سُورَةُ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةٌ

وَهِيَ مِائَتَانِ وَسِتٌّ وَثَمَانُونَ آيَةً

ومن سورة البقرة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

قوله تبارك وتعالى : (الم (١)

زعم أبو عبيدة معمرُ بنُ المثنى أنَّها حُروفُ الهجاءِ افْتتاح كلام.

وكذلك ؛ (المر) ، و (المص) ، وزعم أبو الحسن الأخْفش أنَّها افتتاح كلام

ودليل ذلك أن الكلام الذي ذُكِرَ قَبلَ السورَةِ قَد تَم.

وزعم قطرب أن : (الم) و (المص) و (المر) و (كهيعص) و (ق) ،

و (يس) و (نون) ، حروف المعجم ذكرت لتدل على أن هذا القرآن مؤلف من هذه الحروف المقطعة التي هي حروف أ . ب . ت . ث.

فجاءَ بعضها مقطًعاً وجاءَ تمامها مُؤَلفاً ليدل القوم الذين نزل عليهم القرآن أنه بحروفهم التي يعقلونها لا ريب فيه.

ويروى عن الشعبي أنه قال : للّه في كُل كتابٍ سِر وسره في القرآن

حروف الهجاءِ المذكورة في أوائل السورِ.

ويروى عن ابن عباس ثلاثةُ أوجه في (الم) وما أشبهها ، فوجه منها أنه

قال : أقسم اللّه بهذه الحروف أن هذا الكتاب الَّذِي أنزل على محمد - صلى اللّه عليه وسلم - هو الكتاب الذي عنده ، عزَّ وجلَّ لا شك فيه ، والقول الثاني عنه أن : (الر) ، (وحم) ، و (نون) ، اسم للرحمن عزَّ وجلَّ - مقطًع في اللفظ موصُول في .

والثالث عنه أنَّه قال : (الم) معناه أنا اللّه أعلم ، و (الر) معناه أنا اللّه أرى ،

و (المص) معناه أنا اللّه أعلم وأفصل و (المر) معناه أنا اللّه أعلم وأرى.

فهذا جميع ما انتهى إِلينا من قول أهل اللغة والنحويين في معنى

(الم) وجميع ما انتهى إلينا من أهل العلم بالتفسير.

ونقول في إعراب (الم) و (الر) و (كهيعص) وما أشبه هذه

الحروف.

هذا باب التهجي .

(هذا باب حروف التهجي)

وهي : الألف والباءُ والتاءُ والثاءُ وسائر ما في القرآن منها.

فإجْماع النحويين أن هذه الحُروف مَبْنِية على الوقف لا تعرب ومعنى

قولنا " مبنية على الوقف " أنك تُقَدرُ أنْ تسكت على كل حرف منها ، فالنطق : ألف ، لام ، ميم ، ذلك.

والدليل على أنك تقدر السكت عليها جمعك بين

ساكنين في قولك (لام) وفي قولك (ميم).

والدَّليل على أن حروف الهجاءَ مَبْنيَّة على السكت كما بني العدَدُ على السكْت : أنَك تقول فيها بالوقف مع

الجمع بين ساكنين ، كما تقول إذا عددت واحدْ . اثنانْ . ثَلاثَهْ . أربعهْ . . .

ولولا أنك تقدر السكت لقلت : ثلاثةً ، بالتاءِ كما تقول : ثلاثاً يا هذَا . فتصير الهاءَ تاءً مع التنوين واتصال الكلام.

وحقها من الإعراب أن تكون سواكن الأواخر ، زَعم سيبويه أنك أردْتَ أنَ

المعجمَ حروف يُحْكى بها ما فِي الأسْماءِ المَؤلفَةِ من الحروف فجرى

مجرى ما يحكى به نحو (غاق) ، وغاق يا فتى ، إنما حكى صوت الغُراب.

والدليل أيْضاً على أنها مَوْقُوفَة قولُ الشاعر :

أقْبَلْتُ من عند زيادكالخَرِف . . . تخطُّ رجْلاي بخَط مخْتَلف

تَكَتبَانِ في الطريق لَامَ ألِفْ

كأنه قال : لامْ ألِفْ ، بسكون " لام " ولكنه ألقى حركة همزة " ألف "

على الميم ففتحها.

قال أبو إسحاق : وشرح هذه الحروف وتفسيرها أنها ليست تجري مجرى

الأسماءِ الْمُتمكنَة ، والأفعال المضَارِعة التي يجب لها الإعرابُ وإنما هي

تقطيِع الاسم المَؤلف الذي لا يجب الإعراب فيه ألا مع كماله ، فقولك

" جَعْفر " لا يجب أن تُعْرَبَ منه الجيمَ ولا الْعَيْنَ ولا الفَاءَ ولا الراءَ ، دون

تكميل الاسم ، فإنما هي حكايات وُضِعَتْ على هذه الحروف ، فإن أجريتها

مَجْرى الأسماءِ وحدثت عنها قلت : هذه كاف حسنة ، وهذا كاف حسنٌ.

وكذلك سائر حُرُوف الْمُعجَم ، فمنْ قال هذه كاف أنثَ لمعْنى الْكَلِمَةِ ، ومن

ذكر فلمعنى الحرف ، والإعرابُ وقع فيها لأنك تخرجها من باب الحكاية.

قال الشاعر :

كافاً ومِيمين وسيناً طَاسِماً

وقال أيضاً :

كما بينت كاف تَلُوح ومِيمُها

ذكرَ طَاسِماً لأنه جَعله صفةً للسين ، وجعل السين في معنى الحرف وقال

تلوح ، فأنث الكاف ، ذهبَ بها مذهب الكلمة ، قال الشاعر يهجو النحويين ، وهو يَزيدُ بن الحكم.

إذا اجتمعوا على ألف وواو . . . وياءٍ لاح بينهمو جدال

فأما إعرابُ (أبِي جَادٍ) و (هَوَزٍ) و (حُطي) ، فزعم سيبويه أن هذه

مَعْروفاتُ الاشتقاق في كلام العرب ، وهي مَصْروفة ، تقول : علمْتُ أبَا جادٍ

وانتفعتُ بأبي جاد ، وكذلك (هوز) تقول : نفعني (هوز) ، وانْتَفَعْتُ بهوَزٍ.

(وكذلك حُطي) ، (وَهُن) مصْروفات منوَّنَات.

فأما (كلمون) و (سَعْفَص) و (قُرَيْشِيَات) ، فأعْجَمِيات تقول : هذه كَلَمْونَ - يا هذا - وتعلمت كَلَمُونَ وانتفَعْتُ بكلمون ، وكذلك (سعفص).

فَأما قُرَيْشِيَات فاسْم للجَمْع مصروفة بسبب الألف والتاء تقول : هَذه

قرَيْشِيَات - يا هذا وَعَجبْتُ مِنْ قُريْشِيات (يا هذا).

ولقطرب قول آخر في (الم) : زعم أنه يجوز : لما لغا القومُ في القرآن

فلم يتفهموه حين قالوا (لاَ تَسْمَعُوا لهذا القرآن والغَوْا فِيه) أنْزِلَ ذكرُ هذه

الحروف ، فسكتوا لمَّا سمعوا الحروف - طمعاً في الظفر بمَا يحبون ليفهموا

- بعد الحروف - القرآن وما فيه ، فتكون الحجة عليهم أثبت إذا جحدوا بعد تفهم وتعلم.

قال أبو إسحاق : والذي اختاره من هذه الأقوال التي قيلت في قوله

عزَّ وجلَّ : (الم) بعض ما يروى عن ابن عباسٍ رحمة اللّه عليه.

وهو أن  : (الم) أنا اللّه أعلم ، وأن كل حرف منها له تفسيره.

والدليل على ذلك أن العرب تنطق بالحرف الواحد تدل به على الكلمة التي هو منها.

قال الشاعر :

قلنا لها قفي قَالَتْ قافْ . . . لا تَحْسَبي أنَّا نَسِينَا الإيجَاف

فنطق بقاف فقط ، يريد قالت أقف.

وقال الشاعر أيضاً :

نَادَوْهمو أنِ الْجِمُوا ألَاتا . . . قالوا جميعاً كلهم ألَا فَا

تفسيره : نادوهموا أن الجمُوا ، ألا تركبون ، قالوا جميعاً : ألا فارْكبوا.

فإنما نطق بتاءٍ وفاءٍ كما نطق الأول بقَافِ.

وأنشد بعض أهل اللغَةِ للقيم بن سَعْد بن مالك :

إنْ شئْتَ أشْرَفْناكلانا فدعا . . . اللّه ربا جُهْدَه فاسْمَعَا

بالخير خيرات وإنْ شَرا فآى . . . ولا أريد الشر إلا أن تآءَ

وأنشد النحويون :

بالخير خيرات وإن شرا فا . . . ولا أريد الشر إلا إن تَا

يريدون : إن شَرا فَشَر ، ولا أريد الشر إلا أن تَشَاء.

أنشد جميع البصريين ذلك

فهذا الذي أختاره في هذه الحروف واللّه أعلم بحقيقتها.

فأما (ص) فقرأ الحسن : صادِ والقرآن ، فكسر الدال ، فقال أهل

اللغة : معناه صاد القرآن بعملك ، أي تَعَمَّدْهُ ، وسقطت الياءُ للأمر ويجوز أن

تكون كسرت الدال لالتقاءِ السَّاكنين إذَا نَويتَ الوصلَ.

وكذلك قرأ عبد اللّه بن أبي إِسحاق : " صادِ والقرآن " ، وقرأ أيضاً " قافِ والقرآن المجيد).

فالكسرُ فى مذهب بن أبي إسحاق لالتقاءِ السَّاكنين.

وقَرأ عيسى بن عمر : " صادَ والقرآنِ " - بفتح الدّال - وكذلك قرأ

"نونَ والقلم " و " قافَ والقرآنِ " - بالفَتح أيضاً - لالتقاءِ السَّاكنين.

قال سيبويه : إذَا نَاديتَ أسْحار والأسْحَارُّ اسمُ نَبْتٍ - مشدد الراءِ - قلت في ترخيمه : يا أسْحار أقْبل ، ففتَحْتَ لالتقاءِ الساكِنين كما اخْتَرتَ الفتحَ في قولك عضَّ يا فتى فاتباع الفتحةِ الفَتْحُةَ كاتباع الألفِ الفَتْحَةَ ويجوز : يا أسحار أقْبِل ، فتَكْسِر لالتقاء الساكنَيْن.

وقال أبو الحسن الأخفش : يجوز أن يكون صادَ وقافَ ، ونونَ أسماءً

للسور منصوبةً إلا أنها لا تُصْرف كما لا تصرف جملة أسْماءِ المؤَنث.

والقولُ الأول أعني التقاءَ السَّاكنين ، والفتحَ والكسر من أجل الْتقائها أقيسُ ، لأنه يزعم أنه ينْصب هذه الأشياء كأنه قال : أذكر صادَ).

وكذلك يجيز في (حم) ،

و " طس " ، النصبَ و " ياسين " أيضاً على أنها أسماءٌ للسور.

ولوكان قرئ بها لكان وجهُه الفتحَ لالتقاءِ السَّاكنين.

فأما (كهيعص) " فلا تُبينُ فيها ، النون مع الصاد في القراءَة

وكذلك (حم عسق) لا تبين فيها ، النون مع السين.

قال الأخفش وغيره من النحويين : لم تبَين النون لقرب مخرجها من

السين والضادِ.

فأما " نُونْ والقَلم " فالقراءَة فيها تَبْيين النون مع الواو التي في " والقلم ".

وبترك التبيين.

إِنْ شئتَ بينْتَ وإِن شئْتَ لَمْ تُبيِّنْ ، فقلت " نُونْ والقَلم "

لأن النون بعدت قليلاً عن الواو.

وأما قوله عزَّ وجلَّ (المَ) اللّه ففي فتح الميم قولان أحدهُما لِجماعة من

النحويين وهو أن هذه الحروف مبنية على الوقف فيجب بعدها قطع ألف

الوصل فيكون الأصل : أ . ل . م . اللّه لا إِله إِلا هو.

ثمً طرِحتْ فَتْحةُ الهمزَةِ على الميم ، وسقطت الهمزة كما تقول : واحدْ إثْنَان ، وإن شئت قلت : واحدِ اثْنَان فألقَيْتَ كسرة اثنين على الدال.

وقال قوم من النحويين لا يسوغ في اللفظ أن ينطق بثلاثة أحرف سواكنَ

فلا بد من فتحة الميم في ألم اللّه لالتقاءِ السَّاكنين (يعني الميم واللام والتي بعدها).

وهذا القول صحيح لا يمكن في اللفظ غيره .

فأمَّا من زعم أنه إِنما ألقي حركةَ الهمزة فيجب أن يقرأ (الم اللّه).

وهذا لا أعلم اجداً قرأ به إلا ما ذُكر عن الرؤَاسي ، فائا من رواه عن

عاصم فليس بصحيح الرواية.

وقال بعض النحويين لو كانت محركة للالتقاءِ السَّاكنين لكانث مكسورة.

وهذا غلط لو فعلنا في التقاءِ السَّاكنين إذا كان الأول منهما ياءً لوجب أن

تقول : كيفِ زَيد واين زيد وهذا لا يجوز ، وإنما وقع الفتح لثقل الكسرة بعد

الياء) . .

٢

وقوله عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢)

زعم الأخفش وأبو عبيدة أن معناه هذا الكتاب قال الشاعر.

أقول له والرمح يأطر متنه . . . تامَّلْ خُفَافاً إنني أنا ذَلكا

قال  إنني أنا هذا.

وقال غيرهما من النحويين : إِن معناه القرآن

ذلك الكتاب الذي وعدوا به على لسان موسى وعيسى - صلى اللّه عليهما وسلم -

ودليل ذلك قوله تعالى : (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ)

وكذلك  (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦).

فالمعنى هذا ذلك الكتاب.

ويجوز أن يكون قوله " (الم ذَلَكَ الْكِتَابُ) فيقال " ذلك " للشيءِ الذي

قد جرى ذكره ، فإن شئتَ قلت فيه " هذا "

وإنْ شِئتَ قلت فيه " ذلك " ، كقولك

انفقت ثلاثة وثلاثة فذلك ستة وإن شئت قلت هذا ستة.

 كقوله عزَّ وجلَّ في قصة فرعون : (فَحَشَرَ فَنَادَى (٢٣) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللّه نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (٢٥).

ثم قال بعد ذلك : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (٢٦).

وقال في موضع آخر : (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥)

ثم قال : (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (١٠٦).

وقال عزَّ وجلَّ (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) فقال (ذلك) فجائز - أن  : تلك علامات الكتاب ، أي القرآن متكلم به بحروف العرب التي نعقلها على ما وصفنا في شرح حروف الهجاءِ.

وموضع (ذلك) رفع لأنه خبر ابتداءٍ على أقول ، من قال هذا القرآن ذلك

الكتاب . والكتاب رفع يسميه النحويون عطف البيان نحو قولك :

هذا الرجل أخوك فالرجل عطف البيان أي يبين من الذي أشرت إليه ، والاسم من ذلك " ذا " والكاف زيدت للمخاطبة ولاحظ لها في الإعراب

قال سيبويه : لو كان لها حظ في الإعراب لقلت : " ذاك نفْسِه زيد ، وهذا خطأ - لا يجوز إلا (هذاك نَفْسُه زيد).

(ولذلك " ذانك " يشهد أن الكاف لا موضع لها . لو كان لها موضع

لكان جرا بالإِضافة ، والنون لا تدخل مع الإضافة).

واللام تزاد مع ذلك للتوكيد ، أعني توكيد الاسم لأنها إذا زيدت

أسقطت معها " ها). تقول : ذلك الحق وذاك الحق ، وها ذاك الحق.

ويقبح هذلك الحق لأن اللام قد أكدت معنى الإشارة.

وكسرت اللام للالتقاء السَّاكنين ، أعني الألف من ذا واللام التي بعدها ، وكان ينبغي أن تكون ساكنة ولكنها كسرتَ لما قلناه.

وكذلك يجب أن يكون موضع ذلك رفعاً فيمن جعل ذلك خبراً عن (الم).

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (لَا رَيْبَ فِيهِ)

معناه لا شك فيه تقول : رابني فلان إذا علمت الريبَة فيه وأرابني إذا

أوهمني الريبة قال الشاعر .

أخوك الذي إنْ ربتَه قال إنما . . . أرَبتُ وإنْ عاتبته لأن َ جانبه

وموضع (لا ريب) نصب ، قال سيبويه : " لا " تعملُ فيما بعدها فتنصبه

ونصبها لما بعدها كنصب إن لمَا بعدها إلا أنها تنصبه - بغير تنوين وزعم أنها

مع ماب عدها بمنزلة شيءٍ واحد.

كأنها جواب قول القائل : هل من رجل في الدار ، فمن غير منفصلة من

رجل ، فإنْ قال قائل فما أنكرت أن يكلون جواب هل رجلَ في الدار ؟

قيل : معنى " لا رجل في الدار " عموم النفي ، لا يجوز أن يكون في الدار رجل ولا أكثر منه من الرجال إذا قلت : " لا رجل في الدار ".

فكذلك " هل مِنْ رجل في الدار " استفهام عنِ الواحد وأكثر منه ، فإذا قلت : (هل رجل في الدار)  (لا رَجُل في الدار)

جاز أن يكون في الدار رجلان لأنك إنما أخبَرْتَ أنه ليس فيها

واحد فيجوز أن يكون فيها أكثر ، فإذا قلت : لا رجُلَ في الدار فهو نفي عام

وكذلك (لَا رَيبَ فِيهِ).

وفي قوله (فيه) أربعةُ أوجه : - القراءَةُ منها على وجه واحد ولا ينبغي أنْ

يُتَجاوَزَ إلى غَيْره وهو (فيهِ هُدى) بكسر الهاءِ

(ويجوز في الكلام وفي القراءة لو كان . قرئ به) (فيهي هدى) بإثبات الواو ، و " فيهي هدي). بإثبات الياءِ.

وقد شرحنا هذه الأوجه في إعراب الحمد .

فأما قِرَاءَةُ (فيهْ هُدى) بإدغام الهاءَ في الهاء فهو ثقيل في اللفظ ، وهو

جائز في القياس لأن الحرفين من جنس واحد إلا أنه يثقل في اللفظ لأن

حروف الحلق ليست بأصل في الإدغام والحرفان من كلمتين ، وحكى

الأخفش أنها قِراءَة (١).

وموضع (هدَى) نصب ، ومعتاه . بيان ونصبه من وجهين أحدُهُما أنْ

يكون مَنْصُوباً على الحال من قولك : القرآن ذلك الكتاب هدى ويجوز أن

يكون انتصب بقولك : (لا ريْبَ فيه) في حال هدايته فيكون حالاً من قولك

لا شك فيه هادياً ، ويجوز أن يكون موضعُه رفعاً من جهات :

إحْدَاهَا أن يكون خبراً بعد خبرٍ كأنه قال : هذا ذلك الكتاب هدى ، أي قَد جمع أنه الكتاب الذي وُعدوا به وأنه هدًى كما تقول : هذا حُلو حامض ، تُرِيدُ أنه قد جَمع الطعْمَين ويجوز أن يكلون رفعه على إضمار هو.

كأنه لما تمَ الكلام فقيل : (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ)

قيل : هو هدى.

ويجوز أن يكون رفعه على قولك : (ذَلِكَ الْكَتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ)

كأنك قلت ذلك الكتابُ حَقُّا ، لأن لا شك فيه بمعنى حق ثم قَال : بعد ذلك : (فِيهِ هُدًى لِلْمُتقِينَ).

٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)

معناه يصدقون ، وكل مْؤمِن بشيءٍ فهو مصدق به فإذا ذكرتَ مؤمناً ولم

تقل هو مؤْمن بكذا وكذا فهو الذي لا يصلح إلا في اللّه - عزَّ وجلَّ - ، وموضع (الذين) جر تبعاً للمتقين ويجوز أن يكون موضعُهُم رفعاً على المدح كأنَّه

__________

(١) هي رواية السوسي عن أبي عمرو البصري ، وهي متواترة.

لما قيل هدى للمتقين قيل مَنْ هُم فقيل : (الَّذِينَ يؤمِنُونَ بالْغَيْبِ).

ويجوز أن يكون موضع الذين نصبا على المدح أيضاً كأنه قيل اذكر الذين.

(والذين) لا يظهر فيهم الإعراب ، تقول في النصب والرفع والجر :

أتاني الذين في الدار ورأيت الذين في الدار ومررت بالذين في الدار.

وكذلك الذي في الدار ، وإنما منع الإعرابَ لأن الإعراب إنما يكونُ في آخر

الأسماءِ ، والذي والذين مبهمان لا تتمان إلا بِصِلاتِهِمَا فلذلك مُنِعَتِ

الإعرابَ.

وأصل - الذي لَذٍ على وزن عَم فاعْلَمْ ، كذلك قالَ الخليل وسيبويه

والأخفش وجميع من يوثق بعلمه.

فإن قال قائل : (فما بالك تقول : أتاني اللذان في الدار ورأيت اللذين في

الدار فتعرب كل ما لا يعرب في تثنيته نحو هذان وهذين وأنت لا تعرب هذا

ولا هؤُلاءِ ؟

فالجواب في ذلك أن جميع ما لا يعرب في الواحد مشبه بالحرف

الذي جاء لمعنى فإذا ثنيته فقد بطل شبه الحرف الذي جاءَ لمعنى لأن حروف

المعاني لا تثنى.

فإِنْ قَال قائِل فَلَمَ منعته الِإعراب في الجمع ؟

قلت لأن الجمع الذي ليس على حد التثنية كالواحد ، ألا ترى أنك قلت في جميع هذا هؤُلاء يا فتى فجعلته اسماً واحداً للجمع ، وكذلك قولك الذين ، إِنما هو اسم للجمع كما أن قولك سنين يا فتى اسم للجمع فبنَيتَه كما بنيْت الواحِد.

ومن جمع الذين على حد التثنية قال : جاءَني الذونَ في الدار ، ورأيت الذين

في الدار.

وهذا لا ينبغي أنْ يقع لأن الجمع مستغنى فيه عن حد التثنية.

والتثنية ليس لها إلا ضرب واحد.

ومعنى  (بالغَيْب) : ما غاب عنهم مما أخبرهم به النبي - صلى اللّه عليه وسلم - من أمر الغيب والنشور والقيامة وكل ما غاب عنهم مما أنبأهم به فهو غيب.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ).

معناه يُتمُّونَ الصلاة كما قال : - (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه)

وضمت الياءُ من يُؤمنون ، ويقيمون ، لأن كل ما كان على أربعة أحرف نحو أكْرَمَ وأحسَنَ وأقام وآمن فمُسْتَقبله : يُكرم ، وُيحْسِنَ ، ويؤمِنُ ويُقيمُ

(وإنما ضمت أوائل المستقبل ليفرق بيبن ذوات الثلاثة نحو ضرب ، وبين ذوات الأربعة نحو دحرج).

فما كان على ثلاثة فهو ضرب يَضرب  تَضرب  نَضرب.

ففصل بالضمة بينهما فإن قال قائل : فهلا فصل بالكسرة ؟

قيل الكسرة قد تدخل في نحو تعْلم وتبيَضُ ولأن الضمة مع الياءِ مستعملة ، والكسرة لا تستعمل مع الياءِ.

فمن قال أنت تعْلم لم يقل هو يِعْلم ، فوجب أن يكون

الفرق بينهما بالضمة لا غير.

- والأصل في يُقيم " يؤقْيِمُ " والأصل في يُكرمُ يؤَكرم ولكن الهمزة

حذفت لأن الضم دليل على ذوات الأربعة ولو ثبث لوجب أن تقول إذَا أنْبأت عن نَفْسِك : أنا أؤَقْوم وأنا أؤكرْم ، فكانت تجتمع همزتانْ فاستثقلتا ، فحذفت الهمزة التي هي فاءُ الفعل ، وتِبع سائِرُ الفعل بابَ الهمزة فقلت أنت تُكرم ونحن نُكرم وهي تُكرم ، كما أنَّ بابَ يَعِدُ حُذفتْ منه الواو لوقوعها بين ياء وكَسْرة . الأصل فيه " يَوْعِد " ثم حذفت في تَعد ونَعد وأعد.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).

معناه يصدِّقُون - قال عزَّ وجلَّ : (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ) - إلى قوله - (قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ).

