سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ

مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ مِائَتَانِ آيَةً

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله عزَّ وجلَّ : (الم (١) اللّه لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢)

أجمعت القراءُ على فتح الميم وقد روي عن الرُّواسي " ألم اللّه " بتسكين

الميم ، وقد رَوَى هذه القراءَة بعضهم عن عاصم والمضبوط عن عاصم في رواية أبي بكر بن عَيَّاش وأبي عمرو فتحُ الميم ، وفتحُ الميم إجماع.

وقد شرحنا معنى (الم).

واختلف النحويون في علة فتح الميم ، فقال بعض البصريين : جائز أن

يكون الميمُ فتحتْ لالتقاء الساكنين ، وجائِز أن يكون طرحت عليها فتحة الهمزة لأن نيةَ حروف الهجاءِ الوقف ، وهذا أيضاً قول الكوفيين.

وذكر أبو الحسن الأخفش أن الميمَ لو كُسرتْ لالتقاءِ السَّاكنين فقيل

(الم اللّه) لجازَ ، وهذا غلط من أبي الحسن لأن قبل الميم ياءً مكسوراً ما قبلها فحقها الفتح لالتقاءِ السَّاكنين وذلك لثقل الكسرة مع الياءِ.

فَأما (الْقَيَّومُ) فقد روي عن عُمَرَ وابنِ مَسْعود جميعاً أنهُمَا قرءَا (القيَّام)

وقد رويت (الْقَيِّمُ) ، والذي ينبغي أنْ يُقرأ ما عليه المصحف ، وهو القيوم بالواو ، والقيِّمُ أيضاً جيد بالغ كثيرَ في العربية ، ولكن القراءَةَ بخلاف ما في المصحف

لا تجوز ، لأن المصحفَ مجمع عليه ، ولا يعارض الإجماع برواية لا يعلم كيف

صحتُها.

ومعنى (الْقَيُّومُ) : القائمُ بِتَدْبير جميع ما خَلَقَ من إحياءٍ وإنشاءٍ ورَزْقٍ

ومَوْتٍ.

وأصل قيوم قَيْوُوم ، إلا أن الياء إذا سَبَقت الواو بسُكونٍ قُلبَتْ لها الواو

وأدغمت الياء فيها وكذلك القيَّام أصله الْقَيْوَام ، ومعنى الكتاب ما كتب يقال للقرآن كتاب لأنه يُكتَبُ ، ومعنى يكتب في الَلغة يجمع بعضه إلى بعض ، والكُتْبَةُ في اللغة الخَرْزة وجمعها كتب والكتيبة القطعة من الجيش العظيمة ، إِنما سميت لاجتماع بعضها إلى بعض.

ومعنى (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) أي للكتب التي تقدمته والرسل التي أتَتْ بهَا.

* * *

٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ)

أيْ من قَبْل الْقُرآنِ.

وقد اخْتَلَفَ النَحْوُّيونَ في " تَوْرَاة " فَقَالَ الكوفِيُّونَ تَوْرَاة يصلُحُ أنْ يكونَ

" تَفْعَلَةَ " مِن وَرَيْتُ بِك زِنَادِي ، فالأصل عندهم توْرَيَة إلا أن الياء قلبت

ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها . " وتفْعَلة " لا تكاد تُوجد في الكلام ، إِنما قالوا في تتْفلَة " تتفَلَة.

وقال بعضهم يصلح أن يكون تَفْعِلة مثل تَوْصِيَة ولكن قلبت من تَفْعِلة

إلي تَفْعَلَة . وكأنَّه يجيز في تَوْصِية تَوْصَاةَ ، وهذا رَديءَ ولم يَثْبُتْ في تَوفيَة توفاة ، ولا في توقية توقاه.

وقال البصريون : أصلها فَوْعلَة ، وفوعلة كثير في الكلَامَ مثل الحوقلة.

وَدَوْخَلة وما أشبه ذلك.

وكل ما قلت فيه فَوْعَلْتُ فمصْدرُهُ فَوْعلَة ، فأصلها

عندهم " وَوْريَة " ولكن الواو الأولى قلبت تاء كما في " تَوْلَج " وإنما هو فَوْعَل من ولجت ، وكما قلبت في تراث . الياءُ الأخيرة ، قلبت أيضاً لتحركها وانفتاح ما قبلها بإجماع.

وَإنْجِيل : إفْعيل مِن النجْل وهو الأصلِ : هكذا يَقُول جميع أهل اللغة في

إنْجِيل.

ومعنى : (مِن قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ) : أي من قبلِ القُرآن.

ومعنى (وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ). أي ما فُرق بِه بين الحَق والباطِل

ورُوي عَنْ بَعْض المفسرين أن كل كتاب للّه فُرْقَان.

ومعنى : (وَاللّه عَزِيز ذُو انتِقَام) أي قد ذل له كل شيءٍ بأثر صنعته فيه.

ومعنى (ذُو انْتِقَام) أي ذُو أنْقَامٍ ممن كَفر به ، لأن ذكر الكافرين ههنا

جرى.

٥

ومعنى : (إِنَّ اللّه لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٥)

أي هو ظاهر له ، وهو جلَّ وعَزَّ أنشأه.

٦

ومعنى (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)

أي على ما يشاءُ من عظم وصغر لون ، وضعف وقوة.

وله - جلَّ وعزَّ - فِي ذلك حكمة كما قال : (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

* * *

٧

وقوله جلَّ وعزَّ : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّه وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٧)

روي عن ابن عباس - رضي اللّه عنهما - إنَّه قال : الَمحكمات : الآيات في

آخر الأنعام . وهي قوله تعالى : (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)

إِلى آخر هذه الآيات ، والآيات المتشابهات (الم والمر) وما اشتبه على إليهود من هذه ونحوها.

وقال قوم : معنى (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ) ، أي أحكمت في الِإبانة فإِذا

سمعها السامع لم يحتج إِلى تأويلها لأنها ظاهرة بينة نحو ما أنبأ اللّه من أقاصيص

الأنبياءِ مما اعترف به أهل الكتاب وما أخبر اللّه به من إنشاءِ الخلق من قوله

عزَ وجل : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ)

فهذا اعترف القوم به وأقروا بأن اللّه هو خالقهم ، وما أخبر اللّه به من خلقه من الماءِ كل شيءٍ حي وما خلق لهم من الثمار

وسخر لهم من الفلك والرياح وما أشبه ذلك.

فهذا ما لم ينكروه ، وأنكروا ما احتاجوا فيه إلى النظر والتدبر من أن اللّه عزَّ وجلَّ يبعثهم بعد أن يصيروا تراباً فقال : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ).

(وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨).

فهذا الذي هو المتشابه عليهم ، فأعلمهم اللّه الوجه الذي ينبغي أن

يستدلوا به على أن هذا المتشابه عليهم كالظاهر إن تدبروه ونظروا فيه ، فقال عزّ وجلَّ : (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا).

وقال : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أي إذَا كنتم قد أقررتم بالإنسان والابتداءِ فما تنكرون من البعث

والنشور ؛ وهذا قول كثير من الناس وهو بين واضح.

والقول الأول حسن أيضاً.

فأما (أُخَرُ) فغير مصروفة.

زعم سيبويه والخليل أن (أُخَرُ) فارقت أخواتها

والأصلَ الذي عليه بناءُ أخواتِها ، لأنْ أخَرَ أصلها أن تكون صفة بالألف

واللام . كما تقول الصغرى والصُّغَر ، والكبرى والكبَر فَلَما عدلت عن مجرى الألف واللام وَأصْلِ " أفْعَلُ مِنْك " وهي مما لا تكون إلا صفة - منعت

الصرف.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ).

الزيغ : الجور والميل عن القصد ، ويقال زاغ يزيغ إذا جار.

ومعنى (ابْتغَاءَ الْفِتْنَة). أي يفعلون ذلك لطلب الفتنة . ولطلب التأوِيل.

والفتنة في اللغَةِ على ضروبٍ : فالضرْب الذي ابتغاه هؤلاءِ هو فَسَادُ ذَاتِ الْبَين

في الدِّينِ والحرُوبِ ، والفتنة في اللغة : الاسْتِهْتَار بالشيْءِ والغُلُو فيه.

يقال : فلان مفتون في طلب الدنيا ، أي قد غلا في طلبها وتجاوز القُدْرة . والفتنة الاختبار كقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي اختبرنا ، ومعنى ابتغائهم تأويله أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم ، فأعلم اللّه أن تأويل ذلك ووقتَه لا يعلمه إلا اللّه.

والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ)

أي يوم يرون ما وعدوا به من البعث والنشور والعذاب

(يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) أي الذين تركوه وتركوا ما أنبأ به

النبي - صلى اللّه عليه وسلم - عن اللّه - عزَّ وجلَّ من بعثهم ، ومُجَازاتِهم. وقوله - عزَّ وجلَّ - : (قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ)

أي قد رأينا ما أنبأتنا به الرسل.

فالوقْفُ التام  (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّه) أي لا يعلم أحد متى

البعث . (غير اللّه).

ومعنى : (والراسِخُونَ فِي الْعِلْم) أي الثابتون.

يقال رسخ الشيءُ يَرْسَخُ رُسوخاً إذا ثبت أي : يقولون صدقنا بأنَّ اللّه

يبعثنا ، ويُؤمنون بأنَّ البعثَ حق كما أن الِإنشَاءَ حق ، ويقولون :

(كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) .

ويدل على أن الأمر الذي اشتبه عليهم لم يتدبروه.

قوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) : أي ذوو العقول.

أي ما يتذكر القرآن وما أتى به الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ.

* * *

٨

قوله عزّ وجلَّ : (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨)

أي لا تمِلْها عن الهدى والقَصْد ، أي لا تضلَّنَا بعد إذ هديتنا.

وقيل أيضاً : (لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا) لاَ تَتَعبَّدْنا بما يكون سبباً لزيغ قلوبنا وكلاهما جيد.

* * *

٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّه لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٩)

يدل عَلَى تأويل  (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّه وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) -

فقولهم : (إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ) إِقرار بالبعث ودليل أنهم خالفوا من يتبع المتشابه لأن الذين ابتغوا المتشابه هم الذين أنكروا البعث.

(لَا رَيْبَ فِيهِ) لا شك فيه . وقد شرح باستقصاءِ فيماتقدم من كتابنا.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ اللّه لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ).

جائز أن يكون حكاية عن الموحدين ، وجائز أن يكون إخباراً عن اللّه

وجائز فتح " أن اللّه لا يخلف الميعاد " ، فيكون  جامع الناس لأنك لا

تخلف الميعاد . أي قد أعلمتنا ذلك ونحن غير شَاكِّين فيه.

* * *

١٠

وقوله جلَّ وعزَّ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللّه شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠)

(وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ).

أي الكفار يعذبون وهم وقود أنفسهم ، كلما نضجت جلودهما

وعظامهم بالاتقاد بدِّلُوا خلوداً غيرها . فعذبهم بجلودهم وعظامهم .

١١

وقوله جلَّ وعزَّ : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّه بِذُنُوبِهِمْ وَاللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ (١١)

أي كشأن آل فرعون ، وكأمر آل فرعون ، كذا قال أهل اللغة والقول

عندي فيه - واللّه أعلم - إِن " دأب " ههنا أي اجتهادهم في كفرهم وتظاهرهم على النبي - صلى اللّه عليه وسلم - كتظاهر آل فرعون على موسى عليه السلام.

وموضع الكاف رفع وهو في موضع خبر الابتداءِ ،  دأبهم مثلُ دَأبِ

آل فرعون ، و (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

يقال دأبتُ أدأب دَأباً ودُؤُوباً إِذا اجتهدت في الشيءِ.

ولا يصلح أن تكون الكاف في موضع نصب بـ (كفروا)

لأن كفروا في صلة الذين ، لا يصلح أن الذين

كفروا ككفر آل فرعون لأن الكاف خارجة من الصلة ولا يعمل فيها ما في

الصلة.

* * *

١٢

و (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٢)

وتقرأ (سَيُغْلَبُونَ) ، فمن قرأ بالتاءِ فللحكاية والمخاطبة ، أي قل لهم في

خطابك ستغلبون . ومن قال (سَيُغْلَبُونَ) فالمعنى بلغهم أنهم سيغلبون.

وهذا فيه أعظم آية للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - لأنه أنبأهم بما لم يكن وأنبأهم بغيب ، ثم بانَ تصديق ما أنبأ به لأنه - صلى اللّه عليه وسلم - غلبهم أجمعين كما أنبأهم . -

ومعنى (وَبِئْسَ المِهَادُ) : بئس المثوى وبئس الفراش.

* * *

١٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّه وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّه يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (١٣)

آية علامة من أعْلامِ النَبِى - صلى اللّه عليه وسلم - التي تدل على تصديقه ، والفئةُ في اللغة

الفِرقةِ ، وهي مأخوذة من قولهم فَأوْتُ رأسَه بالسيْفِ وفأيتُه إذَا فلقته

ومعنى (فِئَتَيْنِ) فرقتين.

(فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّه وَأُخْرَى كَافِرَةٌ) : الرفع والخفض جائزان جميعاً.

فأما من رفع فالمعنى : إحداهما تقاتِل في سبيل اللّه والأخْرى كافرة ، ومن خَفَضَ جعل فئةً تُقاتِل في سبيل اللّه وأخْرى كافرة بدلًا من فئتين :

 : قد كان لكم آية في فئة تقاتل في سبيل اللّه وفي أخرى كافرة.

وأنشدوا بيت كثير على جهتين :

وكنت كذي رجلين رجل صحيحة . . . ورجْل رمى فيها الزمان فَشَفت

وأنشدوا أيضاً : رجل صحيحةٍ ، ورجل رمى فيها الزمان.

على البدل من الرجلين.

وقد اختلف أهل اللغة في قوله (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ)

ونحن نبين ما قالوه إن شاءَ اللّه وما هو الوجه . واللّه أعلم.

زعم الفراءُ أن معنى (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) يرونهم ثلاثة أمثالهم قال لأنك إِذا

قلت : عندي ألف وأحتاج إلى مثلها فأنت تحتاج إلى ألفين فكأنك قلت أحتاج إلي مثليها - وإذا قلت عندي ألف وأحتاج إِلى مثليها فأنت تحتاج إلى ثلاثة آلا*ف ، وهذا باب الغلط فيه غلط بَيِّن في جميع المقاييس وجميع الأشياءِ ، لأنا إِنما نعقل مثل الشيءِ ما هو مساو له ، ونعقل مثليه ما يساويه مرتين ، فإِذا جهلنا المثل فقد بطل التميز ، وإنما قال هذا لأن أصحاب النبي - صلى اللّه عليه وسلم - كانوا ثلاثمائة وأربعة

عشر رجلاً وكان المشركون تسعَمائةٍ وخمسين رجلاً فالذي قال يبطل في اللفظ ويبطل في معنى الدلالة على الآية التي تُعْجِز ، لأنهم إذا رأوهم على هَيْئَتِهِمْ فليس هذا آيَة ، فإنْ زَعم أن الآيةَ في هذا غلبةُ القليل على الكثير فقد أبْطَلَ أيضاً لأن القليل يغلب الكثيرَ . موجود ذلك أبداً.

فهذا الذي قال يبطل في اللغة وَفِي  وإنَّما الآيةُ في هذا أنَّ المشركين

كانوا تسعمائة وخمسين وكان المسلمون ثلاثَمائةٍ وأربعةَ عشرَ فأرى اللّه

- جلَّ وعزَّ - المشركين أنَّ المسلمين أقَل من ثلاثمائة واللّه قد أعلم المسلمين أن المائة تغلب المائتين فأراهم المشركين على قدر ما أعلمهم أنهم يغلبونهم لِيُقَوِّيَ قلوبهم ، وأرى المشركين المسلمين أقل - من عدد المسلمين ، ثم ألقَى مع ذلك في قلوبهم الرعب فجعلوا يرون عدداً قليلاً مع رعب شديد حتى غُلِبُوا.

والدليل على صحة هذا القول قول اللّه عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّه أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا).

فهذا هو الذي فيه آية أن يُرَى الشيء بخلاف صورته - واللّه أعلم -.

ويجوز نصب (فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّه وَأُخْرَى كَافِرَةٌ).

ولا أعلم أحداً قرأ بها.

ونصبها من وجهين - أحدهما الحال  التقتا مؤْمنة وكافرة

ويجوز نصبها على أعني فِئَةً تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّه وَأُخْرَى كَافِرَةٌ).

* * *

١٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّه عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)

قيل في (زُيِّنَ) قولان : قال بعضهم اللّه زينها مِحْنَةً كما قال :

(إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (٧).

وقال بعضهم : الشيطان زينها لأن اللّه قد زهد فيها وأعلم أنَّها متاع

الغرور.

والقَوْلُ الأول أجودُ لأن جَعْلَهَا زينةً محبوبة موجودٌ واللّه قد زهَّد فيها بأن

أعلم وأرى زوالها ، ومعنى (القناطير) عند العرب الشيءُ الكثير من المال وهو جمْع قنطار.

فأما أهل التفسير فقالوا أقوالًا غير خارجة من مذهب العرب : قال

بعضهم القنطار ملءُ مَسْكِ ثَوْرٍ ذهباً  فضة وقال بعضهم القنطار ثمانون

ألفَ دِرهم . وقال بعضهم : القنطار ألفُ دينار ، وقال بعضهم ألف ، رطل

ذهباً  فضةً.

فهذه جملة ما قال الناس في القنطار.

والذي بخرج في اللغة أن القنطار مأخوذ من عقد الشيءِ وأحكامه والقنطرة

مأخوذة من ذلك ، قكأن القنطار هُوَ الجملة من المال التي تكُون عقدة وثيقة منه.

فأمَّا من قال من أهل التفسير إنَّه شيء من الذهب موف ، فأقوى منه عندي ما ذكر من إنَّه من الذهب والفضة ، لأن اللّه - جلَّ وعزَّ - ذكر القناطير فيهما ، فلا يستقيم أن يكون القنطار في إحداهما دون الأخرى.

ومعنى (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) في اللغة - الخيل عليها السًيمَاءُ والسُّومَة وهي

العلامة ، ويجوز - وهو حسن - أن يكون المسومة السائمة ، وأسِيمَت أرْعِيَتْ.

(وَالْأَنْعَامِ) المواشي واحدها نَعَم ، أكثر استعمالها في الإبل ، (والحرث) الزرع ، وهذا كله محبَّب إلى الناس كما قال اللّه - عزَّ وجلَّ ، ثم زهد اللّه في جميعه.

وتأويل التزهيد فيه ليس الامتناع من أنْ يَزْرع الناس ، ولا من أن يَكْسِبُوا

الشيءَ من جهة ، وإنما وجه التزهيد فيه الحث على الصدقة وسلوك سُبل البِرِّ التي أمرَ بِها في ترك الاستكثار من المال وغيره ، فهذا وجه التزهيد.

فقال جلَّ وعزَّ : (ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي ما يتمتع به فيها.

(وَاللّه عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) :

والمآب في اللغة المرجع ، يقال آب الرجل يؤُوب أوْبا وإياباً ومآباً.

وأعلم اللّه - جلَّ وعزَّ - أن خيراً من جميع ما في الدنيا ما أعده لأوليائه

فقال :

١٥

(قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللّه وَاللّه بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (١٥)

الرفع في (جَنَّاتٌ) القراءَْة ، والخفض جائز على أنْ تكون (جَنَّاتٌ) بدلاً من

خير  أؤنبئكم بجنات تجري من تحتها الأنهار ويكون ، (للذين اتقوا عند ربهم) من تمام الكلام الأول.

ومعنى (وأزواج مطهرة) أي مطهرة من الأدناس ومطهرة مما يحتاج إليه نساءُ

أهل الدنيا من الحيض وغيره.

(وَرِضْوَانٌ مِنَ اللّه).

أكثر القراءَة كسر الراءِ.

وروى أبو بكر بن عياش عن عاصم

" وَرُضْوَانٌ مِنَ اللّه " بضم الراءِ في كل القرآن ، ويقال رَضِيت الشيءَ أرضاه رضا ومرضاة ورِضوا ناًورُضواناً.

وموضع (الذين يقولون) خفض صفة (للذين اتقوا)

١٦

 للمتقين القائلين . (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٦)

وكذلك (الصابرين والصادقين) ولو كانت رفعاً على الاستئناف لجاز ذلك ولكن القراءَة لا تجاوز.

ومعنى القانتين أي القائمين بعبادة اللّه ، وقد فسرنا القنوت فيما

مضى . ومعنى المنفقين المتصدقين ، وجميع ما في سبيل اللّه.

(وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ).

السحر الوقت الذي قبل طلوع الفجر.

العرب تقول جئتك بأعلى السحر تريد في أول السحر ، وهو أول إدبار الليل إلى طلوع الفجر الظاهر البين.

فَاللّه عزَّ وجلَّ وصفَ هؤُلاءِ بالتَصْدِيقِ والِإنْفَاقِ في سَبِيلِهِ والقيامِ

بِعِبَادَتِهِ ، ثُمَّ وَصَفَهمُ بِأنهمْ مَعَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ خَوْفهِمْ وَوَجَلِهِمْ يستغفرون

بالأسحار.

* * *

١٨

وقوله عَزَ وجل : (شَهِدَ اللّه أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)

قال أبو عبيدة معنى (شهد اللّه). قضى اللّه ، وحقيقته أنه عَلِمَ وبين

اللّه ، لأن الشاهد هو العالم الذي يبين ما علمه ، فاللّه عزَّ وجلَّ - قد دل على تَوْحيدِه بجميع مَا خَلق فَبَيَّن أنَّه لَا يقدِرُ أحدٌ أنْ يُنْشِئَ شَيْئاً واحداً مما أنْشَأ ،

وشهدت الملائكة لما علمت من قدرته وشهد أولو العلم بما ثبت عندهم

وتبين من خلقه الذي لا يقدرعليه غيره.

وأكثر القراءَة (أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) بفتح الألف في (أنهُ) وقد رُوَيت بالكسر

عن ابن عباس ، وروى (أنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه الْإِسْلَامُ) بفتح الألف " والأكثر

فتح (أَنَّهُ) وكسر (إِنَّ الدِّينَ).

ومن قرأ (إنهُ) بالكسر فالمعنى شَهِد اللّه أن الدين عند اللّه الإسلام . وأنَّهُ لاَ إِلَهَ إلا هُوَ.

والأجْوَدُ الْفَتْحُ كما وصَفْنَا في الأول ، لأن الكلام والتوحيد

والنداءَ بالأذان (أشهد أن لا إله إلا اللّه) وأكثر ما وقع أشْهَد على ذِكر

التوحيد وجائز أن يفتح أن الأولى وأن الثانية . فيكون فتح الثانية على

جهتين على شهد اللّه أن لا إله إلا هو وشهد أن الدين عنده الإسلام.

* * *

١٩

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّه فَإِنَّ اللّه سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٩)

لك في (جَاءَهم) الفتح والتفخيم ، ولك الإمالة نحو الكسر فأما الفتح فلغة

أهل الحجاز ، وهي اللغة العليا القدمى وأما جاءَهم " بالكسر " فلغة تميم.

وكثير من العرب وهي جيدة فصيحة أيضاً.

فالذي يميل إلى الكسر يدل على

أن الفعل من ذوات الياءِ والذي يفتح فلأن الياء قد انقلبت صورتها إلى الألف

وفي الألف حظها من الفتح . وكل مصيب.

ونصب (بَغْياً) ب (اختلفوا) والمعنى اختلفوا بغياً ، أي للبغي ، لم

يختلفوا لأنهم رأوا البصيرة والبرهان.

قال الأخفش :  " وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغياً بينهم إلا من

بعد ما جاءَهم العلم " ، والذي هو الأجود أن يكون بغياً منصوباً بما دل عليه

(وما اختلف) فيكون  اختلفوا بغياً بينهم.

(ومن يكفر بآيات اللّه فإن اللّه سريع الحساب) أي سريع الحساب له.

والجزم هو الوجه في (ومن يكفر) وهي القراءَةُ ولو قرئت بالرفع لكان له وجه

من القياس ولكن الجزم أجود وأفصح في .

ومعنى (سريع الحساب) أي سريع المجازاة له كما قال :

(وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ  هُوَ أَقْرَبُ) وقالوا : جائز أن يكون (سريع الحساب) سريع التعريف للعامل عمله - لأنه جل ثناؤُه - عالم بجميع ما عملوا لا يحتاج إِلى إثبات شيءٍ وتذاكر شيء.

ونصب (قائماً بالقسط) حال مَؤكدة لأن الحال المَؤكدة تقع مع الأسماءِ

في غير الإشارة ، تقول إنه زيد معروفاً وهو الحق مصدقاً ولا إله إلا هو قائما

بالقسط.

والقسط في اللغة العدل : قال اللّه - (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) أي

بالعدل ، ويقال أقسط الرجل إذا عدل وقسط إذا جار والعادل مقسط والجَائِر قَاسِط - ْ قال اللّه : (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي اعدلوا إن اللّه يحب العادلين.

وقال : (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا).

فإن قال قائل : فمن أين جاءَ من لفظ القسط ما معناه الجور وأصله

العدل ؟

فإِنما ذلك كقولك عدل الرجل على القوم يعدل عدلا ومعْدِلة.

وَمَعْدَلَةً ، إذا هو أنصفهم ، وَعَدَلَ عَن الحق عدْلاً إِذَا جَارَ ، فكذلك جاءَ من

لفْظ القَسْطِ ما مَعْناه الجور كما جاءَ ما معناه العَدْلُ.

* * *

٢٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للّه وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللّه بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٢٠)

إنْ شِئْتَ أسكنت الياء (من وَجْهِيَ) وإِنْ شِئْتَ فتحتها فقلت أسلمت

وَجْهِيَ للّه ، وقد فسَّرْنَا أمر هذه الياء فيما سلف ، والمعنى أن اللّه عزَّ وجلَّ.

أمر النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أن يحتج على أهل الكتاب والمشركين بأنه اتبع أمر اللّه الذي هم أجمعون مقرون بأنه خَالِقَهُم ، فَدعَاهُم إلى ما أقرُوا به ، وأراهم الدلاَلاَتِ والآيَاتِ التي قَد شَرَحْنَا ذكرها بأنه رسولُه - صلى اللّه عليه وسلم -.

ومعنى (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للّه) أي قصدت بعبادتي إلى اللّه جل ثناؤُه

وأقررت أنه لَا إِلَه غَيرهُ ، وكذلك (مَنِ اتَّبَعَنِ) ويجوز في اللغة أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ

أي ، أسلمت نفسي - قال اللّه عزَّ وجلَّ - (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)

وقال : (ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ)  ويبقى ربك والمعنى كل شيءٍ هالك

إلا اللّه عزَّ وجلَّ.

(ومن اتبعنِ) لك حذف الياءِ وإثباتها ، والأحبّ إليَّ في هذا

اتباع المُصْحف لأن اتباعه سنة ومخالفته بدعة ، وما حذفَ من هذه الياءات

نحو (ومن اتبعن) (لئن أخرتن إلى يوم القيامة) ونحو فيقول (ربي أكرمن)

فيقول : (ربي أهانن) فهو على ضربين مع النون ، فإذا كان رأس آية فأهل اللغة يسمون أواخر الآي الفواصل فيجيزون حذف الياءات ، كما يجيزونَهُ في قوافي الشعر ، كما قال الأعشى :

ومن شانئ كاسف وجهه . . . إذا ما انتسبتْ له أنكرن

وهل يمنعني ارتيادي البلاد . . . من حذر الموت أن يأتين

 أن يأتيني وأنكرني ، فإذا لم يكن آخر قافية  آخر آية فالأكثر

إثبات الياء ، وحذفها جَيِّد بالغ أيضاً بخاصة مع النونات ، إلا أن أصل اتبعني

" اتبعي " ولكن النون زيدت لتسلم فتحة العين ، فالكسرة مع النون تنوب عن الياءِ ، فإذا لم تكن النون نحو غلامي وصاحبي فالأجود إثباتها ، وحذفها مع غير النون أقل منه مع النون إلا أنه جائز ، نقول هذا غلام قد جاء والأجودِ هذا غلامي قد جاءَ ، وغلاميَ قد جاءَ ، بفتح الياءِ وإسكانها . وحذفها جائز لأنَّ الكسرة دالة عليها .

