فأمَّا الربيبة فبنت امرأة الرجل من غيره ، ومعناها مربوبة ، لأن الرجل

هو يَرُبُّهَا ، ويجوز أن تسمى ربيبة لأنه تولى تربيتها ، كانت في حجره  لم

تكن تربت في حجره ، لأن الرجل إِذا تزوج بأمها سمي ربيبها ، والعرب تسمِّي الفاعلين والمفعولين بما يقع بهم ويوقعونه ، فيقولون : هذا مقتول وهذا ذبيح ، أي قد وقع بهم ذلك . وهذا قاتل أي قد قتل ، وهذه أضْحيًةُ آلِ فلان لما قَد

ضحوْا به ، وكذلك هذه قَتُوبَةُ ، وهذه حلوبة ، أي ما يقتب وُيحْلب.

و (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ).

جمع حليلة وهي امراة ابن الرجل ، لا تحل للأب ، وهي من

المبهمات وحليلة بمعنى مُحلَّة . مشتق من الحلال.

(وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ).

(أَنْ) في موضع رفع ،  حرمت هذه الأشياءُ والجمع بين

الأختين.

(إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ).

 سوى ما قد سلف فإِنه مغفور لكم.

* * *

٢٤

و (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّه عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّه كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (٢٤)

القراءَة بالفتح . قد أجْمَعَ على الفتح في هذه ، لأن معناها اللاتي

أحْصِنَّ بالأزواج . ولو قرئت والمُحصِناتِ لجاز ، لأنهُنَّ يحْصِنَّ فروجهن بأن

يتزوجن . وقد قرئت التي سوى هذه " المحْصَنَاتِ " و " والمحصِناتِ ".

(إِلا ما ملكتْ أيْمانُكمْ).

أي إِنْ ملك الرجلُ محصنة في بلاد الشرك فله أن يطأها ، إِلا أن جميع

الوطءِ لا يكون في ملك اليمين إِلا عنِ اسْتِبرَاء ، وقد قال بعضهم : إِن الرجل

إِذا ملك جارية وكانت متزوجة فبيْعُها وملكُها قد أحلَّ فَرْجَها ، وإِن لم تكن

أحْصِنَت في بلاد الشرك ، والتفسير على ما وصفنا في ذوات الأزواج في

الشرك.

و (كِتَابَ اللّه عليْكُم).

منصوب على التوكيد محمول على  ، لأن معنى  (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) كتب اللّه عليكم هذا كتاباً

كما قال الشاعر :

ورُضْت فذلًت صعبة أي إِذْلَالٍ

لأن معنى رُضْتُ أذللتُ.

وقد يجوز أن يكون منصوباً على جهة الأمر ، ويكون (عليكُم) مفَسراً

له ، فيكون  ألزموا كتاب اللّه.

ولا يجوز أن يكون منصوباً ب (عليكُم) ، لأن

قولك : عَلَيْك زيداً ، ليس لهُ ناصِب متَصرف فيجوز تقديمُ منصوبه.

وقول الشاعر :

يا أيُّها المائحُ دَلْوي دونَكَا . . . إني رأيْتُ الناسَ يَحْمَدونكا

يجوز أن يكون " دلوي " في موضع نصب بإضمار خُذْ دَلْوي ، ولا يجوز

على أن يكون دونك دلوى لما شرحناه .

ويجوز أن يكون " دلْوي " في موضع رفع ، والمعنى هذا دلوي دونكا.

ويجوز أن يكون (كتابَ اللّه علْيكُمْ) رفعاً على معنى هذا فرض اللّه

عليكم ، كما قال جلَّ وعزَّ : (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ).

و (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ).

و (أَحَلَّ) أيضاً يُقرآن جميعاً ، ومعنى ما وراءَ ذلكُمْ ، ما بعد ذَلِكمْ ، أي ما

بعد هذه الأشياءِ التي حرمت حلال ، على ما شرع اللّه ، إِلا أن السنة قد

حرمت تزوُجَ المرأة على عمتها ، وكذلك تزوجها على خالتها ، ولم يقل اللّه

- عزَّ وجلَّ - : لا أحرم عليكم غير هذا.

وقال عزَّ وجلَّ : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ).

وأَتَوهَّمُ أن الخالة كالوالدة ، وأن العمَّة كالوالد ، لأن الوالد في وجوب

الحق كالوالدة ، وتزوجها على عمتها وخالتها من أعظم العقوق.

وقوله عزَّ وجلَّ : (أنْ تبْتَغوا بأمْوالكُمْ).

نصب وإِن شئت رفْع.

 أحلَّ لكم أن تبتغوا محْصِنينَ غيرَ مسافِحِين.

أَى عاقدين التزويج غير مسافحين . أَي غير زناة ، والمسَافِحُ والمسافحةُ

الزانيان غير الممْتَنِعَيْن منَ الزَنا ، فإِذا كانت تزني بواحد فهي ذات خدن.

فحرَّم اللّه الزنا على الجهات كلها ، على السفاح وعلى اتخاذ

الصديق.

والإحصان إِحصان الفرج وهو إِعْفَافه ، يقال امْرأَة حَصان بينة الحُصن ،

وفرس حصان بينة (التحصن) والتحصين وبناء حصين بَيّنُ الحصَانة.

ولو قيل في كله الحِصانة لكان بإِجماع.

والسفاح في الزنا اشتق من قولهم سفحت الشيءَ إِذا صبَبْتُه ، وأمر الزنا

سفاح لأنه جارٍ على غير عقْدٍ ، كأنَّه بمنزلة السفُوحِ الذي لا يحبسه شيء.

و (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً).

هذه آية قد غلط فيها قوم غلطاً عظيماً جداً لجهلهم باللغة.

وذلك أنهم ذهبوا إِلى أن  (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) من المتعة التي قد أجمع أهل الفقه أنها حرام.

وإِنما معنى قوله (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) أي فما نكحتموه ، على

الشريطة التي جرت في الآية ، آية الإحْصَانِ : (أنْ تَبْتَغُوا بأموالِكُم مُحْصِنينَ) ، أَي عاقدين التزويج الذي جرى ذكره.

(فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً).

أي مهورهن ، فإِن استمتع بالدخول بها أعطى المهر تَامًّا ، وإِن استَمْتَع

بعقد النكاح آتى نصف المهر.

والمَتاعُ في اللغة كل ما انتفع به ، فهو متاع.

وقوله عزَّ وجل ، في غير هذا الموضع : (ومتَعُوهُنَّ على المُوسِع قَدَرُه) ليس بمعنى زوجُوهُنَّ المُتَعَ ، إِنما  أَعطوهُن ما يَستَمْتِعْنَ به.

وكذلك  (للمطلقات متاع بالمعْروف).

ومن زَعَم أَن  (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) المتعة التي هي

الشرط في التمتع الذي تعمله الرافضة فقد أخطأ خطأً عظيماً ، لأن الآية

واضحة بينة .

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ).

أي لَا إِثم عليكم في أن تهب المرأةُ للرجل مهرها ،  يهب الرجل

للمرأة التي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب إِلا لمن دخل بها.

(إِنَّ اللّه كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا).

أي عليماً بما يصلح أمر العباد - حكيماً فيما فرض لهم من عقد النكاح

الذي حفظت به الأموال والأنساب.

* * *

٢٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّه أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥)

المحصنات هن الحرائر ، وقيل أيضاًَ العفائف ، وقد قال بعض أصحابنا :

إِنهن الحرائر خاصةً . وزعم من قال إِنهن العفائف : حُرِّم على الناس أن

يتزوجوا بغير العفيفة ، وليس ينبغي للِإنْسان أن يتزوج بغير عفيفة ، واحتج قائل هذا القول بأن قوله عزَّ وجلَّ : (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً  مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ  مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣).

منسوخ ، وأن  (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) يصلح أَن يكون يتزوج الرجل من أحب من النساء.

ْوالدليل على أن المحصنات هن العفائف  (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) أي أعفَّتْ فرجْها .

والطَوْل : القدرة على المهْر . ف (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا)

أَي من لم يقدر على مهر الحرة ، يقال : قد طال فلان على فلات طوْلًا.

أي كان له فضل عليه في القدرة ، وقد طال الشيء يطول طُولاً ، وأَطلته إِطالةُ ، وقد طال طِوَلُكَ وطِيْلُكَ ، وطيَلُك أي طالت مدتك.

قال الشاعر :

إِنا محيوك فاسْلَمْ أيها الطلَلُ . . . وإِنْ بَلَغتَ وإِن طَالتْ بكَ الطِّيَلُ

والطَوَل الحبل.

وقال الشاعر :

(تعرضُ المُهْرة بالطَوَل

اللام مشددة للقافية.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ).

الفتيات المملوكات ، العرب تقول للأمة فتاة ، وللعبد فتى أي من لم

يقدر أن يتزوج الحرة جاز له أن يتزوج المملوكة إِذا خاف على نفسه الفجور.

(وَاللّه أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ).

أي اعملوا على ظاهركم في الِإيمان ، فإِنكم متعبدون بما ظهر من

بعضكم لبعض.

وقوله - عزَّ وجلَّ - (بعْضُكُم مِن بعْضٍ).

قيل في الحسبِ أَي كلكم ولد آدم ، ويجوز أَن يكون

(بعْضُكُمْ من بَعْضٍ) دينكم واحد لأنه ذكر ههنا المؤْمنات من العبيد.

وإِنما قيل لهم ذلك لأن العرب كانت تطعن في الأنساب ، وتفخر بالأحساب

وتعيرُ بالهُجْنَة ، كانوا يُسمُّون ابن الأمة الهَجِينَ ، فأعلم اللّه - عزَّ وجلَّ - أن أَمر العبيد وغيرهم مستوفى الِإيمان ، وإِنما كُرِه التزوجُ بالأَمة إِذا وُجِدَ إِلى

الحُرَّةِ سبيل ، لأن ولد الحر من الأمة يصيرون رقيقاَ ، ولأن الأَمة مستخدمة

ممتهنة تكثر عِشرَة الرجال ، وذلك شاق على الزوج ، فلذلك كره تزوًجُ الحر بالأمةِ.

فأما المفاخرة بالأحساب والتعيير بالأنساب فمن أمر الجاهلية.

يروى عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أنَّه قال : ثلاثٌ من أمْر الجاهلية ، الطعن في الأنساب ، والمفاخرة بالأحساب ، والاستسقاءُ بالأنواءِ.

ولَن تُتْرَك في الِإسلام.

و (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ).

أمر اللّه أن تنكح بإذن مولاها.

و (فَإِذَا أَحْصِنَّ).

وتقرأ (أُحْصِنَّ) بضم الألف.

(فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ).

أي عليهن نصف الحد ، والحد مائةُ جلدةٍ على الحر والحرة غير

المُحَصَنَيْن ، وعلى المحصنين الرجم ، إِلا أن الرجم قتلٌ ، والقتلُ لا نِصْف

لهُ ، فإِنما عليهن نصف الشيءِ الذي له نصف وهوالجلْدُ .

وقوله عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ).

أَي تَزَوُج الِإماءِ جائز لمن خاف العَنَتَ ، والعنَت في اللغَةِ المشقة

الشديدةُ . يقال من ذلك : أكمَةٌ عَنوتٌ إِذا كانت شاقة.

قال أَبو العباسِ : (العنَت) ههنا الهلاك ، وقال غيره : معناه . ذلك لمن

خشي أَن تحمِله الشهوةُ على الزنا ، فيلقى الِإثم العظيم في الآخرة والحدَّ في

الدنيا ، وقال بعضهم معناه أن يعشق الأمَة ، وليس في الآية عشق ، ولكنَّ ذا

العشق يلقى عنتاً.

و (وأَنْ تَصبُروا خيْر لَكُمْ).

أي الصبْرُ خير لكُمْ لما وصفنا من أن الولَد يصيرون عبيداً.

* * *

٢٦

و (يُرِيدُ اللّه لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦)

قال الكوفيونَ معنى اللام معنى أن ، وأردْتُ ، وأمرْت ، تطلبان

المستقبل ، لا يجوز أن تقول : أردت أن قصتُ ، ولا أمرت أن قمْتُ ، ولم

يقولوا لم لا يجوز ذلك . وهذا غلط أن تكون لام الجر تقوم مقام " أن " وتَؤدي معناها ، لأن ما كان في معنى أن دخلتْ عليه اللام.

تقول : جئتك لكي تفعل كذا وكذا ، وجئت لكي تفعل كذا وكذا . وكذلك اللام في  (يُرِيدُ اللّه لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) كاللَّامِ فِي كَيْ.

 : أَراده اللّه عزَّ وجلَّ للتبيين لكم.

أَنشد أهل اللغة :

أردت لكيما لا ترى لي عبْرة . . . ومَنْ ذا الذي يعطي الكمال فيكمل

وأنشدنا محمد بن يزيد المبرد :

أردت لكيما يعلم الناس أنها . . . سراويل قيسر والوفود شهود

فأدخل هذه اللام على " كي " ، ولو كانت بمعنى أَنْ لم تدخل اللام

عليها ، وكذلك أرَدْتُ لأن تقوم ، وأمِرْتُ لأن أكُون مُطيعاً.

وهذا كقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) أي إِن كنتم عبارتكم للرؤَيا ، وكذلك قوله - عزَّ وجلَّ - أيضاً : (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ).

أَي الذين هم رهبتهم لربِّهمْ.

و (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).

أي يدلكم على طاعتِهِ كما دل الأنبياءَ والذين اتبعوهم من قبلكم.

ومعنى (سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، أي طرق الذين من قبلكم ، وقد بيَّنَّا ذلك

فيما سلف من الكتاب.

* * *

٢٧

و (وَاللّه يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (٢٧)

أي يدلكم بطاعته على ما يكون سبباً لتوبتكم التي يغفر لكم بها ما

سلف من ذنوبكم .

(وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا).

أي أن تعدلوا عن القصد.

٢٨

و (يُرِيدُ اللّه أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (٢٨)

(وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)

أَي يستميله هواه.

* * *

٢٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللّه كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٢٩)

فحرم اللّه - جلَّ وعزَّ - المالَ إِلَّا أنْ يُوجَدَ على السُّبُل التي ذكَر من

الفرائض في المواريث والمهور والتسري والبيع والصدقات التي ذكر وجوهها.

(إِلَّا أن تكُونَ تجارَةً).

 : إِلا أن تكون الأموالُ تجارة ، ومن قرأ إِلا أن تكون تجارةٌ

فمعناه إِلا أن تقع تجارة.

(عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أنفُسَكُمْ).

فاعلم أَن التجارة تصح برضا البّيعِ والمشْترى.

* * *

٣٠

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرًا (٣٠)

أي ومن يأكلها ويقتل النفس - لأن  (ولا تَقْتُلُوا أنفُسَكُمْ) ، أي لا

يَقتُل بعضكم بعضاً ، فمن فعل ذلك عدواناً وظلماً :

معنى العُدوان أن يعْدُوا ما أمرَ به ، والظلم أن يضعَ الشيءَ في غير

موضعه.

و (فَسَوْفَ نَصْلِيهِ نَاراً).

و (نُصْليه ناراً). وعد اللّه - جلَّ وعزَّ - على أكلِ الأمْوالِ ظُلماً وعلى

القِتالَ النارَ .

(وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرًا)

أي سهلاً ، يقال قد يَسَرَ الشيء فهو يسير إِذا سهل ، وقد عَسَر الشيءُ

وعَسِرَ إِذا لم يسهل فهو عسير.

* * *

٣١

وقوله جلَّ وعزَّ : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (٣١)

(تَجْتَنِبُوا) تتْركوا نِهائياً ، والكبائر حقيقتها أَنها كل ما وعد اللّه عليه النار

نحو القتل والزنا والسَّرقة وأَكلِ مالِ اليتيم.

ويروىَ عن ابن عباس : الكبائر إِلى أن تكون سبعين أَقرب منها إِلى أَن

تكون سبعاً . قال بعضهم : الكبائر من أَول سورة النساءَ إِلى رأْس

الثلاثين . والكبائر ما كبُرَ وعظم من الذنوب.

* * *

وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا).

الاسم على أَدْخَلْتُ ، ومن قال : " مَدخلا " بفتح الميم ، فهو مبني

على دخل مدخلًا ، يعني به ههنا الجنة.

* * *

٣٢

وقوله - جلَّ وعزَّ - (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللّه بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللّه مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللّه كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٣٢)

قيل : لا ينْبغي أَن يتمنى الرجل مَالَ غيره ومنْزلَ غيره ، فإِن ذلك هو

الحسد ، ولكن ليقل : اللّهم إِني أَسْأَلك من فَضْلِك ، وقيل إِنَّ أمَّ سلمةَ قالت : ليْتنا كنا رجالاً فجاهدنا وغزونا وكان لنا ثوابُ الرجال.

وقال بعضتهم . قال الرجال : ليتنا فضلنا في الآخرة علَى النسَاء كما فُضلنَا في الدنيا .

وهذا كله يرجع إِلى تمني الِإنسان ما لِغيره.

* * *

٣٣

وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّه كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (٣٣)

أَي جعلنا الميراث لمن هو موْلى الميِّتِ ، والموْلى كلُّ مَنْ يَليك ، وكلُّ

من والاكَ فهو مولى لك في المحبِّة . والموْلى مولى نعمةٍ نحو مولى العبْدِ.

والمولى العَبدُ إِذا عَتَق.

وقوله (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ).

هؤُلاء كانوا في الجاهلية . كان الرجلُ الذليلَ يأْتي الرَّجلَ العزيزَ

فيعاقدُه ، أَي يحالفه ، ويقولُ له أَنا ابنُك تَرثُنِي وأرثُكَ ؛ حرمَتِي حرْمَتُكَ ، ودَمِي دَمُك ، وثأْرىِ ثَأْرك ، وأَمر اللّه - عزَّ وجلَّ - بالوَفاءِ لهم.

وقيل إِن ذلك أمِرَ به قبل تسْمِيةِ المَواريث ، وقيل أَيضاً أَمَر أَنْ يُوفَّى لهم بعقدهم الذي كان في الجاهلية ، ولا يعْقِد المسلمون مِثلَ ذلك.

وقال بعضهم الذي يعقد على الموالاة ، ويجب أَن يُجْعلَ له نصيب في المال يَذهب إِلى أَنَ ذلك من الثلث الذي هو للميت.

وإِجماع الفقهاءِ أنَّه لا ميراث لغير من وُصِفَ من الآباءِ

والأبناءِ ، وذوي العصبةَ والموالي والأزواج.

* * *

٣٤

وقوله عزَّ وجلََّّ : (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللّه بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّه وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللّه كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (٣٤)

الرجُلُ قيِّم على المرأَة فيما يجب لها عليه ، فأمَّا غير ذلك فلا ، ويقال

هذا قيِّمُ المرأَةِ وقِوَامُها

قال الشاعر :

اللّه بيني وبيْن قيِّمها . . . يفرُّ مِنِّي بئها وأتَبع

جعل اللّه عزَّ وجلَّ ذلك للرجال لفضلهم في العلم ، والتمييز ولِإنْفاقِهم

أموالهم في المهور وأقوات النساءِ.

وقوله عزَّ وجلَّ : (فالصالحَاتُ قَانِتات).

أي قيماتُ بحقوق أزواجهم.

(بمَا حَفِظَ اللّه).

تأويله - واللّه أعلم - بالشيءِ الذي يحفظ أمْرَ اللّه ودين اللّه ويحتمل أَن

يكون على معنى بحفظ اللّه ، أَي بأَن يحفَظْنَ اللّه ، وهو راجع إِلى أَمر

اللّه.

* * *

وقوله (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ).

النشوز كراهة أحدهما صاحبه ، يقال نشزت المرأَة تَنْشِزُ وتَنْشُزُ جميعاً

وقد قُرئ بهما : (وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فانْشُزوا . .) انشِزوا وانْشُزوا ، فانشزوا ، واشتقاقه من النَشزِ وهو المكان المرتفع من الأرض ، يقال له : نَشْز ونشَز.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ).

أي في النوم معهن ، والقرب منهن فإنهن إِن كنَّ يحببن أَزواجهن شقَّ

عليهن الهجران في المضاجع وإن كنَّ مُبْغِضَاتٍ وافقهن ذلك فكان دليلاً على

النشوز مِنْهنَّ .

يقال هجرت الِإنسان والشيءَ أَهجرهُ هَجراً وهِجراناً ، وأهجر فلان

منصبَهُ يُهجره إِهْجَاراً . . إِذا تكلم بالقبيح ، وهجر الرجل هجراً إِذا هذى.

وهجرتُ البعير أَهجره هجراَ إِذا جعلت له هِجَاراً . والهجار حبل يُشد في حَقوِ البَعير وفي رسغِه ، وهَجَّرتُ تهجيراً إِذا قمت قت الهاجة ، وهو انتصافُ

النهار.

فأَمر اللّه - عز وجل - في النساءِ أَن يبدَأْن بالموعظة أَولًا ، ثم بالهجران

بعْدُ ، وإِن لم ينجعا فيهن فالضربُ ، ولكن لا يكون ضرباً مبرحاً فإِن أَطعن فيما يُلتمس مِنهنَّ ، فلا يُبْغِي عليهن سبيلاً ، أَي لا يُطلُب عَليهن طريق عنتٍ.

(إِنَّ اللّه كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا).

أَي هو متعال أَن يكلف إِلا بالحق ومقدار الطاقة.

* * *

٣٥

وقوله جلّ وعزَّ (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللّه بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّه كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (٣٥)

قال بعضهم . . (خِفْتُمْ) ههنا في معنى أَيقنتم وهذا خطأ ، لو علمنا

الشقاق على الحقيقة لم يجنح إلى الحكمين . وإنما يخاف الشقاق

والشقاق العداوة ، واشتقاقه من - المتشاقين - كل صنف منهن في شق ، أَي في ناحيةٍ ، فأَمر اللّه تعالى - (إِنْ خِفْتُمْ) وقوع العداوة بين المرء وزوجه - أَن

يبْعَثَوا حَكمين ، حكم من أهل المرأَة وحكَماً من أَهل الرجل ، والحكم

القَيِّم بما يسند إِليه.