* * *

٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ)

إن شئت خففت الهمزة في (أُنْزِلَ) - وكذلك في قوله " أُلئِك " وهذه

لغة غير أهل الحجاز ، فأما أهل الحجاز فيخففون الهمزة بين الواو والهمزة.

قال سيبويه : (إنما فعل بالهمزة ذلك دون سائر الحروف لأنها بَعدَ مخرجها

ولأنها نبْرة في الصدر . وهي أبعد الحروف مخرجاً ، وأمَّا إِليْك وإليْهم.

وعَليْك وعَليْهِمْ ، فالأصل في هذا " إلاك " ؛ ْ وعَلَاك ، وَإِلَاهُمْ وعَلاهم كما

تقول إلى زيد وعلى إخوتك ، إلا أن الألف غيرتْ مع المضْمَر فأبْدِلت ياء

ليفصل بين الألف التي في آخر المتمكنه وبين الألف التي في أواخر غير

المتمكنه التي الإضافة لازمة لها ، ألا ترى أن إلى وعَلَى ولدى لا تنْفرِد من

الإضافة ، ولذلك قالت العرب في كلا في حال النصب والجر : رأيت كليهما ، وكليكما ، ومررت بكليهما وكليكما - ففصلت بين الِإضافة إلى المظهر

والمضمر لما كان كلا لا ينفرد ولا يكون كلاماً إِلا بالِإضافة.

* * *

٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)

موضع (أولئك) رفع بالابتداء ، والخبر : (عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ).

إلا أن أُولَئِكَ لا يعرب لأنه اسم للِإشارة ، وكسرت الهمزة فيه لالتقاءِ السَّاكنين.

وكذلك قوله (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، إلا أنَّ (هُمْ) دخلت فصلاً ، وإن

شئت كانت تكريراً للاسم ، كما تقول زيد هو العالمُ ، فترفع زيداً بالابتداء.

وترفع (هو ابتداءً ثانياً ، وترفع العالم خبراً " لهو " ، والعالم خبراً لزيد.

فكذلك قوله أُولَئِكَ هم المفلحون) وإن شئت جعلت (هو) فصلاً وترفع

زيداً والعالم على الابتداءِ وخبره ، والفصل هو الذي يسميه الكوفيون عماداً.

و " سيبويه " يقول إن الفصل لا يصلح إلا مع الأفعال التي لا تتم

نحو كان زيد هو العالم ، وظنتت زيداً هو العالِمَ".

وقال سيبويه دخل الفصل في قوله عزَّ وجلَّ : (. . تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّه هُوَ خَيْرًا) وفي  (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ) - وفي  (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ). وفي  (وَإِذْ قَالُوا اللّهمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ).

وما أشبه هذا مما ذكر اللّه عزَّ وجلَّ.

وكذلك (لك) في الكلام في الابتداء والخبر ، وفي قولك كان زيد هو

العالم ذكرُ هو ، وأنت ، وأنا . ونحن ، دخلت إعْلاماً بأن الخبر مضمون وأن

الكلام لمْ يتم ، وموضع دخولها إذا كان الخبر معرفة  ما أشبه المعرفة.

وأن " هو " بمنزلة " ما " اللغْوِ في قوله عزَّ وجلَّ :

(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّه لِنْتَ لَهُمْ) فإنما دخول كا مؤَكدة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (المفْلحون).

يقال لكل من أصاب خيراً مفْلح -

وقال عَزَّ وجَل : (قَدْ أفلح المؤمنون) - وقال ، : (قدْ أفْلح مَن زكَاها). والفلاح البقاء

قل لبيد بن ربيعة :

نحُل بلاداً كلها حُل قبْلنا . . . ونرجُو الفلاح بعد عادٍ وتبَّعا

أي نرجو البقاءَ.

وقال عبيد :

أفْلِح بما شئْت فَقَدْ يد . . . ركِ بالضعْف وقد يُخْدع الأريب

أي أصب خيراً بما شئت.

والفَلاح : الأكار ، والفِلَاحَة صنَاعَتُه ، وإنِما قيل له الفَلاح لأنه يَشُق الأرض ويقالَ فلحت الحديد إذا قطعته.

قال الشاعر :

قد علمت خيلك انِي الصَّحْصَحُ . . . إن الحَدِيد بالحديد يُفْلَح

ويقال للمكاري الفلاح ، وإنما قيل له فلاح تشبيهاً بالأكار.

قال الشاعر

لها رطل تكيل الزيت فيه . . . وفَلاح يسُوق لهَا حِمَارا

* * *

٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦)

(إنَّ) تنصب الذين ، وهي تنصب الأسماءَ وترفع الأخبار ، ومعناها في

الكلام التوكيد ، وهي آلة من آلات القسم ، وإنَّما نصبت ورفعت لأنها تشبه

بالفعل ، وشبهها به أنها لا تَلِي الأفعال ولا تعمَل فيها ، وإنما يذكر بعدها

الاسم والخبر كما يذكر بعد الفعل الفاعل والمفعول إِلا أنه قُدم المفَعُولُ به

فيهَا ليفصل بين ما يشبه بالفعل ولفظه لفظُ الفعل وبين ما يُشَبه به وليسَ لفظُه

لفظَ الفعل ، وخبرها ههنا جملة الكلام ، أعني

(سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ).

وترفع سواء بالابتداء ، وتقوم (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) مَقَامَْ الخبر كأنه

بمنزلة قولك سواء عليهم الإنذارُ وتركُه.

وسواءُ موضُوع موضعَ مُسْتَو ، لأنك لا تقيم المصادر مقام أسماءِ الفاعلين إلا وتأويلها تأويل أسمائهم.

فأما دخول ألف الاستفهام ودخول أم التي للاستفهام والكلام خَبرٌ فإنَّمَا

وقع ذلك لمعنى التسوية والتسوية آلتها ألف الاستفهام وأم تقول : أزيد في

الدار أم عمرو ، فإِنما دخلت الألف وأم لأن عِلْمَك قد استوى فيَ زَيد وعَمْرو.

وقد علمت أن أحدهما في الدار لا محالة ولكنك أردت أن تبين لك الذي

علمت ويخلص لك علمه مز ، غيره ، فَلِهذا تقول : قد علمتُ أزيد في الدار أم عمرو ، وإنما تريد أن تُسَوّي عند مغ تخبره العلمَ الذي قد خلص عندك.

وكذلك (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) ، دخلت الألف وأم للتسوية.

فأما (أأنْذرْتهُمْ) فزعم سيبويه أن من العرب من يحقق الهمزة ، ولا

يجمع بين الهمزتين وإن كانتا من كلمتين ، فأما أهل الحجاز فلا يحققون

واحدة منهما ، وأما بعض القراء - ابن أبي إِسحاق وغيره - فيجمعون في القراءَة بينهما ، فيقرأون (أأنذرتهم) ، وكثير من القراء يخفِّف إِحداهما ، وزعم سيبويه أن

الخليل كان يرى تخفيف الثانية فيقول : (أانْذرْتهم) فيجعل الثانية بين

الهمزة والألف ، ولا يجعلها ألفاً خالصة ، ومن جعلها ألفاً خالصَةً فقد أخْطأ من جهتين : إحداهما أنه جمع بين ساكنين والأخرى إنَّه أبْدَل منْ همزة متحركة

قبْلها حركةُ ألفاً ، والحركة الفتح ، وإنما حق الهمزة إذا حركت وانفتح ما

قبلها : أن تجْعَل بَيْنَ بَيْنَ ، أعني بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركتها.

فتقول في سأل : سال وفي رؤوف : رووف وفي بئس : بيس (بيْنَ بيْنَ) وهذا

في الحكم واحد وإِنما تُحْكِمُه المشافهة.

وكان غير الخليل يجيز في مثل قوله تعالى : (فقد جاءَ أشراطها) تخفيف الأولى.

وزعم سيبويه أن جماعة من العرب يقرأون : فقد جا أشراطها يحققون

الثانية ويخففون الأولى ، - وهذا مذهب أبى عمرو بن العلاء وأما الخليل فيقول بتحقيق الأولى فيقول : (فقد جاءَ اشراطها).

قال الخليل : وإِنَّما اخترت تخفيف الثانية لإجماع الناس على بدل الثانية في قولك آدم ، وآخر ، لأن الأصل في آدم : أادم ، وفي آخر أاخر.

وقول الخليل أقيس ، وقول أبى عمرو جيد أيضاً.

قال أبو إِسحاق : الهمزة التي للاستفهام ألف مبتدأة : ولا يمكن تخفيف

الهمزة المبتدأة ولكن إن ألْقِي همزَة ألف الاستفهام على سكون الميم من

عليهم فقلت : " عَلَيْهمَ أنْذَرتهم " جاز.

ولكن لم يقرأ به أحد ، والهمزتان في

 (فقد جاءَ أشراطها). همزتان في وسط الكلمة ويمكن تخفيف

الأولى.

فأما من خفف الهمزة الأولى  (أأنذرتهم) فإنه طرحها ألبتَّةَ

وألْقَى حركتَها على الميم ، ولا أعلم أحداً قرأ بها والواجب على لغة أهل

الحجاز أن يكون " عليهم أنْذَرْتهم " فيفتح الميم ، ويجعل الهمزة الثانية بين

بين بين.

وعلى هذا مذهب جميع أهل الحجاز.

ويجوز أن يكون (لا يؤْمنون) خبر إِنَّ ، كأنه قيل : " إِنَّ الًذينَ كفروا لا يؤمنون ، سواء عليهم أأنذرتهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ).

هؤلاءِ قوم أنبأ اللّه " تبارك وتعالى " النبيَّ - صلى اللّه عليه وسلم - أنهمْ لا يؤْمنون كما قال عزَّ وجلَّ : (ولَا أنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتمْ وَلَا أنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أعْبُدُ).

فأما الهَمزتان إذا كانتا مكسورتين نحو قوله عزَّ وجلَّ :

(عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) وإذا كانتا مضمومتين نحو

(أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ) فإِن أبا عمرو يخفف الهمزة الأولى فيهما فيقول :

"على البغا إِنْ أردْن" "وأوليا أولئك "

فيجعل الهمزة الأولى من البغاء بين الهمزة والياء ، ويكسرها " ويجعل الهمزة

في قولك أولياء أولئك (الأولى) بين الواووالهمزة ويضمها.

وحكى أبو عبيدةَ أن أبا عمرو كان يجعل مكان الهمزة الأولى كسرة في

البغاء إنْ) ، وضمة في أولياء أولئك.

أبو عبيدة لا يحكي إلا ما سمع لأنه الثقة المأمون عند العلماء ، إِلا إنَّه لا يضبط مثل هذا الموضع لأن الذي قاله محال ، لأن الهمزة إذا سقطت وأبدلت منها كسرة وضمة - على ما وصف -

بقيت الحركتان في غير حرف وهذا محال لأن الحركة لا تكون في غير

محرَّك.

قال أبو إسحاق : والذي حكيناه آنفاً رواية سيبويه عن أبي عمرو وهو

اضبط لهذا.

وأما  (السفهاءُ ألا) و (وإِليه النشُوز أأمنتم من في السماءِ أن) - فإن الهمزتين إذا اختلفتا حكى أبو عبيدة أن أبا عمرو كان يبدل من

الثانية فتحة وهذا خلاف ما حكاه سيبويه . والقول فيه أيضاً محال لأن الفتحة

لا تقوم بذاتها ، إِنما تقوم على حرف.

وجملة ما يقول النحويون في المَسْالة الأولى في مثل  (على البغاءِ إِنْ)  (أولياءُ أولئك) ثلاثةُ أقوال على لغة غير أهل الحجاز.

فأحد هذه الثلاثة - وهو مذهب سيبويه والخليل - أن يجعل مكان الهمزة الثانية همزة بين بينَ ، فإذا كان مضموماً جعل الهمزة بين الواو والهمزة فقال : أولياءُ أولئك) (وإذا كان مكسوراً جعل الهمزة بين الياءِ والهمزة ، فقال : على البغاءِين . وأمَّا أبو عَمْرو فَقرأ على ما ذكرناه وأمَّا ابن أبي إسحاق - ومذهَبه مذهب جماعة من القراء - فيجمع بين الهمزتين ، فيقرأ أولياءُ أولئِكَ)

و (على البغاءِ إنْ أردن) بتحقيق الهمزتين.

وأمَّا اختلاف الهمزتين نحو السفهاء ألا) فأكثر القراء على مذهب ابن

أبي إسحاق ، وأما أبو عمرو فيحقق الهمزة الثانية في رواية سيبويه ، ويخفف

الأولى فيجعلها بين الواو والهمزة ، فيقول : (السفهاءُ ألا) (بين بين).

ويقول : (من في السماي أنْ " فيحقق الثانية ، وأما سيبويه والخليل فيقولان :

(السفهاءُ ولا) . فيجعلان الهمزة الثانية واواً خالصة

وفي  (من السماءيَنْ) ياءخالصة مفتوحة.

فهذا جميع ما في هذا الباب.

وقد ذكر أبو عبيدة أن بعضهم روى عن أبي عمرو أنه كان إذا اجتمعت

همزتان طرحت إحداهما ، وهذا ليس بثبتٍ لأن القياس لا يوجبه.

وأبو عبيد لم يحقق في روايته ، لأنه قال : رواه بعضهم ، وباب رواية القراءة عن المقرئ يجب أن يقل الاختلاف فيه.

فإن كان - هذا صحيحاً عنه فهو يُجَوِّزُهُ في نحو

(سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) ، وفي مثل

(آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ)

فيطرح همزة الاستفهام لأن أم تدل عليها.

قال الشاعر :

لعمرك ما أدري إن كنت دارياً . . . شُعَيْثُ بن سَهْم أم شُعَيْثُ بنُ مِنْقَر

وقال عُمرُ بنُ أبي رَبِيعَةَ :

لعَمرُك ما أدْري وإنْ كُنْتُ دَارِياً . . . بِسَبْع رَمَيْنَ الجَمْر أم بِثمانٍ

البيت الأول أنشده الخليل وسيبويه ، والبيت الثاني صحيح أيضاً.

* * *

٧

وقوله عزَّ وجلَّ : (خَتَمَ اللّه عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٧)

معنى ختم في اللغة وطبع (معنى) واحد . وهو التغطية على الشيء.

والاستيثاق - من ألًا يَدْخُله شَيْءٌ

كما قال عزَّ وجلَّ : (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)

وقال جلّ ذكره (كلا بَلْ رَانَ عَلى قُلوبِهِمْ).

معناه غلب على قلوبهم ما كانوا يكسبون.

وكذلك (طبع عليها بكفرهم)

وهم كانوا يسمعون ويبصرون ويعقلون ولكنهم لم يستعملوا

هذه الحواس استعمالًا يجزي عنهم فصاروا كمن - لا يسمع ولا يبصر.

قال الشاعر :

أصم عما ساءَه سميع

وكذلك قوله جلَّ وعزَّ : وَعَلَى أبْصَارِهِمْ غِشَاوَة).

هي الغطاءُ ، فأما  (وعلى سمعهم) وهويريد وعلى أسماعهم ففيه

ثلاثة أوجه : فوجه منها أن السمع في معنى المصدر فَوُحِّدَ ، كما تقول :

يعجبني حديثكم ويعجبني ضربُكُمْ - فوحِّد لأنه مَصْدَر.

ويجوز أن يكون لما أضاف السمع إليهم دل على معنى أسماعهم.

قال الشاعر :

بها جِيَف الحَسْرى فأمَّا عِظامُها . . . فَبيضٌ وأَمَّا جِلْدُها فَصَلِيبُ

ْوقال - الشاعرأيضاً : (لا تُنْكِري الْقَتْلَ وَقَدْ سُبينَا . . . في حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وقد شَجينَا

معناه في حلوقكم ، وقال :

كأنهُ وجه تركييْن قد غَضبَا . . . مستهدَفٍ لطعان غيرِ تَذييبِ

أما (غشاوة) ، فكل ما كان مشتملاً على الشيء فهو في كلام العرب مبني

على "فِعَالة " نحو الغِشاوة ، والعِمَامة ، والقِلاَدَة والعصَابة ، وكذلك أسْمَاء

الصناعات لأن معنى الصناعة الاشتمال على كل ما فيها نحو الخِيَاطة

والقصَارة ، وكذلك على كل من استولى على شيء ما استولى عليه الفِعَالة.

نحو الحِلاَقةِ والإمارَةِ.

والرفع في (غشاوة) هو الباب وعليه مذهب القُرَّاء

والنصب جَائز في النحو على أن  : " وجعل على أبْصَارهم غِشَاوةً ".

كما قال اللّه عزرجل في موضع آخر : (وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة).

ومثيله من الشعر مما حمل على معناه

يا ليتَ بعْلَكِ قد غَدا . . . مُتَقَلداً سيفاً ورمحا

معناه متقلداً سيفاً وحاملاً رمحاً.

ويرري غشوة ، والوجه ما ذكرناه

وإنما غَشْوة رد إلى الأصل لأن المصادر كلها ترد إلى فَعْلة ، والرفع والنصبُ في غَشْوة مثله في غِشَاوة.

* * *

٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللّه وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨)

عنى بذلك المنافقين ، . وإِعراب (مِنْ) الوقف إلا أنهَا فُتِحَتْ لالتقاءِ

السَّاكنين سكون النون . من قولك مِنْ وسكون النون الأولى من الناس ، وكان الأصل أن يكسر لالتقاءِ السَّاكنين ، ولكنها فتحَت لثقل اجتماع كَسْرَتَيْنِ - لو كان (مِنِ النَّاسِ) لثقل ذلك.

فأما عن الناس فلا يجوز فيه إِلا الكسر لأن

أول " عن " مفتوح . و " مِنْ " إِعرابُها الوقف لأنها لا تكون اسماً تاما في

الخبر إلا بصلة ، فلا يكون الِإعراب في بعض - الاسم.

فأما الإدغام في الياءِ في (من يقول) فلا يكون غيره ، تقول :

" مَنْ يُقوَّم " فتُدْغِم بغُنَةٍ وبغير غنة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا هُمْ بمُؤْمِنينَ).

دخلت الباءُ مؤَكدة لمعنى النفي ، لأنك إِذا قلت : " ما زيد أخوك " فلم

يسمع السامع " ما " ظن أنك موجب فإِذا قلت : " ما زيد بأخيك "

و (ماهم بمُؤمنين) علم السامع أنك تنفي

وكذلك جميع ما في كتاب اللّه عزَّ وجلَّ.

* * *

٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (يُخَادِعُونَ اللّه وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٩)

يعني به المنافقين أيضاً.

ومعنى (يخادعون) : يظهرون غير ما في نفوسهم ، والتَقِية تُسَمَّى أيْضاً

خِدَاعاً ، فكأنهم لَمَّا أظْهَرُوا الِإسْلامِ وأبْطَنُوا الكُفْر صارت تقيتُهُمْ خِدَاعاً.

وجاءَ بفَاعِلَ لغير اثنين لأن هذا المثال يقع كثيراً في اللغة للواحد نحو عاقبت

اللص ، وطارقت النعل.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ).

تأويله أن الخداع يرجع عليهم بالعَذاب والعقاب وما يشعرون : أي وما

يعلمون أنه يرجع عليهم بالعذاب يقال ما شعرت به : أي ما علمت به وا لَيْتَ شِعْرِي " ما صَنَعْتَ : معناه ليت علمي .

١٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّه مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)

معناه نفاق ، وقد يقال السُّقْمُ والمرض في البَدَنِ وفي الدِّين جَميعاً كما

يقال الصحة في البدن والدِّين جميعاً.

فمعنى  (مرض) قال أبو عيدة : معناه شك ونفاق ، والمرض في

القلب يصلح لكل ما خرج به الِإنسان عن الصحة في الدين.

ص و - (فَؤَادَهُم اللّه مَرضاً).

فيه جوابان ، قال بعضهم زادهم اللّه بكفرهم.

كما قال عزَّ وجلَّ : (بَلْ طَبَعَ اللّه عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ).

وقال بعض أهل اللغة : فزادهم اللّه بما أنزل

عليهم من القرآن فشكوا فيه كما شكوا في الذي قبله.

قال : والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ).

إِلى  (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ).

وهذا قول بين واضح - واللّه أعلم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

مَعْناه مُوجِع يَصلُ وجعَهُ إِلى قُلُوبهمُ.

وتأويل (أَلِيمٌ) في اللغة مُؤْلم.

قال الشاعر : وهو عَمْرُو بنُ معدِ يكرب الزبيدي .

أمِنْ رَيْحَانَة الداعي السميعُ . . . يُؤرقني وأصْحَابي هُجوعُ

معنى السميع المسمع.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (بِمَا كَانوا يَكذبُونَ).

ويقرأ (يُكَذِّبونَ) . فمن قرأ يَكذبونَ بالتخفيف فَإن ، كَذِبَهُم

قولُهم أنهُمْ مُؤْمنون ، - قال اللّه عزَّ وجلَّ : (وَمَا همْ بِمُؤْمِنِينَ)

وأما (يُكَذِّبونَ) بالتثقيل فمعناه بتكذيبهم النبي - صلى اللّه عليه وسلم -.

* * *

١١

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١)

مَعْنَاهُ لَا تَصُدوا عَنْ دين اللّه ، فَيَحْتَمِل (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ضربين

من الجواب : أحدهما أنهم يظنون أنهم مصلحون.

والثاني أن يريدوا أن هذا الذي يسمونه إفساداً هو عنْدَنَا إِصلاح

فأما إعراب قيل فآخره مبني على الفتح ، وكذلك كل فعل ماض

مبني على الفتح ، والأصل في (قيل) قُوِلَ ولكن الكسرة نقلت إلى القاف

لأن العين من الفعل في قولك قال نقلت من حركة إِلى سكون ، فيجب أن

تلزم هذا السكون في سائر تصرف الفعل.

وبَعْضُهُمْ يَرُومُ الضمًةَ في قِيل ، وقد يجوز في غير القرآن :

قد قولَ ذاك " وأفصح اللغات قِيلَ وَغِيضَ ".

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَقَوْا رَبَّهُمْ).

وإن شئت قلت : قِيل ، وغيض ، وسُيق تروم في سائر أوائل ما لم

يسم فاعلة الضم في هذا الباب .

١٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣)

ْأصل السفَهِ في اللغة خِفَةُ الحلم ، وكذلك يقال ثَوْبٌ سَفِيه إِذا كان رقيقاً

بالِياً.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ).

معنى (أَلَا) اسْتِفْتَاح وَتَنْبِيهٌ " و  (هُم السفهاءُ) يجوز أن يكون

خبر إنَّ و (هُم) فَصْلٌ ، وهو الذي يسميه الكوفيون العماد.

ويجوز أن يكون (هُم) ابتداء ، والسفهاءُ خبر الإِبتداء ، وهم السفهاءُ خبر إن.

* * *

١٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (١٤)

أنْبَأ اللّه الْمؤمِنِينَ بِمَا يُسِره المنافقونَ مِنَ الكُفْرِ ومعنى شَيَاطِييهمْ في

اللغة : مَرَدَتُهُمْ ، وعُتَاتُهُمْ في الكفر ، ويقال خلوت إِليه ومعه ، ويقال خلوت

به ، وهو على ضربين : أحدهما جعلت خَلْوتي معه ، كما قال : خَلَوْتُ إِليه

(أي جعلت خلوتي معه) ، وكذلك يقال خَلَوْتُ إِليهِ ، ويصلح أن يكون

خلوت بِهِ سخرت منه.

ونصب (معكم) كنصب الظروف ، تقول : إِنا معكم وإِنا

خَلْفَكم معناه إِنا مستقرون معكم ومستقرون خلفكم.

والقراءَة المجمَعُ عليها فتح العَين وقد يجوز في الاضطرار إسكان العين ، ولا يجوز أن يقرأ بها.

ويجوز إِنَّا مَعْكُمْ للشاعر إِذا اضطر قال الشاعر :

قَرِيشي منكمو وهواي مَعْكُمْ . . . وَإِن كانت زِيَارَتُكُمْ لِمَاما

وفي قوله عزَّ وجلَّ : (خَلَوْا إلَى). وجهان إن شئت أسْكَنْتَ الوَاو

وخففت الهمزة وكسرتها فقلت : (خلوْا إلَى) وإن شئت ألقيت الهمزة وكسرت الواو فقلت : " خَلَوِ ليى " وكذلك يقرأ أهل الحجاز وهو جيد بالغ ، و (إِنا) الأصل فيه "إننا" ، كما قال اللّه عزَّ وجلَّ : (إنَّنِي معَكُما) ولكن النون حذفت لكثرة النونات ، والمحذوف النون الثانية من إِن ، لأن في " إن " نونين الأولى ساكنة والثانية متحركة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (إنما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ).