وقوله تبارك اسمه : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ).

الذين أوتوا الكتاب " : إليهود والنصارى ، والأميون مشركو العرب لأنهم

إنما نسبُوا إلى ما عليه الأمة في الخلقة ، لأن الإنسان يخلق غير كاتب ، فهذا

معنى الأمِّيين ، وقال بعض النحويين معنى أأسلمتم الأمر ، معناه عندهم

اسلمو@ - وحقيقة هذا الكلام أنه لفظ استفهام معناه التوقيف والتهديد ، كما تقول للرجل بعد أن تأمره وتؤَكد عليه " أقْبِلْتَ . . وإلا فأنت أعلم " . فأنت إنما تسْأله متوعداً في مسألتك ، لعمري هذا دليل أنك تَأمره بأن يفعل.

ومعنى . : (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ).

أي ليس عليك هداهم - إنما عليك إقامةُ البُرهانِ لهمْ فإذا بَلغْتَ فقد

أدَّيْتَ ما عليك.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَاللّه بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) أي بصير بما يقطع عذرهم فيما

دلهم به على وحدانيته وتثبيت رسله.

وقال في " إثر هذه الآية :

٢١

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّه وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢١)

أي : أعلام اللّه التي أتيْتَهُمْ بِهَا.

(وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) :

وقرئت ويُقَاتِلُون ، ومعنى (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) ههنا قيل فيه قولان :

، قيل رضاهم بقتل من سلف منهم النبيين نحو قتل يحيى عليه السلام.

وهذا يحتمل - واللّه أعلم - وقيل ويقتلون النبيين لأنهم قاتلوا النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وهموا بقتله قال اللّه - جلَّ وعزَّ ، (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ  يَقْتُلُوكَ  يُخْرِجُوكَ).

فهذا معنى : (ويقتلون النبيين) واللّه أعلم.

وجاز دخول الفاء في خبر إن ، ولا يجوز أن زيداً فقائم وجاز ههنا . .

(فبشرهم بعذاب أليم) ، لأن (الذي) يوفي فتكون صلته بمنزلة الشرط للجزاءِ

فيجاب بالفاءِ . ولا يصلح ليت الذي يقوم فيكرمك لأن (إن) كأنها لم تذكر

في الكلام فدخول الجواب بالفاءِ ، عليها كدخولها على الابتداءِ والتمني داخل فزيل معنى الابتداءُ والشرط.

* * *

٢٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّه لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)

معناه حظَاً وافراً منه.

و (يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّه لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ).

أي يدعون إلى كتاب اللّه الذي هم به مقرون ، وفيه ذكر النبي - صلى اللّه عليه وسلم - والإنباء برسالته.

(ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ).

أي جمع كثير وإنما أعرضوا إلا إنَّه لا حجة لهم إلا الجحد بشيءٍ قد

أقر به جماعة من علمائهم أنه في كتابهم.

ثم أنْبَأ اللّه - عزَّ وجلَّ - بما حملهم على ذلك وخبَّر بما غرهم.

٢٤

فقال عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)

فموضع (ذلك) رفع  شأنهم ذلك وأمرهم ذلك بقولهم وبظنهم

أنهم لا يعذبون إلا أياماً مَعْدُودَات.

جاءَ في التفسير أنهم قالوا إنما نعذب أربعين يوماً عبد آباؤُنا فيها

العجل ، فأعلمَ اللّه تبارك وتعالى أن ذلك فرية منهم ، وأنه هو الذي غرهم.

* * *

٢٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٥)

 - واللّه أعلم - فكيف يكون حالهم في ذلك الوقت.

وهذا الحرف مستعمل في الكلام ، تقول أنا أكرمك وأنت لم تزرني ، فكيف إذا زرتني.

قوله عزَّ وجلَّ : (لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ) :

أي لحساب يوم لا شك فيه.

* * *

٢٦

وقوله جل شأنه : (قُلِ اللّهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦)

امر اللّه النبيَّ - صلى اللّه عليه وسلم - بتقديمه وذكر ما يدل على توحيده ، ومعنى (مَالِكَ الْمُلْكِ) أن اللّه يملك العباد ويملك ما ملكوا.

ومعنى : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ).

فيه قولان : - تؤتي الملك الذي هو المال والعبيد والحضرة من تشاءُ

وتنزعه ممن تشاءُ ، وقيل تؤتي الملك من تشاءُ من جهة الغلبة بالدِّين

والطاعة ، فجعل اللّه - عزَّ وجلَّ - كل ما في ملكه ملك غير مسلم للمسلمين

ملكاً غنيمة ، وجعلهم أحق بالأملاك كلها منَ كل أهل لمن خالفوا دين

الإسلام.

وقيل في التفسير إن اللّه عزَّ وجلَّ - أمر النبي - صلى اللّه عليه وسلم - في هذه الآيات أن يسأله نقل عزَّ فارس إلى العرب وذل العرب إلى فارس - واللّه أعلم بحقيقة ذلك.

فأما إعراب (اللّهمَّ) فضم الهاء وفتح الميم ، لا اختلاف فى اللفظ به بين

النحويين ، فأما العلة فقد اختلف فيها النحويون فقال بعضهم : معنى الكلام يا اللّه أم بخير ، وهذا إقدام عظيم لأن كل ما كان من هذا الهمز الذي طرح

فأكثر الكلام الإتيان به ، يقال ويل أمه ، وويلُ امه ، والأكثر إثبات الهمز.

ولو كان كما يقول لجاز اومم ، واللّه أم ، وكان يجب أن تلزمه ياءُ النداءِ لأن

العرب تقول يا اللّه اغفر لنا ، ولم يقل أحد من العرب إلا اللّهم ، ولم يقل

أحد يا اللّهم.

قال اللّه عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ قَالُوا اللّهمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ).

وقال : (قُلِ اللّهمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).

فهذا القول يبطل من جهات : أحدها أن " يا " ليست في الكلام وأخرى

أن هذا المحذوف لم يتكلم به على أصله كما نتكلم بمثله وأنه لا يقدم أمام

الدعاءِ هذا الذي ذكره ، وزعم أن الصفة التي في الهاءِ ضمة الهمزة التي

كانت في أم ، وهذا محال أن يترك الضم الذي هو دليل على النداءِ للمفرد.

وأن يجعل في اللّه ضمَة (أم). هذا الحاد في اسم اللّه - عزَّ وجل .

وزَعمَ أن قولَنا هلم مثل ذلك أن أصلها : هلْ ام - وإنما هِي لُم.

والهاءُ للتنبيه ، وقال المحتج بهذا القول : أن " يا " قد يقال مع : (اللّهم) فيقال : يَا اللّهم ، ولا يروي أحد عن العرب هذا غيره - زعم أن بعضهم أنشده :

ومَا عَليك أن تقولي كلما . . . صليتِ أوْسبَّحتِ يا اللّهم مَا

اردد علينا شيخنا مسلما

وليس يُعارَض الإجماع وما أتى به كتاب اللّه تعالى ووجد في جميع

ديوان العرب بقول قائل أنشدني بعضهم ، وليس ذلك البعض بمعروف ولا

بمسمى.

وقال الخليل وسيبويه وجميع النحويين الموثوقُ بعلمهم : أن " اللّهم "

بمعنى - يا اللّه ، وأن الميم المشددة عوض من " يا " لأنهم لم يجدوا ياءً مع هذه

الميم في كلمة ، ووجدوا اسم اللّه جلَّ وعزَّ مستعملاً بـ (يا) إذا لم يذكر الميم.

فعلموا أن الميم من آخر الكلمة بمنزلة يا في أولها ، والضمة التي في أولها

ضمة الاسم المنادى في المفرد ، والميم مفتوحة لسكونها وسكون الميم التي

قبلها . -

وزعم سيبويه أن هذا الاسم لا يوصف لأنه قد ضمت إِليه الميم ، فقال

في قوله جلَّ وعزَّ : (قُلِ اللّهمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)

أن (فاطرَ) منصوب على النداءِ ، وكذلك (مَالِكَ الملْكِ)

ولكن لم يذكره في كتابه.

والقول عندي أن (مَالِكَ الملْكِ) صفةٌ اللّه ، وأن (فاطر السَّمَاوَاتِ والأرضِ) كذلك - وذلك أن الاسم ومعه الميم بمنزلته ومعه " يا " فلا تمنع

الصفة مع الميم كما لاتمنع " مع " يا " .

فهذا جملة تفسير وإعراب (اللّهمَّ).

ومعنى : (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ) على ما ذَكَرْنا في (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ).

ومعنى : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ).

أي بِيَدِكَ الْخَيْرُ كله ، خيرُ الدنيا وخيرُ الآخرة.

* * *

٢٧

وقوله جلَّ وعزَّ : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٢٧)

 : تدخل أحدهما في الآخر يقال : ولج الشيءُ إذا دخل يلج

وُلُوجاً وَوَلْجَة ، وَالْوَلْج والوَلْجَةُ شيء يكون بين يدي فناء.

فمعنى : (تولج الليل في النهار) أي تنقص من الليل فتدخل ذلك

النقصان زيادة في النهار ، وتنقص من النهار فتدخل ذلك النقصان زيادة في

الليل.

(وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ).

أي تخرج الإنسان من النطْفَةِ ، والطائِر من البَيضةِ ، وتخرج للناس

الحب الذي يعيشون به من الأرض الميتة.

(وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ).

أي تخرج النطفة من الإنسان ، والبيضة من الطائر.

ومعنى (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).

أي بغير تقتير ، وهذا مستعمل في اللغة ، يقال للذي ينفق موسعا : فلان

ينفق بغير حساب ، أي يوسع على نفسه ، وكأنه لا يحسب ما أنفقه إنفاقاً.

وذكر اللّه جلَّ وعزَّ بعد هذا التقديس والتعظيم أمر المنافقين فقال :

٢٨

(لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّه فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ وَإِلَى اللّه الْمَصِيرُ (٢٨)

القراءة بالجزم ، وكسر الذال لالتقاءِ السَّاكنين ، ولو رفعت لكان وجهاً

فقلت : (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).

 : أنه من كان مؤمناً فلا ينبغي أن يتخذ الكافر ولياً لأن ولي الكافر راض بكفره ، فهو كافر.

قال اللّه جلَّ وعزَّ : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ).

وقال : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).

ومعنى : (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي لا يجعل ولاية لمن هو غير مؤمن ، أي

لا يتناول الولاية من مكان دون مكان المؤمنين ، وهذا كلام جرى على المثل

في المكان كما تقول زيد دونك فلست تريد أنه في موضع مستقل وأنك في

موضع مرتفع ، ولكنك جعلتَ الشرفَ بمنزلةِ الارتفاعِ - في المكان ، وجعلت

الخِسَّة كالاستقبال في المكان.

فالمعنى : أن المكان المرتفع في الولاية مكان المؤْمنين.

فهذا بيان  (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).

ومعنى : (ومَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّه فِي شَيءٍ).

أي من يَتَول غيرَ المؤمنين فاللّه بَرِيءٌ منه.

(إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً).

و (تَقِيَّةً) قُرئَا جَمِيعاً . فأباح اللّه جلَّ وعزَّ الكفر مع القصة.

والتَقِيَّةُ خوفُ القتل ، إِلا أن هذه الِإباحة لا تكون إِلا مع سلامة النية وخوف القتل.

(وَيُحَذِّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ وَإِلَى اللّه الْمَصِيرُ).

معنى : (نَفْسَهُ) إيَّاها إلا أن النفس يستغنى بها هنا عن " إياه " وهو

الكلام ، وأما قوله عزْ وجل : (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) فمِمَّا بِه خوطب العباد على قدر علمهم ، ومعناه تعلم ما

عندي وما في حقيقتي ولا أعلم ما عندك لا ما في حقيقتك.

وفي  (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) أي تْؤتي الملك من تشاءُ أن تْؤتيهُ ، وكذلك (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ) أن تنزعه منه إِلا أنه حذف لأن فى الكلام ما يدل عليه.

* * *

٣٠

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ وَاللّه رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٣٠)

ونصب : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ) ب (وَيُحَذِّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ) : كأنه قال

ويحذركم اللّه نفسه في ذلك اليوم ، ويجوز أن يكون نصب على

(وِإلى اللّه الْمَصِيْر يَوْمَ تَجِدُ كُل نَفْسٍ) ، والقول الأول أجود.

* * *

٣١

وقوله جلَّ وعزَّ : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّه وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١)

القراءَة بضم التاء ، ويجوز في اللغة : (تَحُبُّون). ولكن الأكثر (تُحِبُّونَ)

لأن حببت قليلة في اللغة وزعم الكسائي أنها لغة قد ماتت فيما يحسب.

ومعنى : (تُحِبُّونَ اللّه) أي تقصدون طاعته وترضون بشرائعه والمحبة

على ضروب ، فالمحبة من جهة الملاذ في المطعم والمشرب والنساءِ.

والمحبة من اللّه لخلقه عفوه عنهم وإِنعامه عليهم برحمته ومغفرته وحسن الثناءِ

عليهم ، ومحبة الإنسان للّه ولرسوله طاعته لهما ورضاه بما أمر اللّه به ، وأتى به رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم -.

وقوله جلَّ وعزَّ : (يَغْفِر لَكمْ ذُنُوْبَكُمْ).

القراءَة بإظهار الراءِ مع اللام ، وزعم بعض النحويين : أن الراءَ تدغم مع

اللام فيجوز . . ويغفر لكم . . وهذا خطأ فاحش ولا أعلم أحداً قرأ به غير أبي عمرو بن العلاء ، وأحسب الذين رووا عن أبي عمرو إدغام الراء في اللاَم

غالطين.

وهو خطأ في العربية لأن اللام تدغم في الراءِ ، والنون تدغم في الراء

نحو : (قولك) هل رأيت ، ومن رأيت . ولا تدغم الراءُ في اللام إذا

قلت : مر لي بشيءِ . لأن الراءَ حرف مكرر فلو أدغمت في اللام ذهب

التكرير.

وهذا إجماع النحويين الموثوق بعلمهم.

* * *

٣٢

وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ أَطِيعُوا اللّه وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللّه لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (٣٢)

أي : أظهروا محبَّتكم للّه إن كنتم تحبُّونه بطاعته واتباع رسوله ومعنى :

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللّه لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ).

أي فإن اللّه لا يحبهم ، لأن من تولى عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - فقد تولى عن اللّه.

ومعنى : (لا يحب الكافرين). لا يغفر لهم ولا يثني عليهم خيراً.

٣٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ اللّه اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٣)

__________

(١) قال في السمين :

وقد طعن الزَّجَّاج على مَنْ روى عن أبي عمرو إدغامَ الراء من « يغفر » في لام « لكم » وقال : « هو خطأٌ وغلطٌ على أبي عمرو » وقد تقدَّم تحقيق ذلك وأنه لا خطأٌ ولا غلطٌ ، بل هذه لغةٌ للعرب نقلَها الناس ، وإن كان البصريون كما يقول الزَّجَّاج لا يُجيزون ذلك . ا هـ (الدر المصون)

معنى اصطفاهم في اللغة : اختارهم أي جعلهم صفوة خلقه ، وهذا

تمثيل بما يُرى ، لأن العرب تمثل المعلوم بالشيءِ المرئي ، وإذا سمع

السامع ذلك المعلوم كان عنده بمنزلة ما يشاهده عِياناً ، فنحن نعين الشيء

الصافي أنه النقى من الكدر ، فكذلك صفوة اللّه من خلقه ، وفيه ثلاث لغات : صَفْوة وصِفْوة وصُفوة وهم من لا دنس فيهم من جهة من الجهات في الدِّين

والخيريَّة . وقيل في معنى اصطفاهم قولان

قال قوم : اصطفى دينهم أي اختاره على سائر الأديان . لأن دين هؤُلاء

الجماعة الإسلام ، وقال اللّه عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه الْإِسْلَامُ).

وقال قوم : اصطفى آدمَ بالرسالة إلَى الملاتكة وإلى ولده.

واصطفى نوحاً وإبراهيم وآله بالرِّسالة.

ألَا ترى قوله عزَّ وجلَّ : (يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ).

فأمره اللّه تعالى أن ينَبِئَ عنه ملائكته ، وآل عمران هم آلُ إبراهيم.

* * *

٣٤

وقوله جلَّ وعزَّ : (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤)

 : اصطفى ذرية بعضها من بعض - فيكون نصب (ذُرِّيَّةً) على

البدل ، وجائزاً أن ينصب على الحال  : واصطفاهم في حال كون

بعضهم من بعض . و (ذُرِّيَّةً) قال النحويون : هي فُعْلِيَّة من الذر ، لأن اللّه ،

أخرج الخلق من صلب آدم كالذر ، (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى).

وقال بعض النحويين : (ذُرِّيَّةً) أصلها ذروَرة على وزن فُعولة ولكن

التضعيف لمَّا كثر أبدل من الراءِ الأخيرة فصارت ذُرويَة ثم أدْغِمَت الواو في

الياءِ فصارت ذُرِّيَّةً.

والقول الأول أقيس وأجود عند النحويين.

* * *

٣٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥)

قال أبو عبيدة : معناه قالت امرأة عمران و " إذ " لغو وكذلك : (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ) قال معناه : وقالت : ولم يصنع أبو عبيدة في هذا شيئاً.

قال جميع النحويين : إن (إِذ) يدل على ما مضى من الوقت فكيف يكون الدليل على ما مضى من الوقت لغواً ، وهي اسم مع ما بعدها.

وقال غير أبي عبيدة منهم أبو الحسن الأخفش ، وأبو العباس محمد بن

يزيد :  اذكروا إِذ قالت امراة عمران.

والمعنى عندي - واللّه أعلم - غير ما ذهبت إِليه هذه الجماعة وإِنما

العامل في (إِذ قالت) معنى الاصطفاءِ -  - واللّه أعلم - واصطفى آل

عمران (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا).

واصطفاهم (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّه اصْطَفَاكِ). فذكر اصطلفاك يدل على ماوصفنا ومعنى نذرت : يدل على ما وصفنا .

ومعنى (نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا).

٣٧

أي : جعلته خادماً يخدم في متعَبَّداتِنا ، وكان ذلك جائزاً لهم ، وكان على أولادهم فرضاً أن يطيعوهم في نذرهم ، فكان الرجل ينذر في ولده أن يكون خادماً في متعبَّده ولعبَّادهم ، ولم يكن ذلك النذر في النّساءِ إِنما كان ذلك في الذكورة ، فلمَّا ولدت امراة عمران مريم قالت : (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى) وليست الأنثى مما يصلح للنذر ، فجعل اللّه عزَّ وجلَّ من الآيات في مريم - لِمَا أراده اللّه من أمر عيسى - أن جعلها متقبَّلة في النذر فقال عزَّ وجلَّ : (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّه إِنَّ اللّه يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٧)

الأصل في العربية : بتقبُّل حسن ، ولكن قبول محمول على قوله قَبِلَهَا

قَبُولاً حسناً ، يقال : قَبِلْتُ الشيءَ قَبولاً حَسَناً ، (ويجوز قُبُولا) إذا رَضِيتَهُ.

وقَبِلَتْ الريح قَبُولاً وهي تَقْبُل ، وقَبِلْت بالرجل أقْبَلُ قبالةْ ، أي كفلت به ، وقد روى قَبِلْتُ بالرَجل في معنى كفلت به على مثال فَعِلت ، ويقال : سقى فلان إبله قَبَلاً . أي صب الماءَ في الحوض وهي تشرب منه فأصابها ، وكل ما

عاينت قلت فيه أتَاني قُبُلا ، أي معاينة ، وكل ما استقبلك فهو قبل (بالفتح).

وتقول لا أكملك إِلى عشر من ذي قِبَل وقَبَل ،  قَبَل إلى عشر مما

نشاهده من هذه الأيام ، ومعنى " قَبِل " عشر نَسْتَقْبلها ، ويقال : قَبلت العين تقبل قبلا إذا أقبل النظر على الأنف.

وقوله عزَّ وجلَّ : ( يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (٥٥).

وقِبَلا وقَبَلا : كله جائز ، فمن قرأ (قُبُلا) فهو جمع قَبِيلٍ وقُبُل مثل رَغيفَ

ورُغُف ،  :  يأتيها العذاب ضُروباً ومن قرأ " قِبَلا " بالكسر فالمعنى :

 يأتيهم العذاب معاينة ، ومن قرأ (قَبَلًا) بالفتح فالمعنى : ( يأتيهم

العذاب مقابلا ، والقَبْلة : جمع قَبْل شبيهة بالفَلْكةِ ، أي بفلكة المِغزل تكون

في القلادة.

ومعنى : (وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) أي جعل نشوءَها نشوءًا حسناً ، وجاءَ " نباتا "

على غير لفظ أنبت ، على معنى نبت نباتاً حسناً.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا).

في هذا غير وجه ، يجوز : (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاءُ) - بالمدّ - ، " كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّاءُ " ، (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) - بالقصر " كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا " بالقصر.

وفي (زَكَرِيَّا)ثلاث لغات هي المشهورة المعروفة - زكرياءُ بالمد

وزكريا - بالقصر غير منون في الجهتين جميعاً ، وزكريّ بحذف الألف معرب

منون . فإما ترك صرفه فلأن في آخره ألفى التأنيث في المد . وألف التأنيث

في القصر ، وقال بعض النحويين : إنه لَم يُصرف لأنَّه أعجميّ ، وما كانت فيه ألف التأنيث فهو سواء في العربية والعجمية . لأن ما كان أعجميا فهو

يتصرف في النكرة ، ولا يجوز أن تصرف الأسماءُ التي فيها ألف التأنيث في

معرفة ولا نكرة لأن فيها علامةَ التأنيث وأنها مصوغة مع الاسم صيغة

واحدة ، فقد فارقت هاءَ التأنيث فلذلك لم تصرف في النكرة.

ويجوز (كفلها زكرياءَ) بنصب زكرياء ، ويجوز في هذا الموضوع زكريا بالقصر ، فمن قرأ (كَفَّلَهَا زَكَرِيَّاءُ) رفعه بفعله ،

فالمعنى فيما ذكر أبو عبيدة ضمنها ، ومعناه في هذا

ضمن القيام بأمرها.

ومن قرأ (كفلها زكرياءَ) بالنصب - فالمعنى : وكفلها اللّه

زكرياءَ ، وأما اللغة الثالثة فلا تجوز في القرآن لأنها مخالفة المصحف ، وهي

كثيرة في كلام العرب.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ).

القصر والمد في زكريا . والقراءَة بهما كثيرة كما وصفنا

و (المحراب) : أشرف المجالس والمقدم فيها ، وقد قيل إن مساجدهُمْ كانت تسمى المحاريب ، والمحراب في اللغة الموضع العالي الشريف.

قال الشاعر :

ربَّة محراب إذا جئتها . . . لم ألقها أوأرتقى سلما

ومنه قوله عزَّ ونجل : (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (٢١)

ونصب (كُلَّمَا ب (وجد) أي يجد عندها الرزق في كل وقت يدخل عليها

المحراب - فيكون ما مع دخل بمنزلة الدخول - أي كل وقت دخول.

وقوله عزَّ وجلَّ (قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ).

أي من أين لك هذا.

(هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّه).

وإِنما سأل زكريا عن الرزق لأنه خاف أن يأتيها - من غير جهته فتبين عنده

أنه من عند اللّه ، وذلك من آيات مريم ، قال اللّه تبارك وتعالى :

(وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) فمن آياتها أنها أول امرأة قُبلت في نذر في المتعبد.

ومنها أن اللّه أنشأ فيها عيسى - عليه السلام - من كلمة ألقاها إليها ، ومنها أن اللّه عزَّ وجلَّ - غذاها برزق من عنده لم يجْرِهِ على يد عبد من عبيده ، وقد قيل في التفسير أنَّها لم تُلْقَمْ ثدياً قط.

ومعنى (إِنَّ اللّه يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).

أي بغير تقتير ، و (حساب). إِن شئت فتحت الأَلف وألزمتها جهة الفتح ، وإن شئت أملتها إِلى الكسر ، لانكسار الحاءِ ، وذلك كثير في لغة العرب.

* * *

٣٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٨)

(زكريا) - بالمدّ والقصر على ما وصفنا .  عند ذلك دعا زكريا ربَّه ، أي عندما صادف منِ أمر مريم ، ثئم سأل اللّه أن يرزقه ذرية طيبة.

و (هنالك) في موضع نصب لأنه ظرف يقع من المكان والأحوال - أحوال الزَّمان.

والمعنى في ذلك المكان من الزمان ومن الحال - دعا زكريا ربه كما تقول من

هنا قلت كذا وكذا ، ومن هنالك قلت كذا وكذا أي من ذلك الوجه وتلك

الجهَة ، وهذا في غير المكان على المثل جرى . وَكَسْرُ لام (هنالك) وقع لالتقاءِ السَاكنين لأنَّ هنالك إشارة إلى مكان متراخ ،  حال من أحوال الزمان نسبتها إِلى المكان وقال : (طيبة) للفظ ذرية.

و (هنالك) لا يجب أن يعرف في رفع ولا جر لأنه في الإشارة إِلى المكان

بمنزلة الإشارة في هذا وهذاك إِلى سائر الأشياءِ.

فهو مضارع للحروف التي جاءَت لمعنى .

٣٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّه يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّه وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩)

(فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ) و (فناداه الملائكةُ).

الوجهان جميعاً جائزان ، لأن الجماعة يلحقها اسم التأنيث ، لأن معناها معنى جماعة ، ويجوز أن يعبر عنها بلفظ التذكير . كما يقال جمع الملائكة.

ويجوز أن تقول نادته الملائكة وِإنما ناداه جبرائيل وحده لأن

أتاه النداءُ من هذا الجنس ، كما نقول ركب فلان في السفن ، وإنما ركب سفينة واحدة ، تريد بذلك جعل ركوبه في هذا الجنس.

ويجوز (أن اللّه يُبَشَرك) (إِن اللّه يُبَشِرُكَ) بفتح إن وكسرها فمن فتح

فالمعنى نادته بأن اللّه يبشرك أي نادته بالبشارة ، ومن كسر أراد قالت الملائكة : إن اللّه يبشرك . و (إنَّ) بعد القول أبداً مكسورة.

وفي (يبشرك) ثلاث لغات : (إِنَّ اللّه يُبَشِّرُكَ) بفتح الباءِ وتشديد الشين

وهي قراءَة كثيرة جدا ، ويبْشُرُكِ - بإسكان الباءِ وضم الشَين ، وقرأ حميد.

وحده " يُبْشِرُكِ " - بضم الياءِ وإسكان الباءِ وكسر الشين ، فمعنى يُبَشرك.

وَيبْشرك : البشارة ، ومعنى يُبشرك يسزك ويفرحك . يقال بشرت الرجل أبشره وأبشُرُه إذا افرَحته ، ويقال بَشُرَ الرجل يَبْشرُ.