ويروى عن علي بن أبي طالب - رضي اللّه عنه - أنه اجتمع إليه فئام

من الناس ، - أي جمع كثير مع امراة وزوجها ، قد وقع بينهما اختلاف فأمر

حكمين أن يتَعَرفا أمْرهُمَا ، وقال لهما اتدْرِيانِ ما عليكُمَا ؟

إِنَّ عليكما إِنْ رأيتُما أَن تُفرقَا فَرقتُمَا ، وإِن رَأيتُما أن تجْمعَا جَمَعْتُمَا.

وقال بعضهم على الحكمين أن يَعظَا وُيعرِّفا ما على كل واحدٍ من الزوج

والمرأَة في مجاوزةِ الحق ، فإِن - رأيا أَن يفرقا فرقا ، وإن رأيا أن يَجمعَا جمعاً.

وحقيقة أَمر الحكمين أنهما يقصِدان للِإصْلاح ، وليس لهما طلاق وإِنما

عليهمَا أن يُعرفا الِإمامَ حقيقة ما وقفا عليه ، فإن رأى الِإمام أن يفرق فرَّق ،  أن يَجمع جَمَعَ ، وإِن وكَّلَهُما بتفريق  بجمع فهما بمنزلة ، وما فعلَ على

" رضي اللّه عنه " فهو فِعْلُ للِإمَامِ أنْ يَفَعَلَه ، وحَسْبُنا بعلي عليه السلامُ إِمَاماً.

فلما قال لهما إِن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإِن رأيتما أن تُفرقا فَرقْتَمَا ، كان

قد ولَّاهًما ذلك ووكَلهمَا فيه.

(إِنَّ اللّه كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا).

أي (عَلِيمًا) بما فيه الصلاح للخلق (خَبِيرًا) بذلك.

* * *

٣٦

و (وَاعْبُدُوا اللّه وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّه لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (٣٦)

أي لا تعبدوا معه غيره ، فإِن ذلك يفسد عبادته.

(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).

 أوصاكم اللّه بعبادته ، وأوصاكم بالوالدين إِحساناً ، وكذلك قوله

تعالى : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا). لأن معنى

قضى ههنا أمرَ ووَصَّى .

وقال بعض النحويين (إِحْسَاناً) منصوب على وأحسنوا بالوالدين إِحْسَاناً.

كما تقول : ضرْباً زيداً ،  اضرب زيداً ضرباً.

(وَبذي القُرْبَى . .).

أمرَ اللّه بالِإحْسَانِ إِلى ذوي القُرْبَى بَعْدَ الوالدين.

و (اليتامَى) في موضع جر.

 وباليتامى والمساكين أوصَاكُم أيضاً ، وكذلك جميع ما ذكر في

هذه الآية ،  أحسنوا بهؤلاءِكلهم.

(والجَار ذِي القُرْبَى).

أي الجار الذي يقاربك وتعرفه وَيعْرفَك.

(والجَارِ الجُنُبِ).

والجار القريب المتباعد.

قال علقمة :

فلا تحرِمني نائلاً عَنَ جَنَابةٍ . . . فإِني امرُؤ وَسْطَ القِبَابِ غَرِيب

وقوله عزَّ وجلَّ - (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ).

قيل هو الصاحب في السفر.

(وابْنِ السبِيلَ).

الضَيفُ يجب قِراه ، وأنْ يَبَلَّغَ حيْثُ يريد.

و (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ).

أي وأحسنوا بِمِلْك أيمَانكم ، موضع ما عطف على ما قبلها.

وكانت وصية النبي - صلى اللّه عليه وسلم - عند وفاته :

" الصلاة وما ملكت أيمانكمْ ".

وقوله عزَّ وجلََّ : (إِنَّ اللّه لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا).

المختال : الصَّلِفُ التيَّاه الجهولُ . وإِنما ذكر الاختيالُ في هذه القصة.

لأن المختال يأنف من ذوي قرابَاتِه إذا كانوا فقراءَ ، ومن جيرانه إذا كانوا

كذلك ، فلا يُحْسنُ عِشْرتَهم.

* * *

٣٧

و (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (٣٧)

والبَخْل جَمِيعاً يُقْرَأ انِ.

يُعْنَى به إليهودُ . لأنهم يَبخلون بعِلْمِ مَا كان عِندَهُم من مَبْعث النبي - صلى اللّه عليه وسلم -

(وَيَكْتُمونَ مَا آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ).

أي ما أعطاهم من العلم برسالة النبي - صلى اللّه عليه وسلم -

و (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا).

أي جعلنا ذلك عَتَاداً لهم ،  مُثْبَتاً لهم . فجائز أن يكون موضع الذين

نصباً على البدل ، والمعنى : إِنَّ اللّه لا يحب من كان مختالا فخوراً ، أي لا

يحب الذين يبخلون.

وجائز أن يكونَ رفعُه على الابتداءِ ، ويكون الخبر (إِنَّ اللّه لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) ، ويكون (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ) عطفاً على

(الذين يبخلون). في النصب والرفع.

وهُؤلا يُعْنَى بهم المنافِقُون ، كانوا يُظهرونَ الِإيمانَ ولا يؤمنون باللّه

واليوم الآخر.

* * *

٣٨

(وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (٣٨)

(وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا)

أَي من يكن عمله بما يُسَوِّلُ له الشيطانُ فبئس العملُ عَمَلُه ،

(فَسَاءَ قَرِينًا)

منصوب على التفسير ، كما تقول : زيد نعم رَجُلاً.

وكما قال (سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا).

* * *

٣٩

و (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّه وَكَانَ اللّه بِهِمْ عَلِيمًا (٣٩)

يصلح أَن تكون " مَا " و " ذَا " اسْماً واحداً ،  وأيُ شَيءٍ عَلَيْهِمْ.

ويجوز أن يكون " ذَا " في معنى الذي ،  تكون " ما " وَحْدَهَا اسْماً.

 : وَمَا الَّذِي عَلَيهم (لَوآمَنُوا بِاللّه وَاليَومِ الآخِرِ وأنْفَقُوا مِما رزَقَهمُ اللّه).

هذا يدل على أن الذين يبخلون (يبخلون) بما عَلِمُوا.

(وكان اللّه بهم عليماً).

* * *

٤٠

وقوله جلّ ثناؤُه : (إِنَّ اللّه لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (٤٠)

مِثْقَال مِفْعَال من الثِقل ، أي ما كان وزنه الذرة وقيل لكل ما يُعمَل " وزْن

مِثْقَالٍ " تمثيلًا ، لأَن الصلاة والصيام والأعمال لا وَزْن لها.

لكنَّ الناسَ خوطبوا فيما في قلوبهم بتمثيل ما يُدْرَكُ بأبصَارِهم ، لأَن ذلك - أَعني ما يبصَر - أَبينُ لهم.

وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا).

الأصل في " يكن " " تكون " فسقطت الضمةُ للجزم وسقطت الواو لسكونها

وسكون النون ، فأَما سقوط النون من " تكن " فأكثر الاستعمال جاءَ في القرآن بإثباتها ، وإِسقاطِها قليل - قال اللّه عزَّ وجلَّ - :

(إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا  فَقِيرًا فَاللّه أَوْلَى بِهِمَا)

فاجتمع في النون أنها تشبه حروف اللين ، وأنها ساكنة.

فحذفت استخفافاً لكثرة الاستعمال كما قالوا - لا أدرِ ، وَلا أبَلْ ، والأجود لم أبال ولا أدري.

و (حَسَنةً) يكون فيها الرفع والنصب ،  وإِن تكن فَعْلَتُه حسنةً

يضاعِفْهَا ، ومن قرأ (وإِن تكن حَسَنَةٌ) بالرفع ، ، رفع على اسم كان ، ولا خبر لها وهي ههنا . في مذهب التمام والمعنى وإِن تحدث حسنة يضاعِفْها.

(وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا).

(ويؤتِ) بغير ياء . سقطت الياءُ للجزم ، معطوف على (يضاعِفْهَا) ، ووقعت

" لَدُنْ " وهي في موضع جِر ، وفيها لغَات.

يُقَالُ لَدُ ولَدُنْ ، وَلَدُن ، وَلَدَى . والمعنى واحد ومعناه مِنْ قِبَلِهِ ، إِلا أنها

لا تتمكن تمكُنَ عِند ، لأَنك تقول : " هَذَا القولً عَنِدي صَوَابٌ " ولا يقال :

الوقت لَدَنيَّ صواب ، وتقول : عندي مال عظيم والمال غائب عنك ، و " لدن " لما يليك.

* * *

٤١

قوله - جلَّ وعزَّ - (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (٤١)

أي فكيف تكون حال هُؤلاءِ يومَ القيامة ، وحذف " تكون حالُهُم " لأنَّ في

الكلام دليلًا على ما حذف ، و " كيف " لفظها لفظ الاستفهام ، ومعناها معنى التوبيخ.

 (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا).

أي نأتي بكل نبي أمَّةٍ يشهدُ عَليها ولها.

* * *

٤٢

و (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللّه حَدِيثًا (٤٢)

الاختيار الضَّمُ في الواوِ في عَصَوْا الرسول ، لالتقاءِ السَّاكنين والكسر

جائز ، وقد فسرناه فيما مضى.

و (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ).

وبهِمِ الأرض بضم الميم وكسرها.

(وَلَا يَكْتُمُونَ اللّه حَدِيثًا).

أي يودون أنهم لم يبعثوا ، وأنهم كانوا والأرضَ سواءَ.

وقد جاءَ في التفسير أن البهائم يومَ القيامة تصير تراباً . فيودون أنهم

يصيرون تراباً.

قوله (وَلَا يَكْتُمُونَ اللّه حَدِيثًا).

فيه غير قول ، قال بعضهم : وَدوا أن الأرض سويت بهم وأنهم لم

يكتموا اللّه حَدِيثاً ، لأن قولهم : (وَاللّه رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)

قد كَذبوا فيه ، وقال بعضهم : (وَلَا يَكْتُمُونَ اللّه حَدِيثًا).

مستأنف لأن ما عملوه ظاهر عند اللّه لا يقدرون على كتمه.

* * *

٤٣

وقوله جلَّ وعزَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى  عَلَى سَفَرٍ  جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ  لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّه كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (٤٣)

قيل في التفسير : إِنها نزلت قبْل تحريم الخمر ، لأن جماعةً مِنْ

أصحاب النبي - صلى اللّه عليه وسلم - اجتمعوا فشربوا الخمر فبل تحريمها ، وتقدم رجل منهم

فصلى بهم فقرأ : قُلْ يا أيها الكَافِرُونَ أعبُد ما تعْبدُونَ ، وأنتم عابدون ما أعْبدُ ، وأنا عابد ما عَبَدْتُمْ فنزلت (لا تقربوا الصلاة وأنتُمْ سُكَارَى).

ويروى أن عُمَر بنَ الخطاب قال : اللّهم إن الخمر تضُرُّ بالعقولِ.

وتذهب بالمال ، فأنزِلْ فيها أمرك فنزل في سورة المائدة : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ).

وقال : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ).

والتحريم نص بقوله - عزَّ وجلَّ - (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ).

فقد حُرمتِ الخمر بأنه قال : إِنَها إِثم كبير . وقد حرًم اللّه - عزَّ وجلَّ - الِإثْمَ ، فأَمر اللّه - عزَّ وجلَّ - في ذلك الوقت ألا يَقْرَبَ الصلاةَ السكران وحرم بعْدُ ذَلِك السُّكرَ ، لأن إِجماع الأمَّةِ أن السُّكْرَ حرام.

وإِنما حُرَّمَ ذُو السُّكُرِ ، لأن حقيقة السكر إنَّه لم يزل حراماً وقد بيَّنَّا هذا

في سورة البقرة.

و (حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا).

أي لا تقربوا الصلاة وأنتم جنُب ، إِلا عابري سبيل ، أي إِلا مسَافِرين

لأن المسافر يُعْوِزُه الماء ، وكذلك المريض الذي يضُر به الغُسْلُ.

ويروى أن قوماً غسلوا مجدراً فمات ، فقال النبي - صلى اللّه عليه وسلم - : قتلوه قتَلَهُم اللّه ، كان يجزيه التيممَ.

وقال قوم : لاتقربوا مَوْضِعَ الصلاة ، حقيقتُه : لا تُصلوا إِذا كنتم جُنباً

حتى تغتسلوا ، إِلا أنْ لا تقدِرُوا على الماءِ ، وإِلا أن تخافوا أنْ يَضرْكم الغسْلُ

إِضْراراً شديداً ، وذلك لا يكونُ إِلا في حالِ مَرضٍ.

(فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا).

معنى تيمموا أقصِدُوا ، والصعيد وجهُ الأرضِ.

فعلى الِإنسان في التيممِ أن يضرب بيديْه ضربةً واحِدةً فيمسح بهما

جميعاً وجهه ، وكذلك يضرب ضربةً واحدةً ، فيمسح بهما يديه ، والطيبُ هو

النظيف الطاهر ، ولا يُبَالي أكان في الموضع تراب أم لا ، لأَن الصعيد ليس هو

التراب ، إِنما هو وجه الأرض ، تراباً كان  غيرَه . ولو أن أرضاً كانت كلُها

صخراً لا ترابَ عليها ثم ضرب المتيممُ يده على ذلك الصخْرِ لكان ذلك

طهُوراً إِذا مسح به وجهه.

قال اللّه عزَّ وَجَل - : (فتُصْبحَ صَعِيداً زلقاً)

فأعلمك أن الصعيد يكون زلَقاً ، والصُعُداتُ الطُرُقات.

وإِنما سمي صعيداً ، لأنَّها نِهايةُ ما يُصْعدُ إِليه من باطن الأرض ، لا أعلم بين أهلِ اللغةِ اختلافاً في أن الصعيد وجهُ الَأرض.

(إِنَّ اللّه كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا).

أي يقبل منكم العفو ويغفرُ لكم ، لأَن قبوله التيمُم تسهيل عليكم.

* * *

٤٤

و (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤)

قال بعْضُهم : (أَلَمْ تَرَ) أَلَمْ تُخْبر . وقال أهل اللغة أَلم تَعلَمْ ،  الم

ينته علمك إِلى هُؤلاءِ ، ومعناه أعرفْهُم . يُعنَى به علماءُ أَهلِ الكِتَاب ، أَعطاهم اللّه في كِتابِهمْ عِلْمَ نبوةِ النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أنَّه عندهم مكتوبٌ في التوراة والإنجيل يأمرُهم بالمعروف وينهَاهُم عن المنكر .

و (يشترونَ الضلاَلَةَ).

أي يؤثرون التكذيب بأمر النبي - صلى اللّه عليه وسلم - ليأخذوا على ذلكَ الرشَا وَيثْبُتَ لهم رياسَة.

و (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ).

أي تَضِلُّوا طريق الهُدى ، لأن السبيل في اللغة الطريق.

* * *

٤٥

و (وَاللّه أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّه وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّه نَصِيرًا (٤٥)

أي هو أعرف بهم فهو يُعْلِمُكمْ ما هم علَيْه.

(وَكَفَى بِاللّه وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّه نَصِيرًا).

أي اللّه ناصركم عليهم . ومعنى الباء التوكيد.

 وكفى اللّه ولياً وكفى اللّه نصيراً ، إِلا أن الباء دخلت في اسم الفاعل ، لأن معنى الكلام الأمر ،  اكتفوا باللّه.

٤٦

وقوله - عزَّ وجلَّ - (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللّه بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (٤٦)

فيها قولان : جائز أن تكون مِنْ صلةِ الذين أوتوا الكتاب.

والمعنى : ألم تر إِلى الذين أوتوا نصيباً مِن الكتاب من الذين هادوا.

وَيجوز ُ أن يكون من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم.

ويكون (يحرفون) صفةً ، والموصوف محذوف.

أنشد سيبويه في مثل هذا قول الشاعر :

وما الدَّهرُ إِلا تارتان فمنهما أموتُ . . . وأخرى أبتغي العَيْشَ أكدَحُ

 منهما تارة أموت فيها.

وقال بعض النحويين  : مَنْ الذين هادوا من يحرفونه فجعل

يحرفون صلة من . وهذا لا يجوز . لأنه لا يحذف الموصول وتبقى صلته.

وكذلك قول الشاعر :

لو قلت ما في قومها لَمْ تِيثَم . . . يفضلها في حَسَب وميسمِ

 ما في قومها أحد يفضلها.

وزعم النحويون أن هذا إِنما يجوز مع " من " و " في ".

وهو جائز إِذا كان " فيما بقي دليل على ما أُلْقَى.

لو قلت : ما فيهم يقول ذاك  ما عندهم يقول ذاك

جازَا جميعاً جوازاً واحداً.

والمعنى ما عندهم أحد يقول ذاك.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ).

كانت إليهود - لُعِنَتْ - تقول للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - : اسمَعْ ، وتقول في أنفسها لا أسْمِعتَ.

وقيل غَيرَ مسمَعٍ ، غير مجاب إِلى ما تدعو إِليه

و (وَرَاعِنَا).

هذه كلمة كانت تجري بينهم على حد السُّخرى والهزؤ.

وقال بعضهم : كانوا يَسبُّون النبي - صلى اللّه عليه وسلم - بهذه الكلمة . وقال بعضهم : كانوا يقولونها

كِبْراً ، كأنَّهم يقولون : ارعِنَا سمعَكَ أي اجعل كلامَك لسَمِعْنَا مَرْعًى.

وهذا مما لا تخاطب به الأنبياءُ - (صلوات اللّه عليهم) -

إِنما يخاطبون بالِإجلال والإعظام.

و (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ).

أي يفعلون ذلك مُعَانَدةً للحق وطغياناً في الدين.

وأصل " لَيا " لَوياً ولكن الواو أدغمت في الياء لسبقها بالسكون.

و (فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا).

أي فلا يُؤمنون إِلَّا إِيماناً قليلاً ، لا يجب به أن يُسَمُّوْا المؤْمنين.

وقال بعضهم : (فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) أي إِلا قليلاً منهم ، فإنهم آمنوا.

* * *

٤٧

و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا  نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّه مَفْعُولًا (٤٧)

(مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا)

فيها ثلاثة أقوال.

قال بعضهم نجعل وجوههم كأقفائهم.

وقال بعضهم نَجَعَلُ وجوههم مَنَابت للشعرُ كأقفائهم.

وقال بعضهم " الوجوه " ههنا تمثيل بأمر الدين.

 قبل أن نُضِلَّهُمْ مجازاةً لما هم عليه من المعاندة ، فنُضِلَّهُمْ

ضلالًا لا يؤمنون معه أبداً.

* * *

٤٨

وقوله - جلَّ وعزَّ - (إِنَّ اللّه لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللّه فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (٤٨)

أجمع المسلمون أن ما دون الكَبَائِر مغفور ، واختلفوا في الكبائر فقال

بعضهم : الكبائر التي وعد اللّه عليها النار لا تُغْفَرُ ، وقال المشيخةُ من أهل

الفقه والْعِلْمِ : جَائِزٌ أن يَغْفِر كل ما دونَ ذَلِكَ بالتَوبة ، وبالتَوبةِ يُغفر الشرك

وغيره.

(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللّه فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا).

افترى اختلق وكذب ، إِثْماً عظيماً : أي غير مغْفًور.

* * *

٤٩

و (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللّه يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٤٩)

(أَلَمْ تَرَ) : ألم تخبر في قول بعضهم.

وقال أهل اللغة ألم تعلم وتأويله سؤال فيه معنى الِإعلام.

تأويله أعلم قصَتهُم ، وعلى مجرى اللغة ألم ينته

علمك إِلى هؤلاءِ ، ومعنى يزكون انفُسَهم أي تزعمون أنهم أزكياء.

وتأويل قولنا : زكاءُ الشَيْءِ : في اللغة نماؤُه في الصلاح.

وهذا أيضاً يعني به إليهًودُ . وكانوا جاؤوا إِلى النبي - صلى اللّه عليه وسلم - بأطفَالِهمْ فقالوا : يا محمد أعلى هؤلاءِ ذنوبٌ ؟

فقال النبي - صلى اللّه عليه وسلم - لا ، فقالوا كذا نحن ، ما نعمل بالليْلِ يغْفَر بالليْلِ ، وما نعمل بالنهار يُغْفَر بالنهار.

قال اللّه - عزَّ وجلَّ - : (بَلِ اللّه يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ).

أي يجعل من يشاء زاكياً.

(وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا).

تأويله ولا يظلمون مِقْدارَ فَتِيلٍ.

قال بعضهم : الفتيل ما تَفْتُلُه بين إِصْبَعَيْكَ من الوسخ ،.

قال بَعضهم : الفتيل ما كان في باطن النَّواةِ من لِحائِها.

وقالوا في التفسير : ماكان في ظهرها وهو الذي تَنْبتُ منه النخلة.

والقِطْمِير جملة ما التفَّ عليها من لحائها.

* * *

٥٠

وقوله - جلَّ وعزًَّ - : (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (٥٠)

أي يفعلونه ويختلقونه.

ويقال : قد فَرَى الرجلُ يَفْرِي إِذا عمِلَ ، وإِذا قَطَع زمن هذا : فرَيْتُ

جِلدَه . فتأويله أن هذا القولَ أعني تزكيتَهمْ أنفُسَهُم فِرْيةٌ منهم.

(وكَفَى بِهِ إثماً مبيناً).

أي كفى هو إِثماً . مَنصوب عَلَى التمييز ، أَي كفى به في الآثام.

* * *

٥١

وقوله جلَّ وعزَّ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (٥١)

يعني به علماءُ إليهود.

أي أعطوا علم أمْرِ النًبيَ - صلى اللّه عليه وسلم - فكتموه.

(يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ).

قال أهل اللغة : كل مَعْبُودٍ من دون اللّه فَهُو جِبْت وطاغوت.