نحن مبنية عفى الضم ، لأن نحن يدل على الجماعة ، وجماعة

المُضْمَرينَ يدل عليهم - إذا ثَنيتَ الواحدَ من لفظه - الميم والواو ، نحو

فعلوا ، وأنتم ، فالواو من جنس الضمة ، فلم " يكن بذ من حركة (نَحْنُ)

فحركت بالضم لأن الضم من الواو ؛ ألا ترى أن واو - الجماعة إذا حركت

لالتقاء السَّاكنين ضمت ، نحو (اشْتَرَوُا الضلاَلَةَ) ، وقد حركها بعضهم إلى

الكسر فقال : (اشتروِا الضلالة) ، لأن اجتماع السَّاكنين يوجب كسر الأولى إذا كانا من كلمتين ، والقراءة المجمع عليها : (اشتروُا الضلالةَ) بالضم ، وقد

رُويت : (اشْترَوَا الضلالة) ، بالفتح ، وهو شاذ جِدًّا.

و (مستهزئون) ؛ القراءَة الجَيدَةُ فيه ، تحقيق الهمزة فإذا خَففْتَ الهمزةَ

جعلْتَ الهمزةَ بين الواو ، والهمزة فقلت "مستهزؤون).

فهذا الاختيار بعد التحقيق .

ويجوز أنْ تُبْدِلَ من الهمزَةِ ياءً فتقول : " مستهزِيُونَ " فأما " مستَهْزون "

فضعيف لا وجه لَه إلا شاذًّا على لغة ، . من أبدل الهمزة ياء فقال في

استهزأت : استهزيت . فيجب على لغة ، استهزيت أن يقال ، مستهزون.

* * *

١٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (اللّه يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥)

فيه أوجه من الجواب : فمعنى استهزاء اللّه بهم أنْ أظْهرَ لَهُمْ منْ

أحْكامِهِ في الدنْيَا خلافَ مَا لهمْ في الآخرة ، كما أظهروا من الِإسلام خلاف ما

أسَرُّوا.

ويجوز أن يكون استهزاؤُه بهم : أخذه إِياهم من حيث لا يعلمون ، كما

قال عزَّ وجلَّ : (سَنَسْتَدْرجُهمْ منْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُون).

ويجوز - واللّه أعلم - وهوَ (الوجه) المختار عند أهل اللغة أن يكون معنى يستهزئُ بهم يُجازيهِمْ على هُزئِهِمْ بالعَذاب ، فسمَّى جزاءَ الذَنْب باسْمِه كما قال عزَّ وجلَّ : (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) فالثانية ليست سيئة في الحقيقة ، ولكنها سميت سيئة لازدواج الكلام.

وكذلك قوله عزَّ وجلَّ : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)

فالأول ظلم والثاني ليس بظلم ولكنه جيءَ في اللغة باسم الذنب ليعلم أنَّه عقاب عليه وجزاء به.

فهذه ثلاثة أوجه واللّه أعلم.

وكذلك يجري هذا المجرى قوله عزَّ وجلَّ : (يُخَادِعُونَ اللّه وَهُوَ خَادِعُهُمْ)

(وَيَمْكرُونَ وَيَمْكرُ اللّه).

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

معنى (وَيَمُدُّهُمْ) يُمْهِلْهم ، وهو يدل على الجواب الأول.

و (في طغيانهم) (معناه) في غُلوِّهِمْ وكفرهم ، ومعنى يعمهون في اللغة يتحيرون ، يقال رجل عَمِهٌ وعَامِه ، أي متحير ، قال الراجز :

وَمَهْمَه أطرافه في مَهْمَهِ . . . أعمَى الهُدَى بالجَاهِلِينَ العُمَّهِ

* * *

١٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)

أُولَئِكَ موضعُه رفع بالابتداء وخبرُه (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ)

وقد فسَّرنا " واو " اشتروا وكسرتَها فأمَّا من يبدل من الضمة هَمْزَةً فيقول اشترو الضلالة فغالط لأن الواو المضمومة التي تبدل منها همزة إِنَّمَا يُفْعَل بها ذلك إِذا لزمت صفَتُها نحو قوله عزَّ وجلَّ : (وَإذَا الرُّسُلُ أُقَتَتْ) ، إنَّمَا الأصلُ وقَتَتْ وكذلك أَدوَّر ، إنما أصْلها أدور.

وضمة الواو في  (اشترُوا الضلالة)

إنما هي لالتقاء السَّاكنين.

ومثله : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ)

لا ينبغي أن تهمزَ الواو فيه.

ومعنى الكلام أن كل من ترك شيئاً وتَمسكَ بغَيْره فالعَرَبُ تقول للذِي

تَمَسكَ به قد اشتراه ، وليس ثم شراءٌ ولا بيع ، ولكن رغبته فيه بتمسكه به

كرغبة المشتري بماله ما يرغب فيه.

قال الشاعر :

اخدْت بالجمَّة رأساً أَزْعَرا . . . وبالثنَايَا الواضِحات الدَّرْدَرَا

وبالطَويل العمر عمْراً أَقصرا . . . كما اشْتَرى الكافِر إذْ تَنَصَّرَا

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ).

معناه فما ربحوا في تجارتهم ، لأن التجارة لا تربح وإنما يربح فيها

ويوضع فيها والعرب تقول قد خسر بيعك وربحت تجارتك ، يريدون بذلك

الاختصار وسعة الكلام قال الشاعر :

وكيف تواصل من أصبحت . . . خلالته كأبي مرحب

يريد كخلالة أبي مرحب ، وقال اللّه عزَّ وجلَّ : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) (والليل والنهار لا يمكران) إنما معناه بل مكرهم في الليل

والنهار.

* * *

١٧

وقوله عزَّ وجلَّ : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّه بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧)

هذا المثل ضربه اللّه - جلَّ وعزَّ - للمنافقين في تجملهم بظاهر الِإسلام

وحقنهم دماءَهم بما أظهروا فمثل ما تجملوا به من الِإسلام كمثل النار التي

يستضىء بها المستوقد وقوله (ذَهَبَ اللّه بِنُورِهِمْ) معناه ، واللّه أعلم إطلاع

اللّه المؤْمنين على كفرهم ، فقد ذهب منهم نور الإِسلام بما أظهر اللّه عزَّ وجلَّ

من كفرهم ، ويجوز أن يكون ذهب اللّه بنورهم في الأخرة ، أي عَذَّبهم فلا

نور لهم لأن اللّه جلَّ وعزَّ قد جعل للمؤْمنين نوراً في الآخرةِ وسلب

الكافرين ذلك النور ، والدليل على ذلك  (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا).

* * *

١٨

وقوله عزَّ وجلَّ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨)

رفع على خبر الابتداءِ ، كأنه قيل : هؤلاءِ الذين قصتهم هذه القصة

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨).

ويجوز في الكلام صماً بكماً عمياً ، على : وتركهم صُمًّا بكماً عُمْياً.

ولكن المصحف لا يخالف بقراءة لا تُرْوى ، والرفع أيضاً أقوى في .

وأجزل في اللفظ.

فمعنى (بُكْمٌ) أنه بمنزلة من وُلدَ أخرس ويقال الأبْكم المسلوبُ الفًؤادِ.

وصُم وبُكم واحدهم أصَم وأبْكَمُ ، ويجوز أن يَقع جمع أصم صُمَّان ، وكذلك أفعَل كله يجوز فيه فُعْلان نحو أسْود ، وسُودَان ومعنى سود وسودان واحد ، كذلك صُمٌّ وصُمَّان وعُرفي وعُرجان وبكم وبُكْمَان.

* * *

١٩

وقوله عزَّ وجلَّ : ( كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللّه مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (١٩)

الصيِّب في اللغة المطر وكل نازل من عُلُو إلى أسفل فقد صاب

يصوب ، قال الشاعر :

كأنهم صابت عليهم سحابة . . . صواعقها لطيرهن دبيب

وهذا أيضاً مثل يضربه اللّه عزَّ وجلَّ للمنافقين ؛ كان  :

 كأصحاب صيب . فجعل دين الِإسلام لهم مثلاً فيما ينالهم من

الشدائد والخوف ، وجعل ما يستضيئون به من البرق مثلاً لما يَستضيئون به من الإسلام ، وما ينالهم من الخوف في البرق بمنزلة ما يخافونه من القتل.

- الدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ : (يَحْسَبُونَ كُل صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ).

٢٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللّه لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)

(يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ)

فيه لغتان : يقال خَطِفَ يخطَفُ ، وخطَف يخْطِف ، واللغة العالية التي

عليها القراءَة " خَطِفَ يخطَفُ " ، وهذا الحرف يروى عن العرب والقراء.

وفيه لغات تروى : عن الحسن " يَخَطِّف أبصارهم " بفتح الياءِ والخاءِ وكسر

الطاءِ ، " ويروى أيضاً " يخطِّف بكسر الياءِ والخاءِ ، والطاءِ ، ويروى أيضاً لغة أخرى ليست تسوغ في اللفظ لصعوبتها ، وهي إسكان الخاءِ والطاءِ . وقد روى سيبويه مثل هذا.

رده عليه أصحابه وزعموا أنه غير سائغ في اللفظ وأن الشعرَ

لا يجمع في حشوه بين ساكنين ، قال :

وَمَسْحِهِ مَرُّ عُقابٍ كاسِرِ

يبدل من الهاءِ حاءً ويدغم الحاءَ الأولى فى الثانية ، والسين ساكنة

فيجمع بين ساكنين ، فأما بعد يَخْطَف فالجيِّد يَخَطف ويخطف فمن قال

يَخَطَف فالأصل يخْتَطِف فأدغمت التاء - في الطاءِ وألقيت على الحاءِ فتحة

التاءِ ، ومن قال " يخِطَف " كسر الخاءَ لسكونها وسكون الطاءِ ، وَزَعَمَ بعض

النَحوِيينَ أنَّ الكسْر لالتِقَاءِ الساكِنين ههنا خطأ وأنه يلزم من قال هذا أن يقول

في يَعَضُّ يَعِضُّ ، وفي يَمُدُّ يَمِدُّ . وهذا خَلْط غيرُ لازم ، لأنه لَوكَسَرَهَا هَهُنَا

لالتَبَسَ ما أصله يفعَل ويفعُل بما أصله يَفْعِل ، ويخطف ليس أصله غير

هذا . ولا يكون مرة على يفتَعِل ومرة على يفتَعَلُ . فَكسِرَ لالتقاءِ السَّاكنين

في موضع غير ملبس وامتنع في المُلْبِس من الكسر لالتقاءِ السَّاكنين ، وألزم

حركة الحرف الذي أدغمه لتدل الحركة عليه.

ومعنى خطفت الشيء في اللغة واختطفته أخذته بسرعة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ).

يقال ضاءَ الشيءُ يَضوء وأضَاءَ يُضِيءُ ، وهذه اللغة الثانية هي

المختارة ، ويقال أظْلَمَ وظَلَم ، وأظْلَمَ المختارُ.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْ شَاءَ اللّه لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ)

وقد فسرنا توحيد السمع ، ويقال أذهبته وذهبت به.

ويروى أذْهَبْت به وهو لغة قليلة ، فأما ذكر () في  (مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي). إِلى ( كصيب) فأو دَخلت ههنا لغير شك ، وهذه يسميها الحذاق باللغة " وَاوَ اَلِإباحة "

فتقول جالس القراءَ  الفُقَهَاءَ ،  أصْحَابَ الحديث  أصْحَابَ

النحو ، فالمعنى أن التمثيل مباح لكم في المنافقين إنْ مثلْتُمُوهم بالذي استوقد

ناراَ فذاك مثلهم وإِن مثلتموهم بأصحاب الصيب فهذا مثلهم ،  مثلتموهم

بهما جميعاً فهما مثلاهم - كما أنك إذا قلت جالس الحسن  ابن سيرين

فكلاهما أهل أن يجالس - إن جالست الحسن فأنت مطيع وإِن جمعتهما فأنت

مطيع.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ).

ويروى " أيضاً " حِذَار الموْتِ ، والذي عليه قرَّاؤُنَا (حَذَرَ الموت) ، وإنما

نصت (حذرالموت) لأنه مفعول له ، والمعنى يفعلون ذلك لحذر الموت.

وليس نصبه لسقوط اللام ، وإِنما نصبه أنه في تأويل المصدر كأنه قال يحذرون

حذراً لأن جعلهم أصابعهم في آذانهم - من الصواعق يدل على حذرهم

الموت ، وفال الشاعر :

وأغفر عوراءَ الكريم ادِّخَارَهُ . . . وأُعْرِض عن شَتْم اللئِيمِ تَكَرما

والمعنى لادخاره - و وأغفر عوراء الكريم معناه وأدخر الكريم.

* * *

٢١

وقوله عزِّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١)

معناه أن اللّه احْتَجَّ على العرب بأنه خالقهم وخالق مَنْ قَبْلِهُم لأنَّهُمْ

كانوا مُقِرينَ بذلك ، والدليل على ذلك  (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّه)

قيل لهم إن كنتم مقرين بأنه خالقكم فاعبدوه ، ولا تعبدوا الأصنام -

وقوله (لعلكم تَتقُونَ) معناه تتقونَ الحُرُمَاتِ بيْنَكم وتَكُفون عما تأتون مما

حرمَه اللّه ، فأما لعل وففيها قولان ههنا ، عن بعض أهل اللغة : أحدهما :

معناها كي تتقوا ، والذي يذهب إليه سيبويه في مثل هذا أنه تَرَج لهم كما قال

في قصة فرعون (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ  يَخْشَى).

كأنه قال اذهبا أنتما على رجائكما وطمَعِكُمَا واللّه عزَّ وجلَّ من وراءِ ذلك وعالم بما يؤُول إِليه أمرُ فِرعون.

وأما إِعراب (يَا أيُّها) فأي اسمٌ مُبْهَم مبني على الضم لأنه منادى مفرد

والناس صفة لأي لازمة ، تقول يا أيها الرجل أقبل ، ولا يجوز يَا لرجُل لأن

" يا " تَنْبِيهٌ بمنْزِلة التَّعرِيفِ في الرجل فلا يجمع بين " يَا " وبين الألف واللام

فتصل إلى الألف واللام بأي.

وها لازمه لأي ، لِلتَّنْبيه ، وهي عوض من الِإضافة في أي لأن أصْل أي

أن تكون مضافة في الاستفهام والخبر ، وزعم سيبويه عَن الخليل أن المنادى

المفرد مبني وصفته مرفوعةٌ رفعاً صحيحاً لأن النداءَ يطرد في كل اسم مفرد.

فلما كانت البِنْيَةُ مطردة في المفرد خاصة شبه بالمرفوع فرفعت صفته.

والمازني يجيز في يا أيها الرجل النصب في الرجل ، ولم يقل بهذا القول أحد

من البصريين غيره ، وهو قياس لأن موضع المفرد المنادى نصب فحملت

صفته على موضعه ، وهذا في غير يا أيها الرجل جائز عند جميع النحويين نحو

قولك يا زيدُ الظريفُ والظريفَ ، والنحويون لا يقولون إِلا يا أيها الرجل ، يا أيها

الناسُ ، والعرب لغتها في هذا الرفع ولم يرد عنها غيره ، وإنما المنادى في

الحقيقة الرجل ، ولكن أيُّ صلة إليه وقال أبو الحسن الأخفش إِن الرجل أنْ

يَكون صلة لأي أقيس ، وليس أحد من البصريين يتابعه على هذا القول.

* * *

٢٢

وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا للّه أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)

معناه وِطاءً ، لم يجعلها حَزْنةً غليظة لا يمكن الاستقرأر عليها.

و (والسماءَ بناءً) كل ما علا على الأرض فاسمه بناءٌ ،.

ومعناه إنه جعلها سقفاً.

كما قال عزَّ وجلَّ : (وَجَعَلْنا السمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) ، ويجوز في

(جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ) وجهان : الإدغام والِإظهار ، تقول : جعل لكم وجعل

لكم الأرض ، فمن أدغم فلاجتماع حرفين من جنس واحد وكثرة الحركات ، ومن أظهر - وهو الوجه وعليه أكثر القراءِ - فلأنهما منفصلان من كلمتين.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَا تَجْعَلُوا للّه أنْدَاداً وأنْتُم تَعْلمُون).

هذا احتجاج عليهم لِإقرارهم بأنه اللّه خالقُهم ، فقيل لهم لا تجعلوا للّه

أمثالاً وأنتم تعلمون أنهم لا يَخْلُقون واللّه الخالق - وفي اللغة فلان ندُّ فلانٍ : ، وندِيدُ فُلَانٍ.

قال جرير :

أتيماً تجعلون إِليَّ نِدًّا . . . وما تيمٌ لِذِي حَسبٍ نَدِيد

فهذه الآية والتي قبلها احتجاج عليهم في تثبيت توحيد اللّه عزَّ وجلَّ.

ثم احتج عليهم فيما يلي هذه الآية بتثبيت أمر النبي - صلى اللّه عليه وسلم - فقال : -

٢٣

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٣)

(فِي رَيْبٍ) معناه في شك.

وقوله (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) للعلماءِ فيه قولان

أحدهما : قال بعضهم : (مِنْ مثلهِ) : من مثل القرآن - كما قال عزَّ وجلَّ :

(فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) وقال بَعْضهم (من مثله) مِنْ بَشَر مِثْلِه.

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)).

أيْ ادعَوَا من استدعيتم طاعته ورجوتم معونته في الإتيان بسورة من

مثله.

* * *

٢٤

و (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (٢٤)

قيل لهم هذا بعد أن ثبت عليهم أمر التوحيد وأمر النبي - صلى اللّه عليه وسلم - فوعدوا بالعذاب إِن لم يؤمنوا بعد ثبوت الحجة عليهم.

وجزم (لَمْ تَفْعَلوا) لأن لمْ أحدثَتْ في الفِعْل المستقبل معنى المضى فجزمتْه ، وكل حرف لزم الفعل فأحدث فيه معنى فله فيه من الِإعراب على قسط معناه - فإِن كان ذلك الحرف " أنْ " وأخواتها نحو لَنْ تفعلوا ويريدون " أنْ يطفئوا). فهو نصب لأن أن وما بعده بمنزلة الاسم فقد ضارعت (أنْ الخفيفة) أنَّ المشدَّدة وما بعدها لأنّك إِذا قلت ظننت أنك قائم فمعناه ظننت قيامك ، وإِذا قلت أرجو أنْ تَقومَ فمعناه أرجو قيامك ، فمعنى " أنْ " وما عملت فيه كمعنى " أنَّ " المشددة وما

عملت فيه ، فلذلك نصبت " أنْ " وجزمت " لَمْ " لأن ما بعدها خرج من تأويل الاسم ، وكذلك هي وما بعدها يخرجان من تأويل الاسم :

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (التِي وَقودُها النَّاسُ والحِجَارة).

عرفوا عذاب اللّه عزَّ وجلَّ بأشد الأشياءِ التي يعرفونها لأنه لا شيء في

الدنيا أبلغ فيما يؤلم من النار ، فقيل لهم إن عذاب اللّه من أشد الأجناس التي

يعرفونها ، إلا أنه من هذا الشديد الذي يعرفونه ، ويقال إن الحجارة هنا

تفسيرها حجارة الكبريت وقوله (وَقودُها) الوقود هو الحطب ، وكل ما أوقد

به فهو وقود ، ويقال هذا وقودك ، ويقال قد وقدت النار وقُوداً فالمصدر

مضمومٌ ويجوز فيه الفتح.

وقد روي وقدت النار وَقوداً وقبلت الشيء قَبُولًا.

فقد جاءَ في المصدر (فَعُول) والباب الضم.

* * *

٢٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٥)

ذكر ذلك للمؤمنين ، وما أعد لهم جزاءً لتصديقهم ، بعد أن ذكر لهم

جزاءَ الكافرين ، وموضع (أنَّ) نصب معناه بشرهم بأن لهم جنات).

فلما سقطت الباءُ أفْضَى الفعل إلَى " أن " فَنُصِبَتْ . وقد قال بَعْض

النَحويينَ إنَهُ يَجُوز أنْ يكون موضعُ مثل هذا خفضاً وإن سقطت الباءُ من أن ، و (جنات) في موضع نصب بأنَّ ، إلا أن التاءَ تاءُ جماعة المؤَنث هي في

الخفض والنصب على صورة واحدة كما أن ياءَ الجَمْع في النصْب والخَفْضِ

على صورة واحدةٍ ، تقول رأيت الزيدين ومررت بالزيدين ، ورأيت الهنداتِ ، ورغبت في الهنْداتِ.

والجنة في لغة العرب البُسْتان ، والجنات البساتين " ، وهي التي وعد اللّه

بها المتقين وفيها ما تَشْتَهي الأنْفس وتَلَذ الأعين.

قوله عزَّ وجلَّ : (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا).

قال أهل اللغة : معنى " مُتَشَابِه " يشبه ؛ بعضه بعضاً في الجَوْدَةِ.

والحُسْن ، وقال أهل التفسير وبعض أهل اللغة " متشابها " يشبه بعضه بعضا

في الصورة ويختلف في الطعْم ، ودَليل المُفَسرين  (هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ) لأن صورتَهُ الصورة الأولى ، ولكن اختلافَ الطعوم على اتفاق الصورَةِ

أبلغُ وأعرف عند الخلق ، لو رأيت تفاحاً فيه طعم كل الفاكهة لكان غايةً في

العجب والدلالة على الحكمة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ).

أي أنهن لا يحتجن إلى ما يحتاج إليه نساءُ أهل الدنيا من الأكْل

والشرْب ولا يَحِضْنَ ، ولا يحتجن إلى ما يُتَطَهرُ مِنه ، وهن على هذا طاهرات

طهَارَةَ الأخلاق والعفةِ ، فمُطهرة تَجْمَعُ الطهارةَ كلها لأن مُطهًرة أبْلَغ في الكلام من طاهرة ، ولأن مطهرة إنما يكون للكثير.

وإعْرَابُ (أَزْوَاجٌ) الرفع بـ (وَلَهُمْ)

وإنْ شئت بالابتداءِ ، ويجوز في (أَزْوَاجٌ) أن يكون واحدتُهن زوجاً وزوجةً قال اللّه تبارك وتعالى (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)

وقال الشاعر :

فبكى بناتي شَجْوَهُن وزوْجَتِي . . . والطامِعُونَ إليَّ ثم تَصَدَّعُوا

* * *

٢٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ اللّه لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّه بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (٢٦)

إنْ قال قائل : ما معنى ذكر هذا المثل بعقب ما وعد به أهلُ الجَنةِ وما

أعد للكافرين ؛ قيل يتصل هذا ب (فَلاَ تَجْعَلوا للّه أندادا) لأن اللّه

عزَّ وجلَّ قال : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا).

وقال : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا) فقال الكافرون : إن إلَهَ محمدٍ يضْربُ الأمثَالَ بالذُّبَاب ، والعَنْكَبُوتِ.

فقال اللّه عزَّ وجلَّ : (إِنَّ اللّه لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا).

أيْ ، لِهَؤلاءِ الأنداد الذين اتخذتُمُوهُمْ مين دُونِ اللّه ، لأن هَذَا في

الحقيقة مَثلُ هَؤُلاءِ الأنْدَادِ.

فأما إعراب (بَعُوضةً) فالنصبُ من جِهَتين في قَوْلنَا ، وذكر بعض

النحويين جهةً ثالثة ، فأما أجْوَدُ هذِه الجِهَاتِ فأنْ تَكونَ ما زائدة مؤَكدة ، كأنه قال : إنَّ اللّه لا يستحيي أن يضرب بَعُوضة مَثلاً ، وَمَثلاً بَعوضَةً ، وما زائدة مؤَكدة نحو  (فَبِمَا رَحْمَةٍ من اللّه لِنْتَ لَهم)  فَبرحمة من اللّه

حَقا ، فَمَا في التوكيد بمنزلةِ حَق إلا أنه لا إعرابَ لها ، والخافض والناصِب

يتخطاهَا إلى مَا بَعْدَهَا ، فمعْنَاهَا التوكِيدُ ، ومثلُها في التوكيد (لا) في

(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ) معناه لأنْ يعلمَ أهل الكتاب ، ويجوز أنْ يكونَ

" مَا " نكرة فيكون  : " إنَّ اللّه لَا يَسْتَحِي أنْ يَضْرَب شَيئاً مَثَلاً " وكأن

بعوضة في موضع وصف شيء ، كأنه قال : إن اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلًا شيئاً من الأشياءِ ، بعوضة فما فوقها.