وأنشد الأخفش والكسائي وجماعة من النحوين :

وإذا لقيت الباهشين إلى النَدا . . . غبراً أكفُّهُمْ بقاع مُمْحِل

فأعنهم وابْشُر بمَا بَشروا به . . . وإذا هم نزلوا بضنك فانزل

فهذا على بشر يبشُر إذا فرح ، وأصل هذا كله من أنَّ بشرة الإنسان تنبسط

عند السرور ، ومن هذا قولهم فلان يلقاني بِبشْرٍ ، أي بوجه منبسط.

ويحيى اسم سماه اللّه تعالى . تولى هو - عزَّ وجلَّ - ذلك ولم يسم أحد قَبْل

يحيى بيحيى ، ويحيى لا يتصرف عربيا كان  أعجميًّا ، لأنَّه إن كان أعجميا فقد اجتمع فيه العجمة والتعريف ولو كان عربياً لم ينصرف لشبهه بالفعل وأنه معرفة علم.

ونصب (مصدقاً) على الحال.

ومعنى (مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّه) أي يُصَدِّق بأمْر عيسى لأن يحيى فُرِضَ

عليه - وإن كان يحيى أسن من عيسى - اتباعُ عيسى.

ومعنى (سَيِّدًا وَحَصُورًا).

السيِّد الذي يفوق في الخير قومه ، ومعنى (حصوراً) أي لا يأتي النَساءَ ، وإنما

قيل للذي لا يأتي النَساءَ حصور لأنه حُبِسَ عما يكون من الرجال ، كما يقال في الذي لا يتيسر له الكلام قد حُصِرَ في منطقه ، والحصور الذي لا ينفق على

النَّدامى ، وهو ممن يُفْضِلْونَ عليه

قال الشاعر :

وشاربٍ مُربح بالكاس نادمني . . . لا بالحَصُور ولا فيها بسوار

ويروى ولا فيها بسَئار ، أني نادمني وهو كريم منفق على الندامي ، والسؤار

المُعَرْبِد يُساوِر نديمهْ أيَ يَثبُ عليه ، والسار الذي يُفْضِل في إنائه إذا شرب.

والحصور الذي يكتم السر ، أي يحبس السر في نفسه

قال جرير.

ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا . . . حَصِراً بسرك يا أميمَ ضنينا

والحصير هذا المرمُول الذي يُجلس عليه ، إنما سمي حصيراً لأنه

دوخل بعضه في بعض في النسيج أي حبس بعضه على بعض.

ويقال للسجْن الحصير لأنَّ الناس يُحصرون فيه ، ويقال حصرت الرجلَ إذا حبسته ، وأحصره المرض إِذا منعه من السير ، (والحصير الملك)

وقول اللّه - جل وعلا : (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) أي حبسا.

ويقال أصاب فلاناً حَصَرٌ.

إِذا احتبس عليه بطنه ، ويقال في البول أصابه أسر إذا احتبس عليه بوله.

ومعنى (مِنَ الصَّالِحِينَ) الصالح الذي يؤَدي إِلى اللّه ما عليه ويؤَدي إلى

الناس حقوقهم.

* * *

٤٠

وقوله جل وعلا : (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّه يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (٤٠)

أي كيف يكون لي غلام.

قال الكميت :

أنَّى وَمن أين آبك الطَرب من . . . حيث لا صبوة ولا لعب

أي : كيف ومن أين آبك الطرب.

ويقال كلام بين الغلوميَّة والغلاميَّة والغلومة.

وقوله جلّ وعلا : (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ).

بمعنى قد بلغت الكبر وفي موضع آخر (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا).

وكل شيءٍ صادفته وبلغته فقد صادفك وبلغك.

ومعنى (كَذَلِكَ اللّه يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ).

أي مثل ذلك يفعل اللّه الَّذِي يشاؤه . وإِنَّما سأل زكريا لأنَّه أحبَّ أن يعلم

أيأتِيه الولد وامراته عاقر وهو مسِنٌّ ، أم يجعله اللّه على هيئة من يولَدُ له ويجعل

امرأته كذلك ، أم يأتيها الولد وهما على الهيئةِ التي لَا يكون معها ولد ، فأعلمهما اللّه أنَّ ذلك هيِّن عليه كما أنشأهما ولم يكونا شيئاً ، وأنه يعطيهما الولد وهما في هذا السن.

ويقال في (عاقر) قد عقرَتْ المرأة وعَقَرَتْ ، وهي عاقر ، وهذا دليل أنَّ

عاقراً وقع على جهة النَسب ، لأنَّ فَعلتْ أسماءُ الفاعلين فيه على فعيلة.

نحو ظَرفت فهي ظريفة ، وإِنما عاقر له ذات عقر ، ويقال قد عقر الرجل يعقر

عقراً : إِذَا انقطع عليه الكلام من تعب وكلال.

والعَقار كل مال له أصل.

وقد قيل إِن النخل خاصّة يقال له عَقَار . وعُقْر دار قوم أصل - مُقَامِهِمْ الذي عليه مُعَوَّلهم ، وإِذا انتقلوا عنه لنُجعةٍ فرجوعهم إليه.

ويروى عن علي إنَّه قال : " ما

غزي قوم في عُقْرِ دارهم إلا ذُلُّوا " ، أي ما غُزُوا في المكان الذي هو أصل

لمقامهم.

* * *

٤١

قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٤١)

ومعنى (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً).

أي علامة أعلم بها الوقت الذي تهب له فيه الغلام.

(قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا).

أي علامة ذلك أن يُمْسَكَ لسانُك عن الكلام وأنت صحيح سَوِي

وقال في موضوع آخر : (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا)

أي وأنت سَوِي.

ومعنى الرمز تحريك الشفتين باللفظ من غير إِبانة بصوت إنما هو إشارة

بالشفتين ، وقد قيل أن الرمز هو إشارة بالعينين ،  الحاجبين والفم ، والرمز في اللغة كل ما أشرت به إِلى بيان بلفظ ، أي بأي شيء أشرت ، أبفم أم بيد أم بعينين والرّمز والترمز في اللغة الحركة والتحرك.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ).

قيل سبَّح : صل ، ويقال فرغت من سبحتي من صلاتي ، وإنما سميت

الصلاة تسبيحاً لأن التسبيح تعظيم اللّه وتبرئته من السوءِ فالصَّلاة يوحَّد اللّه

فيها ويحمد ، ويوصف بكل ما يبرئه من السوءِ فلذلك سُمَّيت الصلاة السَّبحة.

والإبكار يقال فيه أبكر الرجل يُبْكِر إبْكاراً ، وبَكَر يُبَكَر تبكيراً وبَكَر يبكر

في كل شيء يتقذَم فيه ، وقول الناس فيما تقدم من الثمار : " قد هَرِفَ " خطأ ، إنما هي كلمة تبطئة ، وإنما تقول العرب في مثل ذلك : قد بكَّر ، ويُسمَّى ما يكون منه الباكورة .

٤٢

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّه اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢)

معنى(اصطفاك) : اختارك ، وقالوا في طَهَّرَكِ- طَهَّرَكِ من الحيضِ والنفاس -

ومعنى طَهَّرَكِ - " واللّه أعلم - أي جعلك طاهرة من سائر الأدناس إلا أنَّ الأول قد جاءَ في التفسير.

وقيل إن معنى (اصطفاك على نساءِ العالمين)

أي على نساءِ أهل دهرها . وجائز أن يكون على نساءِ العالمين كلهم ، أي اختارك لعيسى على نساءِ العالمين كلهم ، فلم يجعل مثل عيسى من امرأة من نساءِ العالمين.

* * *

٤٣

يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)

ومعنى (اقْنُتِي لِرَبِّكِ) أيْ اعبديه بالقول والعمل.

(واسجدي واركعي) : معنى الركوع قيل السُّجود

 اركعي واسجدي ، إلا أن الواو إذا ذكرت فمعناها الاجتماع ، وليس فيها دليل أن أحد الشَيئين قبل الآخر . لأنها تْؤذن بالاجتماع ، والعمل ، والحال تدل على تقدم المتقدِّم من الإثنين . .

* * *

٤٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)

أي الأخبار التي قصصناها عليك في زكريا ويحيى ومريم وعيسى من أنباء

الغيب ، أي من أخبار ما غاب عنك ، وفي هذا دليل على تثبيت نبوة النَبي - صلى اللّه عليه وسلم - لأنه أنبأ بما لا يعلم إلا من كتاب  وحي وقد أجمعوا أن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - كان أمياً.

فإنباؤه إياهم بالأخبار التي في كتبهم علي حقيقتها من غير قراءَة الكتب دليل على أنه نبى وأن اللّه أوحى إليه بها.

ومعنى (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ).

أي هذا أيضاً مما لم تحضره ومعنى (الأقلام) ههنا القِدَاحُ وهي قداح جعلوا

عليها علامات يعرلون بها أيهم يكفل مريم على جهة القرعة - وإنما قيل للسهم القلم لأنه يقْلَمَ أي يبْرَى ، وكل ما قطعت منه شيئاً بعد شيء فقد قَلَمْتَه ، من ذلك القلم الذي يكتب به ، إنما سمي لأنه قلم مرة بعد مرة ، ومن هذا قلمت أظافري.

ومعنى (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ).

أي لينظروا أئهم تجب له كفالة مريم ، وهو الضمان للقيام بأمرها ، ومعنى

(لديهم) عندهم وبحضرتهم.

(ءذ يَخْتَصِمُونَ ) :

إذ نصب بقوله (مَا كُنتَ لَدَيْهمْ) و (إِذ) الثانية معلقة بـ (يختصمون) أي إذ

يختصمون إذ قالت الملائكة ، فإذ منصوبة بـ (يختصمون).

ويكون  أنهم اختصموا بسبب مريم وعيسى ، وجائز أن يكون نصب

إِذ على (وما كنت لديهم).

(إِذْ قَالَتِ المَلائِكة). هذا أيضاً مما لم يشاهده.

* * *

٤٥

(إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّه يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥)

سمّى اللّه عزَّ وجلَّ عيسى المسيح ، وسمّاه عيسى ، وسمي ابتداء أمره

كَلِمَةً (منه) فهو - صلى اللّه عليه وسلم - كلمة من اللّه ألقاها إلى مريم ، ثم كوَّن تلك الكلمة بشراً.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (اسْمُهُ) وإنما جرى ذكر الكلمة لأن معنى الكلمة معنى

الولد ،  أن اللّه يبشرك بهذا الولد ، (وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).

(وَجِيهًا) منصوب على الحال ، والوجيه الذي له المنزلة الرفيعة عند ذوي

القَدْر والمعرفة ، ويقال قد وَجُهَ الرجلُ يَوْجُه وَجَاهة ، ولفلان جَاهٌ عند الناس

ووجاهة عند الناس ، أي منزلة رفيعة.

وقال بعضُ النحوييِن : (وَجِيهًا) منصوب

على القطع من عيسى ، وقطع ههنا كلمة محال ، لأنه إنما بُشَر به في هذه الحال ، أي في حال فضله فكيف يكون قطعها منه ، ولم يقل لم نصب هذا القطع ، فإن كان القطع إنما هو معنى ، فليس ذلك  موجوداً في هذا اللفظ ، وإن كان القطع هو العامل فما بَينَّ ما هو ، وإن كان أراد أن الألف واللام قُطِعَا منه فهذا محال لأنَّ جميع الأحوال نكرات والألف واللام لمعهود ، فكيف يقطع من الشيء ما لم يكن فيه قَط.

* * *

٤٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦)

معطوف على (وجيهاً) ،  يبشرك به وجيهاً ومكلماً الناس في المهد.

وجائز أن يعطف يفعل على فاعل ، لمضارعه بفعل فاعل.

قال الشاعر :

بات يعيشها بغضب باتر . . . يقصد في أسواقها وجائر

(وَكَهْلاً)

أي ويكلم الناس كهلا ، أعلمها اللّه أن عيسى يبقى إلى حال الكهولة.

وقيل إن كهلا ، أي ينزل من السماءِ لقتل الرجال وهو كهل - واللّه أعلم.

* * *

٤٧

قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّه يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧)

ومعنى (كَذَلِكِ اللّه يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ).

أي يخلق اللّه ما يشاءُ مثل ذلك.

٤٨

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨)

أي يعلمه ذلك وحياً وإلهاماً.

* * *

٤٩

وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّه وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّه وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩)

ونصب (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) على وجهين -

أحدهما ويجعله رسولا إلى بني إسرائيل ، والاختيار عندي - واللّه أعلم -

ويكلم الناس رسولًا إلى بني إسرائيل والدليل على ذلك أنَّه قال :

(أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ).

فالمعنى - واللّه أعلم - ويكلمهم رسولا بأني قد جئتكم بآية من ربكم ، ولو

قرئت إني قد جئتكم - بالكسر - كان صواباً ،  إِني قد جئتكم بآية من ربكم - أي بعلامة تثبت رسالتي.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ).

يصلح أن يكون خفضاً ورفعاً ، - فالخفض على البدل من (آية)

جئتكم بأَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ ، وجائز أن يكون "إنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ"

يخبرهم بهذه الآية ما هي أي أقول لكم أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كهيئة الطير.

يقال إنَّه صنع ؛ كهيئة الخفاش ونفخ فيه فصار طيراً ، وجاز أن يكون فأنفخ

فيه للفظ الطين ، وقال في موضع آخر (فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي)

للفظ الهيئة.

(وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّه).

(الْأَكْمَهَ) الذي يولد أعمى.

قال الراجز

هرجت فارتد ارتداد الأكمه

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ).

أي اخبركم بمأكولكم ، فجائز أن تكون (ما) ههنا في موضع الذي.

والمعنى أنبئكم بالذي تأكلونه وتدخرونه ، ويجوز أن يكون " ما " وما وقع بعدها بمنزلة المصدر.

 أنبئكم بأكلكم وادخاركم والأول أجود.

ومعنى تدخرون : جاءَ في التفسير : ما تأكلون في غدوكم.

وتدخرون بالدال والذال.

وقال بعض النحوين إِنما اختير تدخرون لأن التاءَ تدغم في الذال نحو تَذَكرُونَ ، فكرهوا تذخرون لأنه لا يشبه ذلك ، فطلبوا حرفاً بين التاء والذال فكان ذلك الحرف الدال.

وهذا يحتاج صاحبه إلى أن يعرف الحروف المجهورة والمهموسة :

وهي فيما زعم الخليل ضربان : فالمَهْجُورةُ حرْف أشْبع الاعتماد عليه في

موضعه ، ومنع النفس أن يجري معه ، والمهمُوسُ حرف أضعف الاعتماد

عليه في موضعه وجرى معه النفس.

وإنما قيل (تَدَّخِرُونَ) وَأصْله تذخرون : أي يفتعلون من الذخْر ، لأن الذال

حرف مجهور لا يمكن النفس أن يجري معه لشدة اعتماده في مكانه والتاء

مهموسة ، فأبدل من مخرج التاءِ حرف مجهور يشبه الذال في جَهْرِها وهو الدال.

فصار تَذْدَخِرُون . ثم أدْغِمَتْ الذال في الدال ، وهذا أصل الإدغام أن تُدغِم

الأول في الثاني ، وتذخِرون جائز - فأما ما قال في الملبس فليس تذخرون ملبساً بشيءٍ .

٥٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللّه وَأَطِيعُونِ (٥٠)

نُصِبَ (مُصَدِّقًا) على الحال ،  وجئتكم مصدقاً لما بين يدي أي

للكتاب الذي أنزِل قبلي فهو أمري أن تتبعوني.

(وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)

أي لم احل لكم شيئاً بغير برهان ، فهو حق عليكم اتباعي لأني أنَبئكُمْ

ببرهان ، وتحليل طيبات كانت حرمت عليكم.

(فَاتَّقُوا اللّه وَأَطِيعُونِ) : أي اتبعوني.

قال أبو عبيدة معنى : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ).

قال معناه : كل الذي حرم عليكم ، وهذا مستحيل في اللغة وفي التفسير

وما عليه العمل . فَأمَّا اسْتِحَالته في اللغَةِ فإن البعض والجزءَ لا يُكونُ الكُل

وَأنْشَدَ في ذلك أبُو عُبيدةَ بيتاً غلط في معناه وهو قولُ لبيد :

تَراك مَنْزِلَةٍ إذَا لمْ أرْضَهَا . . .  يَعْتَلِقْ بَعْضَ النفوس حِمَامُها

قال :  "  يَعْتَلِقْ كل النفوس حمامها"

وهذا كلام تستعمله الناس ، يقول القائل : بعضنا يعرفك يريد أنا أعرفك ، فهذا إنما هو تبعيض صحيح.

وإنما جاءَهم عيسى بتحليل ما كان حراماً عليهم.

قال اللّه عزَّ وجلَّ : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) وهي نحو الشحوم وما يتبعها في التحريم ، فأما أن يكون أحَل لهم القتل والسرِقَةَ والزَنَا فمحال .

٥١

ومعنى : (إِنَّ اللّه رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)

(هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)

أي هذا طريق الدين مستوياً.

* * *

٥٢

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللّه قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللّه آمَنَّا بِاللّه وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢)

معنى أحسَّ فى اللغةَ علمَ وَوَجَدَ ، ويقال هل أحَسْتَ في معنى هل

أحْسَسْتَ ويقال حَسَيْت بالشيء إذا عَلِمْته وعرفتُه "

وأنشد الأصمعي :

سِوى أنَّ العِتاقَ من المطايا . . . أَحَسْنَ به فَهُنَّ إليه شُوسُ

ويقال حَسَّم القائِد ، أي قَتَلَهمْ.

ومعنى : (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللّه).

جاءَ في التفسير من أنْصاري مع اللّه ، و (إلى) ههنا إنما قاربت (مع)

معنى بأن صار اللفظ لو عبر عنه بـ " مع " أفاد مثل هذا  ، لا أنَ (إلى)

في معنى " مع " لو قلت ذهب زيد إلى عمرو لم يجز ذهب زيد مع عمرو ، لأن

(إلى) غاية و " مع " تضم الشيءَ إلى الشيءِ فالمعنى : يضيف نصرته إياي إلى

نصرة اللّه.

وقولهم إنَّ ، (إلى) في معنى (معَ) ليس بِشيءٍ . والحروف قد تقاربت في

الفائدة.

فَيَظن الضعيف العِلم باللغة أن معناهما واحد .

من ذلك قوله جلَّ وعزَّ : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) ولوكانت (على)

ههنا . لأدَّت هذه الفائدة ، لأنك لو قلت لأصلبنكم على جذوع النخل كان

مستقيماً.

وأصل (في) إنما هو للوعاءِ ، وأصل " على " لِمَا مع الشيء.

كقولك : التمر في الجراب . ولو قلت التمر على الجراب لم يصلح في هذا

 ، ولكن جازَ (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) لأن الجذْعَ يشتمل

على المَصْلوب ، لأنه قد أخذه من أقطاره . ولو قلت زيد على الجبل وفي

الجبل يصلح ، لأن الجبل قد اشتمل على زيد ، فعلى هذا مجاز هذه

الحروف.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللّه).

قال الحذاق باللغة : (الحواريون) : صفوة الأنبياءِ عليهم السلام الذين

خلصوا وأخلصوا في التصديق بهم ونصرتهم فسماهم اللّه جلَّ وعزَّ : (الحواريون) وقد قيل أنهم كانوا قَصارين فسموا الحواريين لتبييضهم الثياب ، ثم صار هذا الاسم يستعمل فيمن أشبههم من المصدقين تشبيهاً بهم.

وقيل إِنهم كانوا ملوكاً وقيل كانوا صيادين ، والذي عليه أهل اللغة أنهم الصفوة كما أخبرتك.

ويروى عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - إنَّه قال : الزبير ابن عمتي وحَوَارِيِّي من أمتي.

ويقال لنساءِ الأنصار حَوارياتٌ ، لأنهن تباعدن عن قشف الأعرابيات بنظافتهن.

وأنشد أبو عبيدة وغيره لأبي جلدة اليشكري

فقل للحواريات يبكين غيرنا . . . ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح

وقال أهل اللغة في المحور وهو العود الذي تدور عليه البكرة قولين.

قال بعضهم : إِنما قيل له محور للدوران لأنه يرجع إلى المكان الذي زال منه ، - وقيل إِنما قيل له محور لأنه بدورانه ينصقل حتى يصير أبيض ، ويقال دقيق

حُوَّارَى من هذا أي قد أخذ لبابه وكذلك عجين مُحَوَّرٌ للذي يمسح وجهه

بالماءِ حتى يصفو ، ويقال عين حوراءَ إِذا اشتد بياضها وخلص واشتد سوادها ، ولا يقال امرأة حوراءَ إِلا أن تكون مع حور عينها بيضاءَ ، وما روي ، في

الحديث : " نعوذ باللّه من الحَوَرِ بعد الكوَرِ "

معناه نعوذ باللّه من الرجوع والخروج عن الجماعة بعد الكوَرِ.

أي بعد أن كنا في الكور ، أي في الجماعة يقال كارَ الرجل عمامة إِذا لفَّها على رأسه ، وحار عمامَتَهُ إذا نقضها ، وقد قيل : " بعد الكون " ومعناه بعد أن كنا على استقامة ، إلا أن مع الكون محذوفاً في الكلام

دليلاً علبه.

* * *

٥٣

رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣)

وأما معنى  (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)

أي اكتبنا مع الذين شهدوا للأنبياءِ بالتصديق ، وحقيقة الشاهد أنه الذي

يبين تصحيح دعوى المدعي ، فالمعنى صدقنا باللّه واعترفنا بصحة ما جاءَ به

النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وثَبَتْنَا ، فاكتبنا مع من فعل فعلنا.

* * *

٥٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّه وَاللّه خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٥٤)

الْمَكْرُ مِنَ الخلائق خِبٌّ وخداع ، والمكر من اللّه المجازاة على ذلك

فسمي باسم ذلك لأنه مجازاة عليه كما قال - عزَّ وجلَّ :

(اللّه يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) . فجعل مُجازَاتِهِمْ على الاستِهْزَاء بالْعذَابِ ، لفظُه لفظُ الاستهزاءَ.

وكما قَالَ جَل وعز : (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) فالأولى سيئة والمجازاة

عليها سُمِّيَتْ باسْمِهَا ، وليست في الحقيقة سَيئَةً.

وجائز أنْ يكونَ مَكْرُ اللّه اسْتِدْرَاجُهُمْ من حيث لا يعلمون لأن اللّه سلَّطَ

عليهم فَارسَ فغلبتْهم وَقَتَلَتْهمْ ، والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ :

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ).

وقيل في التفسير أيضاً إن مكر اللّه بهم كان فِي أمْرِ عيسى أنه - صلى اللّه عليه وسلم - كان في بيت فيه كوة فدخل رجل ليقتله ، ورفع عيسى من البيتِ وخرج الرجل في شَبَهِهِ يخبرهم أنهُ ليْس في البيت فقتلوه.

وجملة المكر من اللّه مجازاتُهم على ما فعلوا.

* * *

٥٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِذْ قَالَ اللّه يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥)

(عِيْسَى) اسم أعْجَمِي عدل عن لفظ الأعجميةِ إِلى هذا البناءِ ، وهو غير

مصروف في المعرفة لاجتماع العجمية والتعريف فيه . ومثال اشتقاقه من كلام

العَربِ أنَّ عِيسى : فِعْلىَ ، . فالألف يصلح أنْ تكون للتأنِيث ، فلا تتصرف في معرفة ولا نكرة ، ويكون اشْتِقاقه مِنْ شيئين ، أحَدُهمَا العَيَس ، وهو بياضٌ

الإبل ، والآخر من العَوْس والعيَاسةِ إلا أنه قلبت الواو يا لانكسار ما قبلها.

فأمَّا عيسى عليه السلام فَمَعْدول من يَشوع - كذا يقول أهل السريانية.

وقال النحويون في معنى قوله عزَّ وجلَّ : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ).

التقديم والتأخير -  إني رافعك ومطهرك ومتوفيك (١).

وقال بعضهم :  على هذا اللفظ كقوله - عزَّ وجلَّ - (اللّه يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)

فالمعنى على مذْهب هؤُلاءِ - أن الكلام على هذا اللفظ.

ومعنى (وَجَاعِلُ الذِينَ اتَبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا).

القِرَاءة : بطرح التنوين ، والتنوين جائز ، ولكن لا تقرأ به إلا أن تكون

ثبتت بذلك رواية.

ومعنى : (فَوْقَ الًذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).

فيه قولان : أحدهما أنهم فوقهم في الحجة وإقامة البرهان والآخر أنهم

فوقهم في اليد والبسطة والغلبة ، ويكون (الذين اتبعوك) محمداً - صلى اللّه عليه وسلم - ومن اتبعه فهم منصورون عَالون.

* * *

٥٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٥٦)

العذاب في الدنيا القتل الذي نالهم وينالهم ، وسبي الذاري وأخذ

الجزية ، وعذاب الآخرة ما أعده اللّه لهم من النار.

__________

(١) قال الإمام فخر الدين الرَّازي ما نصُّه :

الصفة الأولى : إِنّي مُتَوَفّيكَ ونظيره قوله تعالى حكاية عنه فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [ المائدة : ١١٧ ] واختلف أهل التأويل في هاتين الآيتين على طريقين أحدهما : إجراء الآية على ظاهرها من غير تقديم ، ولا تأخير فيها

و

الثاني : فرض التقديم والتأخير فيها.

أما الطريق الأول فبيانه من وجوه

الأول : معنى قوله إِنّي مُتَوَفّيكَ أي متمم عمرك ، فحينئذ أتوفاك ، فلا أتركهم حتى يقتلوك ، بل أنا رافعك إلى سمائي ، ومقربك بملائكتي ، وأصونك عن أن يتمكنوا من قتلك وهذا تأويل حسن

و

الثاني : مُتَوَفّيكَ أي مميتك ، وهو مروي عن ابن عباس ، ومحمد بن إسحاق قالوا : والمقصود أن لا يصل أعداؤه من إليهود إلى قتله ثم إنه بعد ذلك أكرمه بأن رفعه إلى السماء ثم اختلفوا على ثلاثة أوجه أحدها : قال وهب : توفي ثلاث ساعات ، ثم رفع

وثانيها : قال محمد بن إسحاق : توفي سبع ساعات ، ثم أحياه اللّه ورفعه

الثالث : قال الربيع بن أنس : أنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء ، قال تعالى : اللّه يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا [ الزمر : ٤٢ ].

الوجه الرابع : في تأويل الآية أن الواو في قوله مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ تفيد الترتيب فالآية تدل على أنه تعالى يفعل به هذه الأفعال ، فأما كيف يفعل ، ومتى يفعل ، فالأمر فيه موقوف على الدليل ، وقد ثبت الدليل أنه حي وورد الخبر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : « أنه سينزل ويقتل الدجال » ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك.

الوجه الخامس : في التأويل ما قاله أبو بكر الواسطي ، وهو أن المراد إِنّي مُتَوَفّيكَ عن شهواتك وحظوظ نفسك ، ثم قال : وَرَافِعُكَ إِلَىَّ وذلك لأن من لم يصر فانياً عما سوى اللّه لا يكون له وصول إلى مقام معرفة اللّه ، وأيضاً فعيسى لما رفع إلى السماء صار حاله كحال الملائكة في زوال الشهوة ، والغضب والأخلاق الذميمة.

والوجه السادس : إن التوفي أخذ الشيء وافياً ، ولما علم اللّه إن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه اللّه هو روحه لا جسده ذكر هذا الكلام ليدل على أنه عليه الصلاة والسلام رفع بتمامه إلى السماء بروحه وبجسده ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى : وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء [ النساء : ١١٣ ].