وقيل : الجبتُ والطاغوتُ الكهنةُ والشياطينُ.

وقيل في بعض التفسير : الجبت والطاغوت ههنا . حُيي بَنُ أخْطَب ، وكعب بنُ الأشرف إليهوديان وهذا غير خارج عما قال أهل اللغة ، لأنه إِذَا اتَبَعوا أمْرَهمَا فقد أطاعوهما من دون اللّه - عزَّ وجلَّ.

و (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا).

وهذا برهانٌ ودليلٌ على معاندة إليهود لأنهم زعموا إن الذين لم يُصدقُوا

بشيء من الكتب وعِبادةَ الأصنام ، أهدى طريقاً من الذين يُجَامِعُونَهم على

كثير مما يصَدقونَ بِه ، وهذا عِنادٌ بين.

وقوله جلَّ وعزَّ : (سَبِيلًا)

منصوب على التمييز ، كما تقول : هذا أحسن منك وجهاً وهذا أجود

منك ثَوباً . لأنك في قولك : " هذا أجودُ منك " قد أبهَمْتَ الشيءَ الذي فَضلتَه به ، إِلا أَنْ تريد أنَّ جُمْلته أجْوَدُ مِنْ جملتك فتقول : هذا أجود منك.

وتمسك.

٥٢

و (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّه وَمَنْ يَلْعَنِ اللّه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (٥٢)

أي الذِين بَاعَدَهُم مِنْ رَحْمَتِه.

وقد بيَّنَّا أن اللعنة هي المباعدة في جميع اللغة.

ش (وَمَنْ يَلْعَنِ اللّه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا).

أي من يباعِد اللّه من رحمته فهو مخذول في دعواه وحجته ومغلوب.

واليهود خاصةً أبيَنُ خِذْلاناً في أنهم غُلِبُوا من بين جميع سائر أهل الأديان.

لأنهم كانوا أكثر عناداً ، وأنهم كتموا الحق وهم يعلمونه.

* * *

٥٣

و (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (٥٣)

 بل ألهم نصيب من المُلْكِ.

(فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا)

قال بعضهم : إِنما معناه أنهم لو أعْطُوا الملك ، ما أعطوْا الناس

نقيراً ، وذكر النقير ههنا تمثيل ،  لضنَّوا بِالقليل.

وأما رفع " يُؤْتُونَ" فعلى " فلا يؤتون الناس نقيراً إِذنْ "

ومن نصب فقال : " فإِذا لا يؤتوا الناسَ " جاز له

ذلك في غير القراءة فأَما المصحف فلا يخالف.

قال سيبويه : " إِذاً " في عوامل الأفعال بمنزلة " أَظن " في عوامل الأسماءِ ، فإِذا

ابتدأت إِذَنْ وأنت تريد الاستقبال نصبت لا غير ، تقول : إِذَنْ أكرمَكَ ، وإِن

جعلتها معترضة ألغيتها فقلت : أنا إِذَنْ أكرمُكَ ، أي أنا أكرفك إِذَنْ . فإن أتيت بها مع الواو والفاء قلتَ فإِذاً أكرمُك ، وإِن شئت فإذَنْ أكرمَكَ.

فمن قال فَإِذَنْ أكرمك نصَب بها وجعل الفاء ملصقة بها في اللفظ والمعنى ، ومن قال : فإِذن أكرمَك جعل إِذاً لغواً ، وجَعَل الفاء في  معلقةً بأكرِمكَ والمعنى فأكرمُكَ إِذَنْ.

وتأويل " إِذن " : إِن كان الأمر كما ذكرتَ ،  كما جرى ، يقول القائل :

زيد يصير إليكَ فتجيب فتقول إِذن أكرمه.

تأويله إِنْ كان الأمر على ما تصِفُ

وقع إكرامه فَأنْ مع أكرمه مقدرة بعدَ إِذَنْ.

 إِكرامك واقع أن كان الأمر كما قلت.

قال سيبويه : حكى بعض أصحاب الخليل عن الخليل أن " أنْ " هي

العاملة في باب إِذَنْ.

فأمَّا سيبويه فالذي يذهب إِليه ونحكيه عنه أن إِذن نفسها الناصبة ، وذلك

أن (إِذَنْ) لما يستقبل لا غير في حال النسبِ ، فجعَلَها بمنزلة أنْ في العمل

كما جُعِلَتْ " لكنَّ " نظيرة " إِنَّ " فِي العَمَل في الأسماءَ.

وكلا القولين حسن جميل إِلا أن العامِل - عندي - النصْبَ في سائر الأفعال ، (أن) ، وذلك أجود ، إِما أن تقع ظاهرة  مضمرة . لأن رفع المستقبل بالمضارعة فيجب أن يكون نصبه في مضارعه ما ينصب في باب الأسماء ، تقول أظنُّ أنكَ

منطلق ، فالمعنى أظن انطلاقكَ . وتقول أرجُو أن تذهب أي أرجو ذَهَابَك . فَ أن الخفيفة مع المستقبل كالمصدر.

كما أن (أن) الشديدة مع اسمها وخبرها كالمصدر ، وهو وجه

المضارعة.

* * *

٥٤

وقوله - عزَّ وجلَّ - : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (٥٤)

معناه بَلْ أيَحْسُدُونَ النَّاسَ . وهنا يعني به النبي - صلى اللّه عليه وسلم - كانت إليهود قد حسدته على ما آتاه اللّه من النبوة ، وهم قد علموا أن النبَوةَ في آل إِبراهيم عليه السلام ، فقيل لهم : أتحسدون النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وقد كانت النبوة في آله وهم آل إبراهيم (عليهما السلام).

وقيل في التفسير إِن إليهود قالت : إِن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - شأْنه النساء ، حسداً لما أحلَّ لَه مِنهنَّ ، فأعلم اللّه - جلَّ وعزَّ - أن آل إِبراهيم قد أوتوا ملْكاً عظيماً.

وَقَالَ بعضهم نالوا من النساءِ أكثر مما نال محمد - صلى اللّه عليه وسلم - كان لداود مائة امرأة ، وكان لسليمانَ ألف ما بين حُرَّةٍ ومملُوكَةٍ.

فما بالهم حسدوا النبي - صلى اللّه عليه وسلم -.

* * *

٥٥

و (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (٥٥)

أي من آمن بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم -.

(وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ)

وقيل منهم مَنْ آمن به أي بهذا الخبر عن سليمان وداود فيما أعْطِيَا مِن

النَسَاء.

و (وكفى بجهنم سعيراً)

 كفت جهنم شدةَ توقدٍ.

* * *

٥٦

و (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللّه كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (٥٦)

(سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا)

أي نَشْويهم في نار . ويروى أن يهودية أهدت إِلى النبي - صلى اللّه عليه وسلم - شاة مَصْلِيَّة أي مشويَّةً.

و (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا)

الأحسَنُ إِظهار التاءَ ههنا مع الجيم . لئلا تكثر الجيمات ، وإِن شئت

أَدغم التاء في الجيم ؛ لأن الجيم من وسط اللسان والتاء من طرفه ، والتاء

حرف مهموس فأدغمته في الجيم.

فإن قال قائِل بدل الجلد الذى عَصَى بالجلد الذي غير العاصي ، فذلك

غلط من القَول . لأن العاصي والآلم هو الِإنسان لا الجلد . وجَائز أَنْ يكونَ

بُدلَ الجلْدُ النَضِجُ . وأُعيد كَمَا كانَ جلدُه الأول ، كما تقول : قد صغت من

خاتَمِي خاتَماً آخر فأنت وإِن غيرت الصوغ فالفضة أصل وَاحِد.

وقد كان الجلدُ بلِيَ بَعدَ البَعْتَ ، فإنشاؤه بعد النضج كإِنشائه بعد البعث.

و (ليَذُوقوا العَذَابَ)

أي ليُبْلِغَ في أَلَمِهِمْ.

و (إِنَّ اللّه كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا)

العزيز البالغ إِرادَتَه ، الذي لا يَغْلبُه شي " وهو مع ذلك حكيم فيما

يدبر ، لأن ّ الملْحدين ربما سَألوا عن العذَابِ كيف وقع فأعلم اللّه عزَّ وجلَّ أن جميع مَا فعله بحكمةٍ.

* * *

٥٧

و (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (٥٧)

 تجري من تحتها مياه الأنهار ، لأن الجاري على الحقيقة الماء.

و (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا)

معنى ظليل يُظل من الريح والحر ، وليس كل ظل كذلك.

أعلم اللّه - عزَّ وجلَّ - أن ظِل أهل الجنَّة ظليل لا حَرَّ مَعَه ولا بَرْدَ.

وكذلك  (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) لأن ليس كل ظلٍّ مَمْدُوداً.

* * *

٥٨

و (إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّه نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللّه كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (٥٨)

هذا أمر عَامٌّ للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - وجميع أُمَّتِه.

ويروى في التفسير أن العباسَ عمَّ النبي - صلى اللّه عليه وسلم - سأل النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أن يجعلَ له السقَاية والسِّدَانَةَ وهي الحِجبة.

وهو أَن يجعل له مع السقاية فتح البيت وإِغلاقَه ، فنازعه شيبةُ بن عثمان فقال يا رسول اللّه اردُدْ عليً ما أخذْت مِنِّي يعني مفتاح الكعبة ، فرده - صلى اللّه عليه وسلم - على شَيْبَة.

و (إِنَّ اللّه نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ)

هذه على أوجه - نِعِمَّا - بكسر النون والعين وإِدغام الميم في الميم.

وإِن شئت فتحت النون ، وإِن شئت أسكنت العين فقلت نَعْمَّا ، إلا أن الأحسنَ عندي الِإدْغام مع كسرِ العَيْن فأمَّا من قرأ نِعْم مَا بإسكان العين والميم ، فهو شيءٌ ينكره البَصْرِيُون ، ويزْغمون أن اجتماع السَّاكنين أعني العين والميم غير جائز ، والذي قالوا بَيِّن ، وذلك إنَّه غير ممكن في اللفظ ، إِنما يحتال فيه بمشقة في اللفظ.

* * *

٥٩

و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٥٩)

أي أطيعوا اوُلي الَأمْر مِنكم ، فأمر اللّه عزَّ وجلَّ بطاعته ، فيما فرض.

وطاعة رسوله وتصديقه فيما أدى عن اللّه.

وأولو الأمر منهم هم أصحابُ رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - ومن اتبعهم من أهل العلم ، وقيل إِنهم همُ الأمراءُ ، والأمراءُ إِذا كانوا أولي علم ودينٍ آخذين بما يقوله أهل العلم ، فطاعتهم فريضةٌ.

وجُمْلَة أولي الأمر من المسلمين من يقول بشأْنهم في أمر دينهم وجميع

ما أدى إِلى صلاح له.

ويقال : أديت الشيءَ تأدية ، والأداءُ اسم مَمْدود وأدوْتُ الرجُل آدو له

أدواً إِذا خَتَلْته.

قال الشاعر :

أدَوْت له لأخْتِله . . .فهيهات الفتى حذرا

وأَدِيَ اللبنُ أَدِيًّا إِذا حمض .

و (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ)

معنى تنازعتم اختلفتم وتجادلتم وقال كل فريق : القولُ قولي.

واشتقاق المنازعة أن كل واحد منهما ينزع الحجة.

وفي هذه الآية أَمْر مَؤكد يدل على أَن القصد للاختلاف كفْر ، وأنَّ

الِإيمان اتباعُ الِإجماع والسُّنةِ.

ولا يخلو قوله عزَّ وجلَّ : (فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

من أحد أمرين : إِمَّا أنْ تَرُدّوا ما اخْتَلَفْتُم فيه إِلى كتاب اللّه وسنة

رسوله ،  تقولوا إِن لم تعلموه : اللّه ورسوله أَعلم.

(ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)

أي إِنَّ رَدَّكم ما اختلفتم فيه إِلى ما أَتى من عند اللّه وترككم التَحارُب

خير ، وأحْسَنُ تأْويلاً لَكُم ، أَي أَحسنُ عاقبةً لكم . وجائز أن يكون أحسن

تأويلًا أيأحسن من تاوُلِكم انتُم . دون رَدَكم إِياه إِلى الكتاب والسُثةِ.

وتأْويلًا منصوب على التمييز.

* * *

٦٠

و - (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (٦٠)

يًعْنى به المنافقون.

(أَنَّهُمْ) تنوب عن اسم الزعم وَخبرِه.

و (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ)

إِلى الكاهن والشيطان .

ويروى أن رَجُلاً من المنافقين نازعه رجل من إليهود ، فقال إليهودي بيني

وبينك أبو القاسم وقال المنافق بيني وبينك الكاهن ، فلم يرض إليهودي

بالكاهن وصار إِلى النبي - صلى اللّه عليه وسلم - فحكم لليهودي على المنافق فقال المنافق لا أرضى . بيني وبينك أبو بكر ، فحكم أبو بكر أيضاً لليهودي ، فلم يرض المنافق وقال بيني وبينك عمرُ فصارا إِلى عمرَ فأخبره إليهودي بأن المنافق قد حَكَمَ عليه النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وأبو بكر فلم يرض بحكمهما.

فقال عمر للمنافق : أكذاك ؟

قال : نَعَمْ ، فقال عمر : اصبروا فإن لي حاجة أدْخُلُ فأقْضِيهَا وأخرج

إليكما فدخل وأخذ سيفه وخرج إِلى المنافق فضربه بالسيف حتى قتله ، فجاءَ

أهله فشكوا عُمَرَ إِلي النبي - صلى اللّه عليه وسلم - فسأله عن قِصتِه فقال عمر : إِنه ردَّ حُكمَك يا رسولَ اللّه ، فقال رسول اللّه : أنت الفارُوق.

* * *

٦١

و (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللّه وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (٦١)

أي يَصدُّون عن ، حُكْمِكَ.

* * *

٦٢

و (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّه إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (٦٢)

أي فكيف تكون حالُهم إِذا قُتِل صَاحبُهم بما أظهر من الخيانة ورَدَّ

حُكْم النبي - صلى اللّه عليه وسلم -.

و (ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّه إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا)

أي ما أرَدْنا بمُطَالَبَتِنَا بدمِ صاحِبِنَا إِلا إِحْسَاناً وطلباً لما يوافق الحق.

* * *

٦٣

(أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّه مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (٦٣)

اللّه يعلم ما في قلوب أُولَئِكَ وقلوب غيرهم ، إلا أن الفائدة في ذكره

ههنا الذين يعلم اللّه ما في قلوبهم أي أُولَئِكَ الذين قد علم اللّه أنهم

منافقون.

والفائدة لنا هي : اعلموا أنهم منافقون.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا)

أي أعلمهم أنهم إن ظهر منهم رَدٌّ لحِكُمكَ وكفر ، فالقتل حقُهم.

يقال قَولٌ بليغٌ إِذا كان يبلغ بعبَارةِ لسانه كُنْهَ مَا في قلبه ، ويقال أحمَقُ بَلْغ وبلْغ.

وفيه قولان : إنَّه أحمَقُ يبلغ حيث يريد ، ويكون " أحمقُ بَلْغ وبلْغ " قد بَلَغَ في

الحماقة . والقولُ الأول قول من يُوثَقُ بعِلْمه ، والثاني وجه جَيدٌ.

* * *

٦٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّه وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّه وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّه تَوَّابًا رَحِيمًا (٦٤)

إي ، أذِنَ في ذلك.

و " مِنْ " دخلت للتوكيد .  وما أرسلنا رسولاً إِلَّا ليطاع بإِذن اللّه.

و (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّه)

" أن " في موضع رفِع :  لو وقع مجيئهم في وقت ظلمهم أنفسهم مع

استغفارهم (لَوَجَدُوا اللّه تَوَّابًا رَحِيمًا).

* * *

٦٥

و (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)

يُعنَىِ به المنافقون.

(حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)

أي فيما وقع من الاختلاف بينهم.

(ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ) أي لَا تَضِيقُ صدورُهم من قضيتيكَ.

(وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)

أَي يسلمون لما يأتي به من حُكْمِكَ ، لا يعارضونه بشيء ، وتسليماً

مصدر مَؤكد ، والمصادر المؤَكدة بمنزلة ذكر الفعل ثانياً ، كأنك إِذا قلت

سلمت تسليماً فقد قلْت : سَلَّمْتُ سَلَّمْتُ . وحقُّ التوْكِيد أن يكون محقِّقاً لما

تذكره في صَدْرِ كَلَامِك ، فإِذا قُلْتَ ضَربتُ ضرباً ، فكأنك قُلْتَ أحدَثْتُ ضَرْباً أحَقه ولا أشك فيه ، وكذلك (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) أي يسلمون لحكمك تسليماً ، لا يُدْخِلون على أنفسهم فيه شَكاً.

* * *

٦٦

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ  اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (٦٦)

" لو " يُمنَعُ بها الشيء لامتناع غيره . تقول لَوْ جاءَني زيد لَجئْتُه.

 أن مجيئي امتنع لامتناع مَجِيءِ زيْدٍ ، فحقها أن يَلِهَا الأفعالُ.

إلَاَ أن (أنَّ) المشدَدةَ تقع بعدها ، لأن - " أنَّ " في اللغة تنوب عن الاسم والخبر ، تقول ظننت أنك عالم.

وهذا كقولك ظننتك عالماً . والمعنى ظننت علمك.

فالمعنى في " أنَّ " بَعْدَ " لَوْ " أنها نابَتْ عن الفعل والاسم ، كما نابت عن الاسم والخبر.

فالمعنى في  (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ) كالمعنى في لو كتبنا عليهم.

وجائز أن يكون مضمراً الفعلُ مع (أنَّ) مع وقوع قابلها.

 ولو وقع وكتبْنَا عليهم أنْ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ  اخرُجُوا من دِيارِكُمْ مَا

فَعَلُوهُ إِلا قَليلُ مِنْهُمْ.

وإِن شئت كسرتها لالتقاء السَّاكنين أعني . . (أَنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ)

وإِن شئت قُلْتَ " أنُ اقتلوا " فضممتها لانضمام التاء . .

وأبو عمرو بن العلاء يختار مع النونات خاصة الكسَرَ ومَعَ سائِر ما في

القرآن - إِذا كان ما بعدها مضموماً - الضَّمَ ، إِلا

(وَقَالَتِ اخْرُج عليهنَّ) ، (وَلقَدِ اسْتُهزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ)

ولست أعرف في هذين الحرفين خَاصيةَ أبي عمرو إِياهُمَا بالكَسْرِ إِلا أن

يكونَ رَوَى روايةً فاختار الكسرَ لهذه العِلةِ ،  يكون أرادَ أن الكسرَ جازَ أيْضاً كما جاز الضمُ - وهذا أجْوَد التأويلين.

وللكسر والضم في هَذِهِ الحروف وجهان جيدانِ قد قَرأت القراءُ

بهما.

فأمَّا رفع إلا قَليل . مِنْهم . فعلى البدل من الواو.

 ما فعله إِلا قليل منهم.

والنصب جائز في غير القرآن ، على معنى ما فعلوه اسْتَثْنِي قَلِيلاً مِنْهمْ.

وعلى ما فسَّرنَا في نصب الاستثناء ، فإن كان في النفْي نوعانِ مختلِفَان

فالاختيار النصبُ ، والبدَل جائز ، تقول مَا بِالدارِ أحد إِلا حِمَاراً

قال النابغة الذبياني :

وَقَفْتُ فيها أُصَيْلالاً أسائلُها . . . عَيَّتْ جواباً وما بالرَّبْعِ مِنْ أحدِ

إلاَّ الأَوارِيَّ لأْياً ما أُبَيِّنُها . . . والنُّؤْيُ كالحَوضِ بالمَظلُومة الجَلَدِ

فقال ما بالربع مِنْ أحدٍ ، أي ما بالربعِ أحد إِلَّا أوارِي ، لأن الأواري

ليست من الناس.

وقد يجوز الرفع على البدل ، وإِن كان ليس من جنس الأول

كما قال الشاعر :

وبَلْدَةٍ ليس بها أنيسُ . . . إلاَّ اليَعافيرُ وإلاَّ العِيْسُ

فجعل اليعافير والعيسَ بدلا من الأنيس.

وجائز أن يكون أنيس ذلك البلد اليعافير والعس.

* * *

٦٩

وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (٦٩)

و (وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا).

يعنى النبيين ، لأنه قال :

(وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ) أي المطيعون.

(مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا).

أي الأنبياءَ ومن مَعَهمْ حسنوا رفيقاً.

و " رفيقاً " منصوب على التمييز ، ينوب عن رفقاء ، وقال بعضهم لا ينوب

الواحدُ عن الجماعة إِلا أن يكون من أسماء الفاعلين . فلو كان " حسُنَ القوم

رجُلًا " لم يجز عنده . ولا فرق بين رفيق ورَجل في هذا  لأن الواحد في

التمييز ينوب عن الجماعة ، وكذلك في المواضع التي لا تكون إِلا جماعةً

نحو قولك هُوَ أحسن فتى وأجملُه ،  هو أحسن الفتيان وأجملهم ، وإذا

كان الموضع الذي لا يُلْبِسُ ذِكْرُ الواحد فيه ، فهو يُنْبى عن الجماعة

كقول الشاعر :

بها جِيَف الحَسْرى فأمَّا عِظامُها . . . فَبيضٌ وأَمَّا جِلْدُها فَصَلِيبُ

وقال الآخر :

في حَلْقِكم عَظم وقد شَجينَا

يريد في حلوقكم عِظَام ، ولو قلت حسُنَ القوم مجاهداً في سبيل اللّه.

وحسن القوم رجلاً كان واحداً

و (وَكَفَى بِاللّه عَلِيمًا).

معناه : كَفَى اللّه عَلِيمًا ، والباء مَؤكدة .  اكتفوا باللّه عليماً.