وقال بَعْضُ النحويينَ : يجوز أن يكون معناه ما بين بعوضة إلى ما فوقها ، والقولان الأولان قول النحويين القدماءِ.

والاختيار عند جمع البَصْريينَ أن يكون ما لغوا ، والرفع في بعوضة جائز في

الإعراب ، ولا أحفظ من قرأ به (ولا أعلم) هَلْ قرأ به أحد أم لا ، فالرفْعُ

على إضْمَارِ هُوَ كأنهُ قال مَثلاً (لذي هو بعوضة وهذا عند سيبويه ضعِيف) ، وعنه مندوحة ، ولكن من قرأ (تَمَاماً عَلَى الذِي أحْسَن) وقد قرئ به - جاز أن يقرأ (مَثَلاً مَا بعوضَة) ولكنهُ في (الذي أحسنُ) أقوى لأن الذي أطول.

وليس للذي مذهب غيرُ الاسْماء.

وقالوا في معنى  (فمَا فَوْقَها)

قالوا في ذلك قولين : قالوا (فمَا فَوْقَها): أكبَرُ مِنْهَا ، وقالوا (فمَا فَوْقَها) في الصغرِ.

وبعضُ النحويينَ يختارُون الأول لأن البَعُوضة كأنها نِهَايةُ في الضغرِ فِيمَا

يُضْرَبُ بِه المَثلُ ، والقولُ الثاني مختارُ أيضاً ، لأن المطلوبَ هنا والغرضَ

الصغرُ وتقليلُ المَثلِ بِالأنَدَادِ.

قوله عزَّ وجلَّ : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) يعني صدقوا (فَيَعْلَمُونَ) أن هذا المثل

حق ، (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّه بِهَذَا مَثَلًا) أي ما أراد بالذباب والعنكبوت مثلاً ؛ فقال اللّه عزَّ وجلَّ : (يُضِل بِهِ كَثِيراً).

أي يَدعو إلى التصْدِيقِ بِه الخَلْق جميعاً فيكذبُ به الكفارُ - فيُضَلون

(وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) يدل على أنهم المُضَلونَ بِه ، ويهدى به

كثيراً ، يزاد به المؤمنون هدايةً لأن كلما ازْدَادُوا تَصْدِيقاً فقدِ ازْدَادُوا هِدَايةً والفاءُ دخَلَتْ في جواب ، أمَّا فِي قوله (فيَعلمون) لأن أما تأتي بمعنى الشرط

والجزاءِ كأنَّه إذا قال (أما زيد فقد آمن وأمَّا عمرو فقد كفر) فالمعنى مهما

يكن من شيءٍ فقد آمن زيد ومهما يكن من شيءٍ فقد كفر عمرو.

وقوله (ماذا) يجوز أن يكون (ما) و (ذا) اسماً واحداً يكون موضعهما

نصباً ،  أي شيءٍ أراد اللّه بهذا مثلاً ، ويجوز أن يكون (ذا) مع (ما)

بمنزلة الذي فيكون  ما الذي أراده اللّه بهذا مثلاً ؛  أي شيءٍ الذي

أراده اللّه بهذا مثلاً ، ويكون (ما) هنا رفعاً بالابتداء و (ذا) في معنى الذي ، وهو خَبَرُ الابتداء وإِعراب (الفاسقين) نصب كأنَّ  وما يَضِل بِه أحَد إلا

الفَاسقين.

* * *

٢٧

وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّه مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّه بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٢٧)

(عهد اللّه) هنا - واللّه أعلم - ما أخذ اللّه على النبيين ومن اتبعهم ألا

يَكْفُروا بأمُرِ النبِي - صلى اللّه عليه وسلم - ، دليل ذلك قوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا).

فهذا هو العهد المأخوذ على كل من اتبع الأنبياءَ عليهم السلام " أن

يؤْمنوا بالرسول المصدقِ لِمَا مَعَهُمْ و - " إصْري " - مثْلُ عهدي.

ويجوز أن يكون عهدُ اللّه الذي أخذَه من بَنِي آدمَ مِنْ ظُهورِهم.

حين قال . . . (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا).

وقال قوم أن عَهدَ اللّه - عز وجل - الاستدلال على تَوْحيده ، وأنَّ كل ذِي تَمييز يعلمُ أن اللّه خَالق فَعَليْهِ الإيمانُ بِهِ ، والقولان الأولان في القرآن ما يصدقُ تَفْسيرَهُمَا.

فأمَّا إعْرابُ (الَّذِينَ) فالنصْب على الصفَةِ للفَاسِقينَ ، وموضع

(أنْ يُوصل) خفض على البدل من الهاء والمعنى ما أمر اللّه بأنْ يُوصَلِ.

وَمَوْضِعُ (أولَئكَ) رفع بالابْتِدَاءِ و (الخَاسِرُونَ) خبرُ الابتدَاءِ وهم بِمَعْنى

الفصل وهو الذي يسميه الكوفيون العماد ، ويجوز أن يكون أُولَئِكَ رفعاً

بالابتداءِ وهم ابتداء ثان ، والخاسرون ، خبر لِهُمْ و (هُمُ الخاسرون) ، خبر عن أولئك.

* * *

٢٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّه وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨)

فكونهم أمْوَاتاً أوْلاًْ أنَّهمْ كانُوا نُطَفاً ثم جعِلوا حَيواناً ثم أمِيتُوا ثم أحْيُوا

ثم يُرجَعُونَ إلى اللّه - عزَّ وجلَّ - بعد البعث كما قال (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) أي مسرعين.

وقوله ، عزَّ وجلَّ (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا).

والأجداثُ القبورُ . وَتأويلُ كيف أنها ، استفهام في معنى

التعجب وهذا الثعجب إنما هو للخلق وللمؤمنين ، أي اعجبوا من هؤُلاءِ

كيف يَكفُرون وقد ثبتَتْ حجةُ اللّه عَلَيْهمْ ومعنى (وكنتم) وقد كنتم وهذه

الواو للحال ، وإضمار قد جائز إذا كان في الكلام دليل عليه ، وكذلك قوله ( جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) (وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ).

* * *

٢٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)

موضع ما مفعول به وتأويله أن جميع ما في الأرض منعَمُ به عليكم

فهو لكم.

وفيه قول آخر أن ذلكم دليل على توحيد اللّه عزَّ وجلَّ.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ اسْتَوى إلىَ السَّمَاءِ).

فيه قولان : قال بعضهم : (اسْتَوى إلىَ السَّمَاءِ) ، عمد وقصد إلى السماءِ.

كما تقول قد فرغ الأمير من بلد كذا وكذا ، ثم استوى إلى بلد كذا ، معناه

قصد بالاستواءِ إليه ، وقد قيل (أيضاً) استوى أي صعد أمره إلى السماء

وهذا قول ابن عباس ، والسماءُ لفظها لفظ الواحد ، ومعناها معنى الجمع.

والدليل على ذلك  (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ).

ويجوز أن يكون السماءُ جمعاً كما أن السَّمَاوَات جمع كأن واحِدَهُ سَمَاة وسماوة وسماء للجميع.

وزعم أبو الحسن الأخفش أن السماءَ جائز أن يكون واحداً يراد به

الجمع كما تقول "كثر الدِّرْهَمُ والدينار في أيدي الناس ".

والسماءُ في اللغة السقف ويقال لكل ما ارتفع وعلا قد سما يسمو ، وكل

سقف ، فهو سماء يا فتى ، ومن هذا قيل للسحاب لأنها عالية.

* * *

٣٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٠)

قال أبو عبيدة " إذ " ههنا زائدة ، وهذا إقْدَام مِنْ أبي عبيدة لأن القرآن

لا ينبغي أن يتكلم فيه إلا بغاية تجري إلى الحق و (إذ) معناها الوقت ، وهي

اسم فكيف يكون لغواً ، ومعناها الوقت ؛ والحجة في (إذ) أنَّ اللّه تعالى ذكر

خلق الناس وغيرهم ، فكأنَّه قال ابتدأ خلقكم إذ قال ربك للملائكة (إِني جاعل في الأرض خَليفَةً).

وفي ذكر هذه الآية احتجاج على أهل الكتاب

بتَثْبيتِ نبوة النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أنَّ خَبَرَ آدم وما أمره اللّه به من سجود الملائكة له معلوم عندهم ، وليس هذا مِنْ علم العرب الذي كانت تعلمه ، ففي إخبار النبي - صلى اللّه عليه وسلم -

دليل على تثبيت رسالته إذ آتاهم بما ليس من علم العرب ، وإنما هو خبر لا

يعلمه إلا من قرأ الكتاب  أوحي إليه به.

وتأويل قوله عزَّ وجلَّ : (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) :

روي أن خلقا يقال لهم الجان كانوا في الأرض فأفسدوا وسفكوا

الدماء لبعث اللّه ملائكتَه فأجْلَتْهم من الأرض ، وقيل إن هُؤلاء الملائكة

صاروا سكان الأرض بعد الجان ، فقالوا يارب (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ).

وتأويل استخبارهم هذا على جِهَةِْ الاسْتِعْلام وجهة الحكمة ، لا على

الإنكار ، فكأنهم قالوا يا اللّه : إن كان هذا ظننا فَعَرفنا وجه الحق فيه.

وقال قوم :  فيه غير هذا وهو أن اللّه عزَّ وجلَّ أعلم الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة ، وأن من الخليقة فرقةً تسفك الدماءَ وهي فرقة مِنْ بَنِي آدَم ، وأذن اللّه عزَّ وجلَّ للملائكةِ أنْ يسْألوه عن ذلك وكان إعلامُه إياهم هذا زِيادةً في التثبيت في نفوسهم أنَّه يعلم الغيب ، فكأنهم قالوا : أتخلق فيها قوماً

يسفكون الدماءَ ويَعصونَك ؛ وإنَّما ينبغي إذا عرفوا أنك خلقتهم أن يسبحوا

بحمدك كما نسبح ، ويقدسُوا كما نقدس ، ولَمْ يَقُولُوا هَذَا إلا وقد أذن لهم.

ولا يجوز على الملائكة أن تقول شيئاً تتظنى فيه ، لأن اللّه تعالى وصفهم

بأنهم يفعلون ما يؤمرون.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَىِ أعْلمُ ما لا تَعْلَمُونَ).

أي أبْتَلِي من تَظُنُون أنَّه يطيع فيهديه الابتلاءُ ، فالألف ههنا إِنَّمَا هي

على إِيجاب الجعل في هذا القول ، كما قال جرير :

ألسْتُمْ خَيْرَ مَنْ ركب المطايا . . . وأنْدَى العالَمينَ بطون راحِ

ومعنى (يَسفِكُ) يصُب ، يقال سفك الشيءَ إذا صبَّه

ومعنى (نُسَبح بحمدك) نُبَرئُك من السوءِ ، وكل مَنْ عمل عَمَلاً قَصدَ به اللّه فقد سبح ، يقال فرغت من تسبيحي أي من صلاتي ، وقال سيبويه وغيره من النحويين : إن معنى سُبْحَان اللّه : براءة اللّه من السوءِ وتنزيهه من السوءِ ، وقال الأعشى :

أقول لما جاءَني فخرُهُ . . . سبحانَ من علقمةَ الفاخر.

 البراءَة مِنْه ومِنْ فخْرِه . .

ومعنى (نُقَدِّسُ لَكَ) أي نطهر أنْفُسَنا لك ، وكذلك منْ أطاعك نقدسُه

أي نطهّره ، ومن هذا بيت المقدس ، أي البيت المُطهرُ  المكان الذي يتطهر

فيه من الذنوب.

* * *

٣١

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣١)

قال أهل اللغة علم آدم أسماءَ الأجناس ، وعرض أصحاب الأسماءِ من

الناس وغيرهم على الملائكة ، فلذا قال : (ثم عرضهم) لأن فيهم من يعقل.

وكل ما يعقل يقال لجماعتهم (هم). و (هم) يقال للناس ويقال للملائكة ؛

ويقال للجن ، - ويقال للجان ويقال للشياطين فكل مميز في الإضمار (هم) هذا مذهب أهل اللغة.

وقد قال بعض أهل النظر : إن الفائدة في الِإتيان بالأسماءِ أبلغ منها هي

الفائدة بأسماءِ معاني كل صنف من هذه ، لأن الحجة في هذا أن الخيل إذا

عرضت فقيل ما اسم هذه ، قيل خيل ، فأي اسم وضع على هذه أنبأ عنها.

وإنما الفائدة أن تُنْبِئ باسم كل معنى في كل جنس ، فيقال هذه تصلح لكذا.

فهذه الفائدة البينة التي يتفق فيها أن تسمى الدابة والبعير بأي اسم شئتَ.

والمعنى الذي فيها وهو خاصها معنى واحد وإن اختلفت عليه الأسماءُ واللّه

أعلم.

* * *

٣٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٣٤)

قَرأتِ الْقُراءُ (للملائِكةِ اسْجُدُوا) بالكسر وقرأ أبو جعفر المدني

وحده (للملائكةُ اسْجدوا) بالضم.

وأبو جعفر من جِلَّةِ أهل المدينة

وأهلِ الثَّبتِ في القَراءَةِ إلا أنه غلط في هذا الحرف (١) لأن الملائكة في موضع

خفض فلا يجوز أن يرفع المخفوض ولكنه شبَّه تاءَ التأنيث بكسر ألف

الوصل لأنك إذا ابْتدأتَ قلت اسْجُدوا.

وليس ينبغي أن يقرأ القرآن بتوهم غيرِ الصواب.

(وإذ) في موضع نصب عطف على (إذ) التي قبلها والملائكة واحدهم

مَلَك ، والأصل فيه مَلأك أنشد سيبويه.

فلست لِأنْسي ولكنِ لِمَلأك . . . تنزَّلَ من جوِّ السَّماءِ يَصُوبُ

ومعناه صاحب رسالة ، ويقال مألُكة ومألَكَة ومألُك جمع مألُكة

قال الشاعر :

أبلغ النُعمانُ عني مالكاً . . . أنه قدْ طال حَبْسي وانتظاري

و (لآدم) آدمُ في موضع جَر إلا أنه لا ينْصرِفُ لأنَّه على وزن

أفعَل : يقول أهل اللغة إن اشتقاقه من أديم الأرض ، لأنه خُلقَ مِنْ تُراب.

وكذلك الأدمة إنما هي مشبهة بلون التراب . فإذا قلت مررت بآدم وآدم آخر ، فإن النحويين يختلفون في أفعل الذي يسمى به وأصله الصفة ، فسيبويه

__________

(١) قراءة أبي جعفر - رحمه اللّه - متواترة ، ومن ثَمَّ فلا وجه للاعتراض عليها. واللّه أعلم.

والخليل ومن قال بقولهما يقولون إنه يَنْصرف في النكرة لأنك إِذا نكّرته رددته إلى حال قد كان فيها يَنْصَرِف

وقال أبو الحسن الأخفش إذا سَمَّيْتَ به رجلًا

فقد أخرجته من باب الصفة ، فيجب إذا نكرته أن تصرفه فتقول : مررت بآدمٍ وآدمٍ آخر.

ومعنى السجود لآدم عبادة اللّه عزَّ وجلَّ لا عبادةُ آدم ، لأن اللّه

عزَّ وجلَّ : (إنما خلق ما يعقل لعبادته.

فإذا ابتدات قلت : اسْجُدوا فضممت الألفَ ، والألفُ لا حظ لها في

الحركة ، أعني هذه الهمزة المبتدأ بها . وإنَّما أدخلت - للساكن الذي بعدها.

لأنه لا يبتدأ بساكن ، فكان حقها الكسرَ لأن بعدها ساكناً ، وتقديرها

السكون ، فيجب أن تكسر لالتقاءِ السَّاكنين ، ولكنها ضمت لاستثقال الضمة بعد الكسر ، وكذلك كل ما كان ثالثُه مَضْمُوماً - في الفعل المستقبل نحو قوله (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ) ، ونحو (اقْتُلُوا يُوسُفَ) لأنه

من أنَظَر يَنْظُر وقَتَل يقْتُل ، وإنما كرهت الضمة بعد الكسرة - لأنها لا تقع في

كلام العرب - لثقلها - بعدها.

فليس في الكلام مثل فِعُل ولا مثل إفْعُل.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَسَجَدُوا إلا إبلِيسَ أبَى) :

قال قوم إن إبليس كان من الملائكة فَاسْتُثْنِيَ منهم في السجود وقال قوم

من أهل اللغة : لم يكن إبليس من الملائكة ، والدليل على ذلك  (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ) ، فقيل لهُؤلاءِ فكيف جاز أنْ يُستَثْنى منهم ؛ فقالوا :

إن الملائكة - وإياه - أمروا بالسجود ، قالوا ودليلنا على أنه أُمِرَ معهم  (إِلا إبْلِيسَ أبى) ، فلم يأب إلا وهو مأمور.

وهذا القول هو الذي نختاره ، لأن إبليس كان من الجن كما قال عزَّ وجلَّ ، والقول الآخر غير ممتنع ، ويكون (كَانَ مِنَ الْجِنَ) أي كان ضالًا كما أن الجن كانوا ضالين فجعل منهم كما قال في قصته

وكان من الكافرين ، فتأويلها أنه عمل عملهم فصار بعضَهم

كما قال عزَّ وجل (المُنَافِقُونَ والمُنَافِقَاتُ بعضُهم مِنْ بَعْضٍ).

وفي هذه الآية من الدلالة على تثبيت الرسالة للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - كما في الآية التي قبلها ، والتي تليها ؛ لأنه إخبار بما لَيْس من علم العرب ولا يعلمه إلا أهل الكتاب ،  نبي أوحِيَ إليه

وإبليس لم يُصْرف - لأنه اسم أعجمي

اجتمع فيه العجمة والمعرفة فمنع من الصرفِ.

* * *

٣٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥)

الرغَدُ الكثيرُ الذي لا يُعَنيك.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)).

أي إنْ عَمِلْتُمَا بأعمال الظالمين صِرْتُما منهم ، ومعنى (لَأتَقْرَبا) ههنا -

لا تأكلا ، ودليل ذلك قوله (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) أي لا تقرباها في الأكل . (ولاتقربا) جزم بالنفي.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَتَكُونَا ينَ الظالِمِين) نصب ، لأن جواب النهي بالفاءِ نصب ، ونصبه عند سيبويه - والخليل بإضمار أن ، والمعنى لا يكن منكما قرب لهذه الشجرة فَكَوْنٌ مِنَ الظالمين ، ويجوز أنْ يكونَ فتكونَا جزم على العطف على قوله وَلاَ تَقْرَبَا فَتَكُونَا.

٣٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٣٦)

معناه أنهما أُزِلَّا بإغْوَاءِ الشيطان إياهُمَا ، فصار كأنَّه أزلَّهْمَا ، كما تقول

للذي يعمل ما يكون وصلة إلى أن يزلك من حال جميلة إلى غيرها : أنت

أزْلَلْتَنِي عَنْ هذا ، أي قبولي منك أزلنِي ، فصرت أنتَ المُزيلَ لِي ، ومعنى

الشيطان في اللغة الغالي في الكفر المتبعد فيه من الجن والإنس ، والشطَنُ في

لغة العرب الخَبْل ، والأرض الشطون : البعيدةُ ، وإنما الشيطان فَيْعال من هذا ، (وقد قرئ : (فَأزَالهُمَ الشيطان) من زُلْتُ وأزَالَنِي غيْري . وأزلهما من زَلَلْتُ

وأزَلني غيري ، ولزَللت ههُنا وجهان : يَصْلح أن يكون فأزلهما الشيطان

"أكسبهما الزلة والخَطِيئةَ ، ويصلح أن يكون "فأزلهما نحَّاهما"

وكلا القراءَتين صواب حسن).

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)

جمع اللّه للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - قصة هبوطهم ، وإنما كان إبليس اهبِطَ أولاً.

والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ (اخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ)

وأهْبط آدمُ - وحواءُ بعد فجمع الخَبرُ للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - لأنهمْ قد اجتمعوا - في الهبوط وإن كانت أوْقَاتُهم متفرقة فيه.

وقوله - (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) إبْليس عدو للمؤْمنين من ولد آدم.

وعداوته لهم كفر ، والمؤمنون أعداءُ إبليس ، وعداوتهم له إيمان.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أي مُقَام وثبوت

وقوله (إِلى حِينٍ).

قال قوم : معنى الحين ههنا إلى يوم القيامة ، وقال قوم : إلى فناءِ الآجال

أيْ كلُ مستقر إلى فناءِ أجله ، والحين والزمان في اللغة منزلة واحدة ، وبعض

الناس يجعل الحين في غير هذا المَوْضِع ستة أشهر دليله  (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا).

وإنما (كل حين) ههنا جُعِلَ لمدة معلومة والحين يصلح للأوقات كلها

إلا أنه - في الاستعمال - في الكثير منها أكثر ، يقال ما رأيتُكَ منذُ حين ، تريد منذ حين طويل.

والأصل على ما أخبرنا به.

* * *

٣٧

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧)

الكلمات - واللّه أعلم - اعتراف آدم عليه السلام وحواء بالذنب لأنهما

قالا : (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣).

اعترفا بذنبهما وتابا.

وفي هذه الآية موعظة لولدهما ، وتعريفهم كيف السبيل إلى التنَصُّلِ من

الذُنُوب ، وأنه لا ينفع إِلا الاعترافُ والتوبةُ ، لأن ترك الاعتراف بما حرّم اللّه

- عزَّ وجلَّ - حَرامٌ وكُفْرٌ باللّه فلا بد من الاعتراف مع التوبة ، فينبغي أن يفهم هذا  فإِنه من أعظم ما يحتاج إِليه من الفوائد.

وقرأ ابن كثير : (فتلقى آدمَ من ربِّه كَلمَاتٌ) ، والاختيار ما عليه الإجماع (١)

__________

(١) قراءة ابن كثير متواترة ، ومن ثَمَّ فلا يجوز المفاضلة والترجيح بين القراءات. واللّه أعلم.

وهو في العربية أقوى ، لأن آدم تعلم هذه الكلمات فَقِيلَ تَلقَّى هذه الكلماتِ ، والعرب تقول تلقيت هذا من فلان ،  فَهْمي قَبِلَهُ من لفْظِه.

* * *

٣٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨)

الفائدة في ذكر الآية أنه عزَّ وجلَّ أعلمهم أنه يبتليهم بالطاعة وأنه

يُجَازِيهم بالجَنةِ عَلَيْها وبالنَّارِ على تَرْكِهَا ، وأن هَذَا الابتلاءَ وقَع عندَ الهبُوط

على الأرض.

وإعراب (إِمَّا) في هذا الموضع إعراب حروف الشرط والجزاءِ ، إلا أن

الجزاءَ إذا جاءَ في الفعل معه النون الثقيلة  الخفيفة لزمتها ما ومعنى

لزومها إياها معنى التوكيد ، وكذلك معنى دخول النون في الشرط التوكيد.

والأبلغ فيما يؤمر العباد به التوكيد عليهم فيه.

وفتح ما قبل النون في  (يَأْتِيَنَّكُمْ) لسكون الياءِ وسكون النون

الأولى ، وجواب الشرط في الفاءِ مع الشرط الثاني وجوابه وهو

(فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ)

وجواب (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ) (قوله) (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

و (هُدَايَ) : الأكثر في القراءَة والرواية عن العرب (هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ)

فالياء في (وهُدَايَ) فتحت لأنها أتت بعد ساكن وأصلها الحركة التي هي الفتح

فالأصل أن تقول : هذا غلامِيَ قد جاءَ - بفتح الياءِ - لأنها حرف في موضع

اسم مضمر منع الِإعراب فألزم الحركة كما الزمت " هُوَ " وحذف الحركة

جائز لأن الياء من حروف المد واللين ، فلما سكن ما قبلها لم يكن بد من

تحريكها فجعل حظها ما كان لها في الأصل من الحركة وهو الفتح ، ومن

العرب من يقولون : " هُدَيً وعَصَى " ، فمن قرأ بهذه القراءَة فإنما قلبت

الألف إِلى - الياءِ ، للْيَاءِ التي بعدها ، إِلا أن شَأنَّ يَاءِ الإضافة أنْ يُكْسر ما قَبْلَها ، فجعل بدلَ كَسْرِ ما قَبلها - إِذْ كانت الألف لا يكسر ما قبلها ولا تكسر هي - قَلْبَها ياءً . وطَىءٌ تقول في هُدًى وعَصاً وأفْعًى وما أشبهَ هذا في الوقفِ هُدَيْ وعَصَيْ (وأفعى) ، بغير إِضافة.