والوجه السابع : إِنّي مُتَوَفّيكَ أي أجعلك كالمتوفى لأنه إذا رفع إلى السماء وانقطع خبره وأثره عن الأرض كان كالمتوفى ، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن.

الوجه الثامن : أن التوفي هو القبض يقال : وفاني فلان دراهمي وأوفاني وتوفيتها منه ، كما يقال : سلم فلان دراهمي إلي وتسلمتها منه ، وقد يكون أيضاً توفي بمعنى استوفى وعلى كلا الاحتمالين كان إخراجه من الأرض وإصعاده إلى السماء توفياً له.

فإن قيل : فعلى هذا الوجه كان التوفي عين الرفع إليه فيصير قوله وَرَافِعُكَ إِلَىَّ تكراراً.

قلنا : قوله إِنّي مُتَوَفّيكَ يدل على حصول التوفي وهو جنس تحته أنواع بعضها بالموت وبعضها بالإصعاد إلى السماء ، فلما قال بعده وَرَافِعُكَ إِلَىَّ كان هذا تعييناً للنوع ولم يكن تكراراً.

الوجه التاسع : أن يقدر فيه حذف المضاف والتقدير : متوفي عملك بمعنى مستوفي عملك وَرَافِعُكَ إِلَىَّ أي ورافع عملك إلي ، وهو كقوله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب [ فاطر : ١٠ ] والمراد من هذه الآية أنه تعالى بشّره بقبول طاعته وأعماله ، وعرفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق في تمشية دينه وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يضيع أجره ولا يهدم ثوابه ، فهذه جملة الوجوه المذكورة على قول من يجري الآية على ظاهرها.

الطريق

الثاني : وهو قول من قال : لا بد في الآية من تقديم وتأخير من غير أن يحتاج فيها إلى تقديم  تأخير ، قالوا إن قوله وَرَافِعُكَ إِلَىَّ يقتضي إنه رفعه حياً ، والواو لا تقتضي الترتيب ، فلم يبق إلا أن يقول فيها تقديم وتأخير ، والمعنى : أني رافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك في الدنيا ، ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرآن.

واعلم أن الوجوه الكثيرة التي قدمناها تغني عن التزام مخالفة الظاهر ، واللّه أعلم.

أ هـ مفاتيح الغيب حـ ٨ صـ ٦٠ - ٦١

(وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ).

أي ما لهم من يمنعهم في الدنيا لأن اللّه - عزَّ وجلَّ - قد أظهر الإسلام

على دينهم وجعل الغَلَبة لأهله ، ولا أحد ينصرهم في الآخرة من عذاب اللّه.

* * *

٥٧

وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّه لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧)

ومعنى : (وَاللّه لَا يُحِب الظَّالِمِينَ).

أي لا يرحمهم ، ويعذبهم ولا يثني عليهم خيراً ، هذا معنى البغض من

اللّه ، ومعنى المحبة منه الرحمة والمغفرة والثناءَ والجميل.

* * *

٥٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)

أي القصيص الذي جرى نتلوه عليك.

(مِنَ الآياتِ).

أي من العلامات البينات الدلالات على تثبيت رسالتك إِذ كانت أخباراً

لا يعلمها إلا قارئُ كتاب  مُعلَّم  من أوْحيت إليه

وقد علم أن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - كان أمِّيًّا لا يكتب ولا يقرأ الكتب على جهله النظر فيها والفائدة منها . فإنه - صلى اللّه عليه وسلم - لم يعلمه أحد من الناس فلم يبق إلا الوحي ، والإخبار

بهذه الأخبار التي يجتمع أهل الكتاب على الموافقة بالإخبار بها - من الآيات

المعجزات.

ومعنى (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) : أي ذو الحكمة في تأليفه ونظمه وإبانة الفوائد

فيه ويصلح أن تكون (ذلك) في معنى الذي ويكون (نتلوه) صلة ، فيكون

الذي نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم فيكون ذلك ابتداء والخبر من

الآيات.

* * *

٥٩

وقوله جلَّ وعزَّ : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩)

(آدم) قد بيَّنَّا أنه لاينصرف وأن اِسمه مأخوذ من أديم الأرض وهو وجهها.

ولذا يقال لذي اللون الذي يشبه لون الأرض آدم.

و (خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ) ليست بمتصلة بآدم ، إنما هو مبين قصة آدم ولا يجوز في الكلام أن تقول مررت بزيد قام ، لأن زيداً معرفة لا يتصل به قام ولا يوصل به ولا يكون حالًا ، لأن الماضي لا يكون حالاً أتت فيها ، ولكنك تقول : مثلك مثل زيد ، تريد أنك تشبهه في فعله.

ثم تخبر بقصة زيد فتقول : فعل كذا وكذا.

وإنما قيل إن مثله كمثل آدم لأن اللّه أنشأ آدم من غير أب ، خلقه من تراب ، فكما خلق آدم من غير أب كذلك خلق عيسى عليه السلام.

ويروى في التفسير أن قوماً من نصارى نجران صاروا إلى النَبِى - صلى اللّه عليه وسلم - فقالوا له : إِنك دسبَبْتَ صاحبنا ، قال ومن صاحبكم ؟

قالوا : عيسى . قال : وما قلت فيه ؟

قالوا : قلت إنه عبد . فقال - صلى اللّه عليه وسلم - : ما ذلك بعار على أخي ولا نقيصة ، هو عبد وأنا عبد ، قالوا : فأرنا مثله فأنزل اللّه تبارك وتعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ) إلى آخر الآية.

* * *

٦٠

وقوله جلَّ وعزَّ : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠)

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ)

مرفوع على أنه ، خَبرُ ابْتِدَاءَ مَحْذوف.

 الذي أنْبَانَاك به في قِصة عيسى عليه السلام هو الحق من ربك.

(فَلَا تَكُنْ مِنَ المُمْتَرِينَ) : أي من الشكاكين ، والخطاب للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - خِطَاب

للخلق ، لأن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - لم يشكك في قصة عيسى ، ومعنى (مِنْ رَبِّكَ) أي أتَاك من عِنْدَ ربك.

* * *

٦١

وقوله جلَّ وعزَّ : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّه عَلَى الْكَاذِبِينَ (٦١)

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ)

أي في عيسى.

(مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ).

قيل له هذا بعد أن أوحِيَتْ إِليه البراهين والحجَجُ الْقَاطِعَة في تَثْبِيتِ أمرِ

عيسى إنَّه عبد ، فأمِرَ بالمُبَاهَلَةِ بعد إقامة الحجة ، لأن الحجة قد بلغت النهاية

في البيان فأمر اللّه أن يجتمع هو والنساء والأبناء من المؤمنين ، وأن يدعوهم إلى أن يتجمعوا هم وآباؤهم ونساؤُهم ، ثم يبتهلون ومعنى الابتهال في اللغة المبالغة في الدعاءِ ، وأصله الالتعان ويقال بَهَلَهُ اللّه أي لَعَنَهُ اللّه ، ومعنى لَعَنَة اللّه باعَدَهُ اللّه من رحمته ، يقال : ناقة بَاهل وباهلة إذا لم يكن عليها صِرَار ، وقد أبهل الرجل ناقته إذا تركها بغير صرار ورجل باهل إذا لم يكن معه عصا . فتأويل الْبَهْل في اللغة المباعدة والمفارقة للشيء.

فدعاهم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - إلى المباهلة لأمرين كلاهما فيه بيان أن علماءَهم قد وقفوا على أن أمر النبي - صلى اللّه عليه وسلم - حق لأنهم إذْا أبوا أن يلاعنوا دل إِباؤُهم على أنهم قد

علموا أنهم إن باهلوه نزل بهم مكروه ، وأنهم إِذا تركوا المبالهة دل ذلك ضَعَفَهمْ.

ومن لا علم عنده أن فرارهم من المباهلة دليل على أنهم كاذبون ، وأن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - صادق ، وقيل إِن بعضهم قال لبعض : إن باهلتموه اضطرم الوادي عليكم ناراً ولم يبق نصراني ولا نصرانية إلى يوم القيامة.

ويروى عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أنَّه قال :

" لو باهلوني لاضطرم الوادي عليهم ناراً ، وما بقي نصراني ولا نصرانية إلى يوم القيامة ".

وهذا مكان ينبغي أن يُنْعَمَ النظر فيه ، ويعلم المؤمنون بيان ما هو عليه.

وما عليه من الضلال مَنْ خالفهم ، لأنهم لم يَروِ أحَدٌ أنهم باهلوا النبي - صلى اللّه عليه وسلم - ولا أجابوا إلى ذلك.

* * *

٦٢

ومعنى قوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللّه وَإِنَّ اللّه لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢)

أي إن هذا الذي أوحينا إليك من هذه البينات والحجج التي آتيناك لهو

القصص الحق ، ويصلح أن تكون (هو) ههنا فصلًا ، وهو الذي يسميه الكوفيون عماداً ، ويكون القصص خبر أن ، ويصلح أن يكون (هو) ابتداء ، والقصص خبره ، وهما جميعاً خبر (إنَّ).

ومعنى (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللّه) من دخلت توكيداَ . ودليلاً على نفي جميع من

ادعى المشركون أنهم آلهة . أي إن عيسى ليس بإله ، لأنهم زعموا إنَّه إله ، فأعلم اللّه عزَّ وجلَّ أن لا إله إلا هو ، وأن من آتاه اللّه آيات يعجز عنها المخلوقون فذلك غير مخرج له من العبودية للّه ، وتسميته إلهاً كفر باللّه.

ومعنى (الْعَزِيزُ) : هو الذي لا يعجزه شيء.

و (الْحَكِيمُ) : ذو الْحكمة الذي لا يأتي إِلا ما هو حكمة.

* * *

٦٣

وقوله جلَّ وعزَّ (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)

أي فإن أعرضوا عما أتيت به من البيان فإِن اللّه يعلم من يفسد من خلقه فيجازيَهُ على إِفساده.

* * *

٦٤

وقوله جلَّ وعزَّ : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللّه وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّه فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)

معنى (سواءٍ) معنى عدل ، ومعنى كلمة كلام فيه شرح قصة وإن طال.

وكذلك يقول العرب للقصيدة كلمة.

يروى أن حسان بن ثابت الأنصاري كان إِذا قيل له أنشد قال للقائل :

هل أنْشِدَتْ كلمة الحويدرة ، يعني قصيدته التي أولها :

بكرت سمية بكرة فتمتعي

ويقال للعدل سواء وسَوَى وسُوًى.

قال زهير بن أبي سلمى :

أروني خطة لا ضيم فيها . . . يسوي بيننا فيها السواءُ

فإن تُرِك السَّوَاءُ فليس بيني . . . وبينكم بني حِصنٍ بناءُ

يريد بالسواءِ العدل كذا يقول أهل اللغة ، وهو الحق.

- وهو من استواء الشيءِ ، ولو كان في غير القرآن لجاز : سواءً بيننا وبينكم ، فمن قاك سواءٍ جعله نعتاً للكلمة يريد ذات سواءٍ ، ومن قال سواءً جعله مصدراً في معنى استواءً ، كأن قال : استوت استواءً.

وموضع (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللّه).

موضع " أن " خفض على البدل من كلمة.

 تعالوا إلى أن لا نعبد إلا اللّه ، وجائز أن تكون أن في موضع رفع ، كأن

قائلًا قال : ما الكلمة ؟

فأجيب فقيل هي ألا نعبد إلا اللّه ، ولو كان أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللّه ولا نشركُ به شيئاً لجاز على أن يكون تفسيراً للقصة في تأويل أي كأنهم

قالوا : أي لا نعبد إلا اللّه - كما قال عزَّ وجلَّ : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) وقَال قَومٌ معنى أن ههنا معنى يقولون امشوا ، والمعنى واحد لأن

القول ههنا تفسير لما قصدوا له وكذلك " أي يفسَّر بها ، ولوكان

(أَلَّا نَعْبُدْ إِلَّا اللّه) بالجزم لجاز على أن يكون " أن " كما فَسَّرنا في تأويل أي" ، ويكون (أَلَّا نَعْبُدْ) على جهَةِ النهْي ، والمنْهِي هو الناهِي في الحقيقة

كأنَّهم نهَوْا أنفُسُهُمْ.

ومعنى (وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّه).

أي نرْجعُ إلى أن معبودنا اللّه ، وأن عيسى بشر ، كما أننا بشر فلا نَتخِذْهُ

ومعنى (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).

أي مُقِرونَ بالئوحيد مستسلمون لما أتتْنَا بِهِ الأنْبياءُ من قِبل اللّه عزَّ وجلَّ.

* * *

٦٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٥)

في هذا يبين حجة على إليهود والنصارى جميعاً ، لأن إليهود تدعي أن

إبْرَاهِيمَ كان يهودياً والنصارى تدعي أنَّه كان نصرانياً ، وتدفع إليهود عن

دعواهم ، وليْسَ يَدفَعُونَ اسمَ صفتِهِ أنهُ كان مُسْلِماً ، وأنه لم يَكنِ اسْمُهُ يَهُودِيا ولا نصرانيا ولا مُشْركاً ، والتوراةُ والإنجيلُ أنزلَا مِنْ بعْدهِ ؛ وليس فيهما اسمه بواحد من أديان إليهود والنصارى والمشركين ، واسم الإسلام له في كل الكتب ؛ فَدَفْعُ بعضِهِم بعضاً أن يكون مُسمَّى بالاسْماء التي هي غيْر الإسْلام دليل بَينٌ

على نقض قولهم ، وبرهان بَين في تبرئة إبراهيم من سائر الأديَان إلا دين

الإسلام.

* * *

٦٧

(مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧)

ومعنى (حنِيفاً مُسْلِماً).

معنى الحنف في اللغة إقبال صُدُور القَدميْن كل واحدة على أختها إقبالاً

يكون خلقةً لا رجوع فيه أبداً ، فمعنى الحنيفية في الإسلام الميل إليه والإقامة على ذلك العقد.

* * *

٦٨

وقوله جلَّ وعزَّ : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللّه وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)

أي فهم الذين ينبغي لهم أن يقولوا إنا على دين إبراهيم

ولهم ولاية.

(وَاللّه وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ). أي يتولى نصرهم لأن حزبهم هم الغالبون ، ويتولى

مجازاتهم بالْحُسْنى.

* * *

٧٠

وقوله جلَّ وعزَّ : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّه وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠)

أي وأنتم تشهدون أنها آياتُ اللّه لأنكم كُنْتُمْ تُخْبرُونَ بأمْر النبي - صلى اللّه عليه وسلم - قبل مَبْعَثِه ، وأصْل (لِمَ تَكْفُرُونَ) ، لِمَا تكفرون والمعنى لأي شيءٍ تكفُرون.

وكذلك (لم تَقولونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ) وكذلك (عم يتساءَلون)

و (فبم تبشرون) فإِذا وقفت على هذه الحروف وقفت بالهاءِ ، فقلت لمهْ ، وبمه ، لأن الألف حذفت في هذه الأسماءِ التي للاستفهام خاصة فجوز ذلك ، ولا يجوز

ذلك في الموصلة لأن الألف فيهن ليست آخر الأسماءِ إنما الألف وسط

وحذفها لأن حروف الجر عوض منها ، فحذفت استخفافاً ، لأن الفتحة دالة

عليها ، ولا يجوز إسكان هذه الحروف.

وزعم الكسائي أن الأصل كان في "كم" كما ، قال : وكنت أشتهي أن تكون

مفتوحة لالتقاءِ السَّاكنين في قولهم : " كم المال " - بالكسر - . وهذا غلط من أبي الحسن ، ولو كان كما - يقول لكان " كَمَ مالك " كما أنك تقول : (لِمَ فَعَلْتَ).

وليس هذا القول مما يعرج عليه.

* * *

٧١

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)

أي لم تغطون - الحق بباطلكم وأنتم تعلمون أنه الحق ؛ يقال : لبست عليهم

الأمر ألبسه.

قال اللّه تعالى : (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبَسُونَ).

ويقال : لَبِسْتُ الثوب ألْبَسُهُ ، وقال اللّه عزَّ وجلَّ : (وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا).

ولو قيل : (وتكتموا الحق) لجاز ، على قولك : لم تجمعون هذا وذاك.

ولكن الذي في القرآن أجود في الإعراب .

٧٢

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢)

الطائفة الجماعة ، وهم إليهود.

(آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ).

أي أولَهُ.

قال الشاعر :

مَنْ كَانَ مَسْروراً بمَقْتَل مالكٍ . . . فليأتِ نِسْوتَنَا بوجْه نَهَارِ

يجد النساءَ قَوائماً يَنْدُبْنَه . . . قد جِئنَ قبْل تَبَلُّج الأسْحارِ

أي في أول النهار . -

وقد قيل في تفسير هذا غير قول ، قال بعضهم : معناه ، آمنوا بصلاتهم إلى

بيت " المقدس وأكفروا بصلاتهم إلى البيت.

وقيل : إن علماءِ إليهود قال بعضهم لبعض : قد كنا نخبر أصحابنا بأشياء

قد أتى بها محمد - صلى اللّه عليه وسلم - فإن نحن كفرنا بها كلها اتهمنا أصحابنا ولكن نؤمن ببعض ونكفر ببعض لنوهمهم أننا نصدقه فما يصدق فيه ، ونريهم أنا نكذبه فيما ليس عندنا .

وقيل إنهم إتوا النبي - صلى اللّه عليه وسلم - في صدر النهار فقالوا له : إنك الذي خبرْنا في التوراة بأنك مبعوث ، ولكن أنظرنا إلى العشي لننظر في أمرنا ، فلما كان بالعشي أتوا الأنصار فقالوا لها : قد كنا أعلمناكم أن محمداً هو النبي الذي هو المكتوب في التوراة ، إلا أننا نظرنا في التوراة فإذا هو من (ولد هارون ومحمد من ولد إسماعيل) فليس هو النبي الذي عندنا . -

وإنما فعلوا ذلك لعل من آمن به يرجع فهذا ما قيل في تفسير الآية.

* * *

٧٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّه أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ  يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣)

قيل : .  لا تجعلوا تصديقكم النبي في شيء مما جاءَكم به إِلا

لليهود ، فإنكم إن قلتم ذلك للمشركين كان عوناً لهم على تصديقه

وقال أهل اللغة وغيرهم من أهل التفسير : ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل

ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم ، أي لا تصدقوا أن يعطى أحد من علم النبي - صلى اللّه عليه وسلم - مثل ما أعطيتم ( يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ).

ومعنى ( يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) : أي ليس يكون لأحد حجة عند اللّه في

الإيمان به لعلم من عنده . إلا من كان مثلكم.

وقد قيل في  : (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّه أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ).

أي الهدى هو هذا الهدى ، لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم .

قال بعض النحويين معنى : " أن " ههنا معنى " لا " وإنما  أن لا

يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، أي لأن لا تؤتى فحذف " لا " لأن في الكلام دليلًا

عليها ، كما قال اللّه عزَّ وجلَّ : (يُبَين اللّه لَكُمْ أنْ تَضِلوا) أي لئلا تضلوا.

قال أبو العباس محمد بن يزيد : " لا " ليست مما يحذف ههنا ولكن

الإضافة ههنا معلومة ، فحذفتَ الأول وأقمتَ الثاني مقامه ،  يبين اللّه

لكم كراهة أن تضلوا وكذلك ههنا قال : إن الهدى هدى اللّه كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم : أي من خالف دين الإسلام ، لأن اللّه لا يهدي من هو كاذب كفار ، فهدى اللّه بعيد من غير المؤمنين.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّه).

أي نبوته وهداه يؤتيه من يشاءُ.

* * *

٧٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)

اتفق أبو عمرو ، وعاصم والأعمش وحمزة على إسكان الهاءِ من

(يؤده) وكذلك كل ما أشبه هذا من القرآن اتفقوا على إسكان الهاء فيه ، نحو

(نُصْلِهِ جَهَنَّمَ) و (نُؤتهِ مِنْهَا)

و (مَا تولى) إِلا حرفاً حُكي عن

أبي عمرو.

وحكى أبو عبيدة عن أبي عمرو إنَّه كسر في (أَلْقِهْ إِلَيْهِمْ)

ولا فصل بين هذا الحرف وسائر الحروف التي جزمها.

أما الحكاية عن أبي عمرو فيه وفي غيره فغلط.

كان أبو عمرو يختلس الكسرة ، وهذا كما غلطَ عليه في

(بَارِئْكُمْ) حكى القراء عنه أنه كان يحذفَ الهمزة فى بارئكم.

وحكى سيبويه عنه - وهو في هذا أضبط من غيره - أنه كان يكسر كسراً

خفياً ، وأمَّا نافع وقُراءُ أهل المدينة فأشبعوا هذه الحروف فكسروا وأثبتوا

الياءات مثل (يؤده إليك) وهذا الإسكان الذي حكى عنه هُؤلاءِ غلط بين لا

ينبغي أن يقرأ به لأن الهاءَ لا ينبغي أن تجزم ولا تسكن في الوصل إنما تسكن

في الوقف.

وَفي هذه الحُرُوفِ أربعة أوجُهِ ، يجوز إثْبات اليَاءِ ، وَيجُوز حَذْفهَا

تقول : يؤَده إليك بالكسر ، ويجوز : يَؤدِّ هُو إليْكَ بالضم بإثبات الواو بعد

الهاءِ ، ويجوز حذف الواو وضم الهاءِ . فأما الوقف فلا وجه له ، لأن الهاءَ

حرف خفي بُيِّن في الوصل بالواو في التذكير ، قال سيبويه دخلت الواو فِي

التذكير كما دخلت الألف في التأنيث ، (نحو) ضربتهو وضربتها ، قال

أصْحَابه اختيرت الواو لأنها من طرف الشفتين والهاء من الحلق ، فأبَانَتْ الواو

الهاءَ ، وإنْمَا ، تحذف الياءُ لعلة تقلب الواو إليها ، فاذا حذفت الياءُ بقيت

الكسرة فأما في الوقف فلا يجوز ألبتَّة.

وقد أكثر الناس في تفسير القنطار ، وقد حكينا ما قال الناس فيه.

ولم يتفقوا على تحديد في مقدار وزنه إلا أنهم قد اتفقوا في أنه الكثير من

المال.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) :

أكثر القراءَة (دُمْتَ) بضم الدال ، وقد قرتتْ (دِمْت) فأما دُمْت فمن قولك.

دُمْت أدُوم إدْا بقيت على الشيءِ مثل قمتُ أقوم ، وأما دِمْتُ - بالكسر - فعلى قولهم دِمْتَ تَدَام ، مثل قولك : خِفْتَ تُخَافُ ، ويقال قد ديم بفلان وأديمَ به بمعنى دِيرَ به وأدِير به ، وهو الذي ، به دُوامْ كقولهم : به دُوَام كقولهم : به دوار . ويقال دام المال إذا سكن يدوم فهو دائم ومنه :

" نهى النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أن يُبَال في الماءِ الدائِم "

أي الساكن ، ويقال قد دوَّم الطائر في الجو تدويماً ، وهو

يصلح أن يكون من وجهين ، من دورانه في طيرانه ويصلح أن يكون من قلة

حركة جناحه ، لأنه يرى كأنه ساكن الجناح.

ومعنى : (قائماً) أي إلا بدوامك قائماً على اقتضاء دينك.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (ذلِكَ بِأنَّهمْ قَالُوا).

أي فعلهم ذلك ، بقولهم (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)

أي ليس علينا طريق في أخذ مَالِهمْ

وصف اللّه عزَّ وجلَّ : أكلَهُمُ السحْت وخيانتهم ، وقد قيل في التفسير :

إنهم عاملوا قوماً من المشركين فلما انتقلوا إلى الإسلام قالوا ليس علينا لكم

سبيل إنما عاملناكم وأنتم على دينكم ذلك . فأعلم اللّه أنهم يكذبون ، قال

عزَّ وجلَّ : (ويقُولُونَ على اللّه الكَذِبَ وهُمْ يعْلَمُونَ).

أي وهم يعلمون أئهم يَكْذِبُونَ . فرد اللّه قولهم فقال : ِ (بَلَى) : وهو

عندي - واللّه - أعلم - وقف التمام ، ثم استأنف فقال عزَّ وجلَّ :

٧٦

(مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦)

أي فإن اللّه يحبه ، ويجوز أن يكون استأنف

جملة الكلام بقوله بلى لأن قولهم : ليس علينا فيما نفعل جناح.

كقولهم نحن أهل تقوى في فعلنا هذا - فأعْلَمَ اللّه أن أهل الوفاءِ بالعهد والتُّقَى يحبهم اللّه ، وأنهم المتقون ، أي الذين يتقون الخيانة والكفر بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم -.

* * *

٧٧

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللّه وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٧)

(أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ)

هذه الجملة خبر (إِنَّ) ، ومعنى الخَلاق النصيب الوافر من الخير.

ومعنى  (لَا يُكَلِّمُهُمُ اللّه وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) :

في  (لا يكلمهم اللّه) وجهان.

أحدهما أن يكون إسْماع اللّه أولياءَه كلامه بغير سفير ، خصوصية يخص اللّه بها أولياءَه كما كلم موسى فكان ذلك خصوصية له دون البشر أجمعين ، وجائز أن يكون (ولا يكلمهم اللّه ولا ينظر إليهم) تأويله الغضب عليهم ، والإعراض عنهم كما تقول : " فلان لا ينظر إلى فلان ولا يكلمه ، وتأويله أنه غضبان عليه ، وإن كلمه بكلام سوء لم ينقض ذلك.

ومعنى (وَلَا يُزَكيهِمْ) : لا يجعلهم طاهرين ولا يثني عليهم خيراً.

ومعنى (عَذَابٌ أَلِيمٌ) : أي موجع.

* * *

٧٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّه وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّه وَيَقُولُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)

هذه اللام في (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا) تؤكد الكلام زيادة على توكيد (إِنَّ) لأن

(إنَّ) معناها توكيد الكلام ، ولذلك صار لضم يوصل بها في الإيجاب ، تقول :

واللّه أن زيداً قائِم ، وكذلك تصل الضم باللام ، فيقول واللّه لزيد قائم ولا تلي هذه اللام (إن) لا يجوز : " إن لزيداً قائم " بإجماع النحوين كلهم وأهل اللغة.

ومعنى (يلوون ألسنتهم بالكتاب) : أي يحرفون الكتاب ، أي يعدلونْ عن

القصد ، (ويجوز يُلَوُّونَ - بضم الياءِ والتشديد)

(لتَحْسَبْوُه ، و - لتْحسِبُوه) - بكسر السين وفتحها - يقال حسِبَ يَحْسَبُ ويَحْسِبُ ، جميعاً ، ويقال لويت الشيءَ إذا

عَدلته عن القصد ليًّا ولويت الغريم لِيَاناً إذا مَطَلْتُه بدينه

قال الشاعر :

قد كنت داينت بهاحساناً . . . مخافة الإفلاس والليانا

* * *

٧٩

وقوله عزَّ وجلَّ) (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللّه الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللّه وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩)

أي أنْ اللّه لا يصطفى لنبوته الكذبة ، ولو فعل ذلك بشر لسلبه اللّه

عزَّ وجلَّ : آيَات النبوة وعلاماتها

ونصب (ثُمَّ يَقُولَ) : على الاشتراك بين أن يْؤتيه

وبين يقول ، أي لا يجتمع لنبي إتيان النبوة والقول للناس كونوا عباداً لي.

(وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) والربانيون أرباب العلم . والبيان . أي كونوا أصحاب

علم ، وإنما زيدت الألف والنون للمبالغة في النسب ، كما قالوا للكبير اللحية لَحياني ولذي الجمة الوافرة جُماني.