* * *

٧١

و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ  انْفِرُوا جَمِيعًا (٧١)

أمر اللّه أن لا يلْقِيَ المؤمنون بأيديهم إِلى التهلكة وأن يحذروا عدوهم

وأن يجاهدوا في اللّه حق الجهاد ، ليبلو اللّه الأخيارَ وضمِنَ لهم مع ذلك

النَصْرَ ، لأنه لو تولى اللّه تعالى قتل أَعدائه بغير سبب للآدميين لم يكونوا

مثَابينَ ، ولكنه أمر أن يُؤخَذَ الحذَرُ.

وقال : (فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ  انْفِرُوا جَمِيعًا)

والثُباتُ الجماعات المتفرقة ، واحدها ثُبَة.

قال زهير ابن أبي سلمى :

وقد أَغْدُو على ثُبَةٍ كِرامٍ . . . نَشاوى واجِدين لِما نشاءُ

قال سيبويه ثُبة تجمعُ ثُبُون وثُبينَ ، في الرفع والنصب والجر وإِنما

جُمِعتْ بالواوِ والنون - وكذلك عِزَة وعِضَة -

كقوله عزَّ وجلَّ (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) - لأنَّ الواو والنون جُعَلتَا عوضاً من حذف آخر الكلمة.

وَثُبة التي هي الجماعة محذُوف آخرها ؛ تُصَغَّرُ ثُبيَّة ، وَثُبة الحوض وسطُه حيث

يثوب الماءُ إِليه تُصَغَّر ثُوبَيْةَ ، لأن هذا محذوفة منه عين الفِعْل ، وإِنما اشتقت

ثبة الجماعة من ثَبيْتُ عَلى الرجُلِ إِذا أثْنَيت عليه في حياته ، وتأويله أنك

جمعت ذكر محاسنه ، فأما الثبَةُ الجماعة من فرقة . فتأويله انفروا جَماعات

مُتَفَرقة  انفروا بعضكم إلى بَعْض.

* * *

٧٢

وقال : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّه عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (٧٢)

أي ممن أظهر الِإيمان لمن يبطى عن القتال ، يقال قد ابطا الرجل

وبَطُوءَ بمعنى ، أبطأ تأخر ، ومعنى بطوءَ ثقل ، إِبطاءً ، وبُطْئاً.

واللام الأولى التي في " لَمَنْ " لام إِن ، واللام التي في ليَبطئَن لام

القَسِمُ ، ومَنْ موصولة بالجالب للقَسِمَ ، كان هذا لو كان كلاماً لقلْتَ إِن

منكم لمَن أحلِف واللّه لِيُبطًئن.

والنحويون يجمعون على أن مَنْ ومَا والذي

لا يُوصَلْنَ بالأمر والنهي إِلا بما يُضْمَر معها من ذكر الخبر ، وأن لام القسم إِذا جاءَت مع هذه الحروف فلفظ القَسمِ وما أشْبَه لفْظَهُ مضمر معها.

و (فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ) هذا المَبطِّئ :

(قَدْ أَنْعَمَ اللّه عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا).

أي لم أشْركهُمْ في مُصِيبَتهم.

٧٣

(وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللّه لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧٣)

أي ظفِرتم وغَنِمْتُمُ.

(لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ).

(كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) جائز أن يكون وقع ههنا معترضاً :

 : ولئن أصابكم فضل من اللّه ليقولَنَّ.

(يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا)

ويكُونَّ : (إِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّه عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا)

(كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ).

ومعنى المودَّة ههنا ، أي كأنَّه لم يُعاقِدْكُمْ على الإيمان أي كأنَّه لم يُظهر

لكم المودةَ ، وجائز أن يكون - واللّه أعلم - ليقُولَنَّ يا ليتني كنت معهم كأنْ لم تكن بينكم وبينه مَودةً ، أي كأنَّه لِم يعاقدكم على أن يجاهِدَ معكم . فلا يكون في العربيَّةِ فيه عيْبٌ ولا ينقص معنَى . . واللّه أعلم.

(فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا).

(فَأَفُوزَ) منصوب على جواب التمني بالفاء.

٧٤

و (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه فَيُقْتَلْ  يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (٧٤)

أي إِنْ كانَتْ بينكم وبينه عقدة أمَان فليقاتل في سبيل اللّه معكم.

(الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ)

أي يبيعون ، يقال شريت بمعنى بعت ، وشَرَيتُ بمعنى اشتَريْتُ

قال يزيد بن مُفرِغ.

وشَريْتُ بُرداً ليتني . . . من بَعْد بُردٍ كنتُ هامَهْ

بُرْدٌ غلامه ، وشريته بعتُه.

* * *

٧٥

و (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (٧٥)

" ما " منفصلة .  أَي شيءَ لكم تَارِكِينَ القتالَ . و (لاَ تُقَاتِلُونَ) في

موضعِ نَصْبِ على الحال كقوله - عزَّ وجلَّ - (فما لهم عن التَذكِرةِ مُعْرِضين)

(والمستضعَفِين) في موضع جَرٍّ.

 وما لكم لا تُقَاتِلون في سبيل اللّه وسبيل المستضعفين.

(مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا).

يعني بالقرية مكة ، أي ما لكم لَا تسعون في خلاص هؤلاءِ.

و (وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا)

أي تَولَّنا بنصرك وخَلِّصْنا من أهْل مكة الظالمِ أهلُهَا.

فهو نعت لقرية ، ووحدَ الظالم لأنه صفة تقع موقع الفِعل تقول مررت بالقرية الصالح أهلهَا كقولك التي صَلَحَ أهْلهَا .

قال أبو العباس محمد بن يزيد : (والمستضعفين) في موضع جر : من

وَجْهَين :  ما لكم لا تقاتلون في سبيل اللّه وفي المستضعفين.

قال وجائز أن يكون عطفاً على اسم اللّه ، أي في سبيل اللّه وسبيل

المستضعفين ، قال : واختار أن يكون على " وفي المستضعفين " لاختلاف

السبِيلين ، لأن معنى سبيل المستضعفين كأنه خلاص المستضعفين ، وقول أكثر

النحويين كما اخْتار أبو العباس محمد بن يزيد.

والوجه الثاني عِندي أشبه بالمعنى ، لأن سبيل المستضعفين هي سبيل اللّه.

* * *

٧٦

وقوله جلّ وعر : (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (٧٦)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ).

الطاغُوتُ في قول النحويين أجمعين يذكَر ويؤنًثُ . وفي القرآن دليل

على تذكيره وتأنيثه ، فأما تذكيره ف (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) ، وأمَّا تأْنيثه فقوله - جلَّ وعزَّ - : (والذِينَ اجتَنَبوا الطاغوت أن يَعبُدوهَا).

قال أبو عبيدة : الطاغوت ههنا في معنى جماعة.

كما قال اللّه - عزَّ وجلَّ - : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ)

معناه لحم الخنازير كلها.

والطاغوت الشيطان ، وكل معبود من دون اللّه فهو طاغوت.

والدليل على أن الطاغوت الشيطان  (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (٦٠).

* * *

٧٧

و (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّه  أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٧٧)

قيل كان المسلمون قبل أن يؤمروا بالقتال قالوا للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - : لو أذنت

لنا أن نعمَلَ مَعَاوِلَ نقاتل بها المشركين ، فأمروا بالكف وأداءَ ما افْترِضَ عليهم غير القتال ، فلما كتبَ عليهم القتال خشي فريق منهم (وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ).

 هَلَّا أخرْتنَا.

فأَعلم اللّه - عزَّ وجلَّ - أن متاع الدنيا قليل وأن الآخرة لِأهْل التُّقَى.

وأعلمهم أن آجالهم تخطئهم ولو تحصنوا بأمنع الحصون فقال :

٧٨

(أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّه وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّه فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (٧٨)

لأن مُفَعَّلة ، وفعَّل للتكثير ، يقال : شاد الرجل بِناءَه يشيده شَيداً إِذا رَفَعَه وإذَا . طَلاَه بالشيد ، وهو ما يطلى به البناءُ من الكِلس والجصِّ وغَيرهِ ، ويقال أيضاً قد أشَادَ الرجل بِنَاءَهُ.

فأمَّا في الذِكْرِ فأشدت بذكْر فُلانٍ لا غير إِذا رَفَعْتَ من ذِكرِه.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّه وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ).

قيل كانت إليهود - لُعِنَتْ - تَشَاءَمَتْ برسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - عند دخوله المدينة فقالت : منذ دخل المدينة نَقَصَتْ ثمارُنا وغلت أسعارنَا ، فأعلمَ اللّه عز وجل أن الخصْبَ والجَدْبَ من عِندِ اللّه.

* * *

٧٩

و (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّه وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللّه شَهِيدًا (٧٩)

فذا خطاب للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - يرادُ به الخلق.

ومخاطبة النبي - صلى اللّه عليه وسلم - قد تكون للناسِ جميعاً لأنه عليه السلام لِسانهم ، والدليل على ذلك

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ).

فنادى النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وحده وصار الخطاب شامِلًا له ولسائر أمَّتِه ، فمعنى

(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّه) ، أي ما أصبتم من غنيمة  أتاكم من خِصْبٍ فمن تفضلِ اللّه.

(وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) أي من جَدْبِ  غَلَبةٍ في حرب فمِنْ نَفْسِك ، أي أصابَكم ذلك بما كَسَبتُمْ كما قال اللّه جلَّ وعز (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (٣٠).

ومعنى (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا).

معنى الرسول ههنا مَؤكدٌ ل (وأرسَلنَاكَ) لأن (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ) تدل

على أنه رَسولٌ.

(وَكَفَى بِاللّه شَهِيدًا).

أَي اللّه قد شهد أَنه صَادق ، وأنه رسوله ، و (شَهِيدًا) منصوب على

التمييز ، لأنَكَ إِذا قلت كفى اللّه ولم تبين في أي شيء الكفاية كنت مُبْهِماً.

والفاء دخلت في قوله جل وعز : (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّه) لأن

الكلام في تقدير الجزاء ، وهو بمنزلة قولك : إِنْ تصبْكَ حَسَنة فمن اللّه.

* * *

٨٠

و (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (٨٠)

أَي من قبل ما أَتَى به الرسول فإنما قبل ما أمر اللّه بِه.

و (وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا).

تأْويله - واللّه أعلم - أنك لا تعلم غيبهم إنما لك ما ظهر منهم ، والدليل

على ذلك ما يتلوه وهو

٨١

(وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّه يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه وَكَفَى بِاللّه وَكِيلًا (٨١)

قال النحويون تقديره : أمْرنا طاعة . وقال بعضهم مِنَّا طاعة.

والمعنى واحد ، إلا أن إضمار أمرنا أجمع في القصة وأحسَنُ.

و (فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ)

يقال لكل أمر قد قضِيَ بِلَيْل قد بيَّتَ.

قال الشاعر :

أتوني فلم أدْرِ مَابَيَّتوا . . . وَكَانوا أتوني لأمْرٍ نكْر

أي فلست حفيظاً عليهم تعلم ما يغيب عنك من شأنِهم ، وهذا ونظائره

في كتاب اللّه من أبين آيات النبي - صلى اللّه عليه وسلم - ييه ، لأنهم ما كانوا يخْفونَ عنه أمْراً إِلا أظهره اللّه عليه.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَاللّه يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ).

فيه وجهان ، يجوز أن يكون - واللّه أعلم - ينزله إِليك في كتابه ، وجائز أن

يكون يكتب ما يُبَيتون يحفظه عليهم ليُجَازوا به.

و (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه).

أي لَا تسمِّ هؤلاءِ بأعيَانِهم لما أحب اللّه من ستر أمر المنافقين إلى أن

يستقيم أمْرُ الِإسلام.

فأما  (بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ) فذكَّر ولم يقل بيتت ، فلأن

كل تأنيث غير حقيقي فتعبيره بلفظ التذكير جائز ، تقول : قالت طائفة من أهل الكتاب ، وقال طائفة من المسلمين لأن طائفة وفريقاً في معنى واحد ، فكذلك قوله عزَّ وجلَّ : (فَمن جَاءَهُ موعظَةٌ مِنْ رَبِّه).

و (يَا أئها النَّاسُ قَد جَاءَتْكُمْ مَوعِظَة مِن رَبِّكُم).

يعني الوعظ إِذا قلت فمن جاءَه موعظة.

وقرأ القراءُ (بيتْ طائفةٌ) على إسكان التاءِ وإدْغامها في الطاء.

وروي عن الكسائي أن ذلك إِذا كان في فعل فهو قبيح ، ولا فرق في الإدغام ههنا فِي فعل كان  في اسم لو قلت بَيَّتُ طائفةً وهذا بَيْتُ طائفة - وأنت تريد بيتُ طائفةً كان واحداً.

وإنما جاز الإدغام لأن التاءَ والطَاءَ مِن مَخْرج واحدٍ.

* * *

٨٢

و (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّه لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (٨٢)

يُعْنَى به المنافقون ، أي لو كان ما يخبِرونَ به مما بيتُوا ، وما يُسِرُونَ

وُيوحَى إلى النبي - صلى اللّه عليه وسلم - . . لولا أنه من عند اللّه لما كان الإِخبار به غير مختلف.

لأن الغيب لا يعلمه إِلا اللّه . وهذا من آيات النبي - صلى اللّه عليه وسلم - البينَةِ.

ومعنى تدَبَرتُ الشيءَ ، نظرتُ في عَاقبته ، وقولهم في الخبر : لا تَدَابَروا.

أي لا تكونوا أعداءَ ، أي لا يُوَلَى بعضُكم دُبُرهَ ، يقال قد دَبَر القومُ يَدبُرون

دبَاراً إذَا هَلكُوا ، وأدْبَرُوا إذا وَلَّى أمرُهم ، وإنما تأويله أنه تقضى أنهم إِلى

آخره فلم يبق منهم باقية ، والدبْرُ النحلُ سُمِّيَ دَبْراً لأنه يُعْقب ما ينتفع به.

والدِّبرُ المال الكثير سمِّيَ دِبْرا لكثرته ، ولأنه يبقى للأعْقابِ والأدْبارِ ،

٨٣

و (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ  الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (٨٣)

ْأي أَظهروه ونادَوْا به في الناس ، قال الشاعر :

أذاع به في الناس حتى كأنه . . . بعلْياءَ نارٌ أوقِدَتْ بثقُوب

وكان إِذا علم النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أنَّه ظاهر على قوم أمِن مِنهم ،  أعْلمَ تجَمع قوم يخاف من جمع مِثلِهم ، أذاع المنافقون ذلك ليحذَر مَنْ يحذر من الكفار ، ويقوَى قلب من ينبغي أن يَقْوَى قلبه لما أذاعوا وكان ضَعَفَةُ المُسْلِمين يُشِيعُونَ ذلكَ معهمْ من غير علم بالضرَرِ في ذلك ، فقال عز وجل ولو ردوا ذلك إِلى أن يأخذوه من قِبَلِ الرسول ومن قبل أولي الأمْرِ منهم ، أي من قِبَلِ ذوي العلم والرأي منهم.

و (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)

أي . لعلمه هؤلاءِ الذين أذاعوا به من ضَعَفِة المسلمين من النبي - صلى اللّه عليه وسلم -

وذوي العلم ، وكانوا يعلمون مع ذلك هَلْ ينبغي أن يُذَاع  لا يُذَاعَ.

ومعنى (يَسْتَنْبِطُونَهُ) في اللغة يستخرجونه ، وأصله من النبط وهو الماء

الذي يخرج من البئر في أول ما يحفر ، يقال من ذلك : قد أنبط فلان في

غضراء ، أي استنبط الماءَ من طينٍ حُر . والنبط إنما سمُّوا نبطاً

لاستنباطهم ما يخرج من الأرضين.

و (وَلَوْلَا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا).

قال بعضهم : لولا ما أنزله اللّه عليكم من القرآن ، وبين لكم من الآيات

على لسان نبيه لاتَبعْتُم الشيطانَ إِلَّا قَلِيلًا ، أي كان أولكم بجوار الكفر.

وهذا ليس قولُ أحد من أهل اللغة ، قال أهل اللغة كلُّهم :

 : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) إِنما هو استثناء من قوله (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) إِلَّا قَلِيلًا).

وقال النحويون :  أذاعوا به إِلا قليلًا.

وقالوا أن يكون الاستثناء من أذاعوا به إلا قليلًا أجود ، لأن مَا عُلِمَ

بالاستنباط فليس الأكثر يعرفه ، إِنما يستنبط القليل ، لأن الفضائل

والاستنباط ، والاستخراج في القليل من الناس.

وهذا في هذا الموضع غلط من النحويين ، لأن هذا الاستنباط ليس بشيء يستخرج بنظر وتفكر ، إنما هو استنباط خبر ، فالأكثر يعرف الخبر ، إذا خُبِرَ بِه ، وإِنما القليل المبالِغُ في البلادة لا يَعْلَمُ ما يُخْبرُ بِه ، والقول الأول مع هذين القولين جائزة كلها . واللّه أعلم.

لأن القرآن قبل أن ينزل والنبي قبل أن يبعث قد كان في الناس القليلُ

ممن لم يشاهد القرآن ولا النبي - صلى اللّه عليه وسلم - مَؤمناً.

وقد يجوز أن يقول القائل إِن من كان قبل هذا مَؤمناً فبفضل اللّه وبرحمته آمَنَ ، فالفضل والرحمة لا يخلو منهما من نال ثواب اللّه جلَّ وعزَّ

إلا أن المقصود به في هذا الموضع النبي - صلى اللّه عليه وسلم -

والقرآن.

* * *

٨٤

وقوله جلَّ وعزَّ (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّه أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللّه أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (٨٤)

هذه الفاءَ جواب قوله جلَّ وعزَّ : (وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه فَيُقْتَلْ  يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (٧٤).

(فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه).

ويجوز أن يكون متصلاً ب (وما لكم لا تقاتلون في سَبِيل اللّه) أي

أيُّ شي لكم في ترك القتال (فقاتل في سبيل اللّه). فأمره اللّه بالقتال ولو أنه

قاتل وحده ، لأنه قد ضمن له النصر.

ويروى عن أبي بكر رحمه اللّه أنه قال في الردةِ ، لو خالفتني يميني

جاهدتها بشمالي.

و (عَسَى اللّه أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللّه أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا).

البأس الشدة في كل شيءٍ.

* * *

٨٥

و (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (٨٥)

الكفل في اللغة النصيب ، أخِذَ من قولهم أكفَلْتَ البعيرَ إِذا أدَرْتَ على

سِنَامه  على موضع من ظهره كساءً ، وركبت عليه وإِنما قيل له كفْل ، واكْتُفِلَ البَعِيرُ ؛ لأنه لم يُسْتَعْمَلْ الظهْرَ كله ، إِنما اسْتُعْمِل نَصيب من الظهر ، ولم يستعمل كله.

و (وَكَانَ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا).

قال بعضهم : المقيت القدير ، وقال بعضهم : المقيت الحفيظ ، وهو

عندي - واللّه أعلم - بالحفيظ أشبه ، لأنه من القُوتِ مشْتَق ، يقال : قتَ الرجلَ أقُوتهُ قوتاً إِذا حفظتُ عليه نفسه بما يقوته.

والقوتُ اسم ذلك الشيء الذي يحفظ نفسه ، ولا فضل فيه على قدرة الحِفْظ ، فمعنى المقيت - واللّه أعلم -

الحفيظ الذي يعطي الشيءَ قدر الحاجة من الحفظ

قال الشاعر :

ألِيَ الفضْل أمْ عَلَيَّ إذا . . . حُوسِبت إني عَلى الحِسَابِ مُقِيتُ

* * *

٨٦

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا  رُدُّوهَا إِنَّ اللّه كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (٨٦)

قال النحويون : " أحسن " ههنا صفة لا تنصرف لأنه على وزن أفْعَل وهوِ

والمعنى فحيوا بتحية أحسن منها ، وقيل في التفسير : التحية هنا

السلام ، وهي تفعله - من حييْت.

ومعنى (حَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا): إِذا قيل لكم " السلام عليكم " فقولوا : وعليكم السلام ورحمة اللّه " ، فالتحية التي هي أحسن

منها هي وعليكم السلام ورحمة اللّه وبركاته ".

ويقال لكل شيء منتهى ، ومنتهى السلام كلمة وبركاته.

ويروى أنَّ دَاخِلًا دخل إِلى النبي - صلى اللّه عليه وسلم - فقال : السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ، فقال النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وعليك ، ودخل آخر فقال : السلام عليكم فقال النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وعليكم السلام ورحمة اللّه ، ودخل رجل آخر فقال : السلام عليكم

ورحمة اللّه ، فقال النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وعليكم السلام ورحمة اللّه وبركاته فقام الداخل الأول فقال : يا رسول اللّه سلمت فلم تَزِدْ على

" وعليك " وقام هذا فقال السلام عليكم فزدته ، وقام هذا فقال : السلام عليكم ورحمة اللّه فزدته ، فقال النبي - صلى اللّه عليه وسلم - إنك لم تترك من السلام شيئاً ، فرددت عليك ، وهذان تركا منه شيئاً

فزدتهما.

وهذا دليل أنَّ آخر ما في السنة من السلام كلمة وبركاته .

وقوله جلَّ وعزَّ : (إِنَّ اللّه كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا).

أي يعطي كل شي من العلم والحفظ والجزاءَ مقدار ما يحسبه ، أي

يكفيه ، تقول حسبك بهذا أي اكتف بهذا.

وقوله تعالى : (عَطاءَ حِساباً) أي كافياً ، وإنما سُمِّيَ الحساب في المعاملات حساباً لأنه يعلم ما فيه كفاية

ليس فيها زيادة على المقدار ولا نقصان.

* * *

٨٧

وقوله جلَّ وعزَّ : (اللّه لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّه حَدِيثًا (٨٧)

(لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).

هذه لام القسم كقولك : واللّه ليجمعنكم ، ومعنى القيامة في اللغة - واللّه

أعلم - على ضربين ، جائز أن تكون سميت القيامة لأن الناس يقومون من

قبورهم ، قال اللّه جلَّ وعزَّ : (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (٧).