وأنشد أبو الحسن الأخفش وغيره من النحويين.

تبَشري بالرفْهِ والماءِ الروَى . . . وفرج منك قريب قد أتَىْ

وبعض العرب يجري ما يجريه في الوقف - في الأصل - مجراه في

الوقف وليس هذا الوجهَ الجيدَ . وزعم سيبويه أن الذين أبدلوا من الألف

الياء ، أبدلوها في الوقف ليكون أبين لها.

وحكى أيضاً أن قوماً يقولون في الوقف حُبْلَوْ ، وأفْعَوْ.

وإِنما يحكي أهل اللغة والعلم بها كل ما فيها ، ليتميز الجيد

المستقيم المطرد من غيره ، ويجتنب غير الجَيِّد . فالباب في هذه الأشياء أن

ئنْطق بها في الوصل والوقف بألفٍ ، فليس إِليك أن تقلب الشيءَ لِعِلةٍ ثم تنطق

به على أصله والعلة لمْ تزل ، فالقراءَة التي ينبغي أن تُلْزم أهي ، (هدَايَ فَلَا خَوْفٌ) إلا أن تثبت برواية صحيحة " هدَيّ " فيقرأ بها . ووجهه من القياس ما وصفنا.

فأمَّا  (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ).

و (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) فلا يجوز أن يقرأ هذا صراط علاي ، ولا ثمَّ إلاي مرجعكم ، لأن الوصل كان في هذا : " إلآي " و " عَلَاي " ولكن الألف أبْدِلَتْ منها مع المضمرات الياءُ ، ليفصل بين ما آخره مِما يَجب أن نعْرَبَ ويتَمَكن ، ومَا آخره مما لا يجب أن يعرب ، فَقلبَتْ هذه الألف ياءً لهذه العلة.

* * *

٤٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠)

نصب (بني إِسرائيل) لأنه نداء مضاف ، وأصل النداءِ النصب لأن

معناه معنى " ناديت " و " دعوت " وإسرائيل في موضع خفض إِلا إنَّه فتح آخره لأنه لا يَنْصَرف ، وفيه شيئان يوجبان منعَ الصرف ، وهما إنَّه أعجمي وهو معرفة - وإذا كان الاسم كذلك لم يَنْصَرف ، إِذا جاوز ثلاثة أحرف عند

النحويين ، وفي  (نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) وجْهان ، أجودهما فتح

الياءِ لأنَّ الذي بعدها ساكبن وهو لام المعرلْة فإستعمالها كثيرَ في الكلام

فاختير فتح الياءِ معها لالتقاءِ " السَّاكنين ، ولأن الياء لو لم يكن بعدها ساكن كانَ فتحها أقوى في اللغة ، ويجوز ُأنْ تحذف الياءُ في اللفظ لالتقاءِ السَّاكنين فتقرأ - (نعمتِ التي) أنعمت بحذف الياءِ ، والاختيار إثبات الياء وفتحها لأنه أقوى في العربية وأجزل في اللفظ وأتم للثواب ، لأن القارئ يجازى على كل ما يقرؤُه من كتاب اللّه بكل حرف حسنة ، فإن إثباته ، أوجَهُ في اللغة . فينبغي إثباته لما وصفنا.

فأما قوله عزَّ وجلَّ : (هَارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١).

فلم يكثر القراءُ فتح هذه الياء ، وقال أكثرُهُم بفتحها مع الألف واللام.

ولعَمْري إن اللام المَعْرفَةَ أكثرُ في الاستعمال ، ولكني أقول : الاختيار

" أخِيَ اشْدُدْ " بفتح الياءِ لالتقاءِ السَّاكنين ، كما فتحوا مع اللام ، لأن اجتماع ساكنين مع اللام وغيرها معنى واحد وإن حذفت فالحذف جائز حَسَن إلا أن الأحْسَنَ ما وَصَفْنَا.

وأمَّا معنى الآية في التذكير بالنعمة فإنهم ذُكرُوا بِمَا أنْعِمَ بِه على آبائهم

من قبلهم ، وأنعم به عليهم ، والدليل على ذلك  (إذْ جَعَلَ فِيكُمْ أنبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) ، فالذين صادفهم النبي - صلى اللّه عليه وسلم - لم يكونوا أنبياء وإنَّما ذُكِّروا بما أنعم به على آبائهم وعليهم في أنفسهم وفي آبائهم ، وهذا  موجود في كلام العرب معلوم عندها.

يفاخر الرجلُ الرجُلَ فيقولُ هَزَمْناكُمْ يَوْمَ " ذي قار " ،

ويقول قتلناكم يوم كذا ، معناه قَتَل آباؤُنا آباءَكم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأوْفُوا بِعَهْدِي أوفِ بِعَهْدِكُمْ).

معناه - واللّه أعلم -  (وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) فتمام تبيينه أن يخبروا بما فيه من ذكر نبوة محمد - صلى اللّه عليه وسلم - وقد بيَّنَّا ما يدُل على ذكر العهد قبل هذا وفيه كفاية.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ).

نصب بالأمر كأنه في  " أرهبوني " ويكون الثاني تفسير هذا

الفعل المضمر ، ولو كان في غير القرآن لجاز : " وَأنَا فَارْهَبُونِ "

ولكن الاختيار في الكلام والقرآن والشعر (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) حذفت الياء وأصله " فارهبونِي " - لأنها فاصلة ، ومعنى فاصلة رأس آية ليكون النظم على لفظ مُتَسق ، ويسمِّي أهلُ اللغة رؤوس الآي الفواصل ، وأواخر الأبيات : القوافي.

ويقال وَفيْت له بالعهد فأنا وافٍ به ، وأوفيت له بالعهد فأنا موف به.

والاختيار : - أوفيت ، وعليه نزل القرآن كله قال اللّه عزَّ وجلَّ :

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) وقال : (وأوْفُوا بعَهْدِ اللّه إذَا عَاهَدتُمْ)

وقال : (فَأوْفُوا الْكَيْلَ والمِيزَانَ) وكل ما في القرآن بالألف

وقال الشاعر في " أوْفَيْتُ " :

" ووفيتُ " فجمع بين اللغَتَينِ في بيت واحد :

أما ابنُ عوف فقد أوْفى بذمته . . . كما وَفَى بقلاص النجم حاديها

* * *

٤١

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١)

يعني القرآن ، ويكون أيضاً ، (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ) بِكِتَابِكم وبِالْقُرْآنِ

إن شئت عادت الهاءُ على قوله (لما معكم) ، وإنما قيل لهم (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ) لأن الخطاب وقع على حكمائهم فإذا كفروا كفر معهم الأتباع فلذلك قيل لهم : (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ) فإن قال قائل : كيف تكون الهاءُ لكتابهم ؛ قيل له

إنههم إذا كتموا ذكر النبي - صلى اللّه عليه وسلم - في كتابهم فقد كفروا به كما إنَّه من كتم آية من القرآن فقد كفر به ومعنى (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) - إذا كان بالقرآن - لا مؤنَةَ فيه.

لأنهم يظهرون أنهم كافرون بالقرآن . . ومعنى (أَوَّلَ كَافِرٍ) أولَ الكافرين ،.

قال بعض البصريين في هذا قولين : قال الأخفش معناه أول منْ كفَر به ، وقال البصريون أيضاً : معناه ولا تكونوا أول فريقٍ كافر به أي بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم - وكلا القولين صواب حسن.

وقال بعض النحوين إن هذا إنما يجوز في فاعل ومفعول تقول الجيش

منهزم ، والجيش مهزوم ، ولا يجوز فيما ذكر : الجيش رجل ، والجيش فرس ، وهذا في فاعل ومفعول أبين ، لأنك إذا قلت الجيش منهزم فقد عُلِمَ أنك تريد هذا الجيش فنقطت في لفظه بفاعل لأن  الذي وضع عليه الجيش معنى يدل على جمع ، فهو فَعال . ومفعول يدل على ما يدل عليه الجيش ، وإذا قلت الجيش رجل فإنما يكره في هذا أن يتوهم أنك تقللّه فأمَّا إِذا عرف معناه فهو سائغ : جيد.

تقول : جيشُهُمْ إِنَّما هو فرسٌ ورجُل ، أي ليس بكثير ، الاتباع فيدل  على أنك تريد الجيش خيل ورجال ، وهذا في فاعل ومفعول أبين كما وصفنا.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ).

اللغة العليا والقُدْمَى الفتح في الكاف وهي لغة أهل الحِجَازِ ، والإمالة

في الكاف أيضاً جيّد بالغ في اللغة لأن فاعلا إذا سَلِم من حروف الإطباق

وحروف المستعلية كانت الإمالة فيه سائغةً إلا في لغة أهل الحجاز ، والإمالة لغة بني تميم وغيرهم من العرب ، ولسان الناس الذين هم بالعراق جارٍ على لفظ الِإمالة ، فالعرب تقول : هذا عابد وهو عابد فيكسرون ما بعدها إلا أن

تدخل حروف الِإطباقِ وهي الطاء والظاء والصاد والضاد ، لا يجوز في قولك

فلانٌ ظالم : ظالم ممال ، ولا في طالب : طالب ممال ، ولا في صابر صابر : ممال ، ولا في ضابطٍ : ضابط ممال ، وكذلك حروف الاستعلاءِ وهي : الخاءِ والغين ، والقاف ، لا يجوز في غافل : غافل ممال ولا في خادم : خادم ممال ، ولا في قاهر قاهر : ممال . وباب الإمالة يطول شرحه إلا أن هذا في هذا الموضع هو المقصود وقدر الحاجة.

* * *

٤٢

قوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢)

يقال لبَسْت عليهم الأمرَ ألبِسُه ، إذا أعَمَّيته عليهم ، ولبِسْت الثوبَ

ألبَسُه ومعنى الآية : (لَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ) ، والحق ههنا أمر النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وما أتى به من كتاب اللّه عزَّ وجلَّ ، وقوله بالباطل ، أي بما يحرفون.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وأنتم تَعْلمُونَ) أي تأتون لبسكم الحق وكتمانه على علم منكم وبصيرةٍ.

وإعراب (وَلَا تَلبِسُوا) الجزم بالنهي ، وكلامة الجزم سقوط النون ، أصله

تَلْبِسُون وتَكْتمُونَ ، يصلح أن يكون جزماً على معنى ولا تكتموا الحق ، ويصلح أن يكون نصباً وعلامة النصب أيضاً سقوط النون ، أما إذا نصبت فعلى معنى الجواب بالواو ، ومذهب الخليلِ وسيبويه والأخفش وجماعة من البصريين أن

جميع ما انتصب في هذا الباب فبإضمار أن كأنك قلت لا يكن منكم إلباس الحق وكِتْمَانه ، كأنَّه قال وإن تكتموه ، ودلَّ تلبسوا على لبس كما تقول : من كذب كانَ شَرًّا ، ودل ما في صدر كلامك على الكذب فحذفْتَه.

* * *

٤٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٤٤)

فالألف ألف استفهام ، ومعناه : التقرير والتوبيخ ههنا ، كأنه قيل لهم :

أنتم على هذه الطريقة . ومعنى هذا الكلام - واللّه أعلم - أنهم كانوا يأمرون أتباعهم بالتمسك بكتابهم ويتركون هم التمسك به ، لأن جحْدهم النبي - صلى اللّه عليه وسلم - هو تركهم التمسك به - ويجوز واللّه أعلم - أنهم كانوا يأمرون ببذْل الصدقةِ وكانوا يضنون بها ، لأنهمَ وُصِفُوا بأنهم قست قلوبهم . وأكلوا الربَا والسُّحْتَ ، وَكانوا

قد نهوا عن الربا . فمنع الصدقة داخل فِي هذا الباب.

* * *

٤٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (٤٥)

إن قال قائل لم قيل لهم : استعينوا بالصبر وما الفائدة فيها فإن هذا

الخطاب أصله خطاب أهل الكتاب ، وكانت لهم رئاسة عند أتباعهم فقيل لهم : استعينوا على ما يُذْهِبُ عنكم شهوَة الرياسة بالصلاة لأن الصلاة يتلى فيها ما يُرغب فيما عند اللّه ، ويزهد في جميع أمر الدنيا ، ودليل ذلك

(إِنَّ الصَّلاةَ تنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمنكَرِ).

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنهَا لَكَبِيرة إِلا عَلى الْخَاشِعِين).

 : إِن الصلاة التي معها الإِيمان بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم - كبيرة تكبر على الكفار وتعْظُمُ عليهم مع الإيمان بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم - . والخاشع المتواضع المطيع المجيب لأن

المتواضع لا يبالي برياسة كانت له مع كفرٍ إِذا انتقل إِلى الِإيمان.

* * *

٤٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (٤٦)

الظن ههنا في معنى اليقين ، والمعنى : الذين يوقنون بذلك ولو كانوا شاكين

كانوا ضُلالاً كافرين ، والظن : بمعنى اليقين موجود في اللغة ، قال دريد بن

الصمة :

فقُلْت لهم ظُنوا بألْفيْ مُقاتِل . . . سَراتهُمُ في الفارِسيّ المُسَرَّدِ

ومعناه أيقنوا . وقد قال : بعض أهل العلم من المتقدمين :

إِن الظن يقع في معنى العلم الذي لم تشاهده ، وإِن كان قام في نفسك

حقيقتُه وهذا مذهب ، إِلا أن أهل اللغة لم يذكروا هذا.

قال أبو إِسحاق : وهذا سمعته من إِسماعيل بن إِسحاق القاضي رحمه

اللّه رواه عن زيد بن أسلم . .

وقوله (أَنَّهُمْ) ههنا لا يصلح في موضعها إِنهم - بالكسر - لأن الظن

واقع فلا بد مِن أن تكونَ تِليه . أنَّ إلا أن يكون في الخبر لام.

ويصلح في (أَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) الفتح والكسر ، إِلا أن الفتح هو الوجه

الذي عليه القراءَة ، فإذا قلْت : وإنهُّم إِليه راجعون - في الكلام - حملت

الكلام عَلَى  كأنه " وهم إليه راجعون " ودخلت أنْ مَؤكْدة ، ولولا ذلك لما جاز أبطالك الظن مع اللام إذا قلت ظننت إنك لعالم.

ومعنى (مُلَاقُو رَبِّهِمْ) ملاقون ربهمْ لأن اسم الفاعل ههنا نكرة ولكن النون

تحذف استخفافاً ، ولا يجوز في القرآن إثباتها لأنه خلاف المصحف ، ولا يجوز أن يقع شيء في المصحف مجمع عليه فيخالف ، لأن اتباع المصحف أصل تباع السُنة.

* * *

٤٧

و (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (٤٧)

أذكرهم اللّه عزَّ وجلَّ نعمته عليهم في أسلافهم ، والدليل على ذلك قوله

عزَّ وجلَّ : (وَإذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعوْن) والمخاطبون بالقرآن لم يروا فرعون ولا آله . ولكنه عزَّ وجلَّ ذكَرهم أنه لم يزل منعماً عليهم لأن إنعامه على أسلافهم إِنعام عليهم ، والدليل على ذلك : أن العرب وسائر الناس يقولون : أكرمْتُك

بإكرامي أخاك ، . وإنما الأثرة وصلت إلى أخيه ، والعربُ خاصة تجعل ما كان

لآبائها فخراً لها ، وما كان فيه ذم يعدونه عاراً عليها ، وإن كان فيما قَدُم من آبائها وأسلافها.

* * *

٤٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)

يعني به يوم القيامة ، وكانت إليهود تزعم أن آباءَها الأنبياء تشفع لها عند

اللّه فأيئَسُهم اللّه من ذلك.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلا يؤخَذُ منْهَا عَدْلٌ).

العدل ههنا الفِدْية ، ومعنى : (لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) أي لا

تجزي فيه ، وقيل : لا تجْزِيه ، وحَذْفُ (فيه) ههنا سائغ ، لأن (في) مع الظرف

محذوفة : تقول أتيتك اليوم ، وأتيتك في اليوم ، فإذا أضمرت قلت أتيتك فيه ، ويجوز أنْ تقول أتيْتُكه ، قال الشاعر :

ويوماً شهِدناه سليماً وعامراً . . . قلِيلاً سوى الطَّعنِ النِهال نوافلُه

أراد شهدنا فيه ، وقال بعض النحويين : إن المحذوف هنا الهاء لأن

الظروف عنده لا يجوز حذفها - وهذا قول الكسائي والبَصريون وجماعةٌ من

الكوفيين يقولون : إن المحذوف " فيه ".

وفصَّل النحويون في الظروف ، وفي الأسماءِ غير الظروف فقالوا : إن

الحذف مع الظروف جائز كما كان في ظاهره ، فكذلك الحذف في مضمره ، لو

قلت الذي سرت اليوم ، تريد الذي سرت فيه جائز ، لأنك تقول سرت اليوم وسرت فيه ، ولو قلت : الذي تكلمت فيه زيد : لم يجز الذي تكلمت زيد لأنك تقول تكلمت اليوم وتكلمت فيه ، ولا يجوز في قولك تَكلمْتُ في زيد تكلمْتُ زيداً.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (تُقْبَلُ مِنْهَا شفاعَةٌ).

مرفوع لأنه اسم ما لم يسم فاعله ، والاسم إذا لم يُسَم من فعَل به رُفع

لأن الفعل يصير حديثاً عنه كما كصير حديثاً عن الفاعل ، وتقول : لا يُقْبَلُ منها شفاعةٌ ، ولا تُقْبلُ ، لأن معنى تأنيث ما لا يُنْتجُ غيرحقيقة ، فلك في لفظه في الفعل التذكير والتأنيث ، تقول : قبِل منك الشفاعة ، وقدْ قُبلتْ منك الشفاعة ، وكذلك (فمن جاءَه موعظةٌ) لأن معنى موعظة ووعظ ، وشفاعة وشفع واحد.

فلذلك جاء التذكير والتأنيث على اللفظِ والمعنى وأمَّا ما يعقل ويكون منه

النسل والولادة نحو امراة ورجل ، ، وناقة وجمل فيَصِح في مؤَنثة لفظ التذكير ، ولو قلت قام جارتك ونحر ناقتك كان قبيحاً - وهو جائز على قبحه لأن الناقة والجارة تدلان على معنى التأنيث ، فاجتزئَ بلفظهما عن تأنِيثِ الفعل ، فأمَّا الأسماء التي تقع للمذكرِين وأصحاب المؤنث فلا بد فيها من عَلمِ التأنيث لأن الكلام للفائدة ، والقصد به الإبانة ، فلو سُمَّيت أمراة بقاسم لم يجز أن يقال جاءَني قاسم ، فلا يعلم أمذكراً عَنَيْت أم مؤَنثاً ، وليس إلى حذف هذه التاء - إذا كانت فارقة بين معنيين - سبيل ، كما إنَّه إذا جرى ذكر رجلين لم يجز أن تقول : قد قام ،

ولا يجوز إلا أن تقول قاما ، فعلامة التأنيث فيما فيه اللبس كعلامة التثنية ههنا.

* * *

٤٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩)

موضع إذ نصب ، كأنه قال : واذكروا إذ نجيناكم مِنْ آل فرعون ، وآلُ

فرعَون أتْبَاعُه ومن كان على دينه ، وكذلك آلُ الأنبياءِ صلوات اللّه عليهم من كان على دينهم ، وكذلك قولنا : صلى اللّه على محمد وآله : معنى آله من اتبعه من أهل بيته وغيرهم ، ومعنى خِطابِهمْ هَهنَا تذكيرهم بالنعمة عليهم في أسلَافِهِمْ كما وصفنا.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَسُومُونكُمْ سُوءَ العَذابِ).

معنى (يَسُومُونكُمْ) في اللغة . يولونكم ، ومعنى سوءَ العذابِ ، شديد العذاب ، وإن كان العذاب كله سوءًا ، فإنما نُكرَ في هذا الموضع لأنه أبلغ ما يعامل به مَرْعِيٌّ.

فلذلك قيل سوءَ العذاب ، أي ما يبلغ في الإساءَة ما لا غاية بعده.

وفسره ب (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ) والقراءَة المجمع عليها - يُذَبِّحُونَ - بالتشديد - ورواية شاذة يَذْبَحُون أبناءَكم ، والقراءَة المجمع عليها أبلغ ، لأن (يُذَبِّحُونَ) للتكثير ، ويَذْبَحُونَ يصلح أن يكون للقليل وللكثير فمعنى التكثير ههنا أبلغ ، و (أبناءَكم) جمع ابن ، والأصل كأنه إنما جمع بني وبنو ويقال : ابن بيَّن البنوة ، فهي تصلح أن تكون "فعَل" و " فِعْل" كأنه أصله بناية ، والذين قالوا بنون كأنَّهم جمعوا "بَنا" وبنون ، فأبناءُ جمع " فعَل وَفِعْل ".

و "بِنْتٌ" يدل على أنه يَستقيم أن يكون فِعْلًا ، ويجوز أن يكون " فَعَل " نقلت إلى " فِعْل " كما نقلت أخت من فَعَل إلى فُعْل ، فأمَّا بنات فهو ليس بجمع بنت على لفظها ، إنما ردت إلى أصلها فجمعت بنات على أن الأصل في بنت "فِعْله" كأنَّها مما حذفت لامه ،

وَالأخفش : يختار أن يكون المحذوف من ابن الواو قال : لأن أكثر ما تحذف الواو بثقلها . والياءُ تحذف أيضاً للثقل.

قال أبو إِسحاق : والدليل على ذلك أن يداً قد أجمعوا على أن

المحذوف منه الياءُ ولهم دليل قاطع على الإِجماع قال : يديت إِليه يداً ، ودم

محذوف منه الياءُ ، يقال دم ودميان.

قال الشاعر :

فلو أنَّا على حَجَر ذبِخنا . . . جَرى الدَّميَانِ بالخَبَر اليقينِ

والبنوًة ليست بشاهد قاطع في الواو ، لأنهم يقولون الفتوة والفتيان في

التثنية - قال عزَّ وجلَّ : (وَدَخَلَ مَعَهُ السِجْنَ فَتَيانِ).

فابْن يجوز أن يكون المحذوف منه الواو  الياءُ . وهما عندي متساويان.

وقوله عزَّ وجل : (وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ).

يعني : في النجاة من آل فرعون . والبلاءُ ههنا النعمة ، يروي عن

الأحنف أنه قال : البلاءُ ثم الثناءُ ، أي الأنعام ثُمَّ الشكرُ.

قال زهير :

جزى اللّه بالِإحْسَان مَا فعَلا بِنَا . . . وأبلاهما خير البلاءِ الذي يبلو

وقال اللّه عزَّ وجلَّ : (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا).

* * *

٥٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠)

موضع (إِذْ) نصب كالتي قبلها ، ومعنى (فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ) : جاءَ تفسيره في

آية أخرى ، وهو قوله عزَّ وجلَّ : (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣).

أي فانْفرق البحر فصار كالجبال العظام ، وصَاروا في قَرَارِه - وكذلك قوله عزَّ وجلَّ : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (٧٧).

معناه طريقاً ذا يبس.

و (وَأغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ)

فيه قولان (قالوا) وأنتم

ترونهم يغرقون ويجوز أن يكون : (وأنتم تنظرون) أي وأنتم مشاهدون

تَعلمون ذلك ، وإن شغلهم عن أن يروه في ذلك الوقت شاغل يقال مِنْ

ذلك : دُور آل فلان تنظر إلى دور بني فلان ، أي هي بإزائها والدُّور يعلم أنها لا تبصر شيئاً.

* * *

٥١

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (٥١)

ويقرأ : (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى) وكلاهما جائز (حسن) واختار جماعة من

أهل اللغة ، وإذ وعدنا بغير ألف :

وقالوا : إنما اخترنا هذا لأن المواعدة إنما تكون لغير الآدميين ، فاختاروا

(وعدنا) وقالوا دليلنا قوله عزَّ وجلَّ (إِنَّ اللّه وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ) وما أشبه

هذا وهذا الذي ذكروه ليس مثل هذا وواعدنا هنا جيد بالغ ، لأن الطاعة في

القبول بمنزلة المواعدة ، فهو من اللّه عزَّ وجلَّ وعدٌ ومن موسى قبول واتًبَاعٌ

فجرى مجرى المواعدة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ).