وقد قرئَ - (بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ). (تُعَلِّمُونَ) - بضم التاءِ وفتحها.

(وبما كنتم تَدْرُسُونَ) أي بعلمكم ودرْسِكُمْ عَلِّمُوا الناس وبيِّنوا لهم.

وجاءَ في

التفسير (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) أي : علماءَ فقَهاءَ ليس مَعْنَاه كما تعلمون فقط ، ولكن ليكن هديكم ونيتكم في التعليم هدى العلماء والحكماء ، لأن العالم إنما ينبغي أن يقال له عالم إذا عمل بعلمه ، وإلا فليس بعالم ، قال اللّه :

(وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ)

ثم قال : (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)

أي لو كانوا وَفُّوا العلمَ حقه - وقد فسرنا ما قيل في هذا في

مكانه.

* * *

٨٠

ومعنى : (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)

أي ولا يأمركم أن تعبدوا الملائكة والنبيين لأن الذين قالوا : إن عيسى

عليه السلام إله عبدوه وائخذوه ربًّا ، وقال قوم من الكفار إن الملائكة أربَابُنَا ، ويقال إنهُم الصابئون ، ويجوز الرفع في (وَلَا يَأمُركُم) أي لا يأمركم اللّه.

* * *

٨١

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١)

موضع (إذ) نصب -

 - واللّه أعلم - واذكر في أقاصيصك (إِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) - إلى قوله (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ).

" ما " ههنا على ضربين : - يصلح أن يكون للشرط والجزاءِ وهو أجود الوجهين ، لأن الشرط يوجب أن كل ما وقع من أمر الرسل فهذه طريقته ، واللام دخلت في ما كما تدخل في " إنْ " التي للجزاءِ إذا كان في جواب القسم ، قال اللّه عزَّ وجلَّ :

(وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)

وقال : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ).

فاللام في "إن " دخلت مؤكدة موطدة للام القسم . ولام القسم هي التي

لليمين لأن قولك : واللّه لئن جئتني لأكرمنك . . . إنما حلفك على فعلك إلا أن الشرطْ معلق به فلذلك دخلت اللام على الشرط فإذا كانت ما في معنى الجزاءِ فموضعها نصب بقوله (لما آتيتكمْ)

والجزاءُ قوله (لَتومِنن به)

ويجوز أن يكونَ في معنى الذي ويكون موضعها رفعاً.

 أخذ اللّه ميثاقهم أي استحلفَهم للذي آتيتكم ، والمعنى آتيتكموه

(لتومنن به) فتكون ما رفعا بالابتداءِ ويكون خبر الابتداء (لتْؤمنن به)

وحذفت الهاءُ من (لما آتيتكم) لطول الاسم.

فأعلم اللّه - عزَّ وجلَّ : أنه عهد إلى كل رَسُول أنْ يؤمِنَ بغيره من الرسل فصارَ العهد مشتملاً على الجماعة أن يؤْمن

بعضهم ببعض وأن ينصر بَعْضُهُمْ بعضاً.

ومعنى  (فاشْهَدُوا وَأنَا مَعكُمْ من الشاهِدِينَ)

أي فتبينوا لأن الشاهد هو الذي يصحح دعوى المدعي وشهادة اللّه للنبيين تبيينه أمر نبوتهم بالآياتِ المعجزات.

ويجوز - وقد قرئَ به - (لمَا آتيتكم) فتكون اللام المكسورة معلقة

بقوله أخَذَ  أخذ الميثاق لآتيانِكُمْ الكِتَاب والحكمة.

وقرأ بعضهم (لما آتَيْنَاكم من كتاب وحكمة) أي لما آتيناكم الكتاب والحكمة أخذَ الميثاقَ ويكون الكلام يُؤول إلى الجزاءِ - كما تقول : لما جئْتني أكرمتك .

٨٢

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٨٢)

ذلك إشارة إلى أخذ الميثاق بالمعنى : (فمن تولى) أي أعرض عن الإيمان بعد

أخذ الميثاق على النبيين.

وأخْذُ الميثاق على النبيين مشتمل على الأخذ على

أممهم ، أي فمن تولى بعد أخذ الميثاق وظهور آيات النبي - صلى اللّه عليه وسلم - (فَأولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) أي : الذين خرجوا عن القصد

وعن جملة الإيمان.

ويصلح أن تكون (همْ) ههنا اسماً مبتدأ ، و (الفاسقون) خبرهُ

و " هم " " مع " الفاسقون خبر أولئك.

وصلح أن يكون (الفاسقون) مرتفعاً بأولئك " وهم " فصل -

وهو الذي يسميه الكوفيون العماد.

* * *

٨٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللّه يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)

أي أفغير دين اللّه يطلبون ، لأنه قد بين أنه دين اللّه وأنهم كفروا وعاندوا وحسدوا بغياً - كما فعل إِبليس.

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا).

جاءَ في التفسير أنه أسلم من في السَّمَاوَات كلهم طوعاً ، وأسلم بعض من في

الأرض طوعاً وبعض كرهاً.

لما كانت السنة فيمن فُرِض قتاله من المشركين أن

يقاتَلَ حتى يسلم سمي ذلك كرهاً ، وإن كان يسلم حين يسلم طائعاً ، إلا أن

الوصلة كانت إلى ذلك بِكُرهٍ ، ونصب (طوعاً) مصدراً ، وضع موضع الحال.

كأنه أسلموا طائعين ومكرَهين ، كما تقول جءتك ركضاً ومشياً ، وجئت راكضاً وماشياً ، ويجوز أن يكون واللّه أعلم - على معنى وله أسلم من في السَّمَاوَات والأرض طوعاً وكرهاً - أي خضعوا من جهة ما فطرهم عليه ودبرهم به ،

لا يمتنع ممتنع من جِبِلَّةٍ جبل عليها ، ولا يقدرعلى تغييرها أحب تلك الجِبِلَّةَ

كرهها.

(وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ). يدل على تصديق هذا القول.

لأن  إنَّه بدأكم على إرادته شئتم  أبيتم.

وهو يبعثكم كما بدأكم.

فالتأويل : أتبغون غير الدين الذي هذه صفته.

ثم أمر اللّه - عز وجل - النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وأمته أن يقولوا آمناً باللّه وما أنزل علينا ، وأن يقولوا ويعتقدوا إنهم لا يفرقون بين جميع الرسل في الإيمان بهم . لا يكفرون ببعضهم كما فعلت إليهود والنصارى ، وأعلم اللّه أنه لا يقبل ديناً غير دين الإسلام ولا عملاً إلا من أهله.

٨٥

فقال عز وجلَّ : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٨٥)

(يَبْتَغِ) جزم بمن - و (فَلَنْ يُقْبَل مِنْهُ) الجواب.

ومعنى (من الخاسرين) أي ممن خسر عمله ، والدليل على ذلك قوله

عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّه أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)

* * *

٨٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (كَيْفَ يَهْدِي اللّه قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦)

يقال إنها نزلت في قوم ارتدوا ثم أرادوا الرجوع إلى الإسلام ونيَّتهم

الكفر . فأَعلم اللّه أنَّه لا جهة لهدايتهم لأنهم قد استحقوا أن يضلوا بكفرهم ، لأنهم قد كفروا بعد البينات التي هي دليل على صحة أمر النبي - صلى اللّه عليه وسلم - ، وقيل إنها نزلت في إليهود لأنهم كفروا بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم - بعد أن كانوا - قبل مبعثه - مؤمنين.

وكانوا يشهدون بالنبوة لَهُ فلما بعث عليه السلام - وجاءَهم بالآيات المعجزات وأنبأهم بما في كتبهم مما لا يقدرون على دفعه ، وهو - أُمِّيٌّ - كفروا به بغياً وحسداً ،

فأَعلم اللّه أن جزاءَهم اللعنة ، فقال :

٨٧

(أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّه وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧)

ومعنى لعن الناس (أجمعين) لهم أن بعضهم يوم القيامة يلعن بعضاً

ومن خَالَفهم يلعنهم ، وتأويل لعنة اللّه لهم تبعيده إياهم من رحمته وثنائه

عليهم بكفرهم.

* * *

٨٨

(خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨)

ومعنى : (خَالِدِينَ فِيهَا أبَدَاً).

أي : فيما توجبُه اللعنة أي في عذاب اللعنة (لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا يؤَخرون عن الوقت.

* * *

٨٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩)

أي أظهروا أنهم كانوا على ضلال وأصلحوا ما كانوا أفسدوه وَغرُّوا به مَنْ

اتَبَعَهُمْ ممَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَه (فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ).

أعلم اللّه عزَّ وجلَّ أن من سعة رحمته وتفضله أن يغفو لمن اجترأ عليه هذا

الاجتراء لأن هذا ما لا غاية بعده ، وهو أنه كفر بعد تبين الحق.

* * *

٩٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)

يقال في التفسير أن هَؤُلَاءِ هم النفر الذين ارتدوا بعد إِسلامهم ثم أظهروا

أنهم يريدون الرجوع إلى الإسلام ، فأظهر اللّه أمرهم لأنهم كانوا يظهرون أنهم يرجعون إلى الإسلام وعندهم الكفر - والدليل على ذلك - قوله - عزَّ وجلَّ : (وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ)

لأنهم لو حققوا في التوبة لكانوا غيرَ معتدين ، ويدل على

٩١

ذلك قوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٩١)

لأن الكافر الذي يعتقد الكفر ويظهر الإيمان عند اللّه كمظهر الكفر لأن

الإيمان هو التصديق والتصديق لا يكون إلا بالنية.

ومعنى : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَباً).

أي لو عمل من الخير وقدم ملء الأرض ذهباً يتقرب به إلى اللّه لم ينفعه

ذلك مع كفره.

قال أبو إسحاق : وكذلك لو افتدى من العذاب بملءِ الأرض ذهباً لم يقبل

منه . فأعلم اللّه عزَّ وجلَّ أنه لا يُثيبُهُمْ على أعمالهم بالخير ولا يقبل منهم الفداءَ من العذاب.

وقال بعض النحويين أن الواو مسقطة - قال  فلن يُقبل من أحدهم

ملءُ الأرض ذهباً لو افتدى به - وهذا غلط لأن الفائدة في الواو بينة وليست

الواو مما يلغي .

يقال ملأت الشيء أملؤه مَلئاً ، المصدر بالفتح لا غير -

قال سيبويه والخليل : الملءُ - بفتح الميم - الفعل.

وتقول : هذا ملءُ هذا أي مقدار ما يملؤُه.

كما يقال : رَعَيْت رَعْياً والمال في الرعي فهذا فرق بين.

وقال بعض النحويين : يقال مَلأتُ مَلْئاً ومُلْئاً وهذا غلط بين لأن

الموصوف ههنا إنه لو ملك مقدار ما يملأ الأرض ما قبل منه ، وليس يقال . إن قدر أن يفعل ، أي أن يملأ الأرض ، إنما المتقرب به الذهب الذي هو ملءُ

الأرض ، لا أن يَملأ :

يقال ملأت الشيء مَلْئاً وقد مَلئَ فلان مَلأً وهو مملوءٌ إذا زكم

والملأ أشراف القوم ، وتَقول أنت أملأ بهذا أي أثرى وأوثق ، ورجل مَلِيءٌ بين الملاءَة ، يا هذا.

فأما ما يكتبه الكتاب ، أنت المَلِيُّ بالياءِ فخطأ وهم مجمعون عليه ، هذا غلط . والمُلَاءَةُ التي تلبس ، ممدود ، والمُلَاوَةُ من الدهر القطعة الطويلة ، ومن هذا قولهم . أبْلِ جَديداً وتَمَل حَبيباً أي عش مع حبيبك دهراً طويلًا.

و (ذهباً) منصوب على التمييز - قال سيبويه وجميعُ البصريين : إن الاسم المخفوض قد حال بين الذهب وبين الملء أنْ يكون جرًّا

وحقيقة تفْسيره : أن  ما يملؤُهُ من الذهب

وكذلك إذا قلت : عندي عشرون درهماً أي ما يُعادِل هذا المقدارَ من الدراهِم.

وجائز أن يكون - واللّه أعلم قوله - عزَّ وجلَّ - : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠).

يعني إليهود لأنهم كانوا تائبين في وقت إيمانهم بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم - قبل مبعثه ، فأعلم اللّه أن تلك التوبة وذلك

الإيمانَ ليْسَ بمقبُول ، لأنهم كفروا بعده وزادوا كفراً ، فإن كفرهم بما كان ينزل على النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وقتاً بعد وقت زيادة في الكفر - وكذلك الِإقامة عليه زيادة فيه.

* * *

٩٢

وقوله عزَّ وجلَّ : (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللّه بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)

قال بعضهم : إِن كل ما يتقرب به إلى اللّه من عمل خير فهو إنفاق.

وروي عن ابن عمر أنه اشترى جارية كان هَوِيهَا فلمَّا ملكَها أعْتقهَا ولمْ يُصِبْ

منها.

فقيل له : أعْتقْتهَا بعد أن كنتَ هويتَها ولم تصب منها.

فتلا هذه الآية (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا).

وفعل ابن عمر هذا ينبغي أن يقْتَدِيَ به الناس

في أن لا يضنوا بجليل ما يملكونه في التقرب به إلى اللّه تعالى

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللّه بِهِ عَلِيمٌ).

أي فإن اللّه يجازي عليه لأنه قال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧)

فإذا عمله جوزي عليه.

وتأويل (ما) تأويل الشرط والجزاءِ ، وموضعها نصب بـ " تنفقوا " .

وأي شيء تنفقوا فإن اللّه عليم به والفاء جواب الجزاءِ.

* * *

٩٣

وقوله جلَّ وعزَّ : (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٩٣)

موضع " ما " نصب ،  إلا الطعام الذي حرَّمه إسرائيل على نفسه.

ويروى : أنه وجد وجعاً ، وقيل في التفسير : إن ذلك الوجع كِان عرق النساءِ

فنذر إِنْ أبرأه اللّه أن يترك أحبَّ الطعام والشراب إِليه.

وكان أحب الطعام والشراب إِليه لحومَ الِإبل وألبانَها ، فحرم اللّه ذلك عليهم بمعاصيهم كما قال : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ).

وأعلم اللّه أن الذي حرمه إسرائيل على نفسه كان من قبل أن تنزل

التوراة ، وفيه أعظم آية للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - لأنه أنبأهم بأنهم يدعون أن في كتابهم ما ليس فيه ، ودعاهم مع ذلك إِلى أن يأتوا بكتابهم فيتلوه لِيُبَينَ لهم كذبهم فأبوا.

فكان إِبَاؤُهم دليلاً على علمهم أن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - قد صدق فيما أنبأهم به ، ولو أتَوْا بِها لم يَكونوا يَخْلونَ من أحد أمرين : إما أن يزيدوا فيها ما ليس فيها في ذلك الوقتْ فيعلم بعضهم أنه قد زيد ،  ينزل اللّه بهم عقوبة تبين أمرهم ،  أن يأتوا بها على جملتها فيعلم بطلان دعواهم منها . فقصتهم في هذه الآية كقصة النصارى في المباهلة.

* * *

٩٤

وقوله جلَّ وعزَّ : (فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللّه الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤)

أي من بعد ما ذكرنا من ظهور الحجة في افترائه : (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

* * *

٩٦

وقوله عزَّ وجلَّ - (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (٩٦)

قيل : إنه أول مسجد وضع للناس ، وقيل : إنه أول بيت وضع للحج.

ويقال : إنه البيت المعمور وأن الملائكة كانت تحجه من قبل آدم ، وإنه البيت

العتيق . فأما بناؤُه فلا شك أن إبراهيم بناه.

قال اللّه تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) أي يَقولان : رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا.

فأما المقْدِس فسليمان بناه . وخبر (إِنَّ) هو (لَلَّذِي بِبَكَّةَ).

وهذه لام التوكيد ، وقيل : إن بكة موضع البيت وسائر ما حوله مكة . والإجماع أن بكة ومكة الموضع الذي يحج الناس إِليه ، وهي البلدة ، قال اللّه - عزَّ وجلَّ : ((بِبَطْنِ مَكةَ) وقال : (لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا).

فأما اشتقاقه في اللغة : فيصلح أن يكون الاسم اشتق من إلَبك ، وهوبك

الناس بعضُهم بعضاً في الطواف أي دفع بعضهم بعضاً ، وقيل : إنما سميت

ببكة لأنها تبك أعناق الجبابرة.

ونصب (مُبَارَكًا) على الحال.

 : الذي بمكة في حال بركته.

(وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) يجوز أن يكون هُدًى لِلْعَالَمِينَ في موضع رفع.

 : وهو هدى للعالمين.

فأماَ مكة - بالميم فتصلح أن يكون اشتقاقها كاشتقاق بكة والميم تبدل

من الباءِ ، يقال : ضربة لازب ولازم ، ويصلح أن يكون الاشتقاق من قولهم : " امْتَكَّ الفصيل " ما في ضرع الناقة إذا مص مصاً شديداً حتى لا يُبْقِي فيه

شيئاً . فتكون سميت بذلك لشدة الازدحام فيها -

والقول الأول أعني البدل أحسن.

ومعنى(أَوَّلَ) في اللغة - على الحقيقة ابتداءُ الشيءِ فجائز أن يكون

المبتدأ له آخر ، وجائز أن لا يكون له آخر فالواحد أول العدد والعدد غير متناه ، ونعيم الجنة أول وهو غير منقطع ، وقولك : هذا أول مال كسبته جائز ألا يكون

بعده كسب ، ولكن إرادتك : (هذا ابتداءُ كسبي).

ولو قال قائل : أولُ عبد أملِكُه فهو حرٌّ ، فملك عبداً أعتق ذلك العبد ، لأنه قد ابتدأ الملك فجائز أن يكون (أَوَّلَ بيتٍ) هو البيت الذي لم يكن الحج إلى غيره.

* * *

٩٧

وقوله عزَّ وجلَّ : (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٩٧)

قد رويت عن ابن عباس أنَّه قرأ (آية بينة مَقَامُ إبْرَاهِيمَ) جعل مقام

إبراهيم هو الآية ، والذي عليه الناس : (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ)

والمعنى : فيه آيات بينات : تلك الآيات مقام إبراهيم ، ومن الآيات أيضاً : أمنُ من دخله ، لأن معنى (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً) يدل على أن الأمن فيه.

فأما رفع (مَقَامُ إبْرَاهِيمَ) فعلى أن يكون على إضمار هي مقام إِبراهيم.

قال النحويون :  فيها مقام إبراهيم وهذا كما شرحنا ، ومعنى أمنِ من

دخله : أن إبراهيم عليه السلام سأل اللّه أن يؤمِّن سكان مكة فقال :

(رب اجعل هذا بلداً آمناً) . . فجعل اللّه عزَّ وجلَّ أمن مكة آية لإبراهيم وكان الناس يتخطفون حول مكة ، قال اللّه : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) فكان الجبار إدْا أراد مكة قصمه اللّه.

قال اللّه عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)

وكانت فارس قد سبت أهل بيت المقدس فأمَّا أهل مكة فلم يطمع فيهم جبار.

ويقال : قد أمن الرجل يأمن أمْناً وأماناً.

وقد رويت إمناً ، والأكثر الأفصح : (أمْن) بفتح الألف قال اللّه عزَّ وجلَّ (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا).

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَللّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ).

يقرأ بفتح الحاءِ وكسر الحاءِ والأصل الفتح : يقال : حججت الشيءَ

أحْجه حَجا إذا قصدته . .

والحِج اسم العمل - بكسر الحاءِ.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا).

موضع مَنْ خفض على البدل من " الناس "  : وللّه على من

استطاع من الناس حج البيت أن يحج.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).

قيل فيه غير قول : قال بعضهم من كفر : من قال إن الحج غير مفترض.

وقال بعضهم : من أمكنه الحج فأخره إلى أن يموت . وهو قادر عليه فقد

كفر . وقيل : إِنها إنما قيلت لليهود لأنهم قالوا : أن القصد إلى مكة غير واجب في حج  صلاة.

فأما الأول فمجمع عليه . ليسِ بين الأمة اختلاف في أن من

قال : إن الحج غير واجب على من قدر عليه كافر.

* * *

٩٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّه مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩)

أي تبغون لها العوج ، يقال في الأمر والدين عوج وفي كل شيءٍ مائل

عوج ، والعرب تقول : ابغني كذا وكذا ، أي أطلبه لي ، وتقول : أبَغِنِي كذا

وكذا بفتح الألف تريد أعني على طلبه أي أطلبه معي كما تقول :

أعْكِمْنِي وأحْلِبْني أي أعِنَي على العَكْمِ والحَلْبِ.

ومعنى : (وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ) أي وأنتم تشهدون بما قد ثبت في نفوسكم أن

أمر النبي حق واللّه غير غافل عن عملكم .

١٠٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (١٠٠)

يعني بالفريق الصنف ، الذين كفروا ، أي إن قلدتموهم ردوكم كافرين ، أي

وإن كنتم على غير دينهم وكنتم في عقدكم ذلك كافرين فكذلك إن أطعتموهم  اتبعتوهم فأنتم كافرون.

* * *

١٠١

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّه وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّه فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)

أي على أي حال يقع منكم الكفر وآيات اللّه التي أتى بها النبي - صلى اللّه عليه وسلم - دالة على توحيد اللّه ونبوة

النبي - صلى اللّه عليه وسلم - تتلى عليكم وفيكم رسوله يبين لكم هذه الآيات ، وجائز أن يقال فيكم رسوله والنبي شاهد ، وجائز أن يقال لنا الأن فيكم رسول اللّه لأن آثاره وعلاماته والقرآن الذي أتى به فينا وهو من الآيات العظام.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ باللّه).

أي من يمتنع باللّه ، ويستمسك بحبل اللّه (فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).

و " يعتصم " جزم بمن . والجواب : (فَقَدْ هُدِيَ) ، ومعنى اعتصمت بكذا وكذا في اللغة : استمسكت وامتنعت به من غيره

وكذلك (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أمْرِ اللّه)

ومعنى : (سَآوِي إلَى جَبلٍ يَعْصِمُنِي من الماءِ) أي يمنعني من الماءِ أي

لاذا عِصمة ولاذا امتناع من اللّه.

* * *

١٠٢

وقوله جلَّ وعزَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)

أي اتقوه فيما يحق عليكم أن تتقوه فيه.

قال بعضهم (حَقَّ تُقَاتِهِ) : أن يطاع

فلا يعصي وأن يذكر فلا ينسى ، ومعنى يذكر فلا ينسى : أن يذكر عند ما يجب من أمره فلا يتجاوز أمره.

وقال بعضهم هذه الآية منسوخة نسخها قوله جلَّ وعزَّ :

(فَاتَّقُوا اللّه مَا اسْتَطَعْتُمْ)

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (لَا يُكَلِّفُ اللّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا).

وتقاة : أصلها وقاة وهي من وقيت إلا أن الواو لم تأت في هذا المثال

على أصلها ، ولم يقل في هذا المثال شيءُ إِلا والتاء فيه مبدلة من الواو وكذلك قالوا تخمة إِنما هي من الوخامة ، وكذلك قالوا : في فُعال نحو التراث والتجاه ، وتجاه في معنى المواجهة.

وهذا المثال فيه أوجه : إِذا بنيت فُعْلَة من وقيت قلت تقاة وهو الذي يختاره

النحويون ، ولم يأتِ في اللغة على هذا المثال شيءٌ إِلا وقد أبدلت التاء من واوه.

ويجوز أن يقال وقاة ، وأَقاه لأن الواو إِذا انضمت وكانت أولا فأنت في

البدل منها بالخيار ، إِن شئت أبدلت منها همزة ، وإن شئت أقررتها على هيئتها ، وإن شئت في هذا المثال خاصة أبدلت منها التاءَ.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

لفظ النهي واقع على الموت والمعنى : واقع على الأمر بالِإقامة على

الِإسلام.

 : كونوا على الإسلام فإِذا ورد عليكم الموت صادفكم على ذلك.

وِإنما جاز هذا لأنه ليس في الكلام لبس ، لأنه يعلم منه أنهم لا ينهون عما لا

يفعلون ، ومثله في الكلام ، " لَا أريَنكَ هَهُنَا " فالنهي واقع في اللفظ على المخاطبة والمعنى : لا تكونن ههنا فإن من كان هِهنا رأيته ولكن الكلام قصد به إِلى الِإيجاز والاختصار إِذ لم يكن فيه نقص معنى.

* * *

١٠٣

(وقوله جلَّ وعزَّ : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)

(جَمِيعًا) منصوب على الحال  : كونوا مجتمعين على الإعتصام به.

وتفسير (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه) ، أي استمسكوا بعهد اللّه.

والحبل في لغة العرب : العهد.

قال اَلأعشى.

وإِذا أجوز بها حبال قبيلة . . . أخذت من الأخرى إليك حَبالها

ومعنى (وَلَا تَفَرَّقُوا) : أي تناصروا على دين اللّه وأصل تفرقوا تتفرقوا

إلا أن التاءَ حذفت لاجتماع حرفين من جنس واحد في كلمة ، والمحذوفة الثانية لأن الأولى دالة على الاستقبال فلا يجوز حذف الحرف الذي يدل على

الاستقبال وهو مجؤوم بالنهي ، الأصل ولا تتفرقون فحذفت النون لتدل على

الجزم.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا).

ذكَّرهم اللّه بعظيم النعمة عليهم في الإسلام لأنهم كانوا في جاهليتهم

يقتل بعضهم بعضاً ، ويستبيح كل غالب منهم من غلبه فحظر عليهم الإِسلام

الأنفس والأموال إلا بحقها ، فعرفهم اللّه - عزَّ وجلَّ - ما لهم من الحظ في العاجل في الدخول في الإسلام .

وقيل نزلت في الأوس والخزرج . لأنهم كانت بينهم في الجاهلية حروب

دائمة قد أتت عليها السنون الكثيرة ، فأزال الإسلام تلك الحروب وصاروا

إخواناً في الإسلام متوادين على ذلك ، وأصل الأخ في اللغة أن الأخ مقصدُه

مقصد أخيه ، وكذلك هويْ الصداقة أن تكون إرادة . كل واحد من الأحخوين موافقة لما يريد صاحبه والعرب تقول : فلان يتوخى مسار فلان أي يقصد ما يسره.

وقوله جل وعلا : (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ).

أي كنتم قد أشرفتم على النار وشفا الشيءُ ، حرفه مقصور يكتب

بالألف ، وثثنيته شفوان ، وقال - (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا) ، ولم يقل منه لأن المقصود في الخبر النار . أي فأنقذكم منها بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم -.

وقوله جل وعلا - (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آيَاتِهِ).

الكاف في موضع نصب .  مثل البيان الذي يتلى عليكم يبين اللّه

لكم آياته.

ومعنى (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)

أي لتكونوا على رجاءِ هدايته.

* * *

١٠٤

وقوله جل وعلا : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤)

اللام مسكنة وأصلها الكسر ، الأصل ولتَكن منكم ولكن الكسرة حذفت

لأن الواو صارت مع الكلمة كحرف واحد وألزمت الحذف ، وإِن قرئت

ولتكن - بالكسر - فجيد على الأصل ، ولكن التخفيف أجود وأكثر في كلام العرب.