وجائز أن تكون سُمِّيتْ القيامةَ لأن الناس يقومون للحساب.

قال اللّه عزَّ وجلَّ : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦)).

ومعنى (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) - واللّه أعلم - أي يجمعكم في الموت وفي قبوركم.

* * *

٨٨

و (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّه أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللّه وَمَنْ يُضْلِلِ اللّه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (٨٨)

هذا خطاب للمسلمين ، وذلك أن قوماً من المنافقين قالوا للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - قد اجتوينا المدينة ، فلو أذنت لنا فخرجنا إِلى البدو ، فلما خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلةً مرحلةً حتى لحقوا بالمشركين ، فقال قوم من المسلمين هم كفَار هم كفار ، وقال قوم : هُم مسلِمُونَ حتى نعلم أنهم بدَّلوا ، فأمر اللّه بأن يتفق المسلمون على تكفير من احتال على النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وخالفه فقال - عزَّ وجلََّ - :

(فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ).

أي أيُّ شيء لكم في الاختلاف في أمرهم (وَاللّه أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا).

وتأويل " أركسهم " في اللغة نَكسَهُم وردَّهم ، يقال أرْكَسه ورَكَسَهُ.

ومعنى (وَاللّه أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا) أي ردَّهم إلى حُكم الكفار.

و (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللّه).

أي أتقولون أن هُؤلاءِ مهتدون واللّه قد أضَلَّهم.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللّه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا).

أي طريقاً إلى الحجة ، وقال النحوَيون في نصب " فئتين " إنها منصوبة على

الحال ، وقال سيبويه : إذا قلت مالك قائماً فإنما معناه لِمَ قُمْتَ ونصب على

تأويل أي شيء يستقر لك في هذه الحال ، قال غيره إِن " قائماً " ههنا منصوبٌ على جهة فِعل " مَالَ " ويجيز مالك قائماً ، ومالك القائمَ يا هذا ، ومالك القائمَ خطأ ، لأن القائم معرفة فلا يجوز أن تقع حالا ، و " ما " حرف من حروف الاستفهام لا تعمل عمل كان ، ولو جاز مَالَك القَائِمَ يا هذا ، جاز أن يقول ما عندكَ القائمَ ، وما بِكَ القَائِمَ ، وبالإجماع أن ما عندك القائمَ خطأ ، فمالك القائمَ مثله لا فرق في ذلك.

* * *

٨٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللّه فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٨٩)

(فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللّه).

أي لا تتخذوا من هُؤلاءِ الذين احتالوا على النبي - صلى اللّه عليه وسلم - حتى فارقوه أولياءَ.

أي لا تقولوا إنهم مؤمنون حتى يهاجروا في سبيل اللّه ، أي حتى يرجعوا إِلى

النبي - صلى اللّه عليه وسلم.

و (فَإِنْ تَوَلَّوْا)

أي تولوا عن أن يهاجروا ، ولزموا الإِقامة على ما هم عليه (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا).

٩٠

و (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ  جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ  يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللّه لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّه لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (٩٠)

أي فاقتلوهم إلا من اتصل بقوم بينكم وبينهم ميثاق.

ويروى أن هؤُلاءِ اتصلوا ببني مُدْلج وكانوا صلحاً للنبي - صلى اللّه عليه وسلم -.

و ( جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ  يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ).

معناه ضاقت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم.

وقال النحوُيون إن (حَصِرَتْ صُدُورُهُم) معناه  جاءُوكم قد حَصِرَت صُدورُهم ، لأن حَصِرَتْ لا يَكونُ حالاً إلا بقد ، وقال بعضهم حصرت صدورهم خبر بعد خبر ، كأنه قال :  جاءُوكم ، ثم أخبرَ فقال : (حَصِرتْ صُدُورُهُم أن يُقاتلوكم).

* * *

وقوله جلَّ وعزَّْ : (وَلَوْ شَاءَ اللّه لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ) أي ضيقَ

صُدورِهم عن قتالكم إِنما هو لقذف اللّه الرعبَ في صدورهم.

وقرأ بعضهم

" حصِرةً صُدُورُهُم " على الحال.

* * *

٩١

وقوله جلَّ وعزَّ : (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (٩١)

ستجدون من يظهر لكم الصلح ليأمنكم ، وإذا سنحت فتنة كانوا مع

أهلها عليكم.

و (كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا).

أي انتكسوا عن عهدهم الذي عقدوه.

و (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ).

أي فإِن لم يعتزلوا قتالكم ولم يعاونوا عليكم .

(وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ).

أي المقادة والاستسلام.

(وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ) أي، عن الحرب.

(فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا).

أي حجة بَينَةً بأنهم غَدَرَة ، لا يَفُونَ بما يفارقونكم عليه من الهدنة

والصلح.

* * *

٩٢

و (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّه وَكَانَ اللّه عَلِيمًا حَكِيمًا (٩٢)

 ما كان لمؤمن ألبتَّة.

و (إِلَّا خَطَأً) استثناء ليس من الَأول.

 إِلا أن يخطئ المؤمن فكفَارةُ خَطئِه ما ذكر بَعْدُ.

وقال بعض أهل العلم : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً) على معنى

أن دم المسلم إِنما يصفح عن أن يؤخذ به القَاتِلُ في الخطأ فقد عفى له عن

قتل الخطأ ، إِلا أن اللّه جل ثناؤه فرض في كتابه على القاتل خطأ تحريرَ رقبة

وديةً مسلمةً إِلى أولياء المقتول ، وبين رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - دية الخطأ على العاقِلة ، وعلى القاتل أَن يَؤدِّي في ذلك لقوله عزَّ وجلَّ :

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّه).

ويحتمل أن يكون الصّيَامُ بدَلًا مَن الرقَبةِ وبدلاً مما ينبغي أن يَؤدَّى في

الدّيةِ.

فَإِنْ قتَل المؤمِنُ خَطَأ رَجُلًا مؤمِناً من قَوْمٍ كفَرةً فعليه تحرير رقبة ،

ولا مال للكفار الذين هم حَربٌ ، لأن الدية في الخطأ إنما جعلت - واللّه أعلم - لِيحَذَرَ الناس حذراً شديداً من أن يخطئوا خطأ يُؤَدي إِلى القَتْل ، لتَذْهَبَ الضًغَائنُ بينهُمْ . .

(وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ).

وإن كان من قوم بينهم وبين المسلمين عَهْدٌ فتحرير رقبة وتسليم الديةِ

إِلى ذوي الميثاق لئلا تقع ضغينة بين أهل الميثاق والمؤمنين.

ونَصْبُ (تَوْبةً مِنَ اللّه) على جهةِ نصب فعلْتُ ذلك حذار الشر.

 فعليه صيام شهرين وعليه دية إِذَا وَجَدَ توبةً من اللّه ، أي فعل ذلك توبة من اللّه.

فأمَّا قتل النفس فجزاؤه كما قال اللّه - عزَّ وجلَّ - النَّفْس بِالنَّفْسِ في الدنيا ، وفي الآخرة جهنم.

* * *

٩٣

قال اللّه جلَّ وعزَّ : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّه عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (٩٣)

وهذا وعيد شديد في القتل حظَرَ اللّه عزَّ وجلَّ به الدِّماءَ.

* * *

٩٤

و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّه فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللّه مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللّه عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (٩٤)

و(فَتَثَبَّتُوا) بالثاء والتاء.

ومعنى ضربتم سِرْتم في الأرض وغزوتُم.

و (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا).

قرئت السلام بالألف ، وقرئت السَّلمَ . فأما السلام فيجوز أن يكون من

التسليم ، ويجوز أن يكون بمعنى السِّلِمْ ، وهو الاستسلام ، وإلقاء المقادة إِلى

إِرادَةِ المسلمين.

ويروى في التفسير أن سبب هذا أن رجلًا انحاز وأظهر الإسلام فقتله

رجل من المسلمين وأخذ سَلبَه.

فأعلمَ اللّه عزَّ وجلَّ أن حق من ألقى السلمَ أن يُتَبين أمرُه.

ومن قرأ (فتثبتوا) فحقه أن يُتَثَبَّتَ في أمره ، وأعلم اللّه - جلَّ وعزَّ - أن

كل من أسلم مِمن كان كافِراً فبمنزلة الذي تعوذ بالإِسلام ، فقال عزَّ وجلَّ : (كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللّه عَلَيْكُمْ).

ْأي مَنَّ عليكم بالإِسلام ، وبأنْ قبل ذلك منكم على ما أظهرْتُمْ ثم كرر

الأمر بالتبيين فقال عزَّ وجلَّ : (فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).

* * *

٩٥

(لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّه الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللّه الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّه الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (٩٥)

قرئت (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) بالرفع و (غيْرَ) بالنصب ، فأما الرفع فمن جهتين.

إِحداهما أن يكون " غير " صفةً للقاعدين ، وإِن كان أصلها أن تكون صِفةً

للنكرة.

 لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولى الضرر ، أَي لا يستوي

القاعدون الأصحاءُ والمجاهدون وإِن كانوا كلهم مؤمنين.

ويجوز أن يكون " غَيْرُ " رفعاً على جهة الاستثناء.

 لا يستوي القاعدون والمجاهدونَ

إِلَّا أَولو الضَرر ، فإنهم يساوونَ المجاهدين ، لأن الذي أقعدهم عن الجهاد

الضرر ، والضرر أن يكون ضريراً  أعمى  زَمِناً  مريضاً.

ويروى أن ابن أم مكتوم قال للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - أعلََّ جهادٌ ؟ فقال النبي - صلى اللّه عليه وسلم - :

(انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا) ، فإِما أن تكون من الخِفَافِ  من الثقال فأنزل اللّه :

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ).

وقوله جلَّ وعزَّ : (فَضَّلَ اللّه الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللّه الْحُسْنَى)

أي وَعَدَ الجنَّة.

(وَفَضَّلَ اللّه الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا).

ويجوز أن يكون (غيرَ أولي الضرر) نصباً على الاستثناء من (القاعدين).

 : لا يستوي القاعدون إِلَّا أولي الضرر.

على أصل الاستثناء النَّصْبُ.

ويجوز أن يكون " غَيْرَ " منصوباً على الحال.

 : لا يستوي القاعدون في حال صحتهم والمجاهدون.

كما تقول : جاءَني زيد غيرَ مريض ، أي جاءَني زيد صحيحاً.

ويجوز جَرُّ " غيرِ " على الصفة للمؤْمنين ، أي لا يستوي القاعدون من

المؤْمنين الأصحاءِ والمجاهدونَ.

أما الرفع والنصبُ فالقراءَة بهما كثيرة.

والجرُّ وجهٌ جيدٌ إِلا أن أهل الأمصَار لَم يقرأوا به وإِن كان وجهاً.

لأن القراءة سنة متبعة.

* * *

٩٦

وقوله جلَّ وعزَّ : (دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّه غَفُورًا رَحِيمًا (٩٦)

" درجات " في موضع نصب بدلًا من قوله . . أَجْرًا عَظِيمًا)

وهو مُفسِّرٌ للآخر.

 فَضَّل اللّه المجاهدين درجاتٍ ومغفرةً ورحمةً.

وجائز أن يكون

منصوباً على التوكيد لـ (أجراً عظيماً) لأن الأجر العظيم هو رفع الدرجات من اللّه جلَّ وعزَّ والمغفرة والرحمة ، كما تقول لك على ألف درهم ، لأن قولك على ألف درهم هو اعتراف فكأنك قلت أعرفْها عُرفاً ، وكأنه قيل : غفر اللّه لهُمْ مغفرة ، وأجَرهم أجراً عظيماً ، لأن قوله (أجراً عظيماً) فيه معنى غَفَر ورَحِمَ وفَضَّل.

ويجوز الرفع في قوله (دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) ، ولو قيل :

" دَرَجَاتٌ منه ومغفرةٌ ورحمةٌ "

كان جائز جائزاً على إِضمار تلك درجات منه ومغفرة كما قال جل ثناؤُه : (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ) أي ذلك بلاغ.

* * *

٩٧

و (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّه وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٩٧)

يُعنَى به المشركون الذين تخلفوا عن الهجرة إِلى النبي - صلى اللّه عليه وسلم -.

فـ (توفاهم) ، إِن شئت كان لفظها ماضياً على معنى إِن الذين توفتهم

الملائكة وذُكِّرَ الفعلُ لأنه فعل صحيح ، ويجوز أن يكون على معنى

الاستقبال على معنى أَن الذين تتوفاهم الملائكة ، وحذفت التاءُ الثانية لاجتماع تاءَيْن ، وقد شرحنا ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب.

و (ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ) : نصب على الحال.

 تتوفاهم في حال ظلمهم أنْفُسَهُم ، والأصل ظالمين أنْفُسَهم إِلا أن النون حذفت استخفافاً.

والمعنى معنى ثبوتها ، كما قال جلَّ وعزَّ (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ).

والمعنى معنى ثبوت التنوين . معنى بالِغاً الكعبةَ.

و (قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) .

هذء الواو للملائكة أي قال الملائكة للمشركين فيم كنتم أي أكنتم في

المشركين أم في أصحاب محمد - صلى اللّه عليه وسلم - وهذا سؤَال توبيخ قد مر نظراؤُه مما قد استقصينا شرحه.

و (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ)

فأَعلم اللّه أَنهم كانوا مستضعفين عن الهجرة . فقالت لهم

الملائكة :

(أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّه وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٩٧) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ)

ْ(المستضعفين) نصب على الاستثناءِ من  (مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ . . . إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ) ، أي إِلا مَنْ صَدَق أنَّه مستضعَف غيرُ مستطيع حيلةً ولا مهتدٍ

سَبيلاً ، فأعلم اللّه أن هؤُلاءِ راجون العَفوَ ، كما يرجو المؤْمِنُونَ فقال :

٩٩

(فَأُولَئِكَ عَسَى اللّه أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّه عَفُوًّا غَفُورًا (٩٩)

و " عَسَى " ترج ، وما أمر اللّه به أن يرجى مِن رحمته فبمنزلة الواقع كذلك

الظن بأرحِم الراحمين.

و (وَكَانَ اللّه عَفُوًّا غَفُورًا).

تأْريل (كَانَ) في هذا الموضع قد اختلف فيه الناس.

فقال الحسن البصري : كان غفوراً لعباده ، عن عباده قبل أن يخلقهم.

وقال النحويون البصريون : كأنَّ القوم شاهدوا من اللّه رحمة فأعلموا أن ذلك ليس بحادثِ ، وأنَّ اللّه لم يزل كذلك.

وقال قوم " من النحويين : . . " كان "

و " فعَلَ " من اللّه بمنزلة ما في الحال ، فالمعنى - واللّه أعلم - واللّه عفو غفور.

والذي قاله الحسن وغيره أدخل في اللغة ، وأشبه بكلام العرب.

وأما القول الثالث فمعناه يُؤول إِلى ما قاله الحسن وسيبويه ، إِلا أن يكون الماضي بمعنى الحال يقِل.

وصاحب هذا القول له من الحجة قولنا " غفر اللّه لفُلَانٍ "

بمعنى ليغفر اللّه له فلما كان في الحال دليل على الاستقبال وقع الماضي

مَؤدياً عنها استخفافاً ، لأن اختلاف ألفاظ الأفعال إِنما وقع لاختلاف الأوقات ، فإِذا أُعْلِمت الأحوال والأوقات استُغني بلفظ بعض الأفعال عن لفظ بعض.

الدليل على ذلك قوله جلَّ وعزَّ :

(مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمثَالِهَا)

و (وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإنَهُ يَتُوبُ إِلَى اللّه مَتَاباً)

معناه من يَتُبْ ومن يجئ بالحسنة يعط عشْر أمثالها.

* * *

١٠٠

و (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّه يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّه وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللّه وَكَانَ اللّه غَفُورًا رَحِيمًا (١٠٠)

معنى مراغم معنى مهاجرُ ،  يجد في الأرض مُهاجراً ، لأن

المهاجر لقومه والمراغم بمنزلة واحدة ، وإن اختلف اللفظان

وقال الشاعر :

إِلى بلد غير داني المحل . . . بعيد المراغَمِ وَالمُضْطَرَب

وقيل المراغَم ههنا المضطرب ، وليس المراغم ههنا إِلا المضطرب في

حال هجرة ، وإِن كان مشتقاً من الرغام ، والرغام التُراب وتأويل قولك رَاغَمْتُ

فلاناً أي هجرته وَعَاديته ، ولم أبالِ رَغْمَ أنفِهِ ، أي وإِن لصق أنفه بالتراب.

والرغام والرغائم ما يسيل من الأنف ، والأنف يوصف بالرغم فيضرب مثلاً لكل ذليل فيقال على رَغْم أنفه.

١٠٢

و (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ  كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّه أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (١٠٢)

(وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ)

هذه الهاءُ والميم يعودان على المؤْمنين . أي وإِذا كنت أيها النبي في

المؤمنين في غزواتهم وخوفهم.

(فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا).

أي فإذا سجدت الطائفة التي قامت معك.

(فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ).

جائز أن يكون - واللّه أعلم - ولتأخذ الجماعة حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ.

ويجوز أن يكون الذين هم وُجَاه العَدُو يأْخذون أَسْلِحَتَهُمْ ، لأن من في

الصلاة غير مقاتل ، وجائز أن تكون الجماعة أمرت بحمل السلاح وإِن كان

بعضًها لا يقاتل لأنه أرهَب للعَدو وأحرى ألا يقدم علَى الحذِرين المتيقظين

المتاهبين للحربِ في كل حال.

وقد اختلف الناس في صلاة الخوف فزعم مالك بن أنس أن أحب ما

رُوي فيها إِليه أن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - قام يصلي وقامت خلفه طائفة من المؤْمنين وطائفة

وُجَاهَ العَدو ، فصلى بالطائِفة التي خلفه ركعة وقام فأتمت الطائفة بركعة أخرى وسلَّمت ، وهو - صلى اللّه عليه وسلم - واقف ، ثم انصرفت وقامت وجاه العدو ، والنبى - صلى اللّه عليه وسلم - واقف

في الصلاة ، وأتت الطائفة التي كانت وُجاه العدو ، فَصَلَّى بِهِمْ ركعة ثانية له ، وهِي الأولى لهذه الطائفة الأخرى - وجلس النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وقاموا فصلوا ركعة ثانية وحدهم وهو - صلى اللّه عليه وسلم - قاعد ، وقعدوا في الثانية فسلم وسلمُوا بتسليمه ، فصلت كل

طائفة منهم ركعتين ، وصَلَّى النبي - صلى اللّه عليه وسلم - ركعتين.

وقال مالك : هذا أحب ما روي في صلاة الخوف إِليَّ.

وأمَّا أَسلحة فجمع سلاح مثل حمار وأحمرة . وسلاح اسم لجملة ما

يدفع الناس به عن أنفسهم في الحروب مما يقاتل به خاصَّة ، لا يقال للدواب

وما أشبهها سلاح.

فأمَّا (وَلْيَأْخُذُوا) فالقراءَة على سكون اللام - . . (وَلْيَأْخُذُوا)

و (وَلِيَأْخُذُوا) هو الأصل بالكسر إِلا أن الكسر استثقل فيحْذفُ استخفافاً.

وحكى الفراء أن لام الأمر قد فتحها بعض العرب في قولك ليجلِس.

فقالوا لنجْلِسْ ففتحوا ، وهذا خطأ ، . لا يجوز فتح لام الأمر لئلا تشبه لام

التوكيد.

وقد حكى بعض البصريين فتح لام الجر نحو قولك : المال لِزَيْدٍ.

تقول : المال لَزَيدٍ وهذه الحكاية في الشذوذ كالأولى ، لأن الإِجماع والروايات

الصحيحة كسر لام الجر ولام الأمر ، ولا يلتفت إِلى الشذوذ ، خاصة إِذا لم

يروه النحويون القدَمَاءُ الذين هم أصل الرواية ، وجميع من ذكرنا من الذين

روَوا هذا الشاذ عندنا صادقون في الرواية ، إِلا أن الذي سمع منهم مخطئ.

و (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ).

الجناح الِإثم ، وتأويله من جنحت إذا عدَلْتُ عن المكان أي أخَذْتُ جانباً

عن القَصْد ، فتأويل لا جناح عليكم أي لا تَعدلون عن الحق إن وضَعَتم

أسْلِحتكم.

(إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ).

و (أَذًى) مقصورة ، تقول أذى يأذى أذًى ، مثل فزِعَ يفزعُ فزَعاً.

وموضع (أن تضعوا) نصْبٌ . أي لا إثم عليكم في أن تضعوا ، فلما سقطت " في " عمل ما قبل (أنْ) فيها ، ويجوز أن يكون مَوْضعُها جرا بمعنى في.

* * *

١٠٣

و (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللّه قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (١٠٣)

يعني به صلاة الخوف هذه.

(فَاذْكرُوا اللّه قِيَاماً وَقُعُوداً).

أي أذكروه بتوحيده وشكره وتسبيحه ، وكل ما يمكن أن يتقرب به منه.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ).

أي إِذا سكنت قلوبكم ، ويقال اطمأن الشيء إذا سكن وطَامنْتُه وطَمأنته

إذا سكنته ، وقد روي " اطبان " بالباء ولكن لا تقرأ بها لأن المصحف لا يخالف ألبتَّة.

و (فَأقِيمُوا الصَّلَاةَ).

أي فأتموا ، لأنهم جُعِلَ لهم في الخوف قصرها ، وأمروا في الأمن

بإتمامها.

و (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا)

أي مفروضاً مؤَقتاً فرضه :

١٠٤

و (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّه مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللّه عَلِيمًا حَكِيمًا (١٠٤)

هذا خطاب للمؤمنين ، والقوم ههنا الكفار الذين هم حربُ المؤمنين.

وتأويل : (لَا تَهِنُوا) في اللغة لا تضعفوا ، يقال وَهَن الرجل يهِنُ إذَا ضعف

فهو وهِن . ومعنى (ابتغاءِ القوم) : طلب القوم بالحرب.