ذكرهم بكفر آبائهم مع هذه الآيات العظام ، وأعْلمهم أن كفرهم

بالنبي ي مع وضوح أمره وما وقفوا عليه من خبره في كتبهم ككفر آبائهمْ.

وكان في ذكر هذه الأقاصيص دلالة على تثبيت نُبوة النبي - صلى اللّه عليه وسلم - لأن هذه الأقاصيص ليست من علوم العرب ، وإنما هى من علوم أهل الكتاب ، فأنبأهم النبي - صلى اللّه عليه وسلم - بما في كتبهم ، وقد علموا أنه منْ العرب الذين لم يقرأوا كتبهم ،

فعلموا إنَّه لمْ يُعَلمْ هذِه الأقاصيص إلا من جهة الوحي ، ففي هذه الآيات.

إذكارهُم بالنعمة عليهم في أسلافهم ، وتثبيت أمر الرسالة كما وصفنا.

* * *

٥٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)

آتينا بمعنى أعطينا ، و (الكتاب) مفعول به ، (والفرقان) عطف عليه.

وَيَجُوزُ أن يكون الفرقان الكتاب بعينه إلا إنَّه أعيد ذكره ، وعَنى به أنه يفرق بين الحق والباطل.

وقد قال بعض النحويين وهو قطرب :  : وآتينا محمداً الفرقان ، ودليله قوله عزَّ وجلَّ (تَبَارَكَ الًذِي نَزَلَ الفُرُقَانَ عَلَى عَبْدِهِ) يعني به القرآن.

والقول الأول هو القول لأن الفرقان قد ذكر لموسى في غير هذا

الموضع - قال اللّه عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (٤٨).

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ).

" لعل " إنما ذكرت هنا - واللّه يعلم أيهتدون أم لا يهتدون - على ما يفعل

العباد ويتخاطبون به ، أي إن هذا يرجى به الهداية ، فخوطبوا على رجائهم.

ومثله  (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ  يَخْشَى) : إنما  اذهبا على

رجائكما ، واللّه عزَّ وجلَّ عالم بما يكون وهو من ورائه.

* * *

٥٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إنَهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤)

والقراءَة (يَا قَوْمِ) بكسر الميم ، وهو نداء مضاف ، والاختيار فيه حذف

الياءِ ، لأن الياء حرف واحد ، والنداءُ باب حذف ، وهي شي آخر الاسم ، كما

أنَّ التنوين في آخره ، فحذفت الياءُ ، وبقيت الكسرة تدل عليها ، ويجوز في

الكلام أربعة أوجه . فأمَّا في القرآن فالكسر وحذف الياءِ لأنه أجوَد الأوْجُهِ.

وهو إجماع القراءِ ، فالذي يجوز في الكلام أن تقول " يَا قَوْمِ إنكم "

كما قرئ في القرآن ، ويجوز يا قومِي بإثبات الياءِ و سكونها ، ويجوز يا قوْمِيَ بتحريك الياءِ ، فهذه ثلاثة أوجه في الإضافة ، ويجوز ُ يا قومُ بضئم الميم على معنى يا أيها القوم.

ومعنى قوله (ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ).

يقال لكل من فعل فعلاً يعود عليه بمكروه إِنما أسأت إلى نفسك

وظلمت نفسك ، وأصل الظلم في اللغة وضع الشيءِ في غير موضعه ، والعرب تقول : ومن أشبه أباه فما ظلم ، معناه لم يقعْ لَهُ الشبه غيرَ مَوقعهِ ، ويقال ظلم الرجل سقاءَه من اللبن إذا شرب " منه " وسقي منه قبل إدراكه ، وأرض مظْلُومة إِذا حُفِرَ فيها ولم يكن حفر فيها قبل ،  جاءَ المطر بقربها وتخطاها.

قال النابغة :

إِلاَّ أَوارِيَّ لأَيَاً ما أُبَيِّنُهَا . . . والنُّؤْيُ كالحوضِ بالمظلومةِ الجَلَدِ

؛ ومعنى قوله (باتخاذُكمُ العِجْلَ) أي اتخذتموه إلهاً.

ومعنى قوله (فتُوبوا إِلى بَارِئكُمْ) أي إلى خالقكم ، يقال برأ اللّه الخلق ، فالبارئ الخالق ، والبريَّة والخلق المخلوقون ، إلا أن البريَّة وقعت في أكثر كلامهم غير مهموزة -

وأصلها (أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) وأكثر القراء ؛ والكلاَمِ " الْبَرِيَّة " بغير همز.

وقد قرأ قومٌ (البَرِيئَةُ) بالهمز ، والاختيار ما عليه الجمهور ، وروي عن أبي

عمرو بن العلاءِ أنه قرأ (إلى بارِئْكمَ) بإسكان الهمز ، وهذا رواه سيبويه

باختلاس الكسرة ، وأحسب أن الرواية الصحيحة ما روى سيبويه فإنه أضبط

لمَا رَوَى عن أبي عمرو ، والإعْراب أشبه بالرواية عن أبي عمرو لأن حذف

الكَسرة في مثل هَذا وحذف الضم إنما يأتي باضطرار مِنَ الشعر ، أنشد

سيبويه - وزعم إنَّه مما يجُوز في الشعر خاصة.

إذا اعْوجَجْنَ قلت صاحبْ قومِ

بإسكان الباءِ ، وأنشد أيضاً :

فاليوم أثمربْ غَيْرَمستحقب . . . إثماً من اللّه ولا واغل

فالكلام الصحيح ان تقول " يا صاحبُ " أقبل ،  يا صاحب أقبل

ولا وجْهَ للإسكان ، وكذلك " فاليوم أشَرب " ، يا هذا

وروى غير سيبويه هذه الأبيات على الاستقامة وما ينبغي أن يكون في الكلام والشعر ، رووا هذا البيت على ضربين :

رووا . فاليوم فَاشْرَبْ غير مستحقب .

ورووا أيضاً : فاليوم أُسْقَى غيرَ مسْتَحْقب.

ورووا أيضاً : إذا اعوججن قلت صَاح - قَوَم.

ولم يكن سيبويه ليروي (إن شاءَ اللّه) إلا ما سمع إلا أن الذي سمعه

هُؤلاء هو الثابت في اللغة ، وقد ذكر سيبويه أن القياس غير الذي رَوَى.

ولا ينبغي أن يُقْرَأ إلا (إلى بارئِكُمْ) بالكسر ، وكذلك (عند بَارِئِكُمْ).

ومعنى (فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ) امتحنهم اللّه عزَّ وجلَّ بأن جعل توبتهم أن يقتل

بعضُهم بعضاً ، فيقال إنهم صُفًوا صَفَيْنِ يقتل بَعضهم بعضاً ، فمن قُتِل كان

شهيداً ؛ ومن لم يقتل فتائب مغفور له ما تقدم من ذنبه ، ويقال إن السبعين

الذين اختارهم موسى - صلى اللّه عليه وسلم - لم يكونوا ممن عبد العجل ، وإنهم هم الذين كانوا يقتلون ، والأول أشبه بالآية لأن قوله عزَّ وجلَّ

(فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ) يدل على أنها توبَة عبدة العجل ، وإنما امتحنهم اللّه عزَّ وجلَّ بهذه المحنة العظيمة لكفرهم بعد الدلالات والآيات العظام.

* * *

٥٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللّه جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥)

معنى (جهرة) غير مُسْتتِرٍ عَنَّا بشيءٍ ، يقال فلان يجاهر بالمعاصي أيْ لا

يسْتتِر من الناس منها بشيءٍ.

و (فأخذتكم الصاعقة) معنى الصاعقة ما يُصْعقون منه ، أيْ يموتون ، فأخذتهم الصاعقة فماتوا.

٥٦

الدليل على أنهم ماتوا قوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦).

وفي هذه الآية ذكر البعث بعد موت وقع في الدنيا.

مثل قوله تعالى : (فَأَمَاتَهُ اللّه مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ).

ومثل قوله عزَّ وجلَّ : (فَقَالَ لَهُم اللّه مُوتوا ثم أحْيَأهُمْ)

وذلك احتجاج على مشركي العرب الذين لمْ يكُونوا مُوقنين بالبعث ، فأتى النبي - صلى اللّه عليه وسلم - بالأخبار عمن بعث بعد

الموت في الدنيَا مما توافقه عليه إليهود والنصارى ، وأرباب الكتب فاحتج

- صلى اللّه عليه وسلم - بحجة اللّه التي يوافقه عليها جميع من خالفه من أهلِ الكتب.

وقوله (لعَلَّكُمْ تشْكُرُون) أي في أن بَعَثَكُم بعد الموت ، وأعلمكم أن

قدرته عليكم هذه القدرة ، وأن الِإقالة بعد الموت لا شيءَ بَعدها ، وهي

كالمُضْطَرةِ إلى عبادة اللّه.

٥٧

و (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧)

سخر اللّه لهم السحاب يظللّهم حين خرجوا إلى الأرض المقدسة.

وأنزل عليهم المَنّ والسلوى . و جملة المَن ما يمن اللّه به مما لا تعب فيه ولا

نَصَبَ وأهل التفسير يقولون إن المنَّ شيء يسقط على الشجر حلو يشرب.

ويقال إنَّه " التَرَنْجِين " ، ، ويروى عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أنه قال : الكمأة من المَنِّ وماؤها شفاء للعين ، ومعنى المنّ على ما وَصفنا في اللغة ما يمن اللّه به من غير تعب ولا نصب ، والسلوى طائر كالسمَاني ، وذكر إنَّه كان يأتيهم من هذين ما فيه كفايتُهم .

و (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)

قالوا إن معناه من هذه الطيبات ، وقالوا أيضاً مما هو حلال لكم.

* * *

٥٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨)

الرغد : الواسع الذي لا يُعَنِّي.

و (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) أُمِرُوا بأن يدخلوا سَاجِدين.

(وَقُولُوا حِطَّةٌ) : ، هناه وقولوا مسألتنا حطة ، أي حط ذنوبنا عنا ، وكذلك

القراءَة ، ولو قرئ حطةً كان وجهها في العربية كأنهم قيل لهم ، قولوا

احْطُطْ عَنَّا ذنوبنا حطة . فحرَّفوا هذا القول وقالوا لفظة غير هذه اللفظة التي

أُمروا بها ، وجملة ما قالوا أنه أمْرٌ عظيم سماهم اللّه به فاسقين.

و (نغْفِرْ لَكُمْ) جزم جواب الأمر ،  أن تقولوا ما أمرتم به

نغْفرْ لكم خطاياكم ، وقرأ بعضهم " نغْفرْ لكم خطِيئَاتِكمْ " والقراءة الأولى أكثر ، فمن قال خطيئاتكمْ ، فهو جمع خَطِيئة بالألف والتاءِ ، نحو سفينة وسفينات ، وصحيفة وصحيفات ، والقرَاءَة كما وصفنا (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ) ، والأصل في خطايا - خطائِئ فتجمع همزتان تقلب الثانية ياء فتصير خطائي ، فأعِلِّ - مثل " حظاعي " ثم يجب أن تقلب الياءُ والكسرة إلى الفتحة والألف - فتصير خطاءَاً ، مثل حظاعاً ، فيجب بأن تبدل الهمزة ياءً ، لوقوعها بين ألفين ، لأن الهمزة مجانسة للألفات فاجتمعت ثلاثة أحرف من جنس واحد ، وهذا الذي ذكرناه مذهب سيبويه ولسيبويه مذهب آخر أصله للخليل ، وهو أنه زعم أن

خطايا أصلها فعائل ، فقلبت إلى فعَالى فكان الأصل عنده خطائى مثل

خطائع - فاعلم - ثم قدمت الهمزة فصارت خطائي مثل خطاعي ، ثم قلبت

بعد ذلك على المذهب الأول - وهذا المذهب ينقص في الإعلال مرتبه

واحدة ، واللفظ يَؤول في اللفظين خطايا.

* * *

٥٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩)

العذاب وكذلك الرّجْس - قال الشاعر.

كمْ رامنا من ذي عَديدٍ مُبْزى . . . حتى وقَمْنا كيده بالرجْز

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (بِمَا كَانُوا يَفسُقُون).

أي تبْديلهم ما أمروا به من أن يقولوا حطة . ويُقال فَسَقَ يفْسُق ويفْسِقُ.

ويفسُقُ على اللغتين وعليها القراء ، ومعنى الفَسْق الخروج عن القصد

والحق وكل ما خرج عن شيء فاقد فسق إلا أنَّهُ خص من خرج عن أمر اللّه بأن قيل فاسق ، ولم يحتج إلى أن يقال فسق عن كذا ، كما أنه يقال لكل من

صَدق بشيء هو مؤمن بكذا ويقال للمصدق بأمر اللّه مؤمن فيكفي ، والعَرب تقول فسَقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها.

* * *

٦٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللّه وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)

موضع (إذْ) نصْبٌ على ما تقدمه ، كأنَّه قيل واذكر إذ استسقى موسى

لقومه إلا أن (إذْ) لايظهر فيها الإعراب . لأنَّها لا تتم إلا بأن توصل ، وجَميع ما

لا يتم من هذة المهمة إلا بصلة لا يعرب لأنه بعض اسم ولا يعرب إلا الاسم

التام ، ولكن إذْ كُسِرت لالتقاء السَّاكنين ، - ومعنى استسقى ، استدعى أن يُسْقى قوْمُه ، وكذلك استنْصرت استدعيْتُ النصْرة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا) . .

أكثر القراءَ (اثنتا عشْرَة) بإسكان الشين ، ولغة أخرى (اثنتا عَشِرة) عينا -

بكسر الشين - وقد قرأ بعض القراءِ عَشِرَةَ - على هذه اللغة ، وكلاهما جيد

بالغ - و (عيناً) - نصب على التمييز ، وجمع ما نصب على - التمييز في العدد على معنى دخول التنوين ، وإن لم يذكر في عشرة ، لأن التنوين حذف هَهنا مع الإعراب ومعنى قول الناس عندي عشرون درهماً معناه عندي عشرون من الدراهم ، فحُذف لفظ الجمع - و "مِنْ" هذه التي خَلَصَ بها جِنسٌ من جِنس وعبر الواحد عن معنى الجمع ، فهذا جملة ما انتصب من العدد على التمييز.

وفي التفسير أنهم فجَّرَ اللّه لهم من حَجَرٍ اثنتيْ عَشْرَةَ عيناً لاثْنَي عَشَرَ

فريقاً ، لكل فريق عين يشربون منها ، تتفجر إذا نزلوا فإذا ارتحلوا غارت العين وحَمَلوا الحجر غير متفجر منه ماءً.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ).

كان يتفجر لهم الماءُ من اثْنَيْ عشر موضعاً لا يختلف في كل منزل

فيعلم كل أناس مشربهم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تعْثَوْا في الأرض مُفسِدِينَ).

يقال عثا يَعثا عَثْواً وعُثُوًّا.

والعَثْوُ أشد الفساد.

* * *

٦١

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّه ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّه وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٦١)

(فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ)

يخرج مجزوم وفيه غير قول :

قال بعض النحويين  سَلْه وقل له أخرج لنا يخرج لنا هو

وقال في قوله تعالى : (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا التي هِيَ أحسَنُ)

قالوا :  قل لهم قولوا التي هي أحسن أن يقولوا.

وقال قوم : معنى (يخرج لنا) معنى الدعاء كأنَّه قال : أخرج لنا.

وكذلك (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة)

 قل لعبادي أقيموا ، ولكنه صار قبله (ادع) و (قل)

فجعل بمنزلة جواب الأمر.

وكلا القولين مذهب ، ولكنه على الجواب أجود لأن ما في القرآن من

لفظ الأمر الذي ، ليس معه جَازم - مَرفوع

قال اللّه - عزَّ وجلَّ - (تؤمنون باللّه ورسوله وتجاهدون في سبيل اللّه).

ثم جَاءَ بعد تمام الآية (يَغفِرْلكُم)

 آمنوا باللّه ورسوله وجاهدوا يَغفِرْ لكُم .

وقوله عزَّ وجلَّ : (مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا).

في القِثاء لغتان ، يقال القُثاءُ والقِثاءُ (يا هذا) و (قد) قرأ بعضهم

قُثائِها بالضم ، والأجود الأكثر وقثائها بالكسر ، وفومها : الفوم الحنطة ، ويقال الحُبوب وقال بعض النحويين إِنه يجوز عنده الفُومُ ههنا الثوم ، وهذا ما لا يعرف أن الفوم الثوم ، وههنا ما يقطع هذا . محال أن يطلب القوم طعاماً لا

بُرَّ فيه ، والبرُّ أصل الغذاءِ كله ، ويقال فوِّمُوا لنا ، أي اخْبِزُوا لنا.

ولا خلاف عند أهل اللغة أن الفُوم الحنطة ، وسائر الحبوب التي تخبز يلحقها اسم الفوم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ).

يعني أن المنَّ والسلوى أرفع من الذي طلبتم ، و (أدنى) القراءَة فيه بغير

الهمز وقد قرأ بعضهم " أدْنأ " بالذي هو خير ، وكلاهما له وجه في اللغة إلا

أن ترك الهمزة أولى بالاتباع . أما (أدْنى) غير مهموز ، فمعناه الذي هو أقرب

وأقل قيمة ، كما تقول ، هذا ثوب مقارب ، فأما الخَسيس فاللغة فيه أنه

مهموز ، يقال : دنُوءَ ، دَناءَةً ، وهو دَنِيء بالهمزة ، ويقال هذا أدْنا منه

بالهمزة

وقوله عزَّ وجلَّ : (اهْبطُوا مِصْرًا) الأكثر في القراءَة إثبات الألف.

وقد فرأ بعضهم " اهبطوا مصرَ فإن لكُمْ " بغير ألف ، فمن - قرَأ مصرًا بالألف فله وجهان : جَائِز أنْ يراد بها مصراً من الأمصار لأنهم كانوا في تيه ، وجائز أن يكون أراد مصر بعينها ، فجعل مصراً اسماً للبلد.

فصرف لأنه مذكر سمي مذكراً وجائز أن يكون مصر بغير ألف على أنه يريد مصرًا كما قال عزَّ وجلََّّ :

(ادخُلوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللّه آمِنِين) وإنما لم يصرف لأنه للمدينة فهو

مذكر سمي به مؤَنث.

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ).

(الذِّلَّةُ) : الصغار ، (الْمَسْكَنَةُ) : الخضوع ، واشتقاقه : من السكون.

إِنما يقال مِسْكين للذي أسكنه الفقر ، أي قللَ حركته.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّه)

يقال بْؤت بكذا وكذا أي احتملته.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (ذلك بأنهُمْ كانُوا يكفُروَن بآيَاتِ اللّه).

معنى ذلك واللّه أعلم الغضب حل بهم بكفرهم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ).

القراءَة المجمع عليها في النبيين والأنبياءِ والبرِئة طرح لهمزة ، وجماعة

من أهل المدينة يهمزون جَمِيعَ ما في القرآن من هذا فيقرأون ، " النبيئين بغير

حق والأنبياء .).

واشتقاقه من نبَّأ وأنْبَأ أي أخبر.

والأجود ترك الهمْزة ، لأن الاستعمال يُوجبُ أن ما كان مهموزاً من فعيل

فجمعه فُعَلاء ، مثل ظريف وظرفاء ونبيء ونُبَآءَ . فإذا كان من ذوات الياءِ

فجمعه أفْعلاءِ ، نحو غني وأغنياء ، ونبي وأنْبياء.

وقدجاءَ أفْعِلاء في الصحيح ، وَهُو قليل ، قالوا خميس وأخْمِسَاء

وأخمس ، ونصِيب وأنْصِبَاءَ ، فيجوز أن يكون نبي مِن أنبأتُ مما ترك همزه

لكثرة الاستعمال ، ويجوز أن يكون من نبَأ ينْبُوءُ إذا ارْتفع ، فيكون فعيلاً من الرفعة.

٦٢

ْوقوله فيّ وجل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢)

لا يجوز أن يكون لأحد منهم إيمان إلا مع إيمانه بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم - ودليل ذلك قوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّه أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ).

فتأْويله من آمن باللّه واليوم الآخر وآمن بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم - فلهم - أَجرُهم.

وجاز أَن يقال فلهم لأن مَنْ لفْظُها لفظُ الوَاحِدِ وتقع على الواحد

والاثنين والجمْع والتأنيث والتذكير ، فيحمل الكلام على لفظها فيُؤخد ويذكر ، ويحمَل على معناها فيُثنَّى ويجْمَعُ ويؤنث.

قال الشاعر :

تَعَشَّ فإنْ عاهَدْتني لا تخونُني . . . نكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يصطحبان

وهادوا أصلِه في اللغة تابوا ، وكذلك قوله عزَّ وَجلَّ : (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ)

أي : تبْنا إِليْك. وواحد النصارى قيل فيه قولان : قالوا يجوز أن يكون واحدُهمْ نصْران (كما ترى) فيكون نصران ونصارى على وزنِ ندْمَان وندامى -

قال الشاعر :

فَكِلْتاهما خَرَّتْ وأَسْجَدَ رأسُها . . . كما أَسْجَدَتْ نَصْرانَةٌ لم تَحَنَّفِ

فنصرانة تأنيث نصرانٍ ، ويجوز أن يكون النصارى وأحدهم نصْرى مثل

بعير مَهْرِي ، وإبل مَهارى . ومعنى الصابئين : الخارجين من دِين إلى دين.

يقال صبأ فلان إذا خرج من دينه - يصبأ - يا هذا - ويقال صبأت النجوم إذا ظهرت وصبأ نابه إذا خرج.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

القراءَة الجيدة الرفع ، وكذلك إدْا كررت (لا) في الكلام قلت لا رجلٌ

عندي ولا زيْد ، و (لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (٤٧).

وإِن قرئ فلا خوفَ عليهم فهو جيد بالغ الجودة وقد قرئ به.

* * *

٦٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣)

 ، اذكروا إذ أخذنا ميثاقكم ، والطور ههنا الجبل ومعنى أخذنا

ميثاقكم : يجوز أن يكون ما أخذه اللّه عزَّ وجلَّ - حين أخرج الناس كالذر.

ودليل هذا  (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ)

ثم قال من بعد تمامْ الآية : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) فهذه الآية كالآية التي في البقرة.

وهو أحسن المذاهب فيها ، وقد قيل أن أخذ الميثاق هو ما أخذ.

اللّه من الميثاق على الرسل ومن اتبعهم.

ودليله قوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ)

فالأخذ على النبيين - صلى اللّه عليهم وسلم - الميثاق يدخل

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣)

فيه من اتبعهم ، (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) أي جئناكم بآية عظيمة ، وهي أن الطور -.

وهو الجبلُ . رُفع فوقَهم حتى أظلهم وظنوا أنه واقع بهم ، فأخبر اللّه بعظم الآية التي أروها بعد أخذ الميثاق.

وأخبر بالشيء الذي لو عذبهم بعده لكان عدلاً في ذلك ، ولكنه جعل لهم التوبة بعد ذلك وقال (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ)

ذلك أي من بعد الآيات العظام.

(فَلَوْلَا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ).

أي لولا أنْ منَّ اللّه عليكم بالتوبة بعد أن كفرتم مع عظيم هذه الآيات

(لكنتم من الخاسرين).

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ).

موضع - ما نصب ، و (ما آتيناكم) الكتاب الذي هو التوراة ومعنى خذوه

بقوة ، أي خذوه بجد واتركوا الريب والشك لما بأن لكم من عظيم الآيات.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ)

معناه ادْرُسُوا ما فيه وجاز في اللغة أن

تقول خذ وخذا ، وأصله أوْخُذْ وكذلك " كل " أصله أوكل ، ولكن خُذْ وكُلْ اجتمع فيهما كثرة الاستعمال والتقاء همزتين وضمة ، فحذفت فاءُ الفعل وهي الهمزة التي كانت في أخذ وآكل فحذفت لما وصفنا من كثرة الاستعمال واجتماع ما يستقلون.

* * *

٦٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (٦٥)

معنى (علمتم) هناعرفتم ، ومثله قوله عز وجل (لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللّه يَعْلَمُهُمْ) ومعناه لا تعرفونهم اللّه يعرفهم.

ومعنى (اعتدوا) ظلموا وجاوزوا ما حُدَّ لهُم ، كانوا أمرُوا ألا يصيدوا في السبت " ، وكانت الحيتانُ تجْتمع لأمنها في

السبت ، فحبسوها في السبت وأخَذوها في الأحد ، فعدوا في السبت لأن

صيدهم منعها من التصرف ، فجعل اللّه جزاءَهم في الدنيا - بعدما أراهم

من الآيات العظام بأن جعلهم قردة خاسئين ، معنى خاسئين مُبْعدِين يقال -

خَسَأتُ الكلب أخسؤه خَسْئاً أي بَاعدته وطردْته.