ومعنى - (ولتكن منكم أمَّةٌ) - واللّه أعلم - ولتكونوا كلكم أمَّة تدعون إلى

الخير وتأمرون بالمعروف ، ولكن " مِن " تدخل ههنا لتخص المخاطبين من سائر الأجناس وهي مؤَكدة أن الأمر للمخاطبين ومثل هذا من كتاب اللّه

(فاجتنبوا الرجس من الأوثان) ليس يأمرهم باجتناب بعض الأوثان ، ولكن

 اجتنبوا الأوثان فإِنها رجس ومثله من الشعر قول الشاعر :

أخو رغاتب يعطيها ويُسْالُها . . . يأبى الظلامة منه النوفل الزفر

أي هو النوفل الزفر ، لأنه قد وصفه بإعطاءِ الرغائب ، والنوفل الكثير

الِإعطاءِ للنوافل ، والزفر الذي يحمل الأثقال.

والدليل على أنهم أمروا كلهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوله جل

وعلا : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).

ويجوز أن تكون أمرت منهم فرقة ، لأن قوله (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) ذكر الدعاة إِلى الِإيمان ، والدعاة ينبغى أن يكونوا علماءَ بما يدعون إِليه

وليس الخلق كلهم علماءَ والعلم ينوب فيه بعض الناس عن بعض ، وكذلك

الجهاد.

وقوله جل وعلا : (وَأولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ).

أي والذين ذكرناهم المفلحون ، والمفلح الفائز بما يغتبط به.

و (هم) جائز أن يكون ابتداءً و (المفلحون) خبر أولئك و (هم) فصل ، وهو الذي يسميه الكوفيون العماد.

* * *

١٠٥

وقوله جل ثناؤُه : (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٥)

أي لا تكونوا كأهل الكتاب ، يعني به إليهود والنصارى وكتابهم جميعاً

التوراة ، وهم مختلفون ، كل فرقة منهم - وإن اتفقت في باب النصرانية

اليهودية - مختلفة أيضاً ، كالنصارى الذين هم نسطورية ويعقوبية وملكانية ، فأمر اللّه بالاجتماع على كتابه ، وأعلم أن التفرق فيه يخرج أهله إلى مثل ما خرج إليه أهل الكتاب في كفرهم ، فأعلم اللّه أن لهم عذاباً عظيماً ، فقال : (وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

ثم أخبر بوقت ذلك العذاب فقال :

١٠٦

(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦)

أي يثبت لهم العذاب ذلك اليوم ، وابيضاضها إشراقها وإسفارها ، قال

اللّه عزَّ وجلَّ : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩).

أسفرت واستبشرت لما تصير إِليه من ثواب اللّه ورحمته ، وتَسْوَدُ وُجُوهٌ اسودادها لما تصير إِليه من العذاب ، قال اللّه : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (٤٠) .

والكلام . تسود وتبيض بفتح التاءِ - الأصل " تسودد " و " تبيَضِض إلا

أن الحرفين إذا اجتمعا وتحركا أدغم الأول في الثاني.

وكثير من العرب تكسر هذه التاء من تسود وتبيض والقراءَة بالفتح والكسر قليل إلا أن كئيراً من العرب يكسر هذه التاءَ ليُبيِّن أنها من قولك أبيض وأسود فكأن الكسرة دليل على أنه كذلك في الماضي.

وقرأ بعضهم " تَسْواد وتَبْياض " وهو جيِّد في العربية إلا أن المصحف ليست

فيه ألف فأنا أكرهها لخلافه على أنهُ قد تحذف ألفات في القرآن نحو ألف إبراهيم وإسماعيل ونحو ألف الرحمن ؛ ولكن الإجماع على إثبات هذه الألفات المحذوفة فى الكتاب في اللفظ ، وتبيَض وتسود إجماع بغير ألف فلا ينبغي أن يقرأ بإثبات الألف.

وقوله جل وعلا : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ).

تدل على أن القراءَة تسود ، ومن قرأ بالألف تسواد وتبياض وجب أن

يقْرأ : فأما الذين اسوادت وجُوههم.

وجواب أما محذوف مع القول.

 فيقال لهم : (أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ).

وحُذفَ القولُ لأن في الكلام دليلاً عليه وهذا كثير في القرآن ، كقوله

عزَّ وجلَّ : (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ).

 يقولون :

(سَلَامٌ عَلَيْكُمْ).

وكذلك  (وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا)  يقولان : رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا -

هذه الألف لفظها لفظ الاستفهام ومعناها التقرير والتوبيخ.

وإنَّما قيل لهم (أكفرتم بعد إيمانكم) لأنهم كفروا بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم - ، وقد كانوا به مؤمنين قبل مبعثه.

وهذا خطاب لأهل الكتاب :

١٠٧

وقوله جلّ وعلا : (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّه هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١٠٧)

(فَفِي رَحْمَةِ اللّه هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

أي في الثواب - الذي أصارهم اللّه إليه برحمة - خالدون.

أعْلَمَ أنَّه إِنما يدخل الجنة برحمته وإن اجتهد المجتهد في طاعة اللّه لأن نعم

اللّه عزَّ وجلَّ دون الجنة لا يكافئها اجتهاد الآدميين.

وقال (فَفِي رَحْمَةِ اللّه) وهو يريد ثواب رحمة اللّه كما فال : (واسأل القريةْ)

 أهل القرية ، كما تقول العرب بنو فلان يطؤُهم الطريق ،  يطؤُهم مارة الطريق.

وذكر (فيها) ثانية على جهة التوكيد.

* * *

١٠٨

وقوله جل وعلا : (تِلْكَ آيَاتُ اللّه نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّه يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (١٠٨)

أي تلك التي قد جرى ذكرها حُجَجُ اللّه وعلاماته نتلوها عليك أي

نعرفك إياها وما اللّه يريد ظلماً للعالمين أي من أعلم اللّه أنه يعذبه فباستحقاق

يعذبه.

١٠٩

وقوله جل وعلا : (وَللّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)

(وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

ولو كانت " وإليه ترْجِعُ الأمور " لكان حسناً ولكن إعادة اسم اللّه أفخم

وأوكد ، والعرب إذا جرى ذكر شيء مفخم أعادوا لفظه مظهراً غير مضمر ، أنشد النحويون قول الشاعر :

لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ . . . نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنَى والفَقيرا

فأعادوا ذكر الموت لفخامة في نفوسهم.

* * *

١١٠

وقوله جل وعلا : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّه وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (١١٠)

يعني به أمة محمد - صلى اللّه عليه وسلم - وقيل في معنى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ) كنتم عند اللّه في اللوح المحفوظ - وقيل كنتم منذ آمنتم خير أمة وقال بعضهم معنى (كنتم خير أمة) هذا الخطاب أصله إنَّه خوطب به أصحاب النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وهو يعم سائر أمَّة

محمد ، والشريطة في الخيرية ما هو في الكلام وهو قوله عزَّ وجلَّ :

(تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّه).

أي توحدون اللّه بالإيمان برسوله لأن من كفر بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم - لم يوحد اللّه ، وذلك أنه يزعم أن الآيات المعجزات التي أتى بها النبي - صلى اللّه عليه وسلم - من ذات نفسه.

فجعل غير اللّه يفعل فعل اللّه.

وآيات الأنبياءِ ، لا يقدر عليها إلا اللّه عزَّ وجلَّ.

ويدل على أن  (وتؤْمنون باللّه) : تقرون أن محمداً - صلى اللّه عليه وسلم - نبي اللّه.

قوله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ).

فأهل الكتاب كفروا بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم - فصاروا كفاراً باللّه فأعلم اللّه أن بعضهم وهو القليل منهم آمن باللّه فقال :

(مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ).

والفاسق الذي خرج عن أمر اللّه .

١١١

ووعد اللّه النبي - صلى اللّه عليه وسلم - والمؤمنين في أهل الكتاب أنهم منصورون عليهم ، وأنه لا ينالهم من أهل الكتاب اصطلام ولا غلبة فقال : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (١١١)

أي يْؤذونكم بالبهت والتحريف ، فأمَّا العاقبة فتكون للمؤمنين.

قال اللّه - عزَّ وجلَّ - : (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (١٢). يعني به أهل الكتاب ؛ وأعلمهم في هذه الآية أنهم إن قاتلوهم ولوهم الأدبار وسلبوا النصر وكذلك كان أمر إليهود.

* * *

١١٢

وقوله جل وعلا : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّه وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّه وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)

والحبل العهد . فأَعلم اللّه أنهم بعد عزٍّ كانوا فيه يبلغون في الذلة ما لا

يبلغه أهل مكة ، وكانوا ذوي منعة ويسار ، فأعلم اللّه أنهم يذلون أبداً إلا أن

يعزوا بالذمة التي يعطونها في الإسلام . وما بعد الاستثناءِ ، ليس من الأول

أنهم أذلاءُ إلا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أعطوه.

وأعلم اللّه أنهم جعلتْ عقوبتهم هذه العقوبة الغليظة في الدنيا والآخرة

لتغليظ ما ركبوه فقال - جل وعلا : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّه وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ).

وضع ذلك رفع بالابتداءِ  أمرهم ذلك وحقهم ذلك بكفرهم.

وقتلهم الأنبياءَ وأعاد ذكر ذلك ثانية فقال : (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يعْتَدُون).

الاعتداءُ المجاوزةْ في كل شيءٍ - مجاوزة القدر -  حقها بكفرهم -

فأعلم . اللّه أنهم غير متساوين فقال :

١١٣

(لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّه آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣)

(لَيْسُوا سَوَاءً)

وهذا وقف التمام.

أي ليس الذين ذكرنا من أهل الكتاب سواءً.

قال أبو عبيدة : (ليسوا سواء) جمع ليس ، وهو متقدم كما قال القائل :

أكلوني البراغيث وكما قال : عموا وصَمُّوا كثير منهم.

وهذا ليس كما قال لأن ذكر أهل الكتاب قد جرى ، فأخبر اللّه أنهم غير متساوين فقال (ليسوا سواءً).

ثم أنبأ بافتراقهم فقال : (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ).

قال أهل اللغة معنى قائمة مستقيمة ، ولم يبينوا حقيقة هذا وذكر الأخفش

 أمة قائمة ، أي ذو أمةٍ قائمة والأمة الطريقة من أممت الشيءِ إذا قصدته.

فالمعنى واللّه أعلم : من أهل الكتاب أمَّة قائمة ، أي ذوو طريقة قائمة.

قال النابغة الذبياني :

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة . . . وهل يأتمن ذو أمة وهو طائع

أي هل يأتمن ذو طريقة من طرائق الدين وهو طائع.

فإنما  إنَّه لا يستوي الذين قتلوا الأنبياءَ بغير حق والذين يتلون آيات اللّه آناءَ الليل وهم ذوو طريقة مستقيمة .

ومعنى (آناءَ الليل) ساعات الليل ، قال أهل اللغة واحد آناءِ الليل إنْي وآناءَ

مثل ، نِحْى وأنْحاءِ وأنشد أهل اللغة في ذلك قول الشاعر :

حُلوٌ وَمُرٌّ كطعم القدح مِرتهُ . . . بكل إنْي حداه الليلُ يَنْتَعِل

قالوا واحدها إِني مثل مِعْي وأمعاء ، وحكى الأخفش (إنْوُ).

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَهُمْ يَسْجُدُونَ).

معناه وهم يصلون لأن التلاوة ليست في السجود ، وإنما ذكرت الصلاة

بالسجود لأن السجود نهاية ما فيها من التواضع والخشوع والتضرع.

ومعنى (يَتْلُونَ) فيَ اللغة يُتْبِعُونَ بعض الشيءِ بعضاً ، وقد اسْتَتْلَاكَ الشيءَ إذا

جعلك تَتْبَعَهُ

قال الشاعر :.

قد جعلت دلوى تستليني . . . ولا أحب تبع القرين

إن لم يُرد سماحتي وَليني

وقال بعض أهل اللغة :  منهم أمة قائمة وامة على غير ذلك ، وأنشد

في ذلك قول الشاعر :

عصائي إليها القلب أني لأمره . . . سميع فيما أدري أرشد طلابها

ولم يقل أم هو في غَي لأن في الكلام دليلاً عليه ، قال : والعرب تضمر

هذا إذا عرفت مثل هذا - عرفت  .

وهذا الذي قال خطأ فاحش في مثل هذا المكان ، لأن ذكر أهل الكتاب

قد جرى في هذه القصة بأنهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ، ويقتلون الأنبياءَ بغير

حق ، فأعلمَ اللّه جلَّ وعزَّ أن منهم المؤْمنين الذين هم أمَّة قائمة ، فما الحاجة

إلى أن يقال غير قائمة وإنما المبدوءُ به ههنا ما كان من فعل أكثرهم من الكفر

والمشاقة للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - فذكر من كان مبايناً هُؤلاءِ وذكر في التفسير أن هذا يعني به عبد اللّه بن سلام وأصحابه :

* * *

١١٤

(يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤)

ومعنى (ويأمرون بالمعروف) ههنا أي يأمرون باتباع النبي - صلى اللّه عليه وسلم -

(وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) : عن الِإقامة على مشاقته - صلى اللّه عليه وسلم -.

* * *

١١٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللّه عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥)

قرئت بالياءِ والتاءِ وكلاهما صواب - كما قال اللّه عزَّ وجلَّ : (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره) - فالخطاب لسائر الخلق

ومن قال (فلن تُكْفَروه) فهو لهُؤلاءِ المذكورين وسائر الخلق داخل معهم في ذلك.

وموضع (يفعلوا) جزم بالشرط ، وهو (ما) والجواب (فلن يكفروه).

* * *

١١٦

قوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللّه شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١٦)

أي لا تمنعهم أولادهم مما هو نازل بهم ، لأنهم مالوا إلى الأموال في

معاندتهم النبي - صلى اللّه عليه وسلم - لأن الرياسة إنما قامت لهم - أعني - رؤَساءَ إليهود - بمعاندتهم النبي - صلى اللّه عليه وسلم - .

والدليل على أنهم كسبوا بذلك قوله جلَّ وعزَّ : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّه لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩).

ثم أعلم اللّه عزَّ وجلَّ أن مثل ما ينفقونه في تظاهرهم على النبي - صلى اللّه عليه وسلم - في الضرر لهم :

١١٧

(كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّه وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧)

والصر البرد الشديد.

(أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ) - أي زرع قوم ظلموا أنفسهم.

فعاقبهم اللّه بإذهاب زرعهم - فأهلكته.

فأعلم أن ضرر نفقتهم عليهم كضرر هذه الريح في هذا الزرع وقيل إنَّه يعني

به أهل مكة حين تعاونوا وأنفقوا الأموال على التظاهر على النبي - صلى اللّه عليه وسلم -

وقال بعضهم : (مثل ما ينفقون) ، أي مثل أعمالهم في شِرْكِهِم كمثل هذه الريح.

وجعل فيها صر أي صوت ، وهذا يخرج في اللغة.

وإنما جعل فيها صوتاً لأنه جعل فيها ناراً كأنَّها نار أحرقت الزرع - فالصر

على هذا القول صوت لهيب النار ، وهذا كله غير مُمْتَنع.

وجملته أن ما أنفق في التظاهر على عداوة الدِّين مضر مهلك أهله في العاجل والأجل.

* * *

١١٨

قوله جلَّ وعزَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨)

" البطانة " الدخلاءِ الذين يستبطنون ويتبسط إليهم ، يقال فلان بِطانة

لفلان أي مداخل له ومُؤانس ، فالمعنى أن المؤمنين أمِروا ألا يداخلوا

المنافقين ولا إليهود ، وذلك أنهم كانوا لا يبقون غاية في التلبيس على

المؤمنين . فأمروا بألا يداخلوهم لئلا يفسدوا عليهم دينهم.

وأخبر اللّه المؤْمنين بأنهم لا يألونهم خبالا ، أي لا يُبْقُون غاية في إلقائهم فيما يضرهم.

وأصل الخبال في اللغة ذَهاب الشيءِ

قال الشاعر :.

ابني سليمي لستم ليد . . . إلايدا مخبولة العضد

أي قد ذهبت عضدها.

(وَدُّوا مَا عَنِتمْ).

أي ودوا عَنَتْكُمْ ، ومعنى العنت إدخال المشقة على الإنسان ، يقال فلان

متعنت فلاناً ، أي يقصد إدخال المشقة والأذى عليه ، ويقال قد عِنتَ العظم

يَعْنَتُ عَنَتَا إذا أصابه شيء بعد الجبر ، وأصل هذا كله مرق قولهم : (اكَمَة عُنُوت) إذا كانْت طويلة شاقة المسلك ، فتأويل أعنتُّ فلاناً ، حَمَلْتُه على المشَقًةِ.

* * *

١١٩

قوله عزَّ وجلَّ : (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١١٩)

خطاب للمؤمنين ، أعلموا فيه أن منافقي أهل الكتاب لا يحبونهم وأنهم

هم يصحبون هؤُلاءِ المنافقين بالبر والنصيحة التي يفعلها المحب وأن

المنافقين على ضد ذلك.

فأعلم اللّه جلَّ وعزَّ المؤْمنين ما يُسِرُّه المنافقون وهذا من آيات

النبي - صلى اللّه عليه وسلم -.

قال بعض التحويين : العرب إذا جاءَت إلى اسم مكنى قد وصف

(بهذا) جعلته بين (ها) و (ذا) ، فيقول القائل أين أنت فيقول المجيب : هأنذا ،

قال وذلك إذا أرادوا جهة التقريب ، قال فإنما فعلوا ذلك ليفصلوا بين التقريب وغيره.

ومعنى التقريب عنده أنك لا تقصد الخبر عن هذا الاسم فتقول هذا

زيد.

والقول في هذا عندنا أن الاستعمال في المضمر أكثر فقط ، أعني أن

يفصل بين " ها " و " ذا" لأن التنبيه أنْ يَليَ المضْمَرَ أبْيَنُ.

فإن قال قائل : ها زيد ذا ، وهذا زيد ، جاز ، لا اختلاَفَ بين الناس في ذلك ، وهذا عندنا على ضربين : - جائز أن يكون " أولا " في معنى الذين كأنه قيل : هأنتم الذين تحبونهم ولا يحبونكم ، وجائز أن يكون (تحبونهم) منصوبة على الحال و (أنتم) ابتداء ، و (أولاءِ) الخبر.

 : انظروا إلى أنفسكم محبين لهم.

نهوا في حال محبتهم إياهم.

ولم يشرحوا لم كسرت (أولاءِ) ، وألاءِ أصلها السكون لأنها للإشارة.

ولكن الهمزة كسرت لسكونها وسكون الألف

(وتؤمنون) عطف على تحبون.

ومعنى (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ).

أي تصدقون بكتب اللّه كلها . -

(وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا). أي نافقوكم.

(وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ).

فأنبأ اللّه عزَّ وجلَّ - بنفقاتهم ههنا كما أنبأ به في قوله تعالى :

(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللّه عَلَيْكُمْ).

ويقال عَضَضْتُ أعَضُّ ، ويقال رجل عِضٌِ إذا كان ملازم خصم ، أي

يُصِر على المخاصمة ، والفعل منه عَضَضْتُ . والعُضُّ علف الأمصار الذي.

تعلفه الإبل نحو النوى والقت والكسب ، وإنما قيل له عض لأنه أكثر لبثاً في

المال وأبقى شحماً.

والأنامل واحدها أنمُلَة وهي أطراف الأصابع ولم يأت

على هذا المثال بغير هاء ما يعني غَيْرَ الواحد إلا قولهم قد بلغ أشدهُ.

أما الجمع فكثير فيه  نحو أكعب وأفلس وأيمن وأشمل.

* * *

١٢٠

قوله عزَّ وجلَّ - : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّه بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)

أي إِن تظفروا وَتُخْصِبُوا ساءَهم ذلك.

(وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا).

أي : إِن نالكم ضد ذلك فرحوا ، (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا).

ضمن اللّه - جلَّ وعزَّ - للمؤمنيِن النصر إِن صبروا وأعلمهم أن عدوانهم

وكيدهم غير ضار لهم.

و (لَا يَضُرُّكُمْ) الأجود فيه الضم لالتقاءِ الساكنين

الأصل لا يضرركم ، ولكن كثيراً من القراءِ والعرب يدغم في موضع الجزم.

وأهل الحجاز يظهرون التضعيف

وهذه الآية جاءَت فيها اللغتان جميعاً -

فقوله تعالى : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ) على لغة أهل الحجاز ، و (لَا يَضُرُّكُمْ)

على لغة غيرهم من العرب وكلا الوجهين حسن ، ويجوز (لَا يَضُرُّكُمْ) (ولا يُضِركُمْ) فمن فتح فلأن الفتح خفيف مستعمل فى التقاءِ السَّاكنين في

التضعيف ، ومن كسر فعلى أصل التقاءِ السَّاكنين ، وقد شرحنا هذا فيما سلف من الكتاب.

وقرئت : لا يَضِرْكُمْ من الضيْرِ ، والضيْرُ والضُّر جميعاً بمعنى واحد.

وكذلك الضر - وقد جاءَ في القرآن : (قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (٥٠).

وَجَاءَ : (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ).

وقدْ ذكرَ الفراءُ أن الكسائي سمع بعض أهل العالية يقول :

(ما تضُورُّنِي) فلو قرئت على هذا لا يضُركُم جاز.

وهذا غير جائز ولا يقرأ حرف من كتاب اللّه مخالف فيه الإجماع

على قول رجل من أهل العالية.

* * *

١٢١

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١)

روى أن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - رأى في منامه كَانَ عليه درْعاً حصينةً . فأولها المدينةَ ، فأمر - صلى اللّه عليه وسلم - المسلمين - حين أقبل إليهم المشركون بالإقامة بها إلى أن يوافيهم المشركون فتكون الحرب بها فَذَلك تَبْوئُةُ المقاعدَ للقتال.

قال بعضهم معناه مَواطِنَ للقتال والمعنى واحد.

والعامل في " إِذْ " معنى اذكر -  اذكر إذ غدوت.

١٢٢

والعامل في (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللّه وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢)

(تُبَوِّئُ)  كانت التبوئة في ذلك الوقت.

ومعنى (تَفَشلا) تَجْبُنَا وَتَخورا.

(وَاللّه وليُّهُمَا) : أي همت بذلك واللّه ناصرهما .

١٢٣

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللّه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣)

مَعْنى (أَذِلَّةٌ). عَدَدُكُمْ قليل ، وكان المسلمون في تلك الحرب ثَلاثمَائة

وبضعة عشر وكانوا في يوم أحد سَبْعَمائةٍ ، والكفارُ في يوم أحُدٍ ثلاثة آلاف.

وكانوا في يوم حنين اثني عشر ألفاً فأعلم اللّه - جلَّ وعزَّ - أنهم حينما ألزموا الطاعة أنه ينصرهم ، وهم قليل وعدوهم أضعافُهم ، وفي يوم أحد نزل بهم ما نزل لمخالفة أمر النبي - صلى اللّه عليه وسلم - في أن جاوزوا ما أُمِرُوا به ، فجعل اللّه ذلك لهم

عُقُوبة لئلا يَجْبُنُوا وجاءَ في بعض الخبر :

" الفِرارُ من الزحف كُفر).

ومعناه عندي واللّه أعلم - من فعْل الكفار ، لَا أنه يخرجُ الإنسانَ من الإيمان إلى الكفر.

وقد عفا اللّه فيه ، فقال : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ  مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّه وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ).

وأذلَّة جميع ذَليل ، والأصل في فعيل إِذا كان صفة أن يجمع على

فُعلاءِ ، نحو ظريف وظُرفَاء ، وشريك وشُرَكَاء ، ولكن فعلاءَ أجتنب في

التضعيف . لو قيل جللاءَ وقللاءِ في جليل وقليل ، لاجتمع حرفان من جنس

واحد ، فعدل به إِلَى أفْعِلة من جمع الأسماءِ في فعيل ، نحو جريب وأجْربة.

وقفيز وأقْفزة.

* * *

١٢٥

(بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥)

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا).

أي من وجههم ، وأ هذا " نعت نفورهم ، و (يُمْدِدْكُمْ) جواب

الجزاءِ يقال أمددت الجيش بعدد ، وأمَد الجرح إذا صارت فيه المِدَّة ، يُمِد

فهو مُمِدٌّ ، ومدَّ النهر ومدَّه نهر آخر.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّْ : (مُسَوِّمِينَ) قرئت (مُسَوِّمِينَ) و (مُسَوَّمِينَ)

ومعنى (مُسَوِّمِينَ) : أخذ من السَّومَة ، وهي العلامة ، كانوا يعلمون بصوفة  بعمامة  مَا أشبه ذَلك.

و (مُسَوَّمِينَ) : معلَّمِينَ . وجائز أن يكون مُسَوّمينَ : قد سَوَّمُوا خيلُهم

وجعلوهَا سائمة.

* * *

١٢٦

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَمَا جَعَلَهُ اللّه إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللّه الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦)

وما جعل ذكر المدد إلا بشرى لكم ولتمكنوا في حربكم

* * *

١٢٧

وقوله جلَّ وعزَّ : (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا  يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (١٢٧)

أي لينقل قطعة منهم.

( يَكْبِتَهُمْ).

أي يهزمهم ، قال أبو عبيدة : يقال كَبَتِهُ اللّه لوجهه أي صرعه اللّه

لوجهه ، والخائب الذي لم ينل مَا أمَّل.

* * *

١٢٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ  يَتُوبَ عَلَيْهِمْ  يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (١٢٨)

أنزل عليه ذلك - صلى اللّه عليه وسلم - لأنه في يوم أحُدٍ شُجَّ وكُسِرتْ رباعيته فقال وهو يمسح الدم عن وجهه : كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم ، فأعلمه اللّه جلَّ وعزَّ - أن فلاحَهُم ليس إليْه وأنه ليس له من الأمر شيء

إلا أن يبلغ الرسالة ويجاهد حتى يظهر الدين ، وأن ثوابه على اللّه - جلَّ وعزَّ - في ذلك.

ونصب ( يَتُوبَ) على ضربين :

جائز أن يكون عطفاً على  ليقطع طرفاً من الذين كفروا  يكبتهم  يتوب عليهم  يعذبهم.

والوجه الثاني على النصب بأو إذْ كانت في معنى إِلا أن.

فالمعنى : ليس لك من الأمر شيء أي : ليس يؤمنون إلا أن يتوب اللّه عليهم ،  حتى يتوب اللّه عليهم.

* * *

١٣٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللّه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠)

(الربا) قليلهُ وكثيرهُ قد حُرّم في قوله - جلَّ وعزَّ -

(وَأَحَلَّ اللّه الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا).

وإِنما كان هذا لأن قوماً من أهل الطائف كانوا يُربون . فإذا بلغ

الأجل زادوا فيه وضاعفوا الربا.

وقال قوم معناه : لا تُضَاعِفُوا أموَالَكُمْ بالربَا.

ومعنى (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

أي لتكونوا على رجاءِ الفلاح ، والمفلح هو الذيْ أدرك ما أمَّل من

الخير ، واشتقاقه من فَلَحَ الحديد إِذا شقه ، فإِنما هو مبالغة في إدراك ما

يوصل.

* * *

١٣١

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (١٣١)

أي اتَقوا أن تُحلُّوا ما حرم اللّه ، فإِن من أحلَّ شيئاً مما حرم اللّه فهو

كافر بإِجماع.

* * *

١٣٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣)

(وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).

أي لمن اتَّقى المحارم ، وروي عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أنَّ بيْن مصراعي بَاب

الجنة مسيرةَ أربعين عاماً ، وليأتين عليه يومٌ يزدحمُ عليه الناس ؛ كما تزدحم

الإبل وردت خِمصاً .ظِماءً.

* * *

١٣٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)

أي أعدت للذين جرى ذكرهم وللذين يكظمون الغيظ ، ويروي عن

النبي - صلى اللّه عليه وسلم -

" ما من جرْعةٍ يتجرعها الإنسان أعظمُ أجراً من جرعةِ غيظٍ في اللّه ".