و (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ).

أي إن تكونوا توجَعُون فإنهم يجدون من الوجع بما يَنَالهم من الجراح

والتَعَبَ كما تجدون ، وأنتم مع ذلك (تُرْجُونَ مِنَ اللّه مَا لَا يرجُونَ).

أي أنتم ترجون النصر الذي وعدكم اللّه به ، وإظهار دينكم على سائر

أديانِ أهل الملل المخالفة لأهل الإسلام وترجُونَ مع ذلك الجنة ، وهم - أعني

المشركينَ - لايرجون الجنة لأنهم كانوا غير مقرين بالبعث فأنتم ترجون من اللّه ما لا يرجون.

قال بعض أهل التفسير : معنى " ترجون " ههنا تَخَافون ، وأجمَعَ أهل اللغة

الموثوق بعلمهم : أن الرجاءَ ههنا على معنى الأمل لا على تصريح الخوف.

وقال بعضهم : الرجاء لا يكون بمعنى الخوف إِلا مع الجحدِ.

قال الشاعر.

لا تُرْتَجى حِينَ تُلاقي الذَّائِدا . . . أَسَبْعةً لاقَتْ مَعاً أَمْ واحِداً

معناه لا تخاف.

وكذلك قوله عزَّ وجلَّ : (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ للّه وَقَارًا (١٣).

أي لا تخافون للّه عظمة ولا عظَةً.

وإِنما اشتمل الرجاء على معنى الخوف لأن الرجاءَ أمل قد يخاف ألَّا

يَتِمَّ .

١٠٥

وقوله جلَّ وعزَّ : (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّه وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (١٠٥)

أي بالحق الذي أعْلَمَكَهُ اللّه عزَّ وجلَّ.

و (وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) :

أي لا تكن مخاصماً ولا دَافِعاً عن خَائِن.

ويروى أن رجلا من الأنصار كان يقال له أبو طُعْمة  طِعْمة سرق درعاً

وجعله في غِرارَةِ دقيق ، وكان فيها خَرْقٌ ، فانتثر الدقيق من مكان سرقته إلى

منزله فظُنَّ به أنه سارق الدرع وحيص في أمره ، فمضى بالدرع إلى رجل

من إليهود فَأودعها إياه ثم صار إلى قومه فأعلمه أنه لما اتهم بالدَرع اتبع أثرها

فعلم أنها عند إليهودِي ، وأن إليهودي سارقها ، فجاءَ قومه أي طُعْمة  طِعْمة إلى النبي - صلى اللّه عليه وسلم - فسألوه أن يَعْذِرَهُ عند الناس ، وأعلموه أن إليهودي صاحب الدرع ، وكان بعضهم قد علم أن أبَا طِعْمةَ قد رمَى إليهودي وهو بريءٌ من الدرع ، فهَمَّ النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أن يَعْذِرَهُ ، فأوحى اللّه إليه وعرفه قصته أي طعمة

وأعلمه أنه خائن ، ونهاه أن يحتج له ، وأمره بالاستغفار مما هم به ، وأن يحكم

بما أنزل اللّه في كتابه ، فقال :

١٠٧

(وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللّه لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (١٠٧)

يعني أبا طعمة ومن عاونه من قومه ، وهم يعلمون أنه سارق.

ويروى أن أبا طعمة هذا هرب إلى مكة وارتد عن الِإسلام ، وأنه نقب حائطاً بمكة ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله.

* * *

١٠٨

و (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّه وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّه بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (١٠٨)

(إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ)

كل ما فُكِّرَ فِيه أوخِيض فيه بليل فقد بُيِّتَ .

يعني به هذا السارق ، والذي بيَّتَ من القوم أن قال : أرمِي إليهودِي بأنه

سارق الدرع ، وأحلِفُ أني لم أسرقها ، فتقْبل يميني لأني على ديني ، ولا تقبل

يمين إليهودي . فهذا ما بُيِّتَ من القول واللّه أعلم.

* * *

١٠٩

و (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللّه عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (١٠٩)

يعني به من احتج عن هذا السارق.

(فَمَنْ يُجَادِلُ اللّه عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

أي في اليوم الذي يؤخذ فيه بالحقائق ، وأمر الدُّنيا يَقوم بالشهادات في

الحقوق.

وجائز أن تكون الشهادة غير حقيقة ، فكأنَّه - واللّه أعلم - قيل لهم

إِن يقم الجدال في الدنيا والتغييب عن أمر هذا السارق ، فيوم القيامة لا ينفع

فيه جدال ولا شهادة.

ومعنى قوله " هَا أَنْتُمْ " ها للتنبيه ، وأعيدت في أولاءِ . والمعنى - واللّه

اعلم - هَا أَنْتُمْ الذين جادلتم ، لأن " هؤلاءِ " و " هذا " يكونان في الِإشارة

للمخاطبين بمنزلة الذين ، نحو قول الشاعر :

وهذا تحملين طليق

أي والذي تحملينه طليق.

وأصل المجادلة والجدال في اللغة شدة المخاصمة ، والجدْل شدة

القَتْل ، ورَجُل مجدول ، أي كأنَّه قد قُتِلَ ، والأجدَل الصقر ، يقال له أجدَل لأنه من أشد الطيور قوةً . .

وأعلم اللّه - جلَّ وعزَّ - أن التوبة مبذولة في كل ذنب دُونَ الشرك فقال جلَّ ثناؤه .

١١٠

(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا  يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّه يَجِدِ اللّه غَفُورًا رَحِيمًا (١١٠)

أي يسأله المغفرة مع إِقلاع ، لأنه إذا كان مقيماً على الإصرار فليس

بتائب.

* * *

١١١

و (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّه عَلِيمًا حَكِيمًا (١١١)

ولا يؤخَذُ الإثم بالإثم.

و (وَمَنْ يَكْسِبِ خَطِيئَة  إِثماً ثمً يَرمِ به بَرِيئاً).

قيل (إثماً) لأن اللّه قد سَمَّى بعضَ المعاصي خطايا ، وسمى بَعْضَهَا آثاماً.

فأعلم اللّه جلَّ وعزَّ أن من كسب خطيئة ، ويقع عليها اسم الإثم  اسم

الخطيئة ، ثم رَمَى به من لم يعلمه وهو منه بريء . .

(فقد احتَمَلَ بُهْتَاناً).

و " البهتان " الكذبُ الذي يُتحيرُ من عِظَمِه وبيانه ، يقال قد بَهَتَ فلان فلاناً

إذا كذب عليه ، وقد بُهِت الرجل يُبْهَتُ إذَا تحيَّر

قال اللّه عزَّ وجلَّ (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ).

ويجوز أن يكون - واللّه أعلم - (ومن يكسب خطيئة  إثْماً)

أي من يقع عليه خَطَأ نحو قَتْلِ الخطإِ الذي يقع فيه القومْ وَلَا إثم فيه.

فيكونُ أن يرمي بذلك غيره فقد احتمل بهتاناً.

* * *

١١٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللّه عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ عَظِيمًا (١١٣)

هذا خطاب للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - ، والطائِفة هُم طُعمَةُ هذا السارق ، لأن بعضهم

قد كان وقف على أنه سارق ، وسأل النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أن يَعذِرَهُ.

فالتأويل - واللّه أعلم - لولا فضل اللّه عليك ورحمتُه بما أوحَى إليك.

وأعلمك أمْرَ هذا السارق لهمَّت طائفة أن يضلوك ، والمعنى في همَّت طائفة

منهم أنْ يُضِلوكَ . أي ، فَبِفَضْلِ اللّه ورحمته صرفَ اللّه عنك أن تعمل ما

هَمَّت به الطائفة.

وقال بعضهم معنى " أنْ يُضِلوكَ " أن يُخَطِّئُوكَ في حُكْمِكَ.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ).

أي لأنهم هم يعملون عمل الضالين.

واللّه يعصم نبيه - صلى اللّه عليه وسلم - من متابعتهم.

والِإضلال راجع عليهم وواقع بهم.

و (وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ).

أي مع عصمة اللّه إياك ، ونصره دينه دين الحق.

و (وَأَنْزَلَ اللّه عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ).

أي بين في كتابِه ما فيه الحكمة التي لا يقع لك مَعها ضَلَال.

* * *

١١٤

و (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ  مَعْرُوفٍ  إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (١١٤)

النجوي في الكلام ما تنفرِدُ به الجماعة  الاثنان سِرا كان  ظاهراً.

ومعنى نَجوْتُ الشيءَ في اللغة خَلَّصتُه وألقيتُه ، يقال نجوت الجلْدَ إذا

ألقيتُه عن البعير وغيره.

قال الشاعر :

فقلت انْجُوَا عنها نَجا الجِلْدِ إِنه سَيُرْضِيكما منها سَنامٌ وغارِبُهْ

وقد نجوت فلاناً إذا استنكَهْتُه.

قال الشاعر :

نَجَوْتُ مُجالِداً فوَجَدْتُ منه . . . كريح الكلب ماتَ حَديثَ عَهْدِ

ونجوت الوَبَرَ واستنجيته إذا خلصتَه.

قال الشاعر :

فَتَبازَتْ فَتَبازَخْتُ لهَا . . . جِلْسةَ الأعسرِ يَسْتَنْجِي الوَتَرْ

وأصله كله من النجوة ، وهُوَ ما ارتفع من الأرض

قال الشاعر :

فَمَنْ بِنَجْوَتِه كمَنْ بِعَقْوته . . . والمُستَكِنُّ كمَنْ يَمْشِي بقِرواحِ

ويقال : ما أنجى فلان شيئاً وما نجا شيئاً منذ أيام ، أيْ لَم يَدْخُل

الغائِط.

والمعنى واللّه أعلم : لا خير في كثير من نجواهم ، أي مما يدبرونه

بينهم من الكلام.

(إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ  مَعْرُوفٍ  إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ).

فيجوز أن يكون موضع " مَنْ " خفضاً ،  إلا في نجوى من صدقة

 معروف  إصلاح بين الناس ، ويجوز أن يكون - واللّه أعلم - استثناءً ليس من الأول ويكون موضعها نصباً ، ويكون على معنى لكن من أمر بصدقة  معروف ففي نجواه خير . وأعلم اللّه عزَّ وجلَّ أن ذلك إنما ينفع من ابتغى به ما عند اللّه فقال :

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).

ومعنى (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه) طلب مرضاة اللّه.

ونصب (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه) لأنه مفعُول له.

 ومن يَفْعَل ذلك لابتغاءِ مرضاة اللّه ، وهو راجع إلى

تأويل المصدر ، كأنه قال : ومن يبتغ ابتغاءَ مرضاة اللّه ، ثم عاد الأمر إلى ذكر طعمة هذا ومن أشبهه فقال :

١١٥

(وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (١١٥)

لأن طعمة هذا كان قد تبين لصه ما أوْحَى اللّه إلى نبيه في أمرِه ، وأظهر

مِنْ سَرِقَتِه في الآية ما فيه بَلَاغ ، فعَادى النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وصار إلى مكة ، وأقام مع المشركين .

ومعنى (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى) نَدَعة ومَا اختار لنفسه في الدنيا لأن اللّه جلَّ وعزَّ

وعد بالعذاب في الآخرة ، وأعلم تعالى أنه لا يغفر الشرك ، وذكر قبل هذه

الآية : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا  يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّه يَجِدِ اللّه غَفُورًا رَحِيمًا (١١٠).

وأعلم بعدها أن الشرك لا يجوز أن يغفره ما أَقام المشرك عليه ، فإن

قال قائل فإنما قال : (إِنَّ اللّه لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فإن سُمِّيَ رجل كافراً ولم

يشرك مع اللّه غيره فهو خارج عن  (إِنَّ اللّه لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ؟

فالجواب في هذا أن كل كافر مشرك باللّه لأن الكافر إِذا كفر بنبِي فقد زعم أن الآيات التي أتى بها ليست من عند اللّه ، فيجعل ما لا يكون إلا للّه لغير اللّه فيصير مشركاً . فكل كافِرٍ مشرك.

فالمعنى أن اللّه لا يغفر كُفْرَ من كفَر بِه وبنَبيٍّ من أنبيائِه لأن كفره بنبيه

كفر به.

(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللّه فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا).

لأن جعلَه مع اللّه غيرَه من أبعد الضلال والعَمَى ، وهذا أكثرُ ما جَرَى

ههنا من أجل الذين عَبَدوا الأصنَام.

والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ بعقب هذا :

(إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا)

فَأمَّا (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ).

ففيها أوجه ، يجوز فيها نولهي - بإِثبات الياء ، ويجوز نُوَلهو بإِثبات الواو :

ويجوز " نولهِ " بكسر الهاءِ ، فأما " نولَهْ " - بإِسكان الهاءِ و " نَصْلِه جهنم " ، فلا يجوز إسكان الهاءِ لأن الهاءَ حقها أن يكون معها - ياءٌ ، وأما حذف الياءِ فضعيف فيها ، ولا يجوز حذف الياءِ ولا تُبَقى الكسرة التي تدل عليها .

١١٧

و (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (١١٧)

إِنْ يدعُونَ تقرأ إلا أُنُثاً ، وإلا أُثُنَا - بتقديم الثاءِ ، وتأخيرها . فمن قال

أناث فهو جمع أنثى وإِناث ، ومن قال أُنُث فهو جمع إِنَاث ، لأن إِناثاً على

وزن مِثال ، وإنَاث وأُنث مِثْل مِثَال ومُثُل . ومن قال أُثُنا فإِنه جمع وثَن.

والأصل وُثُن ، إِلا أنَّ الواو إِذا انْضَمَّتَ يجوز إِبدالها همزة ، كقوله تعالى :

(وإِذَا الرُّسلُ أُقَتَتْ) الأصل وُقِّتَتْ ، ومثال وُثُن في الجمع مثل سُقُف.

وجائز - أن يكون اثْن مثل أسد وأسد ، وجائز أن يكون اثُن أصلها اثْن ، فاتبعت الضمَّةُ الضَمَّةَ.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا).

يعني به إبليس لأنهم إِذا أطاعوه فيما سَوَّلَ لهم فقد عَبدُوه ، وَيدعُونَ في

معنى يعبدُونَ ، لأنهم إِذَا دَعوْا اللّه مخلصين فقد عبدوه.

وكذلك  (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أي اعبدُونِي.

والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ يستَكْبِرُونَ عنْ عِبادتِي).

ومعنى (مَرِيدًا) أي خارج عن الطاعة مُتَمَلِصٌ مِنْهَا ، ويُقَال " شجرة مَرْدَاءُ.

إِذا تناثر ورقُها ، ومن ذلك يسمى من لم تنبت له لحية أمردُ أي أملس موضعِ

اللحية ، وقد مرَدَ الرجل يمردُ مُروداً إِذا عتا وخرج عن الطاعة.

* * *

١١٨

(وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (١١٨)

قيل في مفروض إِن معناه مؤقت ، وجاءَ في بعض التفسير من كل ألف

واحد للّه وسائرهم لإبليس .

ومعنى مفروض - واللّه أعلم - أي أفترضه على نفسي وأصل الفرض في

اللغة القطعُ ، والفُرْضَة الثلْمة تكون في النهر ، يقال سقاها بالفِرَاضِ

وبالفُرَضِ ، والفرْض الحز الذي يكون في المسواك يشد فيه الخيط ، والفَرْض

فِي القَوسِ الحز الذي يشدُّ فيه الوتر ، والفَريضَةُ في سائر ما افْتُرِضَ ما أمر

اللّه به العباد فجَعَلهُ أمراً حَتْماً عليهم قاطعاً ، وكذلك

(وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) أي جعلتم لهُنَّ قطعة من المالِ وقد فرضت الرجُلَ جعلتُ له قطعة من مال الفيءِ.

فأما قول الشاعر :

إِذا أكلتُ سمكاً وفَرْضا . . . ذهبت طولًا وذهبت عرضا

فالفَرضُ ههنا التمر ، وإنما سُمي التمر فَرضاً لأنه يؤخذ في فِرَاضِ

الصدقة.

* * *

١١٩

و (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّه وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللّه فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (١١٩)

(وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ).

أي أجمع لهم مع الإضْلَال أن أوهِمهم أنهم ينالون من الآخرة حظاً.

كَمَا قال : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَيطَانُ أعمَالَهمْ).

(وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ).

كانه - واللّه أعلم - ولآمُرنَهم بِتَبْتِيكِ آذان الأنعام فليبتكُنَ ، أي

يشقِقُن ، يقال بتكْتُ الشيءَ أبْتِكه بَتْكاً إِذا قطعته ، وبِتْكَة وبِتَكُ ، مثل قطعة

وقطع ، وهذا في البَحِيرةِ ، كانت الجاهلية إِذا ولدت الناقة خمسة أبطن فكان

الخامس ذكَراً شقوا أذن الناقة وأمتنعوا من الانتفاع بها ولم تطرد عن ماءٍ

ولا مرْعًى ، وإِذا لقيها المعْي لم يركبها . فهذا تأويل (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ).

سَوَّلَ لهم إِبليس أن في تركها لا ينتفع بها قربة إِلى اللّه.

(وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّه).

قيل إِن معناه أن اللّه خلق الأنعام ليركبوها ويأكلوها فحرموها على

أَنفسَهِم ، وخلق الشمس والقمر والأرض والحجارة سخْرة للناس ينْتَفعون بها

فعبدهَا المشرِكون ، فغيروا خلق اللّه ، أي دِينَ اللّه ، لأن اللّه فطر الخلق على

الِإسلام ، خلقهم من بطن آدَمَ كالذر ، وأشهدَهُمْ أنه ربهم فآمنوا ، فمن كفر

فقد غير فِطْرَة اللّه التي فَطَرَ الناسَ عليها.

فأمَّا  (لاَ تَبديلَ لِخَلق اللّه) ، فإنَّ معناهُ ما خلقه اللّه هو

الصحيح ، لا يقْدِر أحد أن يُبَدل معنى صحة الدين.

وقال بعضهم : (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّه) هو الخصاءُ لأن الذي يخصي الفحل قد غير خلق اللّه.

ومعنى (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا).

أي ما يعبدون إِلا ما قد سموه باسم الِإناثِ ، يعني به المشركون ، سَمُّوا

الأصنام اللات والعزى ومناة ، وما أشبهه ، وقيل إِن مَعْنى

(إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا) أى مَوَاتا ، والموات كلها يخبر عنها كما يخبر عن المؤنث ، تقول من ذلك : هذه الأحجار تعجبني ، ولا تقول يعجبونني ، وكذلك الدراهم تنفعني.

١٢١

و (أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (١٢١)

(وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا).

أي لا يجدون عنها مَعْدِلًا ولا مَلْجأ.

يقال حِصْتُ عَن الرجُل أحِيصُ ، وروَوْا جِضْتُ عنه أجيضُ بالجيم

والضاد المعجمة ، بمعنى حِصْتُ ، ولا يجوز ذلك في القرآن ، وإِن كان

 واحداً والخط غير مخالف ، لأن القرآن سنة لا تخالف فيه الرواية عن

النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وأصحابه والسلف وقراءِ الأمصار بما يجوز في النحو واللُغَة ، وما فيه أفْصَحُ ممَّا يَجُوزُ . فالاتباع فيه أولى.

يقال حُصْتُ أحُوصُ حوْصاً وحياصاً ، إِذا خِطْتُ ، قال الأصمَعي : يقال

حُصْ عين صَقْرك أي خِطْ عينه ، والْحَوصُ في العَيْن ضيقُ مُؤَخرها.

والخَوصُ بالخاءِ - مُعْجمة - غُؤورُهَا.

* * *

١٢٣

و (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللّه وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (١٢٣)

اسم ليس مضمر ،  ليس ثواب اللّه بأمانيكم ولا أمانِي أهل

الكتاب ، وقد جرى ما يدل على إِضمار الثواب ، وهو  (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّه حَقًّا).

أي إِنما يدخل الجنة من آمن وَعَمَل صَالحاً . ليس كما يتمنى أهل

الكتاب ، لأنهم كانوا يزعمون أنهم أبناءُ اللّه وأحباؤه.

وقالوا : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) ، فأعلمَ اللّه عزَّ وجلَّ أن دخول الجنة وثواب اللّه على الحسنات والسيئات ليس بالأماني ولكنه بالأعمال.

ثم ذكر بعض ذلك فقال عزَّ وجلَّ :

(مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ).

أي لا ينفعه تمنيه.

١٢٤

(وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللّه وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ  أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (١٢٤)

فأعلم اللّه أن عامل السوءِ لا ينفعه تمنيه ، ولا يتولاه فتَوَل ولا ينصره

نَاصِرٌ.

وقد احتج قومٌ من أصحاب الوعيد ب

(وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللّه وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا).

فزعموا أن هذا يدل على أن من عَمِلَ السوءَ جُزِيَ به.

وقد أعلم اللّه عزَّ وجلَّ أنَّه يَغْفِر ما دُونَ الشركِ لمن يشاء ، فعامِل السوءِ - ما لم يكن كافِراً - مرجو له العَفوُ والرحمة ، والنبي - صلى اللّه عليه وسلم - شافِعٌ لأمته يشفع فيهم.

ومعنى : (وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا).

النقير النقطه في ظهر النواة ، وهي مَنْبتِ النخلة ، والمعنى : ولا يظلمون

مقدار ذلك.

* * *

١٢٥

(وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّه إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (١٢٥)

و (وَاتَّخَذَ اللّه إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا).

الخليل المحب الذي ليس في محبته خَلَل فجائز أن يكون إِبراهيم

سمى خليلَ اللّه بأنَّه الذِي أحبه اللّه واصطفاه محبةً تامَّةً كامِلةً.

وقيل أيضاً الخليل الفقير ، فجائز أن يكون فقير اللّه ، أي الذي لم يَجْعَلْ فقره وفاقته إِلا إِلى اللّه مخلصاً في ذلك ، قال اللّه عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّه).