٦٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)

(ها) هذه تعود على الأمة التي مسخت ويجوز أن يكون للفَعْلَةِ

ومعنى (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) يحتمل شيئين من التفسير : يحتمل أن يكون (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) لما أسلفت من ذنوبها ، ويحتمل أن يكون (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) للأمم التي تراها (وماخلفها) مَا يكون بعدها ، ومعنى قولك نَكَّلْت به ، أي جعلت غيره يَنْكُل أن يفْعل مثل فعله ، فيناله مثل الذي ناله.

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَوْعِظَةً للمُتقِينَ) أي يتعظ بها أهل التقوى

فيلزمون ما هم عليه.

* * *

٦٧

وقوله عزَّ وَجَل : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللّه أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٦٧)

 واذكروا إِذ قال موسى لقومه ، أمروا بذبح بقرة يضرب ببعضها قتيل تشاجروا فِيمَنْ قَتَله ، فلم يعلم قاتله ، فأمر اللّه عزَّ وجلَّ بِضَرْب المقتول . بعضو من أعضاءِ البقرة.

وزعموا في التفسير أنهم أمروا أن يضربوه بالفخذ اليمنى ،  الذنب ، وأحب

اللّه تعالَى أن يُرِيَهمْ كيف إحياء الموتى ، وفي هذه الآية ، احتجاج على

مشركي العرب لأنهم لم يكونوا مؤمنين بالبعث ، فأعلمهم النبي - صلى اللّه عليه وسلم - هذا الخبر الذي لا يجوز أن يَعْلمه إلامَنْ قَرأ الكُتُبَ  أوحى إليه ، وقد علم المشركون

أن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أمِّيّ وأن أهل الكتاب يعلمون - وهم يخالفونه - أن ما أخبر به من هذه الأقاصيص حق.

(قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا) ، فانتفى موسى من الهِزؤِ ، لأن الهازىء جاهل

لاعب فقال : (أَعُوذُ بِاللّه أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) فلما وضَح لهم أنه من عند

اللّه (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ)

وإِنَّما سألوا ما هي لأنهم لا يعلمون أن بقرةً يحيا بضرب بعضها ميت.

(قَالَ إنَهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ).

ارتفع (فَارِضٌ) بإضمار هي ومعنى (لا فَارِضٌ) : لا كبيرة ، (ولا بكرٌ) لا

صَغِيرة).

أي ليست بكبيرة ولا صغيرة.

(عَوَانٌ) العَوَانُ دون المُسِنَة وفوق الصغيرة.

ويقال من الفارض فرضت تَفْرِض فُروضاً ومن العوان قد عوَّنَتْ

تُعَوِّن ، ويقال حرب عوَان ، إذا لم تكن أول حرب ، وكانت ثانية.

قال زهير :

إذا لَقِحَتْ حربٌ عَوانٌ مُضِرَّةٌ . . . ضَروسٌ تُهِرُّ الناسَ أنيابُها عُصْلُ

ومعنى (بَيْنَ ذَلِكَ) بين البِكْر والفَارِض ، وبين الصغيرة والكبيرة وإِنما

جَازَ بين ذلك ، و " بين " لا يكون إِلا مع اثنين  أكثر لأن ذلك ينوب عن

الخمَل ، فتقول ظننت زيداً قائماً ، فيقول القائل " ظننت ذلك ".

٦٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إنَهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩)

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إنَهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩)

موضع (ما) رفع بالابتداء ، لأن تأويله الِإستفهام كَقَولك : أدع لنا ربك

يبين لنا أيَّ شيَءٍ لونها ومثله (فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا).

ولا يجوز في القراءَة (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا) ، على أن يجعل (ما)لغواً ولا يقرأ القرآن إِلا كَمَا قراتِ القُرَّاء المجمَع عَلَيْهِمْ في الأخذ عنهم.

قَالَ إِنه يَقول إِنها : ما بعد القول من باب إن مكسور أبداً ، كأنك تذكر

القول في صدر كلامك ، وإِنما وقعت قلت في كلام العرب أن يحكى بها ما

كان كلاماً يقوم بنفسه قبل دخولها فيؤَدي مع ذكرها ذلك اللفظ ، تقول : قلت زيد منطلق . كأنك قلت : زيد منطلق ، وكذلك إن زيداً منطلق ، لا اختلاف بين النحوين في ذلك ، إِلا أن قوماً من العرب ، وهم بَنو سُلَيم يجعلون باب قلت أجمع كباب ظننت ، فيقولون : قلت زيداً منطلقاً ، فهذه لغة لا يجوز أن يُوجَد شيءٌ مِنْهَا في كتاب اللّه عزَّ وجلَّ ، ولا يجوز قال أنه يقول إِنها ، لا يجوز إِلا الكسر.

وأمَّا قوله عزَّ وجلَّ : (صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا)

(فَاقِعٌ) نعت للأصفر الشديد الصفرة ، يقال أصفر فاقع وأبيض ناصع وأحمر قانٍ ، قال الشاعر : ْ

يَسْقِي بها ذو تومتين كأنما . . . قنأتْ أنامِله من الفرصاد

أي احمرت حمرة شديدة ، ويقال أحمر قاتم وأبيض يقَقٌ ، وَلَهِقَ ولهاق.

وأسود حالك ؛ وحَلُوك وحلوكي ودَجُوجي ، فهذه كلها صفات مبالغة في

الألوان ، وقد قالوا إن صَفْراءَ ههنا سوداءَ.

ومعنى (تَسُر الناظِرينَ) أي تعجب الناظرين.

* * *

٧١

وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ إنَهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)

معناه ليست بذلول ولا مثيرة.

و (وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ) يقال : سقيته إِذا ناولته فشرب.

وأسقيته جعلت له سقياً ، فيَصِح ههنا ولا تُسْقِي بالضَم.

و (لَا شِيَةَ فِيهَا).

أي ليس فيها لون يفارق لونها ، والوَشى في اللغة خلطُ لون بلون

وكذلك في الكلام ، يقال وشيْت الثوب أشِيه شِيَة ووَشْياً ، كَقَوْلك وَديْت فلاناً أدِيه دِيَةً ، ونصب (لَا شِيَةَ) فيه على النَّفْي ، ولوْ قرئ لَا شيةٌ فيها لجاز ، ولكن القراءَة بالنصب.

و (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ).

فيه أربعة أوْجهٍ حكى بعضَها الأخفش : فأجودها " قالوا الآن " بإسكان

اللام وحذف الواو مَن اللفظ ، وزعم الأخفش أنه يجوز قطع ألف الوصل ههنا فيقول :

قالوا : (ألْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) وهذه رواية ، وليس له وجه في القياس ولا

هي عندي جائز ، ولكن فيها وجهان غير هذين الوجهين : وهما جيدان في

العربية ، يجوز " قالوا لأن على إلقاءِ الهمزة ، وفتح اللام من الآن ، وترك

الواو محذوفة لالتقاءِ الساكنين ، ولا يعتد بفتحة اللام.

ويجوز : " قَالوا لان جِيتَ بالحق " ولا أعلم أحداً قرأ بها ، فلا يَقْرَأن بحرف لم يقرأ به وإِن كان ثَابِتاً في العربية.

والذين أظهروا الواو أظهروها لحركة اللام لأنهم كانوا حذفوها لسُكونها.

فلما تحركت ردوها.

والأجود في العربية حَذْفُها لأن قرأ (ب تقول " الأحمر "

ويلقون الهمزة فيقولون " لَحْمر " فيفتحون اللام ويقرأون ألف الوصل لأن اللام في نية السكون ، وبعضهم يقولُ - " لَحْمَر " ولا يُقِرُّ ألفَ الوصل يريد الأحمر.

فأمَّا نصب (الآن) فهي حركة لالتقاءِ السَّاكنين ، ألا ترى أنك تقول :

أنا الأن أكرمك ، وفي الآن فعلت كذا وكذا ، وإنما كان في الأصل مبنياً

وحرك لالتقاءِ السَّاكنين ، وبنى (الآن) ، وفيه الألف واللام ، لأن الألف واللام دخلتا بعهد غير متقدم.

إِنما تقول الغَلامَ فعل كذا إذا عهدته أنت ومخاطبتك ، وهذه الألف واللام تنوبان عن معنى الِإشارة.

 أنت إِلى هذا الوقت تفعل ، فلم يعرب الآن كما لا يعرب هذا.

* * *

٧٢

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّه مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢)

ْ* معناه فَتَدارَأتمْ فيها ، أي تدافعتم ، أي ألقى بعضكم على بَعْض ، -

يقال درأتُ فلاناً إِذا دافعتُه ، وداريْتُه إِذا لاينته ، ودَرَّيْته إِذا خَتَلته ، ولكن التاءَ أدغمت فى الدال لأنها . من مخرج واحد ، فَلما أدغمت سكنت فاجتلبت لها ألف الوصل ، فتقول : ادارا القومْ أي تَدَافَع القوْم .

وقوله عزَّ وجلَّ : (مُخْرُجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).

الأجود في (مُخْرُجٌ) التنوين لأنه إنما هو لِمَا يستقبل  للحَال ، ويجوز

حذف التنوين استخفافاً فيقرأ ، مخرجُ مَا كنتم تكتمون ، فإن كان قُرئ به

وإِلا فلا يخالَف القرآن كما شرحنا.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (إن البَقَر تشَابَه عَلَيْنَا)

القراءَة في هذا على أوجه ، فأجْودها والأكثر (تَشَابَهَ علينا) على فتح الهاءِ

والتخفيف ، ويجوز " تَشَّابَه " علينا ، ويَشَّابَه علينا - بالتاء والياءِ.

وقد قرئ " إن البَاقِر يَشَّابَهً عَلينا " والعرب تقول في جمع البقر والجمال . الباقر والجامل ، يجعلونه اسماً للجنس ، قال طرفة بن العبد :

وجامل خوَّع مِنْ نيْبِه . . .زجرُ المُعَلَّى أصُلا وَالسفيح

ويروي " مِنِي به " وهو أكثر الرواية ، وليس بشيء

وقال الشاعر :

ما لي رأيتك بعد عهدك موحشا . . . خَلَقاً كحوض الباقر المتهدم

وما كان مثل بقرة وبقر ، ونخلة ونخل ، وسحابة وسحاب ، فإن العرب

تذكره ، وتؤَنثه ، فتقول هذا بقر وهذه بقر ، وهذا نخل وهذه نخل.

فمن ذكَّر فلأن في لفظ الجمع أن يعبر عن جنسه فيقال : فتقول هذا جَمْع ، وفي لفظه أن يعبر عن الفرقة والقطعة ، فتقول هذه جماعة وهذه فرقة - قال اللّه عزَّ وجلَّ :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) فذكًر ، وواحدته سحابة.

وقال : (والنَخْلَ بَاسِقَاتٍ) فجمع على معنى جماعة ، ولفظها واحد.

فمن قرأ (إن البقرَ تَشَابه علَيْنَا) فمعناه أن جمَاعةَ البقر تَتَشَابَه عَلَيْنَا.

فأُدْغِمتِ التاءُ في الشين لقرب مخرج التاءِ من الشين ، ومن قرأ تَشَّابَهُ علينا ، أراد تتشابه فحذف التاءَ الثانية لاجتماع تاءَين كما قرئ (لعلكم تَذَكرون) ومن قرأ (يَشَّابَه علينا) - بالياءِ - أراد جنس البقر أيضاً ، والأصل يتَشَابه علينا ، فأدغم التاءُ في الشين.

* * *

٧٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ  أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّه وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤)

تأويل (قست) في اللغة غلظت ويبست وصلبت فتأويل القسو في القلب

ذهاب اللين والرحمة والخضوع والخشوع منه.

ومعنى (من بعد ذلك) أي من بعد إِحياءِ الميت لكم بعضوٍ من أعضاءِ البقرة ، وهذه آية عظيمة كان يجب على من يشاهدها - فشاهد بمشاهدتها من قدرة عزَّ وجلَّ ما يزيل كل شك - أن يلين قلبه ويخضع ، ويحتمل أن يكون

(من بعد ذلك) من بعد إِحياءِ الميت

والآيات التي تقدمت ذلك نحو مسخ القردة والخنازير ونحو رفع الجبل فوقهم ، ونحو انْبِجاس الماءَ من حجر يَحْملونه معهم ، وإِنما جاز ذلك وهُؤلاءِ

الجماعة مخاطبون ، ولم يقل ذلكم - ولو قال ذلكم كان جيداً -

وإنما جاز أن تقول للجماعة بعد ذلك وبعد ذلكم ؛ لأن الجماعة تؤَدي عن لفظها : الجميع والفريق ، فالخطاب في لفظ واحد ، ومعنى جماعة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ  أَشَدُّ قَسْوَةً).

وقد روي ( أَشَدُّ قَسْوَةً) ومعنى تشبيه القسوة بالحجارة قد - بيناه ، ودخول "  " ههنا لغير معنى الشك ولكنها () التي تأتي للإباحة تقول : الذين ينبغي أن يؤخذ عنهم العلم الحسن  ابن سيرين ، فلست بشاك ، وإِنما

 ههنا : هذان أهل أن يؤخذ عنهما العلم ، فإن أخذته عن الحسن فأنت

مصيب ، وإن أخذته عن ابن سيرين فأنت مصيب ، وإِن أخذته عنهما جميعاً

فأنت مصيب ، فالتأويل اعلموا أن قلوب هُؤلاء إِن شبهتم قسوتها بالحجارة

فأنتم مصيبون  بما هو أشد فأنتم مصيبون ولا يصلح أن تكون () ههنا بمعنى الواو.

وكذلك  (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً . . . أوكَصَيِّبٍ) ، أي إِن

مثلْتَهمْ بالمستوقد فذلك مثلهم ، وإِن مثلتهم بالصَيِّبِ فهو لهم مثلٌ وقد

شرحناه في مكانه شرحاً شافياً كافياً إِن شَاءَ اللّه.

فمن قرأ (أشد قسوة) رفع أشد بإضمار هي كأنَّه قال :  هي أشد

قسوة ، ومن نصب (أوأشد قسوة) فهو على خفض في الأصل بمعنى الكاف.

ولكن أشد أفعل - لا ينصرف لأنه على لفظ الفعل ، وهو نعت ففتح وهو في

موضع جر - ويجوز في قوله تعالى (فهي كالحجارة) (فَهْي) كالحجارة -

بإسكان الهاءِ - لأن الفاءَ مع هي قد جَعَلَتْ الكلمة بمنزلة . فخذ ، فتحذف

الكسرة استثقالاً ، وقد روى بعض النحويين أنه يجوز في " هي " الإِسكان في

الياءِ من (هي) ولا أعلم أحداً قرأ بها ، وهي عندي لا يَجوزُ إسكانها ولا

إسكانُ الواو في هو ، لا يجوز " هو ربَكُمْ " وقد روى الإِسكان بعضُ النحوِيين وهو رديءٌ لأن كل مضمز فحركته - إذا انفرد - الفتح ، نحو أنا رَبكم ، فكما لا تسْكن نون أنا لا تسْكن هذه الواو.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ).

بين عزَّ وجلَّ كيف كانت قلوبهم أنها أشد قسوة وأصلب من الحجارة

وأعلم أن الحجارة تتفجر منها الأنهار ، ومنها ما يشَّقَّقُ فيخرج منه الماءَ يعني

العيون التي تخرج من الحجارة ولا تكون أنهاراً ، ومنها ما يهبط من خشية

اللّه فقالوا إن الذي يهبط من خشية اللّه نحو الجبل الذي تجلى اللّه له

حين كلم موسى عليه السلام ، وقال قوم إِنها أثر الصنعة التي تدل على أنَّها

مخلوقة ، وهذا خطأ ، لأن ليس منها شيء ليس أثر الصنعة بينا في جميعها

وإنما . . الهابط منها مجعول فيه التميز كما قال عزَّ وجلَّ : (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللّه).

وكما قال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ).

ثم قال : (وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ) فأعلم أن ذلك

تمييز أراد اللّه منها ، ولو كان يراد بذلك الصنعة لم يقل وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ، لأن أثر الصنعة شامل للمؤمن وغيره.

* * *

٧٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللّه ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)

هده الألف ألف استِخبارٍ ، وتجري في كثير من المواضع مجرى الإنكار

والنهي إذا لم يكن معها نفي ، كأنَّه أيئسهم من الطمع في إِيمان هذه الفرقة من

اليهود ، فإذا كان في أول الكلام نفي ، فإنكار النفي تثبيت نحو قوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قَالُوا بَلَى).

فجواب (أفتطمعون) " لا " كما وصفنا.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللّه ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ).

يروي في التفسير أنهم سمعوا كلام اللّه لموسى عليه لسلام فحرفوه

فقيل في هؤلاءِ الذين شاهدهم النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أنهم كفروا وحرفوا فلهم سابقة في كفرهم.

* * *

٧٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللّه عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٧٦)

 أتخبرونهم بأن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - ذكره موجود في كتابكم وَصِفتهُ.

(لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي لتكون لهم الحجة في إيمانهم بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم - عليكم ، إذ كنتم مقَرِّينَ به تخبرون بصحة أمره من كتابكم فهذا بين حجته عليكم عند اللّه .

(أفَلَا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تعقلون حجة اللّه عليكم في هذا.

* * *

٧٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (٧٨)

معنى الأمَِّي في اللغة المَنسوب إلى ما عليه جِبِلَّةُ أمَّتِه ، أي لا يكتب

فهو في أنه لا يكتب - على ما ولد عليه ، وارتفع (أُمِّيُّونَ) بالابتداء

و (مِنهم) الخبر (١)

ومن قول الأخفش يرتفع (أُمِّيُّونَ) بفعلهم ، كان  واستقر منهم

(أُمِّيُّونَ).

ومعنى (إِلَّا أَمَانِيَّ) قال الناس في معناه قولين : قالوا معناه لَا يعلمون

الكتاب إلا تلاوة ، كما قال عزَّ وجلَّ : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)

أي إذَا تلا ألقى الشيطان في تلاوته.

وقد قيل الأماني أكاذيب العرب ، تقول أنت إِنما تتمنى هذا القول أي

تَخْتَلِقُه.

ويجوز أن يكون آماني منسوباً إلى - القائل إِذا قال ما لا يعلمه فكأنه إنما يتمناه ، وهذا مستعمل في كلام الناس ، تقول للذي يقول ما لا حَقِيقةَ لَهُ وهو يُحِبَه : هذا مُنًى ، وهذه أمْنِيةٌ.

وفي لفظ أماني وجهان : العرب تقؤل هذه أمَانٍ وأمَانيَّ - يا هَذا - بالتشديد

والتخفيف ، فمن قال أمانيَّ بالتشديد فهو مثل أحْدُوثة وأحاديث ، وقرقورة

وَقراقير ، ومن قال أمان بالتخفيف فهو مما اجتمعت فيه الياءان أكثر لثقل الياءِ.

__________

(١) إعراب غير جيد لأن  حينئذ الأميون منهم وهذا ليس بشيء إنما صحته أن يكون " منهم " هي المبتدأ "أميون " هي الخبر ومن اسم بمعنى بعض والمعنى بعضهم أميون ومثله (ومن الناس من يقول آمنا) (ومنهم الفاسقون).

والعرب تقول في أثفية أثافيَّ وأثافٍ ، والتخفيف اكز لكثرة استعمالهم أثاف.

والأثافي الأحجار التي تجعل تحت القدر.

* * *

٧٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّه لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩)

الويل في اللغة كلمة يستعملها كل واقع في هلكة - وأصله في العذاب

والهلاك ، وارتفع ويل بالابتداءِ وخبره (لِلَّذين) ولو كان في غير القرآن لجاز فويلًا للذين على معنى جعل اللّه ويلاً للذين ، والرفع على معنى ثبوت الويل (لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّه لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا).

يقال إِن هذا في صفة النبي - صلى اللّه عليه وسلم - ، كتبوا صفته على غيرما كانت عليه في التوزاة ، ويقال في التفسير إنهم كتبوا صفته أنه آدم طويل ، وكانت صفته فيها أنه آدم ربعة ، فبدَّلَوا فألزمهم اللّه الويل بما كتبت أيديهم ومن كسبهم على ذلك.

لأنهم أخذوا عليه الأموال وقبلوا الهدايا.

* * *

٨٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّه عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللّه عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّه مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٠)

(تمسنا) نصب بلَنْ ، وقد اختلف النحويون في علة النصب بـ لن.

فرُوي عن الخليل قولان أحدهما أنها نصبت كما نصبت " أن " وليس " ما بعدها بصلة لهَا ، لأن " لَنْ يَفْعَلَ " ، نفي " سيفعل " فقدم ما بعدها عليها ، نحو قولك زيداً لن أضرب

كما تقول زيداً لم أضرب ، وقد روى سيبويه عن بعض أصحاب الخليل

عن الخليل أنه قال : الأصل في " لن " لا أن ولكن الحذف وقع استخفافاً ، وزعم سيبويه أن هذا ليس بجيد ، لو كان كذلك لم يجز زيداً لن أضرب ، وعلى مذهب سيبويه جميع النحويين وقد حكى هشام عن الكسائي في " لن " مثل هذا القول الشاذ عن الخليل . ولم يأخذ به سيبويه ، ولا أصحابه.

ومعنى (أَيَّامًا مَعْدُودَةً) قالوا إِنَّما نعَذَّبُ لأننا عبدنا العجل أياماً قيل في

عددها قولان ، قيل سبعة أيام وقيل أربعون يوماً ، - وهذه الحكاية عن إليهود ، هم الذين قالوا : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً).

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّه عَهْدًا) بقطع الألف هي تقرأ على

ضربين : أتخذتم - بتبيين الذال ، واتختُم بَإِدغام الذال في التاءِ ، والألف قطع

لأنها ألف استفهام وتقرير . .

وقوله عزَّ وجلَّ : (عِنْد اللّه عَهْداً)  عهد اللّه إليكم في أنه لا يعذبكم

إِلا هذا المقدار . .

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فلنْ يُخْلِفَ اللّه عَهْدَهُ)).

أي إن حَان لكم عهد فلن يخلفه اللّه ، أم تقولون على اللّه ما لا تعلمون

٨١

ثم قال عزَّ وجلََّّ : (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨١)

رداً لقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً).

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

فألحق في هذه الآية ، والإجماع أن هذا لليهود خاصة لأنه عزَّ وجلَّ في

ذكرهم ، وقد قيل : (من كسب سيئة) ، الشرك باللّه وأحاطت به خطيئته :

الكبائر ، والذي جرى في هذه الأقاصيص إِنما هو إِخبار عن إليهود.

* * *

٨٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللّه وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣)

القراءَة على ضربين ، تعبدون ويعبدون بالياءِ والتاءِ وقد روي وجه

ثالث لا يؤخذ به لأنه مخالف للمصحف -

قرأ ابن مسعود : لا تعبدوا.

ورفع (لا تعبدون)بالتاء على ضربين ، على أن (يكون (لا) جواب القسم لأن أخذ الميثاق بمنزلة القسم ، والدليل على ذلك

(وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ)

فجاءَ جواب القسم باللام فكذلك هو بالنَفْي بلا ، ويجوز أن

يكون رفعه على إسقاط " أن " على معنى " ألا تعبدوا " فلما سقطت أن رفعت ، وهذا مذهب الأخفش وغيرِه من النحويين ، فأما القراءَة بالتاء فعلى معنى الخطاب والحكاية كأنَّه قيل قلنا لهم لا تعبدون إِلا اللّه.

وأمَّا (لا يعبدون) بالياء

فإِنهم غيَبٌ ، وعلامة الغائب الياء .

ومعنى أخذ الميثاق والعهد قد بَيَّنَاهُ قبل هذا الموضع.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وبِالْوَالِدِيْنِ إِحْسَاناً).

نصب على معنى وأحسنوا بالوالدين إِحساناً ، بدل من اللفظ أحْسِنُوا

و (ذِي القُرْبَى) و (اليَتامَى) : جمع على فعالى كما جمع أسير على أُسارى ، يقال يَتِم يَيْتمَ يُتْماً ويَتْماً إِذا فقد أباه ، هذا للإِنسان فأمَّا غيره فيتمه من قبل أمه.