يُقال كَظَمْتُ الغيظ أكظمهُ كظْماً إذا أمْسكْتُ على ما في نفسي منه.

ويقال كظم البعير على جرته إذا ردها في حلقه ، وكظم البعير والناقة كُظوماً إذَا لمْ يجتر.

قال الراعي :

فأفضْن بعد كُظُومهن بجرة . . . من ذي الأباطِح أذرَعين حقيلًا.

والْكِظَامة سير يشد بِهِ الوَتَر على سِيَة القوْس العربيةِ ، والكظمية.

والكظَائمُ حفائر تحفَر من بئْر إلى بِئر ليجري الماءُ من بعضها إلى بعض

وكاظمة موضع بالبادية.

* * *

١٣٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً  ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّه فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللّه وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥)

(وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللّه).

الرفع محمول على  ، والمعنى وأي أحدٍ يغْفِرُ الذنُوبَ ؛ ما يغفرها

إلا اللّه.

(وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا) ، الإصرار الإقامة على الشيءِ.

* * *

١٣٧

وقوله جلَّ وعزَّ : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧)

معنى قد خلت قد مضت ، ومعنى سُنَن أهلُ سنن أي أهل طَرائق.

والسُّنَّةُ الطَّريقَةُ ، وقول الناس : فلان على السُّنَّة معناه على الطريقة ، ولم

يحتاجوا " أن يقولوا على السُّنَّة المستقيمة لأنَّ في الكلام دليلاً على ذلك ، وهذا كقولنا " مؤمن " معناه مصدق وفي الكلام دليل على أنه مؤْمن بأمور اللّه

- عزَّ وجلَّ - التي أمر بالإيمان بها ، والمعنى إنكم إذا سِرْتُمْ في أسفاركم عرفتم أخبار قوم اهلكوا بتكذيبهم.

* * *

١٣٩

ْوقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩)

أي لا تَضْعُفوا ، يُقال وَهَنَ يَهِن إذا ضَعُفَْ فَضمنَ اللّه عزَّ وجلَّ - النصْر

ب(وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ).

* * *

١٤٠

وقوله جلَّ وعزَّ : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّه لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠)

(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) و (قُرْحٌ) جميعاً يقرأان ، وهما عند أهَل اللغة بمعنى واحد ومعناه الجراح وألمُها

يُقَالُ قَدْ قَرِحَ يَقْرَحُ قَرْحاً ، وأصابه قَرْحٌ ، قال بعضهم كأن القُرح

الجُرْح ، وكأن القَرْح الألم.

(وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ).

أي نجعل الدولة في وقت من الأوقات للكَافرينَ على المؤْمنين إذا

عصَوْا فيما يؤمَرُون به ، من محَاربة الكفار ، فأما إذا أطاعوا فهم مَنْصُورونَ

أبداً ، كما قال اللّه - عزَّ وجلَّ - (أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللّه هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢).

ومعنى (وَلِيَعْلَمَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ).

أي ليعلم اللّه من يُقيم على الإيمَانِ بعد أن تناله الغلبة ، أي يجعل لهم

الدولَة في وقت من الأوقات ليعلمَ المؤْمنين .

وتأويل (وَلِيَعْلَمَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا) - واللّه عزَّ وجلَّ - قد علمهم قبل ذلك :

معناه يعلم ذلك واقعاً منهم - كما قال عز وجل - (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ).

أي ليقع ما علمناه غيبأ مشاهدة للناس ، ويقع - منكم . وإنما تقع المجازاة

على ما علمه اللّه من الخلق وقوعاً على ما لم يقع وما لم يعلموه -

قال اللّه عزَّ وجلَّ : (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

وقال : (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

* * *

١٤١

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلِيُمَحِّصَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (١٤١)

 جعل اللّه الأيام مداولة بين الناس ليمحص المؤْمنين بما يقع

عليهم من قتلَ في حربهم ،  ألم  ذهابَ مال ، ويمحق الكافرين :

ليستأصلهم.

وجائز أن يكون يمحقهم يحبط أعمالهم ، وتأويل المحص في

اللغة التنْقِيَةُ والتخليص.

قال محمد بن يزيد - رحمه اللّه - يقال مَحَصَ الحبل مَحْصاً ، إذا ذَهَبَ منه الوَبرُ حتى يَمْلَصَ وحبل مَحِصٌ  مَلِصٌ بمعنى واحد.

قال وتأويل قول الناس : مَحِّصْ عَنا ذُنُوبَنَا : أي أذهِب عنا ما تعلق بنا

من الذنوب.

وأخبرنا محمد بن يزيد أن حُنَيْفَ الحَنَاتِمِ ورَدَ ماءً يُقال له (طُويلِع)

فقال : " واللّه إنك لَمَحِصُ الرشا بعيد المستقي مظل على الأعداء ولو سألتني

أعناق الإبل لأعطيتك "

أي لو تقطعت أعناق الِإبل إليك لقصدتك.

ومعنى مَحص الرشَاءِ أي هو طين خر ، فالرشا تَتَمَلصُ من اليد.

فمعنى يمحِّص

الذين آمنوا : يخلِّصهم من الذنوب.

وقال محمد بن يزيد - رحمه اللّه - أيضاً

وغيره من أهل اللغة مَحَصَ الظبي يَمْحَص إذا عَدا عدْواً شَديداً ، وقال هو

وحده : تأويله أنه لا يخْلط حدتَه في العَدو وَنْياً ولا فُتُوراً.

وقال غيره مَحَص الظبْيُ يَمحص ومحِصَ بمعنى واحد : إذا عَدا عدواً

يكادُ أن يَنْفد فيه من شدته.

ويقال : ويُستَحَب من الفَرَس أن تُمحَّصَ قوائمه

أي تخلص من الرَّهَلِ.

قال أبو إسحاق : وقرأتُ عليه أيضاً عن الخليل : المَحصُ التخليص يقال

مَحَصت الشيءَ أمْحَصه محْصاً إذا خلصته

وقال بعض أهل اللغة : (وليمحص اللّه الذين آمنوا) أي وليمحص اللّه ذنوب الذين آمنوا - ولم يُخْبَرُوا بحقيقة المحص ما هو.

* * *

١٤٢

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّه الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢)

وقرأها الحسن : (ويعلمِ الصَّابِرِينَ) بالكسر على العطف

ومن ، قرأ (ويعلمَ الصابرين) فعلى النصب بالواو.

 ولما يقع العلم بالجهاد والعلم بصبر الصابرين ، ولما يعلم اللّه ذلك واقعاً منهم . لأنه - جلَّ وعزَّ -يعلمه غيباً ، وإنما يجازيهم على عَملهم.

وتأويل (لَمَّا) أنَّها جواب لقَول القَائل قد فَعل فلان

فَجوابه لمَّا يفْعل وإذَا قال فَعَل فجوابه لَم يفعل ، وإذَا قال : لقد فجوابه مَا

يفعل ، كأنه قال " واللّه هو يفْعل ، يريد ما يُسْتقْبل فجوابه لَنْ يفعل ولا يفعل.

هذا مذهب النحويين.

* * *

١٤٣

وقوله عزَّ وجل : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣)

أي كنتم تمنون القتال ، هو سبب الموت ، والمعنى ولقد كنتم تمنون

سبب الموت ، وذلك أنهم كانوا يتمنونَ أنْ يُطْلَقَ لهم القتال - قال اللّه

عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّه  أَشَدَّ خَشْيَةً).

وقوله عزَّ " جل : (فَقَدْ رأيْتمُوهُ وأنتُمُ تَنظُرونَ)

قيل فيه غير قول.

قال الأخفش معناه التوكيد.

وقال بعضهم وأنتم تنظرون إلى محمد - صلى اللّه عليه وسلم -.

والمعنى - واللّه أعلم - فقد رأيتموه وأنتم بصراءُ كما تقول : قد رأيت

كذا وكذا ، وليس في عينيك عَمَة - أي قد رأيته رؤية حقيقية.

وهو راجع إلى معنى التوكيد.

* * *

١٤٤

وقوله عزَّ وجلَّ : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ  قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّه شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّه الشَّاكِرِينَ (١٤٤)

أي قد مضت من قبله الرسل ،  إنَّه يمُوت كما ماتَت الرسُل قبله.

(أَفَإِنْ مَاتَ  قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ).

أي ارتَددْتم عن دينكم - وروي أن بعض من كان في يوم أحُد ارتدَّ ،

وبعضهم مضى مسافة ثلاثة أيام ، فأعلم اللّه جلَّ وعزَّ أن الرسُلَ ليْست باقية

في أممها أبداً وأنَّه يجب التمسك بما أتَتْ به ، وإن فُقِدَ الرسُولُ بموت

قتل.

وألفْ الاستفهام دخلت على حرف الشرط ومعناها - الدخول على

الجزاءِ ،  أتنْقلبون على أعقابكم إن مات محمد  قُتل ، لأن الشرط

والجزاءَ معلق أحدهما بالآخر فدخلت ألف الاستفهام على الشرط وأنبأت عن

معنى الدخول على الجزاءِ ، كما أنك إذا قلت هل زيد قائم فإنما تسْتفهم عن

قياعه لا من هو ، وكذلك قولك ما زيد قائماً إنما نفيت القيام ولم تنف زيداً لكنك أدخلْت " ما " على زيد لتعلُم من الذي نُفى عنه القيامُ.

وكذلك قوله عزَّ وجلَّ (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ).

* * *

١٤٥

ْوقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللّه كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥)

 ما كانت نفس لتموت إلا بإذن اللّه ، وقوله عزَّ وجلَّ :

(كِتَابًا مُؤَجَّلًا) على التوكيد ،  كتب اللّه ذلك كتاباً مؤَجلاً أي كتاباً ذَا أجَل).

والأجلُ هو الوقْتٌ الممعلوم ، ومثل هذا التوكيد قوله - عزَّ وجلَّ :

(كِتَابَ اللّه عَلَيْكُمْ) لأنه لما قال : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ)

دل ذلك على أننة مفروض عليهم فكان  (كِتَابَ اللّه عَلَيْكُمْ) توكيداً.

وكذلك قوله عز وجلَّ : (صُنْعَ اللّه الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) لأنه لما قال : (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ).

دل ذلك على أنه خَلَق اللّه وصُنعُه.

فقال : (صُنْعَ اللّه) وهذا في القرآن في غير موضع -

وهذا مجراه عند جميع النحويين.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا).

أي من كان إنما يقصد بعمله الدنيا أعطي منها ، وكل نعمة فيها العبد

فهي تفضل من اللّه إعطاء منه.

ومن كان قصده بعمله الآخرة آتاه اللّه منها.

وليس في هذا دليل أنه يحرمه خير الدنيا ، لأنه لم يقل ومن يرد ثواب الآخرة

لم نؤته إلا منها ، واللّه عزَّ وجلَّ ذو الفضل العظيم.

* * *

١٤٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّه وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللّه يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦)

تفسيرها " كم من نبي " ، وفيها لغتان جيدتان بالغتان يقرأ بهما جميعاً.

يقرأ . (وَكَأَيِّنْ) بتشديد (وكائن) على وزن فاعل.

وأكثر ما جاءَ الشعر على هذه اللغة

قال جرير :

وكائن بالأباطح من صديق . . . يراني لو أصَبْتُ هو المصابا

وقال الشاعر أيضاً :

وكائن رَدَدْنا عنكمو من مدجج . . . يجيء أمام الألف يُردَى مقنعا

ومثل التشديد

كَائن في المعاشر من أناس . . . أخوهم فوقَهم وهُمُ كرام

أعلم اللّه جلَّ وعزَّ أن كثيراً من الأنبياءِ قاتَل معه جماعة فلم يهنوا - فقال

اللّه عزَّ وجلَّ : (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّه وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا).

وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّه وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللّه يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦)

معنى (فَمَا وَهَنُوا) فما فَتَروا ، (وما ضعفُوا) : وما جَبُنُوا عن قتال عدوهم.

ومعنى (ما استكانوا) : ما خضعوا لعدوهم وتقرأ - وهو الأكثر (رِبِّيُّونَ) بكسر الراءِ ، وبعضهم يقرأ (رُبِّيُّونَ) - بضَم الراءِ.

وقيل في تفسير (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) أنهم الجماعات الكثيرةُ.

وقال بعضُهم الربوة عشَرةُ آلاف وقيل الربيون العلماءُ الأتقياءُ :

الصُّبُر على ما يُصيبُهُم في اللّه - عزَّ وجلَّ - وكلا القولين حَسن جميل ، وتقرأ : (قُتِلَ معه) ، (وقَاتَل معه).

فمن قرا قاتل  إنهم قاتلوا وما وهنوا في قتالهم ، ومن قرأ قُتِل ، فالأجود أن يكون (قُتِلَ) للنبي عليه السلام  . . وكأين من نبي قتل ومعه ربيون فما وهنوا بعد قتله ، لأن هولاءِ الذين وهنوا كانوا توهموا أَن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - قتل ، فأعلم اللّه - عزَّ وجلَّ - أن الربانيين بعد قتل نبيهم ما وهنوا.

وجائز أن يكون (قُتِلَ) للربانيين ، ويكون (فما وهنوا) أي ما وهن من بقي منهم .

١٤٧

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (١٤٧)

تقرأ (قَوْلَهُمْ) بالنصب ويكون الاسم : (إلا أن قالوا) فيكون  ما كان

قَوْلهمْ إلا استغفارُهم ، أي قولهم اغفر لنا - ومن قرأها بالرفع جعل خبر كان ما بعد إلا ، والأكثر في الكلام أن يكون الاسمُ هو ما بعد إلا - قال اللّه عزَّ وجل (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا) (مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا).

ومعنى : (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) أي ثبتنا على دينك . وإذا ثَبتهُمْ على دينهم ثبتوا

في حربهم - قال اللّه عزَّ وجلَّ - (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا)

 تزلَّ عن الدين.

* * *

١٤٨

وقوله عز وجل : (فَآتَاهُمُ اللّه ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨)

أي ظفَّرهم وغَنمهُم . (وَحُسْنُ ثَوَابِ الآخِرَةِ).

المغفرة وما أعد لهم من النعيم الدائم.

* * *

١٥٠

وقوله جلَّ وعزَّ : (بَلِ اللّه مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠)

أي هو وليكم ، وإذَا كان وليهم فهو ناصرهم (فَإِنَّ حِزْبَ اللّه هُمُ الْغَالِبُونَ (٥٦)).

* * *

١٥١

وقوله جلَّ وعزَّ : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللّه مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١)

يروى عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أنه قال : " نُصرت بالرعْبِ ".

وقال : "يُرْعَب مني عَدوي من مسيرةِ شهر ".

وقال اللّه عزَّ وجلَّ : (في سورة الحشر : (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ).

وقوله عزَّ وجلَّ : (بِمَا أَشْرَكُوا بِاللّه مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا).

أي أشركوا به مَا لم يُنَزل به حُجةً ، والسلطان في اللغة الحجة ومثله

(مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (٢٩).

أي ذهبت عني حجيته.

* * *

١٥٢

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّه وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللّه ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢)

(إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ).

معناه تستأصلونهم قتلا ، يقال حسهم القائد يحُسهم حسًّا إذَا قتلهم.

ويقال هل حَسَسْتَ كذا وكذا أي هل رَأيتَه  علمته.

ويقال ما حَسَسْتَ فلاناً ، وهل حَسَسْتَ له - والكسر أكثر - أي ما رفُقْت عليه ولا رحمته ويقال جيءَ به من حِسَّك وبَسَّك ، أي من حيث ما كان ولم يكن ، كذلك لفظ الأصمعي.

وتأويله جيءَ به من حيث تدركه حاسَّة - من حواسِّك ،  يدركه تصَرف من تَصرفك ، ومعنى . (بِإِذْنِهِ) بعلمه.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (حتى إذَا فَشِلْتُم).

أي جَبُنتم عن عدوكم ، (وتنازعتم) اختلَفْتم

(مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ)

لأنهم أعطوا النصر فخالفوا فيما قيل لهم في حربهم فعوقبوا بأن ديل منهم ".

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (مِنكمْ مَنْ يُريدُ الدُّنْيَا).

أي منكم من قصده الغَنيمة في حربه

(وَمنكُم مَنْ يُريدُ الآخِرَةَ).

أي يقصد بحربه إلى ما عند اللّه.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللّه ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢)

١٥٣

إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللّه خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٥٣)

(تُصْعِدُونَ) و (تَصْعَدون) جميعاً ، قد قريءَ بهما ، فمن قال (تُصْعِدُونَ) فهو لكل من

ابتدأ مسيراً من مكان فقد أصعد ، والصعود إنما يكون من أسفل إلى فوق.

ومن قرأ (تَصْعَدون) فالمعنى إذ تَصْعدون في الجبل ولا تَلْوُونَ على أحَدِ.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ . : (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) ، أي أثابكم بأن غممتم النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أن نَالكُم غَمٌّ - بما عوقبتم به للمخَالفَة

وقال بعضهم (غَمًّا بِغَمٍّ) إشراف خالد بن الوليد عليهم بعد ما نالهم.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ) من غنيمة.

(وَلَا مَا أَصَابَكُمْ).

أي ليكون غمكم بأن خالفتم النبي فقط.

* * *

١٥٤

وقوله جلَّ وعز : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّه غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ للّه يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّه مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّه عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١٥٤)

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا).

أي أعقبكم بما نالكم من الرُّعب أن أمنَكم أمْناً تنامون معه ، لأن الشديدَ

الخوفِ لا يكادُ ينَامُ.

و (أمنَةً) اسم تقول أمن الرجل أمْناً وَأمَنَةً ، إذا لم ينله خوف.

و (نُعَاسًا) : منصوب على البدل من (أمَنَةً) ، ويقرأ (يغشى) و (تغشى طائفة منكم) فمن قرأ (يغشى) - بالياء - جعله للنعاس ومن قرأ (تغشى) بالتاء جعله للأمنة.

والأمنة تَؤدي معنى النعاس.

وإن قرئَ يغشى جْاز - وهذه الطائفة هم المؤمنون.

(وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) وهم المُنَافقُونَ.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (يَظُنُّونَ بِاللّه غَيْرَ الْحَقِّ) ، أي يظن المنافقون أن أمر

النبي - صلى اللّه عليه وسلم - مضمحل.

(ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) : أي هم على جاهليتهم في ظنهم هذا والقراءَة.

(وطائفة قد أهمتهم أنفسهم) - قال سيبويه :  إذ طائفة قد أهمتهم وهذه واو

الحال ، ولو قُرئت : (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم) ، على إضمار فعل (أهم)

الذي ظِهر تفسيره كان جائزاً .  وأهمت طائفة أنفسهم ، وجائز أن يرتفع

على أن يكون الخبر - يظنون ويكون قد أهمتهم نعت طائفة ،  وطائفة

تهمهم أنفسهم يظنون ، أي طائفة يظنون باللّه غير الحق.

وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ).

تقرأ (بيُوتكم) بضم الباءَ وكسرها ، وروى أبو بكر بن عياش عن عاصم

بكسر الباءِ ، قال أبو إسحاق : وقرأناها بإقراء أبي عمرو عن عاصم (بُيوتكم) بضم الباء ، والضم الأكثر الأجود -

والذين كسروا (بِيُوت) كسروها لمجيء الياءِ بعد الباء

و " فِعول " ليس بأصل في الكلام ، ولا من أمثلة الجمع.

فالاختيار (بُيوت)

مثل قلب وقُلوب وفَلْس وفُلوس.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ).

معنى (برزوا) صاروا إلى براز ، وهو المكان المنكشف أي لأوصلتهم

الأسباب التي عنها يكون القتل إلى مضاجعهم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَليَبْتَلِيَ اللّه مَا فِي صُدُورِكم).

أي يختبره بأعمالكم لأنه علمه غيباً فيعلمه شهادة لأن المجازاة تقع

على ما علم مشاهدة ، أعني على ما وقع من عامليه ، لا على ما هو معلوم

منهم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ للّه).

فمن نصب فعلي توكيد (الأمر) ومن رفع فعلي الابتداء - و (للّه) الخبر

ومعنى (الأمر كله للّه) أي النصر وما يلقي من الرعب في القلوب للّه.

أي كل ذلك للّه .

١٥٥

وقوله جلَّ وعزَّ : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللّه عَنْهُمْ إِنَّ اللّه غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)

هذا خطاب للمؤْمنين خاصة.

(إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا).

أي لم يَتَولوا في قتالهم على جهة المعاندة ، ولا على الفِرار من الزحف

رغبة في الدنيا خاصة ، وإنما أذكرهم الشيطان خطايا كانت لهم فكرهوا لقاءَ

اللّه . إلا على حال يرضونها ، فلذلك عفا عنهم وإلا فأمر الفِرار والتولي في

الجهاد إذا كانت العدة أقل من المثلين ،  كانت العدة مثلين ، فالفرار أمر

عظيم.

قال اللّه عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ  مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّه وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ)

وهذا يدل أن أمر الوعيد لأهل الصلاة أمر ثابت ، وأن التولي في الزحف من أعظم الكبائر . -

* * *

١٥٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ  كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللّه ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّه يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦)

( كَانُوا غُزًّى).

القراءَة وما ثبت في المصحف على القصر وفُعَّل جمع فاعل نحو

ضارب ، وضُرَّب ، وشاهد وشُهدُ ، ويقع على فُعَّال نحو حارب وحُراب.

وضارب وضُرَّاب . وغُزَّاء . يجوز إلا أنه لا يكون في القراءَة لأنه ممدود.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (لِيَجْعَلَ اللّه ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ)

أي : ليجعل ظنهم أنهم لو لم يحضروا - وإذا لم يحضروا الحرب اندفع

عنهم ما كتب عليهم . فحسرتهم فيما ينالهم أشد.

(وَاللّه يُحْيِي وَيُمِيتُ).

أي ليس الإنسان يمنعه تحرزه من إتيان أجله على ما سبق في علم

اللّه.

* * *

١٥٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّه لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩)

(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّه لِنْتَ).

" ما " بإجماع النحويين ههنا صلة لا تمنع الباءَ من عملها فيما عملت.

 فبرحمة من اللّه لنت لهم . إلا أن " ما " قد أحدثَتْ بدخُولها توكيد

 ، ولو قرئت فبما رحمة من اللّه جاز ،  فبما هو رحمة كما

أجازوِا . . . (مثلاً مَا بَعُوضَةٌ) ولا تقرأنَّ بها ، فإن القراءَة سنة ولا يَجُوز أنْ

بقْرأ قارئٌ بِمَا لم يقرأ به الصحابة  التابعون  من كانَ من قُرَّاءِ الأمصار

المشهورين في القراءَة.

والمعنى أن ليَّنك لهم مما يُوجب دخولهم في الدين لأنك تأتيهم

بالحجج والبراهين مع لين وخلق عظيم.

(وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).

الفَط : الغليظُ الجانب السيئ الخُلُقُ ، يقال فظَظْتَ تَفِظُّ فظاظة.

وفظَظاً ، إلا أن فظاظة أكْثَرُ لثقل التضعيف ، وما كان من الأسماءِ على (فَعَل)

في المضاعف فغير مدغم نحو المدَدُ والشرَر ، وما كان على (فَعْل) فمدغم

على كل حال نحو رجل صب ، وأصله صَببٌ وكذلك فظ وأصله فظَظ ، ومثله من غير المضاعف . قد فرَقْتَ تفرق ، فرَقاً ، وأنتَ فَرِق ، " وإذا اضطر شاعر رد فَعْلاً إلى أصله في المضاعف

قال الشاعر :

مهلا أعاذل قد جربت من خلقي . . . أني أجود لأقوام وقد ضَنِنُوا

والفظ ماء الكرش ، والفرث وِسمي فظاً لغلظ مشربه.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْر).

أي شاورهم فيما لم يكن عندك فيه وحي ، فأما مَا فيه أمر من اللّه جلَّ

وعزِّ ووحي فاشتراك الأراءِ فيه ساقط.

وإنما أراد اللّه عزَّ وجلَّ - بذلك السنة في المشاورة ، وأن يكرم أصحابَه

بمشاورته إياهم ، ثم أمر بعد الإجماع على الرأي بالتوكل على اللّه -

عزَّ وجلَّ - قال : (فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوكل عَلَى اللّه).

أي لَا تَظن أنك تنال مَنَالاً تحبه إلَّا باللّه جلَّ وعزَّ.

* * *

١٦١

قوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦١)

(وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) و (أن يُغَل) قرئتا جميعاً.

فمن قرأ (أَنْ يَغُلَّ) فالمعنى : وما كان لنبي أن يخونَ أمَّتَه وتفسير ذلك أن

النبي - صلى اللّه عليه وسلم - جمع الغنائم في غزاة ، فجاءه جماعة من المسلمين فقالوا : ألا تقْسم بيْننا غنائمنا فقال - صلى اللّه عليه وسلم - لو أن لكم عندي مثل أحُد ذهباً ما منعْتكم درهماً أترونني

أغُلكم مغْنَمكمُ ، ويروى عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أنَّه قال :

" ألاَ لا أعرفَنَّ رجُلاً يأتي يوم القِيامة ومعه شاة قد غَلَّهَا لها ثغاء ، ألا لا أعرفنَّ رجلاً يأتي يوم القيامة ومعه بعيرٌ قد غلَّه له رُغَاء ، ألا لا أعرفَنَّ رجلا يأتي يوم القيامة ومعه فرس قد غلَّه له حَمْحَمة ".

ومنِ قرأ (أن يُغلَّ) فهو جائز على ضربين : أي ما كان لنبي أن يغُلَّه

أصحابه ، أي يخَوِّنُوه - وجاءَ عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم -

" لا يَحْبِسْ أحدكم خيطاً ولا مخيطاً ".

وأجاز أهل اللغة أن يُغَل أن يُخَوَّنَ ، ويقال : أغْلَلْتُ الجلد إذا سلخته

فأبقيت فيه شيئاً من الشحم ، وقد غل الرجل يَغُلُّ إذا خان لأنه أخذ شيئاً في

خفاء ، فكل ما كان من هذا الباب فهو راجع إلى هذا ، من ذلك الغال وهو

الوادي الذي ينبت الشجر وجمعه غُلَّان ، ومن ذلك الغِل وهو الحقد ، وتقول

قد أغلَّت الضيْعَة فهي مُغِلَّة إذا أتَتْ بِشيء وأصلها باق - قال زهير - :

فَتُغْلِلْ لكم ما لا تُغِل لأهلها . . . قرى بالعراق من قَفِيزٍ ودرهم

والغلَالةُ : الثوبُ الذي يُلْبَسُ " تحت الثياب " والذي يلبس تحت

الدرع - درع الحديد - غِلَالَة ، وَتَغَلَّلْت بالغالية " وتغليت " إِنما هو جعلها في

أصول الشعر . والغل الماء الذي يجري في أصول الشجر.

ومعنى (وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ  كَانُوا غُزًّى).

معنى (إذا) ههنا ينوب عما مضى من الزمان وما يستقبل جميعاً والأصل

في (إذ) الدلالة على ما مضى ، تَقولُ أتيتك إذْ قُمتَ وآتَيك إذا جئتني.

ولم يقل ههنا " إذ ضربوا في الأرض " لأنه يريد شأنهم هذا أبداً ، ومثل ذلك في الكلام : فلان إذَا حدث صدق ، وإذا ضُرِبَ صبر.

(فإذا) لِمَا يُستقبل ، إلا أنه لم يحكم له بهذا المستقبل إلا بما خبر منه فيما مضى.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَشَاوِرْهُمْ في الأمْرِ).