ومثل أن إِبراهيم الخليل الفقير إِلى اللّه قول زهير يمدح هرم بن سنان

وإن أتاه خليل يوم مسغبةِ . . . يقولً لا غائب مالي ولا حَرمُ

وجاءَ في التفسير أن إبراهيم كان يضيفُ الضَيفان ويطعِم المساكينَ

الطعامَ ، وأصاب الناسَ جَدْبٌ فبعث إِلى خليل له كان بمصر يمْتارُ منه.

فقال ذلك الخليل لنفسه : لو كان إبراهيم إنما يريد المِيرَةَ لنفسه لوجهَت إِليه

بها ، ولكنه يريدها للناس فرجع غلمان إِبراهيم بغير ميرة ، فاجتازوا ببطحاءَ لَيِّنَةٍ فأخذوا من رَمْل كان فيها وجعلوه في أوعِيتهمْ استحياءً من الناس أن يرجِعوا بغير شيءٍ ، فلما رآهم عليه السلام ، سألهم عن الخبر فأعلموه ، فحملته عينه فنام مهموماً ، وانتبهت امرأته وقد بصرت بالأوعية مملوءَة ، فأمرت بأن يخرج منها ويخبز فأخرج منها طعام في غاية الحسْن فاختُبِزَ ، وانتبه إبراهيم وشئمَّ رائحة الطعام ، فقال : مِن أين هذا ؟

فقالت امراته من عد خليلك المصري.

فقال إبراهيم هذا من عند خليلي اللّه عزَّ وجلَّ.

فهذا ما روي في التفسير وهو من آيات الأنبياءً عليهم السلام غير

منكر . والذي فسرنا من الاشتقاق لا يخالف هذا.

والخلة الصداقة ، والخلة الحاجة.

فأمَّا معنى الحاجةِ فإِنه الاختلال الذي يلحق الِإنسان فيما يحتاج إِليه.

وأمَّا الخلة الصداقة فمعناها إنَّه يسُد كل محب خَلَلَ صاحبه في المودة وفي

الحاجة إليه ، والخلل كل فرجة تقع في شيء ، والخِلَال الذي يتخلل به.

وإنما سمي خلالاً لأنه ، يتبع به الخلل بين الأسْنانِ.

وقول الشاعر :

ونظرن من خَلَلِ الستور بأعينٍ . . . مرضَى مخالِطها السِّقام صحاح

فإن معناه نظرن من الفرجُ التي تقع في الستور.

وقوله القائل : " لك خلَّةُ مِن خِلَال " تأويله أني أُخلَى لك من رأيي

مما عندي عن خلة من خِلَال.

وتأويل أَخلِّي إِنما هو أخلل ، وجائز أن يكون

أخلي منْ الخلوةِ ، والخلوةُ والخلل يرجعان إِلى معنى ، والخِل الطريق في

الرملِ معناه أنه انفرجتْ فِيه فرجة فصارت طريقاً.

والخَل الذي يؤكل إنما سمي خلًّا لأنه اختلَّ منه طعم الحلاوةِ.

* * *

١٢٦

و (وَللّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (١٢٦)

أي إِن إبراهيم الذي اتخذه اللّه خليلاً هو عبد اللّه ، وهو له وكل ما في

السَّمَاوَات والأرض.

* * *

١٢٧

و (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّه كَانَ بِهِ عَلِيمًا (١٢٧)

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ)

موضع " ما " رفع.

 اللّه يفتيكم فيهن ، وما يتلى عليكم في الكتاب.

أيضاً يفتيكم فِيهِن . ويجوز أن يكون " ما " في موضع جر ، وهو بعيد جدا ، لأن الظاهر لا يعطف على المضمر ، فلذلك اختير الرفع ، ولأن معنى الرفع أيضاً أبيَنُ ، لأن ما يتلى فِي الكتاب هو الذي بين ما سألوا.

فالمعنى : (قل اللّه يفتيكم فيهن) ، وكتابه يفتيكم فيهن.

و (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ).

 وترغبون عن أن تنكحوهنَّ.

و (والمسْتضْعَفِينَ مِنَ الولْدَانِ).

يعني اليتامى ، وموضع " المستضغفين " جر ، عطف على  (وما يتلى عليكم فِي الكِتابِ فِي يَتَامَى النَساءِ)  وفي المستضعفين من الولدان

والذي يفتِيهم من القرآن قوله عزَّ وجلَّ : (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ)

والذي تُلِيَ عليهم في التزويج هو  (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ).

فالمعنى قل اللّه يفتيكم فيهنَّ ، وهذه الأشْياءُ التي في الكتاب يُفْتيكُم

فيهن.

و (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ)

" أن " في موضع جر :  وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء

وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط.

* * *

١٢٨

و (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا  إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١٢٨)

النشوز من بعْلِ المرأة أن يسيء عشرتها وأن يمنعها نفسه ونَفَقَتَه واللّه

عز وجلَّ قال في النساءِ : (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ، وقال : (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ  تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) ، وقال : (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا). فَشدد

اللّه في العدل في أمر النساء فلَوْ لَمْ يعْلَم عزَّ وجلََّّ أن رضَا المرأةِ مِنْ زوجِهَا

بالإقامة على منعها - في كئير من الأوقاتِ - نفَسَه ومَنعِها بعض ما يَحْتَاج إليه لما جاز الإمساك إلا على غاية العدل والمعروف ، فجعل اللّه عزَّ وجلَّ الصلحَ جائزاً بين الرجلِ وامرأتِهِ إِذا رضِيت منه بإِيثار غيرها عليه.

فقال : " لا إثم عليهما في أن يتصالحا بينهما صلحاً.

والصلح خير من الفرقة ".

و (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ).

وهو أن المرأة تشح على مكانها من زوجها ، والرجل يشح على المرة

بنفسه إن كان غيرها أحب إليه منها.

و (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا).

أي إن تحسنوا إليهن ، وتحملوا عشرتهن.

(فَإِنَّ اللّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).

أي يخْبُرُ ذلك فيجازيكم عليه.

فإِن قال قائل إنما قِيلَ : (وإِن امرأة خافت) ، ولم يُقَلْ وإِنْ نَشَزَ رجُلٌ على المرأة لأن الخائف للشيء ليس بمتيقنٍ له ؟

فالجواب في هذا إِنْ خَافَتْ الإقامةَ منهُ على النشُوزِ والإعراضِ ، وليس أن

تخاف الإقامة إِلا وقد بدا منه شيء ، فأما التفرقة بين (إن) الجزاء والفعل

الماضي فجيد . ولكن " إن " وقعت التفرقة بين " إِنْ " والفعلِ المستقبلِ فذلك

قبيح.

إن قلتَ : إن امرأة تخاف - فهو قبيح ، لأن " إِنْ " لا يفصل بينها وبين ما

يُجْزَمُ ، وذلك في الشعر جائز في (إنْ) وغيرها.

قال عدي بن زيد .

فمَتى واغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّوهُ . . . وتُعْطَفْ عليه كأْسُ الساقي

فأما الماضي فـ "إِنْ " غير عَامِلةٍ في لفظه ، و " إنْ " أُمُّ حُرُوفِ الجَزْم.

فجاز أن تفرق بينها وبينَ الفِعْل ، وامراة ارتفعت بفعل مضمرٍ يدل عليه ما بعد الاسم ،  إنْ خافَت امْرأة خَافَتْ فأمَّا غير " إِن " فالفصل يقبح فيه مع الماضي والمستقبل جميعاً ، لو قلت : " متى زيد جاءَني أكرمته ".

كان قبيحاً.

ولو قلت إن اللّه أمكنني فعلتُ كان حسناً جميلاً.

* * *

١٣٤

و (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللّه ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللّه سَمِيعًا بَصِيرًا (١٣٤)

كان مشركو العرب لا يؤمنون بالبعث ، وكانوا مُقِرينْ بأن اللّه خالقهم.

فكان تقربُهم إلى اللّه عزَّ وجلَّ إنما هو ليُعْطِيهُمْ من خير الدنيا ، ويَصرِفَ عنهم

شَرها ، فأعلم اللّه عزَّ وجلَّ أن خير الدنيا والآخرة عنده.

* * *

١٣٥

و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للّه وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ  الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا  فَقِيرًا فَاللّه أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا  تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١٣٥)

القسط والِإقساطُ العدل ، يقال أقسط الرجل يُقسِط إقساطاً إِذا عدل وأتى

بالقسطِ ، ويقال قسط الرجل قُسُوطاً إِذا جَارَ.

قال اللّه جلَّ وعزَّ : (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

أي اعدلوا إن اللّه يُحب العَادِلينَ.

وقال جلَّ وعزَّْ : (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا).

أي الجائرون ، يقال قسط البعيرُ قسْطاً إِذَا يَبِسَتْ يدُه ، ويدٌ

قَسْطاءُ أي يابسة ، فكأن أقسط أقام الشيءَ على حقيقةِ التعديل ، وكأنَّ قَسَطَ بمعنى جارَ معناه يَبَّسَ الشيءَ ، وأفْسَدَ جِهتَهُ المستقيمةَ.

و (وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ  الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)

 قوموا بالعدل وأشهدوا للّه بالحق ، وإن كان الحق على نفس

الشاهد  على والديه وأقْر بِيه.

(إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا  فَقِيرًا فَاللّه أَوْلَى بِهِمَا).

أي إِن يكن المشهود له فقيراً فاللّه أولى به ، وكذلك إن يكن المشهود

عليه غنياً فاللّه أولى به ، فالتأويل أقيموا الشهادةَ للّه على أنْفسِكمْ وأقاربكم ، ولا تميلوا في الشهادة رحمةً للفقير ، ولا تَحِيفوا لاحتَفَالِ غِنَى عَنِيٍّ عِندَكم.

و (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا).

أي لا تتبعوا الهوى فتعدلوا.

(وَإِنْ تَلْوُوا  تُعْرِضُوا).

قرأ عاصِم وأبو عمرو بن العلاءَ وأهلُ المدينَة " تَلْووا " بواوين ، وقرأ يَحيى

ابنُ وثاب والأعمش وحمزة بواو واحدة " تَلوا " ، والأشبه على ما جاءَ في

التفسير ومَذْهَبِ أهل المدينة وأبي عمروٍ ، لأنه جاءَ في التفسير أن

" لَوَى الحاكِم في قضيتِه " أعرَضَ.

(فَإِنَّ اللّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).

يقال لويت فلاناً حقه إِذا دَفَعته به ومطَلْته ، ويجوز أن يكون " وأن تَلُو "

أصله تَلْوُوا فأبدلوا من الواو المضمومة - همزة فصارت تلووا - بإسكان اللام - ثم طرِحَت الهمزَة وطرِحَتْ حَركتها على اللام فصار تفما

كما قيل في أدورٍ اذوَّرٍ ثم طرحت الهمزة فصَارَتْ آدر.

ويجوز أن يكونَ وإِنْ تَلُوا من الولاية ، وتُعْرِضُوا أي إِن قمتم بالأمر

أعرضتم عنه ، فإِنَ اللّه كان بمَا تَعملون خَبيراً .

و (فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ).

قيل كالمحبوسة لا أيِّماً ولا ذات بَعل.

* * *

١٣٦

و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللّه وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (١٣٦)

قيل فيه قولان : - يا أيها الذين آمنوا أقيموا على الايمان باللّه كما قال

عزَّ وجلَّ (وَعَدَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) ، أي وَعَدَ مَنْ أقام على الِإيمان من أصحاب النبي - صلى اللّه عليه وسلم - الذين ذكروا في هذه القصة مغفرة وأجراً عظيماً.

وقيل يُعْنَى بهذ! المنافقون الذين أظهروا التصديق وأسروا التكذيب.

فقيل : يا أيها الذين أظْهَرُوا الإيمان آمِنُوا باللّه ورسوله أي أبطنوا مثل

ما أظهرتم.

والتأويل الأول أشبه واللّه أعلم.

* * *

١٣٧

و (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللّه لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (١٣٧)

قيل فيه غير قول : قال بعضهم يُعْنَى به إليهودُ لأنَّهم آمنوا بموسى ثم

كفروا بعزير ثم آمنوا بعزيرٍ ثم كفروا بعِيسَى ، ثم ازدَادُوا كفْرأ بكفرهم

بمحمد - صلى اللّه عليه وسلم -.

وقيل جائز أنْ يكون محاربٌ آمن ثم كَفَر ثم آمَن ثم كَفَر.

وقيل جائز أن يكون منافِقٌ أظهر الِإيمان وأبطن الكفرَ ثم آمن بعد ثم كفر

وازداد كفراً بإقامته على الكفر .

فإن قال قائل : اللّه جلَّ وعزَّ لا يغفر كُفْر مرةٍ واحدةٍ فلم قيل ههنا فيمن

آمن ثُمَّ كفر ثُمَّ آمن ثُمَّ كفر : (لم يكن اللّه ليغفر لهم) وما الفائدة في هذا ؟

فالجواب في هذا - واللّه أعلم - أن اللّه عزَّ وجلَّ يغفر للكافر إِذا آمن بعد

كفره ، فإن كفر بعد إيمانه لم يغفر اللّه له الكفر الأول ، لأن اللّه جلَّ وعزَّْ يقبل التوبة ، فإِذا كفر بعد إيمان قبله كفْر فهو مطالب بجميع كفره.

ولا يجوز أن يكون إذا آمن بعد ذلك لا يغفر له ، لأن اللّه جل ثناؤُه يغفر لكل مؤمن بعد كفره.

والدليل على ذلك قوله جلَّ وعزَّ : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ).

وهذا في القرآن كثير ، وهو شبيه بالِإجماع أيضاً.

ومعنى : (وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا)

أي لا يجعلهم بكفرهم مهتدين بل يضلهم ، لأنه جلَّ وعزَّ يضل

الفاسقين.

* * *

١٣٨

وقوله - جلَّ وعزَّ : (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٣٨)

معنى (أليم) موجع.

قال " بشر " أي اجعل في مكان بشارتهم " لَهُمْ العَذَابُ "

العرب تقول تَحيتكَ الضرْبُ ، وعتابك السيف أي لك - بدلًأ من

التحية . . . هذا.

قال الشاعر :

وخيل قد دَلَفْتُ لها بِخيل . . . تحية بينِهم ضربٌ وجيع

* * *

١٣٩

وقوله جلَّ وعزَّ (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للّه جَمِيعًا (١٣٩)

(أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ)

أي أيبْتَغِي المنافقون عند الكافرين العزة.

والعزة المَنْعَة وشدة الغَلَبَةَ وهو مأخوذ من قولهم أرضٌ عَزاز .

قال الأصْمَعى : العَزَاز : النفَلُ مِنَ الأرضِ والصُّلب الحجارة ، الذي يسرع منه جريُ الماءِ والسيل هذا لفظ الأصْمعي.

فتأويل العزة الغَلَبَةُ والشَدة التي لا يتعلق بها إِذلال.

قالت الخنساءَ :

كأن لم يكونوا حمىً يُتَقَى . . . إِذ الناسُ إِذ ذاك من عزٍّ بزَّا

أي من قوى وغلب سلب.

ويقال : قد استعِز على المريض إذا اشتد وجَعَه ، وكذلك قول الناس :

يَعِزُّ علي أن تَفْعل ، أي يشتد ، فأما قولهم قد عَزَّ الشيء إِذا لم يوجد فتأويله قد اشتد وجوده أي صعب أن يُوجَدَ ، والمآب ، واحدٌ.

١٤٠

و (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّه يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللّه جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (١٤٠)

أعلَمَ اللّه عزَّ وجلَّ المؤْمنين أن المنافقين يَهْزأونَ بكتاب اللّه ، فأمروا ألا

يقعدوا مَعَهمْ حَتَّى يخوضوا في حديث غيره أي في حديت غير القرآن.

و (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ).

أي إِنكم إِذا جالستموهم على الخوض في كتاب اللّه بالهزؤ فأنتم

مِثْلُهُمْ .

١٤١

و (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّه قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّه يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (١٤١)

(أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)

هذا يقوله المنافقون إِذا كان للكافرين نصيبٌ قالوا : ألم نستحوِذ

عليكم ، أي ألم نغلب عليكم بالموالاة لكم ، ونمنعكم من المؤْمنين بما كنا

نعلمكم مِن أخْبَارِهم.

ونَسْتَحوِذ في اللغة : نستولي على الشيءِ ، يقال حاذ الحمار آتنَه إِذا

استولى عليها وجَمعَها ، وكذلك حازها.

قال الشَاعر.

يحُوذهنَ وله حُوذِيُّ

ورَووه أيضاً :

يحوزهن وله حُوزيُّ

قال النحويون : اسْتَحْوَذَ خرج على أصْله ، فمن قال حَاذَ يحوذُ لم يقل إِلا

استحاذ يستحيذ ، ومن قال أحوَذَ فهو كما قال بعضهم أجْودتَ وأطيَبْت بمعنى أجدْتَ وأطبْتَ ، فأخرجه على الأصْل قال : اسْتَحْوَذَ.

و (وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا).

أي إِن اللّه ناصِرُ المؤمنين بالحجة والغلبة ، فلن يجعل للكافرين أبداً

على المؤْمنين سَبِيلًا.

* * *

١٤٢

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّه وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللّه إِلَّا قَلِيلًا (١٤٢)

أي يخادعون النبي - صلى اللّه عليه وسلم - بإظهارهم له الِإيمان وإِبطانِهم الكفْرِ ، فجعل

اللّه عزَّ وجلَّ مخادعة النبي - صلى اللّه عليه وسلم - مخادعة له.

كما قال عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللّه).

ومعنى  (وهو خَادِعُهُمْ).

فيه غير قول : قال بَعْضهُمْ : مُخادعةُ اللّه إياهم جزاؤُهم على المخادعة

بالعذاب ، وكذلك  (ويمكُرونَ ويمْكُرُ اللّه).

وقيل وهو خادِعُهُم بأمره عزَّ وجلَّ بالقبول منهم ما أظهروا ، فاللّه خادعهُمْ بذلك.

* * *

١٤٤

و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا للّه عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (١٤٤)

أي لا تجعلوهم بِطَانتَكُمْ وخَاصَّتَكُمْ.

(أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا للّه عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا).

أي حجة ظاهرة ، والسلطان في اللغة الحجة ، وإِنما قيل للخليفة والأمير

سلطان لأن معناه أنه ذو الحجة.

والعربُ تُؤَنَث السلطان وتذكره ، فتقول :

قَضَتْ عليك بهذا السلْطَان ، وأمَرَتْكَ به السلطانُ.

وزعم قوم من الرواة أن التأنيث فيه أكثر ، ولم يُخْتلَفْ في التذكير.

وأحسب الذين (رَووْا) لم يَضْبطُوا مَعْنَى الكثرة من القلة.

والتذكير (فيه) أكثر ، فأمَّا القرآن فلم يأت فيه ذكر السلطان إلا

مذكراً ، قال اللّه عزَّ وجلَّ : (لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ)

وقال : هَلَكَ عَني سُلْطَانِيَهْ) ، وقال : (سُلْطَاناً مُبِيناً).

فجميع ما في القرآن من ذكر السلطان مذكر ، ولو كان التأنيث أكثر لكان في كتاب اللّه جلَّ وعزَّ.

فإن قال قائل إنما رَووْا أن السلطان بين الناس هو المونث قيل إِنما

السلطان معناه ذو السلطان . والسلطان الحجة . والاحتجاج والحجة معناهما

واحد . فأما التأنيث فصحيح ، إِلا أنه أقل من التذكير ، فمن قال : قضت به

عليك السلطان أراد قضت عليكَ به الحجة ، وقضت عليك حجة الوالي ، ومن قال قضى به عليك السلطانُ ذهب إلى معنى صاحبُ السلطانِ.

وجائز أن يكون ذهب به إِلى البرهَانِ والاحتجاجِ ، أي قضى به عليك البرهان.

* * *

١٤٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (١٤٥)

قال أبو عبيدة معمر بن المثَنى : جهنم أدْرَاك ، أَي مَنازِل ، فكل منزلة

منها دَرَك.

والقراءَة : الدرَك بفتح الراءَ . والدَّرْكُ بتسكين الراءَ ، فأما أهل المدينة

وأهل البصرة فيقرأونها . .

(الدرَك) بفتح الراءَ وأما أهل الكوفة والأعمش

وحمزة ويحيى بن وثاب ، فيقرأون (الدرْك).

وقد اختلف فيها عن عاصم ، فرواها بعضهم عنه الدرَك ورواها بعضهم الدرْك - بالحركة والسكون جمِيعاً - واللغتان

حكاهما جميعاً أهل اللغة ، إلا أن الاختيار فتح الراءَ ، لِإجماع المَدَنيين

والبصرِيين عليها وأن أحداً من المحدثين ما رواها إِلا الدرَك بفتح الراءَ.

فلذلك اخترنا الدرَك.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَنْ تَجِدَ لَهمْ نَصِيرًا).

أي لا يمنعهم مانع من عذاب اللّه عزَّ وجلَّ ولا يشْفَعُ لهم شافع .

١٤٦

وقوله عزَّ وجلَّ َ : (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللّه وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للّه فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّه الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (١٤٦)

(وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّه الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا)

الخط حذفت منه الياءُ في هذا الموضع ، وزعم النحويون أن الياء

حذفت من الخط كما حذفت في اللفظ ، لأن الياء سقطت من اللفظ لسكونها

وسكون اللام في " اللّه " وكذلك  (يَومَ يُنَادِ المُنَادِ) الياء من يناد

حذفت في الخط لهذه العلة ، وكذلك (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ)

و (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) فالواوات حذفت ههنا لالتقاءِ السَّاكنين ، فأما قول اللّه عزَّ وجلَّ : - (ذلك مَا كُنَّا نَبغِ) ، فهو كقوله (يُنَادِ المُنَا).

و (يدع الداع) ، فهذه الياءاتُ من نحو (نَبْغِ) حذفت لأن الكسرة دلت على الياء فحذفت الياء لثقلها ، وليس الوجه عند النحويين حَذْفها.

فأمَّا المنادي والداعي فحذفت الياء منها كما حذفت قبل

دخُول الألف واللام ، لأنك تقول : هذا داع وهذا منادٍ.

فأما (وَالليل إِذَا يسرِ) . فحذفت الياء لأنها رَأسُ آية ، ورُؤُوس الآي الحذف جائز فيها كما يجوز في آخر الأبيات.

* * *

١٤٨

وقوله جلَّ وعزَّ : (لَا يُحِبُّ اللّه الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللّه سَمِيعًا عَلِيمًا (١٤٨)

وإلَّا مَنْ ظَلَم ، يقرأ بهما جميعاً.

فالمعنى أن المظلوم جائز أن يظهر بظُلَامَته تَشكياً ، والظالم يجهر بالسوءِ

من القول ظلماً واعتداءً ، وموضع " مَنْ " نصبٌ بالوجهين جميعاً ، لأنه استثناء ليس من الأول

 : لا يحب اللّه الجهر بالسوءِ من القول لكن المظلوم يظهر

بظلامته تشكياً ، ولكن الظالم يجهر بذلك ظلماً.

ويجوز أن يكون موضع " مَنْ " رفعاً على معنى لا يحب اللّه أن يجهر بالسوءِ من القول إِلَّا من ظلم فيكون

" من " بَدلًا من معنى أحدٍ ،  : لا يحب اللّه أن يجهر أحد بالسوءِ من

القول إلا المظلوم.

وفيها وجه آخر لا أعلم النحويين ذكروه ، وهو أن يكونَ " إِلا مُنْ ظَلَمَ "

على معنى لكن الظالم اجهروا له بالسوء من القول ، وهذا بَعْدُ استثناء ليس من الأول . وهو وجه حَسَنٌ ، وموضعه نَصْبٌ.

وقد روي أن هذا ورد في الضيف إِذا أُسِيءَ إِليه ، فله أن يشكو لك.

وحقيقته ما قلناه . واللّه أعلم.

* * *

١٥٣

و (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللّه جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (١٥٣)

وهذا حين قالوا للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - : (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ).

أي فقد سألوا موسى بعد أن جاءَهم بالآيات ، فقالوا : (أرنَا اللّه جَهْرَةً).

وقال أهل اللغة في (جَهْرَةً) قولين : قال أبو عبيدة : قالوا جهرةً أرنَا

اللّه ، لأنهم إِذا رأوا اللّه فالسر جهرة ، فإِنما جَهْرةٌ صفة لقولهم.

وقال بعضهم (أَرِنَا اللّه جَهْرَةً) ، إِنما معناه أرنا رؤْيةً بينةً منكشفةً ظاهرة لأن

من علِم اللّه عزَّ وجلَّ فقد زَادَ عِلْماً ، ولكن سألوه رؤْية يُدْرِكونها بأبصَارِهم .

ودليل هذا القول قوله عزْ وجلَّ : (وَإذْ قُلْتُم يا مُوسى لَنْ نُومِنَ لَكَ حَتى نَرَى اللّه جَهرةً). وهذا عندي هو القول البين إنْ شَاءَ اللّه.

* * *

١٥٥

و (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللّه وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّه عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٥٥)

(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ)

" ما " لغْوُ في اللفظ ،  فبنقضهم ميثاقهم حقًّا ، فكما أن حقًّا لتوكيد

الأمر فكذلك " ما " دخلت للتوكيد.

وتأْويل نَقْضِهم مِيثَاقَهم أن اللّه عزَّ وجلَّ أخذ عليهم الميثاق في أن يُبَينُوا

ما أنْزل عليهم من ذكْر النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وغيره.

قال اللّه عزَّ وجل : (وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ).

والجالب للباءَ والعامل فيها قوله عزَّ وجلَّ : (حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ).

 بنقضهم ميثاقهم ، والأشياء التي ذكرت بعدَه.

وقوله " فبظلم " بدل من  فبما نقضِهم.

و (قُلُوبُنَا غُلْفٌ) أي أوعية للعلم.

(بَلْ طَبعَ اللّه عَلَيْهَا بِكفْرِهِمْ).

وإِن شئت أدغمت اللام في الطاء ، وكذلك : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)

يُدْغَمُ فتقول : بَـ طبَعَ ، وبـ تُؤثُرنَ ، جعل اللّه مجَازاتهمْ على كفرهم أن

طبع على قلوبهِم.

و (وَقوْلهم علَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظيماً).

البهتان الكذب الذي يُحيِّر من شِذتِه وعِظَمِه ، وذلك أنَّ إليهود - لعنها

اللّه - رمت مريم ، وهي صفوة اللّه على نساءِ العالمين ، بأمْرٍ عظِيمٍ.

١٥٧

و (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّه وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (١٥٧)

(إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّه).

أي باعترافهم بقتلهم إياه.

(وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ).

فإنما عُذِّبوا  يُعَذبون عذابَ من قتل ،  كان شُبِّهَ لَهم لأنهم قد أتوا

الأمر على أنَّه قتل نبي . وجاءَ في التفسير أن عيسى لما أراد اللّه جل ثناؤه

رفعه إِليه وتطهيره منهم ، قال لأصحابه ؛ أيكُم يرْضَى أن يُلْقَى عليه شبهي

فَيُقْتلَ ويُصلَب ويدخل الجنة ، فقال رجل منهم أنا فألقى عليه شبهه فقتل.

ورفع اللّه عيسى إِليه ، وهذا كله غير ممتنع ، لأنا لا نشك في أنه شُبِّه لَهُمْ.

و (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ).

أي الذين اختلفوا في قتله شاكون ، لأن بعضهم زعم أنَّه إِله ، وما قُتِلَ.

وبَعضهم ذكر إنَّه قُتِلَ ، وهم في ذلك شَاكُون.

(مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ).

(اتِّبَاعَ) منصوب بالاستثناء ، وهو استثناء ليس من الأول.

 ما لهم به من علم لكنهم يتبعون الظن.

وإِن رُفعَ جاز على أن يُجْعَلَ عليهم اتباعُ الظن.

كما تقول العرب : تحيتك الضربُ وعتابُكَ السيفُ.

قال الشاعر :

وخيل قد دَلَفْتُ لها بخيلٍ . . . تحية بينهم ضربٌ وجيعُ

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا).

قال بعضهم : الهاء للعلم .  وما قتلوا علمهم يقيناً ، كما تقول :

أنا أقتل الشيءَ علماً ، تأويله إني أعلمه علماً تامًّا.

وقال بعضهم : (وما قتلوه) الهاء لعيسى كما قال : وما قتلوه وما صلبوه.

وكلا القولين جائز.

* * *

١٥٨

و (بَلْ رَفَعَهُ اللّه إِلَيْهِ وَكَانَ اللّه عَزِيزًا حَكِيمًا (١٥٨)

إدغام اللام في الراء هو الكلام وعليه القراءَة ، لأن اللام قريبة من

مخرج الراء ، والراء متمكنة ، وفيها كالتكرير ، فلذلك اختير الإدغام فيها ، وإنْ لَمْ تُدْغم لأنه مِنْ كلمتين جاز.

* * *

١٥٩

و (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (١٥٩)

 : ومَا مهم من أحد إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ، وكذلك  (وَإنْ مِنكُمْ إلا وَارِدُهَا).

 ما منكم أحد إلا واردها ، وكذلك (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ)

 وما منا أحد إلا له مَقَام مَعْلوم.

ومثله قول الشاعر :

لو قلت ما في قومها لَمْ تِيثَم . . . يفضلها في حَسَب وميسمِ

 ما في قومها أحد يَفضلها.

فالمعنى (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) ، فالهَاء في " موته " راجعة على

كافرٍ في بعض الأقاويل ، وقد قيل : ما من أحد إلا لَيُؤْمِنَنَّ بعيسى ممن كفر به

قبل مَوْته ، لأن الميت قبل موته يعاين عمله فيعلم صالحه من طالحه ، وكل

كافر إِذا عَاينَ آمَنَ بكل نبي كَفرَ به قبل مَوْته.

وقالوا في الهاء في  (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) أي بعيسى.

وقال بعضهم بمحمد - صلى اللّه عليه وسلم -.

والقولان واحد ، لأن من كفر بنبي عَاينَ قبل موته أنه كان على

ضلال ، وآمن حيث لا ينفعه الِإيمانُ.

وقال بعضهم : (إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) أي سيؤْمن بعيسى إِذا نزل لقتل المسيح

الدجَّال ، وهذا بعيدُ في اللغَةٍ ، لأنه قال : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ).

والذين يبقون إِلى ذلك الوقت إنما هم شرذمة منهم ، ولكنه يحتمل أنهم كلهم

يقولون إن عيسى الذي ينزل لقتل الدجال . نحن نؤمن ، فيجوز على هذا.

واللّه أعلم بحقيقته.

* * *

١٦٢

و (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (١٦٢)

يُعْنَى بالراسخين الثابتون في العلم من أهل الكتاب أنهم لِعِلْمِهمْ

آمنوا بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم - وسائر الأنبياء عليهم السلام.

(والمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ).

نسق عَلى " ما "  يُؤمنون بما أنزل إِليك وبالمقيمين الصلاة أي

ويُؤمنون بالنبيين المقيمين الصلاة.

وقال بعضهم " المقيمين " عطف على الهاء والميم ،  : لكن

الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة يُؤمنون بما أنزل إليْك ، وهذا

عند النحويين رَدِيء ، أعني العطف على الهاء والميم لأنه لا يعطف بالظاهر

المجرور على المضمر المجرور إِلا في شعْرٍ ، وذهب بعضهم أن هذا وهْمٌ من

الكاتب.

وقال بعضهم : في كتاب اللّه أشياء ستصلحها العرب بألسنتها ، وهذا

القول عند أهل اللغة بعيد جداً ، لأن الذين جمعوا القرآن أصحاب رسول

اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وهم أهل اللغة وهم القدوة وهم قريبو العهد بالِإسلام فكيف يتركون في كتاب اللّه شيئاً يصلحه غيرهم ، وهم الذين أخذوه عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم -

وجمعوه ، وهذا ساقط عَمَّنْ لا يَعْلَم بَعْدَهُمْ وساقط عمن يعْلَمُ ، لأنهم يُقْتَدى

بهمْ فهذا مما لا ينبغي أن يُنسب إِليهم رحمةُ اللّه عليهم.

والقرآن محكَم لا لحن فيه ، ولا تَتكلم العرب بأجود منه في الِإعراب ، كما قال عزَّ وجلَّ (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) ، وقال : (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ).

ولسيبويه والخليل وجميع النحويين في هذا باب يسمونه باب المدحِ قد

بَينوا فيه صحةَ هذا وجَوْدتهَ.

وقال النحويون : إِذا قلتَ مَرَرْت بزيدِ الكريم.

وأنتَ تريد أن تخلص زيداً من غيره فالجر هو الكلام حتى يُعْرَفَ زيد الكريمُ

من زيد غير الكريمِ ، وإذا أردت المدح والثناءَ فإن شئت نصبت فقلت مررت

بزيد الكريمَ كأنك قُلتَ أذكُر الكريمَ ، وإن شئت قلت بزيد الكريمُ على

تقدير هو الكريم ، وجاءني قومكَ المطعمينَ في المحل ، والمغيثون في

الشدائد ، على معنى أذكر المطعمينَ ، وهم المُغيثُون في الشدَائد ، وعلى هذا

الآية ، لأنه لما قال : (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) عُلمَ أَنَّهُمْ

يُقِيمون الصًلاَة ويؤتُون الزكاةَ . فقال : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) ، على معنى ، أذكُر المُقِيمينَ الصلاةَ ، وهم المْؤتوْنَ الزكاة ، وأنشدوا بيت

الخزنق بنت بدر بن هفان :

لا يَبْعَدَنْ قَوْمي الَّذين هُمُو . . . سُمُّ العُداة وآفَة ُ الجُزرِ

النازلين بكل معترك . . . والطيبون معاقد الأزُر

على معنى اذكر النازلين ، رفعه ونصبه على المدح . وبعضهم يرفع

النازلين وينصب الطيبين ، وكله واحد جائز حسن . فعلى هذه الآية.

فأما من قال إنه وهم فقد بيَّنَّا ما فيه كفاية . والذي ذكرناه من الاحتجاج

في ذلك مذهب أصحابنا البصريين.

* * *

١٦٣

و (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (١٦٣)

هذا جواب لهم حين سألوا النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أن ينزل عليهم كتاباً من السماءِ ، وقد جرى ذكر ذلك قبل هذه الآية.

وهو  (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ)

فأَعلم اللّه نبيه أن شأنه في الوحي كشأْن الأنبياءِ الذين سلفوا

قبله ، وهذا احتجاج عليهم ، فقال : (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) وسائر الأنبياءُ الذين ذكروا في هذه الآية.

و (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا).

القراءَة فيه بفتح الزاي وضمها ، وأكثر القراء على فتح الزاي.

وقد قرأت جماعة زُبُوراً بضم الزاي ، منهم الأعمش وحمزة ، فمن قرأ زَبُوراً ، بفتح الزاي فمعناه كتاباً ، وهذا الوجه عند أهل اللغة ، لأن الآثار كذا جاءَت زَبُور دَاوُدَ ، كما جاءَ تَوْراةُ موسَى وإِنْجِيل عِيسى .

ومن قرأ زُبوراً بضم الزاي فمعناه وآتيناه كُتُباً ، جمع زَبْر وزُبُور ويقال

زبرت الكتاب أزْبرُه زَبْراً إذا كتبتَ ، وزَبَرتُ أزْبُر زَبْراً ، وأزْبِرُ إِذا قرأت.

والزَبْرُ في اللغة إِحكام العمل قي البئر خاصة ، تقول : بئر مزبورة إذا

كانت مطوية بالحجارة ، والزبر إِحكام الكتاب.

وقول الشاعر :

هَوْ جَاءُ لَيْسَ لِلُبها زَبْرُ

يصف ريحاً ، جعل هذا مثلاً لَهَا ، كأنه قال ليس لشأنها قوة في

الاستواءِ.

وقوله جلَّ وعزَّ : (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) واحدها زُبْرَة ، وهي قطع

الحديد.

* * *

١٦٤

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّه مُوسَى تَكْلِيمًا (١٦٤)

" رسلًا " منصوب من جهتين ، أجودهما أن يكون منصوباً بفعل مضمَرِ.

الذي ظهر يفسِرهُ ،  وقد قصصنا رسلاً عليك قد قصَصْناهم ، كما تقول رأيت زيداً وعمراً أكرمته ،  وأكرمت عمراً أكرمته.

وجائز أن يحمل (وَرُسُلًا) على معنى (إِنَا أوحينا إِليك) ، لأن معناه إِنا أرسلنا إِليك : موحين إليك ، وأرسلنا رُسُلًا قد قصصناهم عليك.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَلَّمَ اللّه مُوسَى تَكْلِيمًا).

أخْبَرَ اللّه عزْ وجل بتخصيص نَبِي مِمن ذكر ، فأعلم عزَّ وجلَّ أن موسى

كُلِمَّ بغير وَحي ، وأكد ذلك بقوله تكليماً ، فهو كلام كما يعقلُ الكلام لا شك في ذلك .

١٦٦

وقوله - جلَّ وعزَّ -: (لَكِنِ اللّه يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّه شَهِيدًا (١٦٦)

القراءَة الرفع مع تخفيف " لكن " ، والنصب جائز " لَكِنَّ اللّه يَشهَدُ ، إِلا أنه

لا يقرأ بما يجوز في العربية إلا أن يَثْبُتَ به رواية عن الصحابة وقراء الأمصار.

ومعنى (لَكِنِ اللّه يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ) يبين ، لأن الشاهِدَ هو المبين لما

يشهَدُ به . فاللّه جلَّ وعزَّ يبينه ويعلم مع إبانتهِ أنه حق.

(وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّه شَهِيدًا)

معناه : وكفى اللّه شهيداً ، والباءُ دخلت مَؤكدة ،  اكتفوا باللّه في

شهادته ، ومعنى (أنْزَلَهُ بعِلْمِه) أي أنزل القرآن الذي فيه علْمُه.

١٧٠

و (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ للّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللّه عَلِيمًا حَكِيمًا (١٧٠)

(فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ).

اختلف أهل العربية في تفسير نصب " خير " ، فقال الكسائي : انتصب

لخروجه من الكلام ، قال : وهذا تقوله العرب في الكلام التام نحو قولك

لتقومَنَّ خيراً لك ، فإِذا كان الكلام ناقصاً رفعوا فقالوا : إِن تنته خير لك . وقال الفَراءُ : انتصب هذا وقوله (خَيْرًا لَكُمْ) لأنه متصل بالأمر وهو من صفته ، ألا ترى أنك تقول انته هو خير لك فلما سقطت هو اتصل بما قبله ، وهو معرفة فانتصب ، ولم يقل هُو ولَا الكسائِي من أي المنصوبات هو ، ولا شرحوه بأكثر من هذا.

وقال الخليل وجميع البصريين : إِنَّ هذا محمول على معنا ، لأنك إِذا

قلت : انْتَه خيْراً فأنت تدفعه عن أمر وتدخِله في غيره ، كأنك قلت انْتَهِ وائتِ خيرٌ لك وادخُلْ فيما هوخير لك.

وأنشد الخليل وسيبويه قول عمر بن أبي ربيعة :

فَواعِديهِ سَرْحَتَيْ مالِكٍ . . .  الرُّبى بينهما أَسْهَلا

كأنه قال إِيتي مكاناً أسْهلا.

* * *

١٧١

و عزَّ وجلَّ : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللّه إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّه وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللّه وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللّه إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللّه وَكِيلًا (١٧١)

(سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ).

معنى سبحانه تبرئته من أن يكون له ولد ، وهذا قول أهل العربية.

وجاءَ عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أن معنى " سبحان اللّه " تبرئة اللّه من السوءِ ، وتفسير أهل العربية

موافق لما جاءَ عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم -.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا)

الرفع لا غير ، ورفعه بإضمار لا تقولوا آلِهتنَا ثَلَاثَةٌ.

(إِنَّمَا اللّه إِلَهٌ وَاحِدٌ)

أي ما هو إلا إِلَهٌ وَاحِدٌ.

و (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّه وَكَلِمَتُهُ)

أي ، فكيف يكون إِلهاً وهو ابن مريم ، وكيف يكون إِلهاً وأمه قبله

واللّه عزَّ وجلَّ القديم الذي لم يَزل.

(لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللّه إِلَّا الْحَقَّ).

الغلو مجاوز القدرِ في الظلم.

* * *

١٧٢

و (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا للّه وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (١٧٢)

أي ليس يستنكف الذي تزعمون أنه إِله أن يكون عبداً للّه.

(ولا الْملائِكَةُ الْمُقَربُونَ)

والملائكة - واللّه أعلم - أكرم من النبيين ، ألا ترى أن نُوحاً عليه السلام

قال : (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّه وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) ، فقال عزَّ وجلَّ : (لن يستنكف المسيح) من العبودةِ للّه.

ومعنى يستنكف أي لن يأْنف ، وأصله في اللغة من نَكَفْتُ الدَّمْعَ إِذا

نحيته بإِصبعك من خدك.

قال الشاعر :

فبانوا فلولا ما تذكر منهم . . . من الخُلفِ لم يُنْكَفْ لعَينيكَ مَدمعُ

فتأويل لَنْ يستنكف لن ينقبض ، ولن يمتنع من عبودَةِ اللّه.

* * *

١٧٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (١٧٤)

(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا).

يُعنَى به - واللّه أعلم - القرآن ، لأن النور هو الذي يُبَينُ الأشياءَ حتى

تُرَى . وَمثَّلَ اللّه عزَّ وجلَّ ما يَعْلم بالقلب عِلْماً واضِحاً لما يرى بالعَيْن رُؤْيَة

منكشفة بَينَة.

والكلَالَةَ قد بَيَّناها أول السورة.

١٧٦

و (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)

(إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ).

جاز مع " إن " تقديم الاسم قبل الفعل ، لأن " إِنْ " لا تعمل في الماضي.

ولأنها أُمُّ الجزاءِ . والنحويون يذهبون إِلى أن مَعَها فعلاً مضمراً ، الذي ظهر

يفسره ، والمعنى إِن هلك امرؤ هلك.

و (يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا).

قيل فيها قولان ، قال بعضُهم :  يبين اللّه لكم أن لَا تضلوا

فأضمرت لا ، . وقال البصريون إِن " لا " لا تضمر ، وإِن  : يبيِّن اللّه لكم كراهة أن تضلوا ، ولكن حذفت " كراهة " ، لأن في الكلام دليلاً عليها ، وإِنما جاز الحذف عندهم على أحد ،  (وَاسْألِ القَرْيةَ) والمعنى واسأل أهل القرية ، فحذف الأول جائز ، ويبقى المضاف يدل على المحذوف ، قالوا فأما حذف " لا " وهي حرف جاءَ لمعنى النفي فلا يجوز ، ولكن " لا " تدخل في الكلام مَؤكدة ، وهي لغو ك (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ).

ومثله قول الشاعر :

وما ألوم البيض ألَّا تسخرَا . . . لما رأين الشمط القَفَنْدَرا

 وما ألوم البيض أن تسخر.

ومثل دخول " لا " توكيداً قوله عزَّ وجلَّ : (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ).

و (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ).

فإن قال قائل : أفيجوز أن تَقول لا أحلف عليك ، تريد أحلف عليك ؟.

قيل " لا " لأن لا ، إنما تلغى إِذا مضى صدر الكلام على غير النَفي ، فإِذا بنيت الكلام على النفي فقد نقضت الِإيجاب ، وإِنما جاز أن تلغى " لا " في أول السورة ، لأن القرآن كله كالسورة الواحدة ، ألا ترى أن جواب الشيء قد

يقع وبينهما سُورٌ كما قال جلَّ وعزَّ جواباً ل (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦).

فقال : (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (١) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢).

ومثله في القرآن كثير.