يقال شاورت الرجل مْشاوَرةً وشَوارا ، وما يكون من ذلك فاسمه

المَشُورَة ، وبعضهم يقول المشورة . يقال فلان حسن الصورة والمشورة

أي حسن الهيئة واللباس وإنهُ لَشئر (صثن) وحسن الشارة والشوار متاعَ البيت.

ومعنى شاورت فلان أظهرت في الرأي ما عندي وما عنده ، وشُرْت الدابة

أشوُرها إذا امتحنتها فعرفت هيئتها في سيرها.

ويقال شُرْتُ العسلَ وأشَرْتُ العَسلَ إذا أخذته من مواضع النحل وعسل مشور.

قال الأعشى.

كأَنَّ القَرنْفُلَ والزَّنْجَبِيلَ . . . باتا بِفيها وأَرْياً مَشُورا

والأرْيُ العسلُ ، ويقال عسل مُشَار.

قال الشاعر :

وغناء يأذَنَ الشيخُ لَه . . . وحديث مثل مَاذِيٍّ مُشَار

١٦٢

قوله جلَّ وعزَّ : . (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّه كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللّه وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢)

يقرأ رضوان بكسر الراءِ ، ورضوان بضم الراءِ ، وقد رويتا جميعاً عن

عاصم.

(كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللّه).

يروى أن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - حين أرمر المسلمين في أحد باتباعه ، اتبعه المؤمنون وتخلف عنه جماعة من المنافقين ، فأعلم اللّه جلَّ وعزَّ : - أن من اتبع النبي - صلى اللّه عليه وسلم -

فقد اتبع رضوان اللّه ، ومن تخلف عنه فقد باءَ بسخط من اللّه.

ومعنى باءَ لذنبه : احتمله ، وصار المذنب مأوى الذنب ، ولذلك بوأت فلاناً منزلًا أي جعلته ذا منزل.

* * *

١٦٣

وقوله جلَّ وعزَّ : (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللّه وَاللّه بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٦٣)

أي المؤمنون ذوو درجة رفيعة ، - والكافرون ذوو درجة عند اللّه وضيعة

ومعنى (هُمْ دَرَجَاتٌ) : هم ذوو درجات ، لأن الإنسان غير الدرجة

كما تقول : الناس طبقات أي ذوو طبقات ؛

وأنشد سيبويه . -

أنْصب للمنية تعتريهم . . . رجال أم همُو درج السيول

أي همْ ذوو درج ، ويجوز أم همو درجَ السيول على الظرف.

* * *

١٦٤

وقوله جلَّ وعزَّ : (لَقَدْ مَنَّ اللّه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١٦٤)

بعث اللّه محمداً - صلى اللّه عليه وسلم - رسولاً وهو رجل من الأميين لا يتلو كتاباً ولا يخطه بيمينه ، وبعثه بين قوم يَخْبُرونه ويعْرفونه بالصَدق والأمانة وأنه لم يقرأ كتاباً ولا لُقِّنَه فتلا عليهم أقاصيص الأمم السالفة ، والأنبياء الماضية لا يدفع أخباره كتاب من كتبِ مخالفته ، فأَعلم اللّه أنه مَنَّ على المؤمنين برساله من قد عُرِفَ أمرُه ، فكان تناول الحجة والبرهان وقبول الأخبار والأقاصيص سهلا من قِبَلِه.

وفي ذلك أعظم المنة.

وقد جاءَ في التفسير إنَّه يراد رسول من العرب ولو كان القصد في ذلك

- واللّه أعلم - أن أمره إنما كانت فيه المنة أنه من العرب لكان العجم لا حجة عليهم فيه.

ولكن الأمر - واللّه أعلم - أن المنَّة فيه أنه قد خُبِرَ أمْرهُ وشَأنهُ وعَلِمَ

صدقهُ ، وأتى بالبراهين بعد أن قد علموا إنَّه كان واحداً منهم.

* * *

١٦٥

وقوله جلَّ وعزَّ : (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥)

هذه الواو واو النسق ، دخلت عليها ألف الاستفهام فبقيت مفتوحة على

هيئتها قبل دخولها ، ومثل ذلك في الكلام قول القائل : تكلم فلان بكذا وكذا ، قيقول قائل مجيباً له  هو ممن يقول ذلك.

وقيل في التفسير إن هذه المصيبة عنى بها ما نزل بهم يوم أُحُد ،

و (أصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا) أصبتم في يوم أحد مثلها وأصبتم يوم بدر مثلها ، فأصبتم مثلَيْ ما أصابكم.

(قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا) أي من أين أصابنا هذا.

(قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أي أصابكم بمعصيتكم النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وما من قوم أطاعوا نبيهم في حربهم إلا نُصِرُوا ، لأنهم إذا أطاعوا فهم حزب اللّه ، وحزب اللّه هم الغالبون.

* * *

١٦٦

وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّه وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦)

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (فَبِإذنَ اللّه) أي ما أصابكمْ كان بعلم اللّه.

وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا)

أي ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم على ما نالهم ، ويظهر نفاق المنافقين

بفشلهم وقلة الصبر على ما ينزل بهم في ذات اللّه.

* * *

١٦٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩)

ْالقراءَة بالرفع (بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ولو قرئت بل أحياءَ عند ربهم لجاز

 أحسَبْهُمْ أحْياءَ وقيل في هذا غير قول : قال بعضهم لا تحسبهم أمواتاً

في دينهم بل هم أحياء في دينهم ، كما قال اللّه تعالى : (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ).

وقال بعضهم : لا تحسبهم كما يقول الكفار إنهم لا يبعثون بل يبعثون.

(بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ).

وقيل إن أرواحهم تسرح في الجنة وتلذ بنعيمها ، فهم أحياء عند ربهم.

قال بعضهم : أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة ، ثم تصير إلى

قناديل تحت العرش .

١٧٠

وقوله جل ثناؤُه : (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠)

أي لم يلحقوا بهم في الفضل إلا أن لهم فضلاً عظيماً بتصديقهم

وإيمانهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

فَمَوضع . " أنْ " خفض :  يستبشرون بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

* * *

١٧١

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّه وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّه لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١)

(وأن اللّه لا يُضِيعُ أجْرَ المؤْمِنينَ).

(أنَّ) في موضع خفض.

 ويَسْتَبْشِرُونَ بأن اللّه لا يضيع

ويجوز (وَإِنَّ اللّه لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) على معنى واللّه لا يضيع أجر المؤمنين ، وكذلك هي في قراءَة عبد اللّه (واللّه لا يُضيع).

فهذا يقوى (وَإِنَّ) بالكسر.

* * *

١٧٢

وقوله - جلَّ وعزَّ - : (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للّه وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢)

أي من بعد ما أصابهم الجرح ، ومن قرأ القُرح فمعناه ألم الجرح.

(الذين) جائز أن يكون في موضع خفض على النعت للمؤمنين ، والأحسن

أنْ يكون في موضع رفع بالابتداءِ ويكون خبر الابتداء (للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم).

* * *

١٧٣

وقوله جلَّ وعزَّ : (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّه وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣)

يقال في التفسير إن قائِل هذا نعيم بنُ مسعود الأشجعي بعثه أبو

سفيان وأصْحابه يُثَبًطُونَ النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وأصحابه عن لُقِيِّهِمْ ، وكان بين المسلمين وبين المشركين في يوم أحد موعد للقاء ببدر الصغرى ، فلم يلتفت المسلمون

إلى تخويف نعيم وعزموا على لقاء القوم وأجابوه بأن قالوا : (حَسْبُنَا اللّه وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).

وتأويل حسبنا اللّه أي : الذي يكفينا أمَرهُمْ اللّه.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا).

أي زادهم ذلك التخويف ثبوتاً في دينهم وإقامة على نصرة نبيهم.

وصاروا إلى بدر الصغرى ، وألقى اللّه في قلوب المشركين الرعب فلم

تغفلوهم.

* * *

١٧٤

وقوله جلَّ وعزَّ : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّه وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللّه وَاللّه ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤)

 فلم يخافوا ما خافوا ، وصاروا إلى الموعد الذي وعدوا فيه.

فانقلبوا بنعمة ، أي انقلبوا مؤمنين قد هرب منهم عدوهم.

وقيل في التفسير إنهم أقاموا ثلاثاً واشتروا أدْماً وزَبِيباً رَبِحُوا فيه.

وكل ذلك جائز ، إلا أن إنقلابهم بالنعمة هي نعمة الإيمان والنصر على عدوهم.

* * *

١٧٥

وقوله جلَّ وعزَّ : (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)

أي ذلك التخويف الذي كان فعل الشيطان.

أي هو قوله للمخوفين ، يخوف أولياءَه.

قال أهل العربية : معناه يخوفكم أولياءه ، أي من أوليائه.

والدليل على ذلك قوله جلَّ وعزَّ :

(فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

أي كنتم مصدقين فقد أعلمتكم أني أنصركم عليهم فقد سقط عنكم

الخوف ، وقال بعضهم يخوف أولياءه ، أي إنما يخاف المنافقون ، ومن لا

حقيقة لإيمانه.

(فَلَا تَخَافُوهُمْ) ، أي . لا تخافوا المشركين.

* * *

١٧٨

وقوله - جلَّ وعزَّ -: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٧٨)

قرئث (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ)

وقد قرلْت (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّمَا نُمْلِي)

معني (نُمْلِي لَهُمْ) نؤَخرهم - وهؤُلاء قوم أعلم اللّه النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أنهم لا يؤْمنون أبداً ، وأن بقاءَهم يزيدهم كفراً وإثماً.

وأما الإعراب - فقال أبو العباس محمد بن يزيد : إن من قرأ بالياء

(يَحْسَبَنَّ) فتح أن ، وكانت تنوب عن الاسم والخبر تقول حسبت أن زيدا

منطلق ، ويصح الكسر مع الياءِ - بفتح (ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم) بكسر إنَّ . وهو جائز على قبحه ، لأن الحسبان ليس بفعل حقيقي فهو

يبطل عمله مع أن ، كما يبطل مع اللام ، تقول حسبت لَعَبْدُ اللّه منطلق.

وكذلك قد يجوز على بعد : حسبت أن عبد اللّه منطِلق.

ومن قرأ (ولا تحسبن الذين كفروا) لم يجز له ، عند البصريين إلا كسر

(إن)

 : لا تحسبن الذين كفروا ، إملاؤُنا خير لهم ودخلت أن مؤَكدة.

اذا فتحت (أن) صار  ولا تحسبن الذين كفروا إملائا

قال أبو إسحاق وهو عندي في هذا الموضع يجوز على البدل من الذين.

 لا نحسبن إملاءَنا للذين كفروا خيراً لهم وقد قرأ بها خلق كثير.

ومثل هذه القراءَة من الشعر

قول الشاعر :

فما كان قيسٌ هُلْكُه هلك واحد . . . ولكنه بنيانُ قوم تهدَّما

جعل هلكه بدلاً من قيس ،  فما كان هلكُ - قيس هلك واحد.

* * *

١٧٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (مَا كَانَ اللّه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّه لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّه يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللّه وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩)

يروى في التفسير أن الكفار قالوا للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - تخبرنا بأن الإنسان في النار حتى إذا صار مِنْ أهل مِلَّتك قلت إنه من أهل الجنة.

فأَعلم اللّه عزَّ وجلَّ - أن حُكمَ من كفر أن يقال له : إنه من أهل النار ، ومن آمن فهو - ما آمن وأقام على إيمانه وأدَّى ما افتُرض عليه - من أهل الجنة ، أعلم أن المؤمنين وهم (الطيِّب) مُمَيزَّون من الخبيث أي مخلَّصُون.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا كَانَ اللّه لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ).

أي ما كان اللّه ليعلمكم من " يصير منكم مؤمناً بعد كفره ، لأن الغيب

إنما يطلع عليه الرسُل لإقَامة البُرهَان ، لأنهم رسل وأن ما أتَوا بِه من عند اللّه ، وقد قيل في التفسير : ما با لُنا نحن لا نكون أنبياء ، فأَعلم اللّه أن ذلك إليه ، وأنه يختار لرسالاته منْ يشاءُ.

* * *

١٨٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللّه مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠)

هذا يعني به علماءَ إليهود الذين بخلوا بما آتاهم اللّه مِنْ عِلْمِ نبوة

النبي - صلى اللّه عليه وسلم - ومشاقته وعداوته

وقد قيل إنهم الذين يبخلون بالمال فيمنعون الزكاة.

قال أهل العربية :  ، لا يحسبن الذين يبخلون البخل هو خيراً لهم.

ودل (يبخلون) على البخل . و (هو) ههنا فصل ، وهو الذي يسميه الكوفيون العماد ، وقد فسرناه إلا أنا أغفلنا فيه شَيئاً نذكره ههنا :

زعم سيبويه أن هو ، وهما ، وهم ، وأنا ، وأنت ، ونحن - وهي ، وسائر هذه الأشياءِ إنما تكون فصولاً مع الأفعال التي تختاج إلى اسم وخبر ولم

يذكر سيبويه الفصل مع المبتدأ والخبر ، ولو تأول متأول أن ذكره الفصل ههنا يدل على أنه جائز في المبتدأ  الخبر كان ذلك غير ممتنع.

قال أبو إسحاق والذي أرى أنا في هذه ، (ولا يحسبن الذين يَبْخلون) بالياء.

ويكون الاسم محذوفاً.

وقد يجوز (ولا تَحسبن الذين يبخلون) على معنى

ولا تحسبن بُخل الذين يبخلون ، ولكن حذف البخل من ههنا فيه قبح ، إلا أن حذفه مِن قولك : (ولا يحسبن الذين يبخلون) قد دل يبخلون فيه على البخل ، كما تقول : من كذب كان شرًّا له ، والقراءَة بالتاءِ عندي لا تمنع ، فيكون مثل (وأسأل القرية) أي أهل القرية ، فكذلك يكون معنى هذا :

لَا تَحْسبَن بُخْل الباخلين خيراً لهم.

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَللّه مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).

أي اللّه يغني أهلهما فيغنيان بما فيهما ، ليس لأحد فيهما ملك فخوطب

القوم بما يعقلون ، لأنهم يجعلون ما رجع إلى الإنسان ميراثاً إذا كان ملكاً له.

* * *

١٨١

وقوله عزَّ وجلَّ : (لَقَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّه فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (١٨١)

هؤلاءِ رؤَساء أهل الكتاب لما نَزَلَت (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّه قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً).

قالوا نرى أنَّ إله محمد يستَقْرض مِنا فنحن إذن أغنياء . وهو فقير ، وقالوا هذا تَلْبيساً على ضَعَفَتهمْ ، وهم يعلمون أن اللّه عزَّ وجلَّ : لا يستقرض من عَوَزٍ ، ولكنه يبْلو الأخيار فهم يعلمون أن اللّه سمَّى

الإعطاءَ والصَّدَقة قَرضاً ، يؤَكد به - أن أضعافه ترجع إلى أهله ، وهو عزَّ وجل يقْبض ويبسُط أىِ يوسع ويُقَتر.

فأعلم اللّه عزَّ وجلَّ أنه قد سمِع مقالتهم ، وأعلم أن ذَلك مُثْبت عليهم.

وأنهم إليه يرْجعونَ فيجازيهِمْ على ذلك وأنه خبير بعملهم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ).

ومعنى (عَذَابَ الْحَرِيقِ) أي عذابٌ مُحْرِق - بالنار ، لأن العذاب يكون بِغَيْر

النار.

فأعلم أن مجازاة هؤُلاء هذا العذاب.

وقوله (ذوقوا) هذه كلمة تقال للشيء يوئس من العَفْو يقال ذق ما أنت فيه

أي لَسْت بمتَخَلِّص منه.

* * *

١٨٣

وقوله جل ذكره : (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّه عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٨٣)

هذا من نعت (العبيد) الذين قالوا (حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ)

أي عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى تكون آيتُه هذه الآية.

فأَعلم اللّه - عزَّ وجلَّ - أنَّ أسلافهم قَد أتتهم الرسل بالبينات وبالذي طلبوا . فقتلوهم . فقال : (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ).

وهم لم يكونُوا تَوَلَّوْا القتل ، ولكن رضوا بقتل أولئك الأنبياءِ فشركوهم في

القتل.

* * *

١٨٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)

الزُّبُر : جمع زبور والزبور كل كتاب ذو حكمة.

ويقال زبرت إذا كتبت . وزبرت إذا قرأت.

* * *

١٨٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)

(وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

ولا يجوز "أجُورُكم" علَى رفع الأجور وجعل ما في معنى الذي ، لأن يوم

القيامة يصير من صلة (توفون) ، وتوفون من صلة (ما) فلا يأتي (ما) في الصلة بعد (أُجُوركُمْ) و (أُجُوركُمْ) خبر.

وقوله عزَّ وجلَّ " : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ).

أي نُحِّيَ وأزيلَ (فقَدْ فَاز) يقال لكل من نجا من هلكة وكل من لقي ما

يغبط به : قد فاز ، وتأويله تباعد من المكروه ولقي ما يحب

ومعنى قول الناس مفازة إنما هي من مهلكة ، ولكنهم تفاءَلوا بأن سموا

المهلكة مفازة.

والمفازة المنجاة ، كما تفاءَلوا بأن سمُّوا اللديغ السليم ، وكما سمُّوا

الأعمى بالبصير.

* * *

١٨٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)

معناه : لتُخْتَبَرُن أي تقع عليكم المحن ، فيعلم المؤمن من غيره ، وهذه

النون دخلت مؤَكدة مع لام القسم وضُمَّت الواوُ لسكونها وسكون النون . ويقال للواحد من المذكرين : لتبلَينَ يا رجل ، وللاثنين لتبليَان يا رجلان ، ولجماعة الرجال : لتبْلَوُنَّ.

وتُفتَح الياءُ من لَتَبْلَينَ في قول سيبويه لسكونها وسكون النون.

وفي قول غيره تبنى على الفتح لضم النون إليها كما يبنى ما قبل هاءِ

التأنيث ، ويقال للمرأة تُبْلَين يا امرأة ، وللمرأتين لتبليَان يا امرأتان ولجماعة

النساءِ لتُبْلَيْنَانِّ يا نِسْوة ، زيدت الألف لاجتماع النونات.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا).

روي أن أبا بكر الصديق - رضي اللّه عنه - سمع رجلا من إليهود يقول :

" إن اللّه فقير ونحنُ أغنياءُ " فلطمه أبو بكر - رضي اللّه عنه - فشكا إليهودي ذلك إلى النبي - صلى اللّه عليه وسلم - فسأله النبي :

" ما أراد بلطمك ؟

فقال أبو بكر سمعت منه كلمة ما ملكت نفسي معها أن لطمتُه.

فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا).

وأذى مقصور يكتب بالياء يقال قد أَذِيَ فلان يأذى أذى.

إذا سمع ما يسوءُه . .

* * *

١٨٧

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (١٨٧)

(لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ).

وليبيننه ، بالياءِ والتاءِ ، فمن قال ليبيننه بالياءِ ، فلأنهم غَيبٌ ، ومن قال

بالتاءِ حكى المخاطبة التي كانت في وقت أخذ الميثاق ، والمعنى أن اللّه أخذ منهم الميثاق ليبينن أمر نبوة النبي - صلى اللّه عليه وسلم -.

(فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ).

معنى (نبذوه) رمَوْا بهِ يقال للذي يطرح الشيء ولا يعْبأ به : قد جعلت

هذا الشيء بظهر ، وقد رميته بظهر.

قال الفرزدق :

تَمِيمُ بنَ قَيْسٍ لا تَكونَنَّ حاجَتِي . . . بظَهْرٍ فلا يَعْيا عَليَّ جَوابُها

أي لا تتركنها لا يُعْبَأ بها.

وأنبأ اللّه عما حمل إليهود الذين كانوا رؤساءَ على كتمان أمر النبي - صلى اللّه عليه وسلم - فقال : (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) أي قبلوا على ذلك الرشا ، وقامت لهم رياسة اكتسبوا بها ، فذلك حملهُمْ

على الكفر بما يخفونه.

* * *

١٨٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨٨)

هؤلاءِ قوم من أهل الكتاب دخلوا على النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وخرجوا من عنده فذكروا لمن كان رآهم في ذلك الوقت أن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - قد أتاهم بأشياءَ قد عرفوها.

فحمِدهم من شاهدهم من المسلمين على ذلك ، وأبطنوا خلاف ما أظهروا وأقاموا بعد ذلك على الكفر ، فأَعلم اللّه - عزَّ وجلَّ - النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أمرهم وأعْلمه أنهم ليْسوا بِمَفازة منَ العذَاب أي ليسوا ببعد من العذاب .

ووقعت (فَلَا تَحْسَبنهم) - مكررة لطول القصة.

والعرب تعيدُ إذا طالت القصة في حسبت وما أشبهها ، إعلاماً أن الذي جرى متصل بالأول ، وتوكيداً للأول ، فنقول : لا تظنَن زيداً إذا جاءَك وكلمك بكذا وكذا - فلا تظننه صادقاً ، تعيد - فلا تظنن توكيداً - ولو قلت لا تظن زيداً إذا جاءَك وحدثك بكذا وكذا صادقاً جاز ، ولكن التكرير أوكد وأوضح للقصة.

* * *

١٨٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَللّه مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩)

أي هو خالقهما ، ودليل ذلك قوله - عزَّ وجلَّ : (خالق كل شيء)

و (خلق السَّمَاوَات والأرض) وأعلم أن في خلقهما واختلافِ الليل والنهارِ

آياتٍ لأولى الآلباب " أي ذَوي العقول.

والآيات العلامات ، أي من العلامات فيهما دليل على أن خالقَهما واحد ليس كمثله شيء.

* * *

١٩١

وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّه قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٩١)

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّه)

هذا من نعت (أولي الألباب) ، أي فهُؤلاءِ يستدلون على توحيد اللّه -

عزَّ وجلَّ - بخلق السَّمَاوَات والأرض وأنهم يذكرون اللّه في جميع أحوالهم (قِيَاماً وقُعُوداً وعلَى جُنُوبهِم)

معناه ومضطجعين ، وصلح في اللغة أن يعطف (بعلى)

على - (قياماً وقعوداً) لأنْ معناه ينبئُ عن حال في أحوال تصرف الإنسان ، تقول : أنا أسير

الى زيد مماشياً وعلى الخيل .  ماشياً وراكباً . فهؤُلاءِ المستدلون على حقيقة توحيد اللّه يذكرون - اللّه في سائر هذه الأحوال.

وقد قال بعضهم : (يَذْكُرُونَ اللّه قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ).

أي يُصَلونَ على جميع هذه الأحوال على قدر إمكانهم في صحتهم وسَقَمِهم.

وحقيقته عندي - واللّه أعلم - أنهم موحدون اللّه في كل حال.

(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).

فيكون ذلك أزيدَ في بصيرتهم ، لأن فكرتهم تُرِيهُمْ عظيم شأنهما.

فيكون تمظيمهم للّه على حسب ما يقفون عليه من آثار رحمته.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا).

معناه يقولون (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا) أي خلقته دليلاً عليك ، وعلى

صدق ما أتَتْ به أنبياؤُكَ . لأن الأنبياءَ تأتي بما يَعْجِز عنه المخْلُوتُونَ.

فهو كالسماوات والأرض في الدليل على توحيد اللّه.

(سُبْحَانَكَ): معناه براءَة لك من السوءِ وتنزيهاً لك من أن تكون خلقتهما

باطلًا . .

(فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)

أي فقد صدقنا رسلك وأن لَكَ جَنةً ونَاراً فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

* * *

١٩٤

(رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (١٩٤)

معناه واللّه أعلم - على ألسُنِ رُسلِكَ.

وقوله - عزَّ وجلَّ : (وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

أي قد صدقنا يوم القيابة فلا تخزنا ، والمُخزى في اللغة المُذلُّ المحقور بأمر

قد لزمه بحجة ، وكذلك أخْزَيتُه . أي ألزمته حُجة أذَللْتُه معها.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)

أي قد وعدت من آمن بكِ ووحدك الجنة.

* * *

١٩٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ  أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللّه وَاللّه عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (١٩٥)

 فاستجاب لهم ربهم بأني لا أضيع - عمل عامل منكم من ذَكَرٍ

أنْثَى.

وإن قرئت (إنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ) . جائز بكسر (إنَّ) ويكون

قال لهم ربهم : إنِّي لا أضيع عمَل عامل منكم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (ثَوَابًا)

مصدر مؤكد ، لأن معنى (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)

"لأثيبنهُم"

ومثله (كِتَابَ اللّه عَلَيكم) لأن قوله عزَّ وجلَّ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ . . .).

معناه : كتب اللّه عليكم هذا فـ (كِتَابَ اللّه) - مؤَكد - وكذلك قوله

عزَّ وجلَّ : (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللّه الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) قد علم أن ذلك صنع اللّه.

* * *

١٩٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (١٩٦)

خطاب للنبى - صلى اللّه عليه وسلم - وخطاب للخلق في هذا الموضع ،  لا يغرنكم أيها المؤمنون.

ويروى أن قوماً من الكفار كانوا يتجرون ويربحون في أسفار كانوا

يسافرونها ، فأعلم اللّه عزَّ وجلَّ - أن ذلك مما لا ينبغي أن يُغْبَطوا به ، لأن

مصيرهم بكفرهم إلى النار ولا خيرَ بخير بعده النار.

١٩٧

فقال عزَّ وجلَّ : (مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٩٧)

أي ذلك الكسب والربح الذي يربحونه متاع قليل.

وأعلم - جلَّ وعزَّ - أن من أراد اللّه واتقاه فله الجنة فقال

١٩٨

(لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللّه وَمَا عِنْدَ اللّه خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (١٩٨)

(نُزُلًا) مَؤكد أيضاً ، لأن خلودهم فيها إنزالهم فيها.

وواحد الأبرار - بارُّ وأبرَار ، مثل صاحب وأصحاب ويجوز أن يكونَ بَرٌّ

وأبرار ، على فَعْل وأفْعَال ، تقول بررت والدي فأنا برٌّ ، وأصله برَر ، لكن الراءَ أدغمَت للتضعيف.

* * *

١٩٩

قوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّه وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للّه لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّه ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّه سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٩٩)

(خَاشِعِينَ للّه).

أي من عند أهل الكتاب من يُؤمن خاشعاً للّه -.

(لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّه ثَمَنًا قَلِيلًا).

وإنما ذكر هؤُلاءِ لأن ذكر الذين كفروا جرى قبل ذكرهم فقال :

(فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا).

أخبر - جلَّ وعزَّ - بما حمل إليهود على الكفر ، وأخبر بحال من آمن من

أهل الكتاب وأنهم - صدقوا في حال خشوع ورغبة عنْ أن يشتروا بآيات اللّه ثمناً قليلاً.

* * *

٢٠٠

قوله جلَّ وعزَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللّه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)

أي على دينكم ، (وَصَابروا) : أي عدوكم ورَابطُوا : أقيموا على جهاد

عدوكم بالحرب والحجة ، (وَاتَّقُوا اللّه) في كل ما أمركم به ، ونهاكم عنه.

(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

ولعل ترج ، وهو ترج لهم ، أي ليكونوا على رجاءِ فلاح - وإنَّما قيل لهم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) : أي لعلكم تسلمون من أعمال تبطل أعمالكم هذه.

فأما المؤمنون الذين وصفهم اللّه جل ثناؤُه فقد أفلحوا.

قال اللّه جلَّ وعزَّ : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٢).

إلى آخر وصف المؤمنين.

فهؤُلاءِ قد أفلحوا لا محالة وإنما يكون الترجي مع عمل يتوهم أنه بعض من العمل الصالح .