أخبرني بذلك محمد بن يزيد عن الرياشي عن الأصمعي : إن اليتيم في الناس من قبل الأب وفي غير الناس من قبل الأم ، والمساكين مأخوذ من السكون ، وأحدهم مسكين كأنَّه قد أسكنه الفقر.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) فيها ثلاثة أقوال

(حُسْنًا) بالتنوين وإِسكان السين ، وحَسَناً بالتنوين وفتح السين ، وروى الأخفش " حُسْنَى " غير منون.

فأما الوجهان الأولان ، فقرأهما الناس ، وهما جيدان بالغان في اللغة ، وأما

" حُسْنَى " فكان لا ينبغي أن يقرأ به لأنه باب الأفعل والفعلى ، نحو الأحسن

والحسنى ، والأفضل والفُضلى ، لا يستعمل إِلا بالألف واللام ، كما قال اللّه

عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) وقال : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)

وفي قوله حسناً بالتنوين قولان :  قولوا للناس قولاً ذا حسن) ، وزعم الأخفش ، إنَّه يجوز أن يكون حُسْناً في معنى حَسَناً ، فأمَّا حُسَناً فصفة ،

قولاً حسناً ، وتفسير : (قولوا للناس حسناً) مخاطبة لعلماءِ إليهود " قيل لهم اصْدقوا في صفة النبي - صلى اللّه عليه وسلم -.

(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ).

اعلموا أنه قد أخذ عليهم الميثاق وعهد عليهم فيه بالصدق في صفة النبي - صلى اللّه عليه وسلم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ).

يعني أوائلهم الذين أخذ عليهم الميثاق ، وقوله (وَأنتم مُعْرضون) أي وأنتم

أيضاَ كأوائلكم في الإعراض عَمَّا عهد إِليكم فيه ، ونصب (إِلَّا قَلِيلًا) على

الاستثناءِ ، والمعنى استثني قليلًا منكم.

* * *

٨٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤)

يقال سفكت الدم أسْفِكُه سَفْكاً إِذا صببته ، ورفع لا تسفكون على

القسم ، وعلى حذف أن كما وصفنا في  (لا تَعْبُدون) ومثل حذف أن قول طرفة :

أَلا أَيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى . . . وأَنْ أشهدَ اللذاتِ هل أَنْتَ مُخْلِدي

وواحد الدماءِ دم - يَا هَذَا - مخفف ، وأصله دَمَى في قول أكثر

النحويين ، ودليل من قال إِن أصله دمي قول الشاعر :

فَلَوْ أنَّا على حَجَرٍ ذُبِحْنا . . . جَرَى الدَّميَانِ بالخبرِ اليقين

وقال قوم أصله دمي إِلا إنَّه لما حذف ورد إليه ما حذف منه حركت

ْالميم لتدل الحركة على أنه استعمل محذوفاً.

وقوله عزْ وجل : (وَلَا تُخْرِجُونَ أنْفُسكُمْ مِن دِيَارِكُمْ).

عطف على لا تسفكون دماءَكم.

و (ثم أقررتم) ، أي اعترفتم بأن هذا أخذ عليكم في العهد وأخذ على آبائكم ، وأنتم أيها الباقون المخاطبون تشهدون أن هذا حق.

* * *

٨٥

ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥)

(ثُم أنْتُم هَؤُلَاءِ) : الخطاب وقع لليهود من بني قريظة وبني النضير.

لأنهم نكثوا ، فقتل بعضهم بعضاً ، وأخرج بعضهم بعضاً من ديارهم وهذا

نقض عهدهم

وقوله عزَّ وجلَّ : (تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ).

قُرئت بالتخفيف والتشديد ، (تَظَاهَرُونَ) و (تَظَّاهَرُونَ) فمن قرأ بالتشديد

فالأصل فيه تتظاهرون فأدغم التاءُ في الظاءِ لقرب - المخرجين ، ومن قرأ

بالتخفيف فالأصل فيه أيضاً تتظاهرون فحذفت التاءُ الثانية لاجتماع تاءَين.

وتفسير (تظاهرون) تتعاونون ، يقال قد ظاهر فلان فلاناً إذا عاونه منه قوله.

(وكان الكافِرُ على ربه ظهيراً) ، أي معيناً.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (بالإِثْم والعُدْوَانِ).

العُدْوانُ الِإفراطُ في الظلم ؛ ويقَالُ عَدَا فلان في ظلمه عدْواً وعُدُوا

وعُدْواناً ، وعداءً - هذا كله معناه المجاوزة في الظلم.

وقوله عزَّ وجلَّ : (ولاَ تَعْدُوا في السَّبْتِ) إِنما هو من هذا ، أي لا تظلموا فيه

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ).

القراءَة في هذا على وجوه : أسْرَى تَفْدوهم . وأسْرى تُفَادوهم ، وأسَارى

تفادوهم ، ويجوز " أسَارى " ولا أعلم أحد قرأ بها ، وأصل الجمع فُعالى . أعلَم اللّه مناقَضتهم في كتابه وأنه قَد حرَّم عليهم قَتْلَهم وإِخْراجهم من ديارهم ، وأنهم يفادونَهم إِذا أسروا ويقتلونهم ويخرجونهم من ديارهم ، فوبَّخهم فَقال : (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).

يعني ما نال بني قريظة وبني النضير ، لأن بني النضير أُجْلُوا إِلى الشام

و (بني) قريظة ابيدوا - حكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي الذرارى فقال اللّه

عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا) ، ولغيرهم من سائر الكفار الخزيُ في

الدنيا القتل وأخذُ الجزية مع الذلة والصغار.

ثم أعلم اللّه عزَّ وجلَّ أن ذَلك غيرُ مُكَفر عن ذنوبهم ، وأنهم صائرون بعد ذلك إلى عذاب عظيم فقال (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا) (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

ومعنى (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ).

(هَؤُلَاءِ) في معنى الذين ، وتَقْتُلُونَ صلة لهُؤلاء كقولك ثم أنتم الذين

تقتلون أنفسكم ، ومثلُه  (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى).

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وهُوَ مُحَرم عَلَيْكُم إخراجُهُمْ).

(هو) على ضربين : جائز أن يكون إضمار الإخراج الذي تقدم ذكره.

قال : (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ) وهو محرم عليكم إِخراجهم.

ثم بين لتراخي الكلام أن ذلك الذي - حرم الِإخراج وجائز أن يكون للقصة ، والحديث والخبر ، كأنه قال : والخبر محرم عليكم إِخراجهم - كما قال

عزَّ وجلَّ : (قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ).

أي الأمر الذي هو الحق توحيد اللّه عزَّ وجلَّ

(خِزْيٌَ) يقَال في الشر والسوءِ خزي الرجل خِزْياً ، ويقال في الحياءِ

خزي يخزي خِزَايةً ، ومعنى يردون إلى أشد العذاب ، وعذاب عظيم ، وعذاب أليم أن ، العذاب على ضَربين ، على " قدر المعاصي.

والدليلُ على ذلك قوله عزّ وجلَّ : فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (١٤) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦).

فهذه النار الموصوفة ههنَا لا يدخُلها إلا الكفارِ.

٨٧

و وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (٨٧)

(ولَقَدْ آتَيْنَا موسى الكِتَابَ) يعني التوراة.

و (وقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بالرُّسُل) : أي أرسلنا رسولاً يقْفو رسولاً في

دعائهِ إلى توحيد اللّه والقيام بشرائع دينه ، يقال من ذلك فلان يَقْفوْ فلاناً إذا

أتبعه.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ).

معنى (آتينا) أعطينا ، ومعنى (الْبَيِّنَاتِ) الآيات التي يعجز عنها المخلقونَ مما

أعطيه عيسَى - صلى اللّه عليه وسلم - من إحيائه الموتى وإبرائه الأكمهَ والأبرص.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ).

معني أيَّدنا ، في اللغة قوينا ، وشدَدْنا ، قال الشاعر :

من أن تبدَّلْتَ بآد آدا

يريد من أن تبدلت بأيْدٍ آدا ، يريد بقوة قوة - الأد والأيْد القوة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (بِرُوحِ الْقُدُسِ) : روح القدس جبريل عليه السلام.

والقدس الطهارة وقد بَيَّناه.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ)

نَصْبُ كلما كَنَصْبِ سائر الظروف ، ومعنى استكبرتم أنِفْتم وتعظمْتم من

أن تكونوا أتباعاً ، لأنهم كانت لَهم رياسة ، وكانوا متبوعين فآثروا الدنيَا على

الآخرة.

* * *

٨٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (٨٨)

تقرأ على وجهين غُلْف وغُلُف ، وأجود القراءَتين غلْف بإسكانِ اللام لأن

له شاهدا من القرآن ومعنى غلْفٌ ذَواتُ غُلف ، الواحد منها أغْلَف وغُلْف

مثل أحْمَر وحُمْر ، فكأنهم قالوا قلوبنا في أوعية ، والدليل على ذلك

(وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ)

ومن قرأ (غُلُف) فهو جمع غِلاف وغُلُف ، مِثْل مِثال ومُثُل ، وحِمار وحُمُر ، فيكون معنى هذا : إن قلوَبنا أوعية لِلعلم ، والأول أشبه ويجوز أن تُسَكن غُلُف فَيقال غُلْف كما يقال في جمع مثال مُثْل.

فأعلم اللّه عزَّ وجلَّ أن الأمر على خلاف ما قالوا فقال : (بَلْ لعَنَهُمُ اللّه بِكفرهَم).

معنى لعنهم في اللغة أبْعدهم ، فالتأويل - واللّه أعلم - بل طبع اللّه على

قلوبهم كما قال : (ختم اللّه على قلوبهم) ثم أخبر عزَّ وجلَّ أن ذلك مجازاةٌ

منه لهم على كفرهم فقال (بل لعنهم اللّه بكفرهم) ، واللعن كما وصفنا الإبعاد.

قال الشَّمَّاخ :

وماءٍ قد وردت لوَصْل أرْوى . . . عليه الطير كالورق اللَّجين

ذعَرتُ به القطا ونفيْتُ عَنه . . . مقام الذئب كالرجل اللَّعين

* * *

٨٩

و (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّه مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّه عَلَى الْكَافِرِينَ (٨٩)

تقرأ (جاءَهم) بفتح الجيم والتفخيم ، وهي لغة أهل الحجاز ، وهي اللغة

العليا القُدمى ، والإِمالةُ إلى الكسر لغة بني تميم وكثير من العرب ، ووجهها

أنها الأصل من ذوات الياءِ فأميلت لتدل عدى ذلك ، ومعنى كتابُ اللّه ههنا

القرآن ، واشتقاقه من الكَتْبِ وهي جمع كَتْبة وهي الخرزة وكل ما ضممت

بعضه إلى بعض على جهة التقارب والاجتماع فقد كتبته ، والكَتِيبَة الفرقةُ التي تحارب من هذا اشتقاقها لأن بعضَها منضم إلى بعض ، وسمى كلام اللّه

عزَّ وجلَّ الذي أنزل على نبيه كِتَاباً ، وقُرآنأ وفُرقاناً فقد فسرنا معنَى كتابٍ.

ومعنى قرآن معنى الجمع ، يقال ما قرأت هذه الناقة سَلَّى قط أي لم يَضْطَمَّ

رحمُها على ولد قط - قال الشاعر :

هِجَانِ اللَّون لم تَقْرأ جَنِيناً

قال أكثر النَّاس : لم تَجْتمع جنيناً أي لم تضم رحمها على الجنين.

وقال قُطْرب في قرآن قولين ، أحدهما هذا ، وهو المعروف الذي عليه أكثر

الناس ، والقول الآخر ليس بخارج من الصَّحَّة وهو حسن - قال - لم تقرأ

جنيناً - لم تلقه (مجموعاً).

وقال يجوز أن يكون معنى قرأت لفظت به

مجموعاً . كما أن لفظت من اللفظ ، اشتقاقه من لَفَظْتُ كذا وكذا ، إذا ألقيته ، فكأن قرأت القرآن لفظت به مجموعاً.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (مصدقٌ لِمَا مَعَهُمْ).

أيْ يصدقُ بالتوراة والإنجيل ويخبرهم بما في كتبهم مما لا يعلم إلا

بوحي  قراءَة كُتُبٍ ، وقد علموا أن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - كان أمياً لا يكتب.

و (وكَانُوا منْ قَبْلُ يسْتَفْتِحُونَ على الَّذين كَفَرُوا).

ضم (قَبْل) لأنها غاية ، كان يدخلها بحق الإعراب الكسرُ والفتحُ ، فلما

عدلت عن بابها بنيت على الضم ، فبنيت على ما لم يكن يدخلها بحق

الِإعراب ، وإنما عدلت عن بابها لأن أصلها الِإضافة فجعلت مفردة تُنْبئُ عن

الِإضافة ،  ، وكانوا من قبل هذا.

ومعنى : (يَسْتَفْتِحُونَ على الَّذِين كَفَرُوا).

- فيه قولان : قال بعضهم كانوا يخبرون بصحة أمر النبي - صلى اللّه عليه وسلم -.

وقيل وكانوا يستفتحون على الذين كفروا : يَسْتنْصرون بذكر النبي - صلى اللّه عليه وسلم - فلما جاءَهم ما عرفوا :

أي ما كانوا يستنصرون وبصحته يخبرون ، كفروا وهم يوقنون أنهم معْتَمِدُون

للشقاق عداوة للّه.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَعْنَةُ اللّه عَلَى الْكَافِرِينَ).

قد فسرنا اللعنة ، وجوابُ (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ) محذوف لأن معناه

معروف دلَّ عليه فلما جاءَهم ما عرفوا كفروا به .

٩٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللّه بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللّه مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (٩٠)

بئس إذا وقعت على " ما " جُعِلت معها بمنزلة اسم منكور ، وإنما ذلك في

نعم وبئس لأنهما لا يعملان في اسم علم ، إنما يعملان في اسم منكور دال على جنس ،  اسم فيه ألف ولام يدل على جنس ، وإنما كانتا كذلك لأن نعم مستوفية لجميع المدح ، وبئس مُسْتوفية لجميع الذم ، فإذا قلت نعم الرجل زيد فقد استحق زيد المدح الذي يكون في سائر جنسه.

قال أبو إسحاق وفي نِعْم الرجلُ زيد أربع لغات نَعِم الرجل زيد ، ونعِمَ الرجل زيد ، وبعْم الرجل زيد ، ونَحْمَ الرجل زيد ، وكذلك إذا قلت بئس الرجل ، دلَلْتَ على أنه استوفى الذم الذي يكون في سائر جنسه ، فلم يجز إذ كان يستوفى مدح الأجناس أن يعمل في غير لفظ جنس ، فإذا كان معها اسمُ جنس بغير ألف ولام فهو نصْبٌ أبداً ، وإذا كانت فيه الألف واللام فهو رفْع أبداً ، وذلك كقولك نِعْم رجُلاً زَيْد ، ونعم الرجُل زيد ، فلما نصب رجل فعلى التمييز ، وفي نعم اسم مضمر على شريطة التفسير ، وزيد مبين مَنْ هذا الممدوح ، لأنك إذا قلت نعم الرجل لم يعلم من تعني ، فقولك زيد تريد به هذا الممدوح هو زيد.

وقال سيبويه والخليل جميعَ ما قلنا في نعم وبئس ، وقالا إِنْ شئتَ رفعت

زيداً لأنه ابتداءٌ مَؤخَّر . كأنك قلت حين قلت نعم رجلًا زيد ، نعم زيد نعم الرجل ، وكذلك كانت " ما " في نعم بغير صلة لأن الصلة توضح وتخصص ، والقصد فىِ نعم أن يليها اسم منكورٌ  جنس ، فقوله (بئْسما اشْتَرَوْا به أنفسهم) بئس شيئاً اشتروا به أنفسهم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللّه).

موضعه رفع :  ذلك الشيءُ المذموم أن يكفروا بما أنزل اللّه .

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَنِعِمَّا هيَ) ، كأنه قال فنعم شيْئاً هي ، وقال قوم إنَّ نعم مع ما بمنزلة حَبَّ مع ذا ، تقول حبَّذَا زيد ، وحبذا هي ونعِما هي والقول الأول هُو مذهب النحويين وروى جميع النحويين بئسما تزوييج ولا مَهْر والمعنى فيه بئس شيئاً تزويج ولا مهر.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللّه بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللّه مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ).

معناه أنهم كفروا بغياً وعداوة للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - لأنهم لمْ يُشكَّوا في نبوته - صلى اللّه عليه وسلم - وإنما حَسَدوه على ما أعطاه اللّه من الفضل ،  : كفروا بغياً لأنْ نزَّلَ اللّه الفضل

عَلى النبي - صلى اللّه عليه وسلم - ، ونصب بغيا أنهم مفعولاً له ، كما تقول فعلتُ ذلك حذَرَ السر أي لحذر الشر كأنك قلت حَذَرْت حذَراً ، ومثله من الشعر قول الشاعر وهو

حاتم الطائي :

وأعْفرُ عوراءَ الكريم ادِّخَارَه . . . وأعرض عن شتم اللئيم تكرماً

 أغفر عوراءَ الكريم لادّخَارِه ، وأعرضُ عنْ شتم اللئيم للتكرم.

وكأنه قال : أذخر الكريم ادخاراً ، وأتكرم على الكريم تكرماً ، لأن قوله أغفر عوراءَ الكريم معناه أدخر الكريم ، وقوله وأعرض عن شتم اللئيم تكرماً معناه أتكرم على اللئيم ، وموضع أن الثانية نصب ،  أن يكفروا بما أنزل اللّه

لأن ينزل اللّه ، أي كفروا لهذه العلَّةِ ، فشرحه كهذا الذي شرحناه.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) : معنى باءُوا في اللغة

احتملوا ، يقال قد بْؤت بهذا الذنْبِ أيَ تحملته - ومعنى بِغَضبٍ على غَضَبٍ - فيه قولان :

قال بعضهم : بغَضبٍ من أجل الكفر بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم - على غَضبٍ على الكفر بعيسى - صلى اللّه عليه وسلم - يعني بهم إليهود.

وقيل (فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) أي بإثْم استحقوا به النار على إِثم تَقَدم أي استحقوا به أيضاً النَّارَ.

* * *

٩١

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللّه قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللّه مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١)

أي بالقرآن الذي أنزل اللّه على النبي - صلى اللّه عليه وسلم - قالوا أنؤمن بما أنْزِل علينَا ، وقد بين اللّه أنهم غيرمؤمنين بما أنزل عليهم ، وقد بيَّنَّا ذلك فيما مضى.

وقوله تعالى : (وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ).

معناه ويكفرون بما بعده ، أي بما بعد الذي أنزل عليهم ، (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ) ، فهذا يدل على أنهم قد كفروا بما معهم إذْ كفروا بما يُصَدِّقُ ما

معهم ، نصب مصدقاً على الحال ، وهذه حال مؤَكدة ، زعم سيبويه والخليلُ

وجميع النحوين الموثوقُ بعلمهم أن قولك " هو زيد قائماً " خطأ ، لأن قولك هو زيد كناية عن اسم متقدم فليس في الحال فائدة ، لأن الحال توجب ههنا إنَّه إذا كان قائماً فهو زيد ، فإِذا ترك القيامُ فليس بزيد - وهذا خطأ.

فأما قولك هو زيد معروفاً ، وهو الحق مصدقاً ، ففي الحال فائدة ، كأنك قلت انْتَبِهْ لَهُ معروفاً ، وكأنه بمنزلة . قولك هو زيد حقاً ، فمعروفاً حال لأنه إِنما يكون زيداً لأنه يعرف بزيد ، وكذلك " الحق " القرآن هو الحق إِذ كان مصدقاً لكتب الرسل .

أكْذَبَهُمُ اللّه فى قولهم : (نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا) فقال

(قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللّه مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

أيْ أيُّ كتاب جُوّز فيه قتل نبي ، وأي دين وإيمان جُوز فيه ذلك فإِن قال

قائل فَلِمَ قيل لهم فلم تقتلون أنبياءَ اللّه من قبل ، وهؤُلاءِ لَمْ يَقْتُلُوا نبياً قط ؟قيل له قال أهل اللغة في هذا قولين : أحدهما إن الخطاب لمن شُوهِدَ من أهل مكةَ ومنْ غاب خطَابٌ واحد ، فإذا قَتَل أسْلافُهم الأنبياءَ وهم مُقِيمُون على ذلك المذهب فقد شَرَكُوهم في قَتْلِهمْ ، وقيل أيضاً لِمَ رَضيتمُ بذلك الفعل ، وهذا القول الثاني يرجع إلى معنى الأول.

وإنما جاز أنْ يُذكر هنا لفظُ الاستقبال والمعنى

المضي لقوله (من قبل)

ودليل ذلك قوله (قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) ف (فلم تَقتلون) بمنزلة " فلم قتلتم).

وقيل في  (إِنْ كُنتم مؤمنين) قولان : أحدهما ما كنتم مؤمنين وقيلَ

إِنَّ إِيمانكم ليس بإيمان.

والإيمان ههنا واقع على أصل العقد والدين ، فقيل

لهم ليس إيمان إيماناً إذَا كان يَدْعُو إلى قتل الأنبياءِ.

* * *

٩٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣)

قد بيَّنَّاه فيما مضى.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ).

معناه سُقُوا حبَّ العجل ، فحذف حب وأقيم العجل مقامه.

كما قال الشاعر :

وكيف تواصل من أصبحت . . . خلالته كأبي مرحب

أي كخلالته ابي مرحب ، وكما قال :

وشر المنايا ميّت بينَ أهْله . . . كهلك الفتى قَدْ أسْلَم الحيَّ حاضِرُه

 وشر المنايا منيَّة ميت . . . .

وقوله عزَّ وجلَّ : (بِكُفْرِهمْ) أي فعل اللّه ذلك بهم مجازاة لهم على الكفر

كما قال : (بلْ طَبَعَ اللّه عَلَيْها بكُفْرِهِمْ).

و (بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قد فسرناه أي ما

كنتم مؤمنين ، فبئس الِإيمان يأمركم بالكفر.

* * *

٩٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللّه خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٩٤)

قيل لهم هذا لأنهم قالوا : (لَنْ يدخل الجنة إلا من كان هوداً  نصارى)

وقالوا : (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّه وَأَحِبَّاؤُهُ) فقيل لهم إِن كنتم عند أنْفسِكم صادقين

فِيما تدّعون فَتَمنوُا الموْت ، فإنَ من كان لا يشك في أنه صائر إِلى الجنة ، فالجنة عنده آثرُ من الدنيا ، فإن كنتم صادقين فتَمنوُا الأثرة والفضل.

وللنبي - صلى اللّه عليه وسلم - وللمسلمين في هذه الآية أعظم حجة وأظهرُ آية وأدلة على الِإسلام ، وعلى صحة تثبيت رسالة النبي - صلى اللّه عليه وسلم - لأنه قال لهم : تَمنَّوُا الموت.

وأعلمهم أنهم لن يتمنوه أبداً فَلَمْ يتمنَّه منهم واحد لأنهم لو تمنوه لماتُوا من

ساعتهم ، فالدليل على علمهم بأن أمر النبي - صلى اللّه عليه وسلم - حق أنهم كَفُوا عن التَمني ولم يُقْدِم واحد منهم عليه فيكون إقْدامُه دفعاَ ل (ولَنْ يتَمنَوْه أبداً).

 يعيش بعد التمني فيكون قد ردَّ ما جاءَ به النبي - صلى اللّه عليه وسلم - فالحمد للّه الذي أوضَح الحق وبيَّنَه ، وقَمع الباطل وأزْهقه.

* * *

٩٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّه عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥)

يعني - ما قدمت من كفرهِمْ بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم - لأنِهم كفروا وهم يعلمون أنه حق وأنهم إنْ تَمَنَوْه ماتوا ، ودليل ذلك إمْسَاكُهُمْ عَن تَمنَيه

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (واللّه عَلِيمٌ بالظَّالِمِينَ).

اللّه عزَّ وجلَّ عليم بالظالمين وغير الظالمين ، وانًما الفائدة ههُنا إنَّه عليم

بمجازاتهم - ، وهذا جرى في كلام الناس المستعمل بينهم إذَا أقبل الرجل على رجل قد أتى إليه منكراً ، قال أنا أعرفك ، وأنا بصير بك ، تأويله أنا أعلم ما أعاملك به وأستعمله معك.

فالمعنى إنه عليم بهم - وبصير بما يعملون ، أي يجازيهم عليه بالقتل في الدنيا  بالذلَّة والمسكنة وأداءِ الجِزية ، ونصب (لن) كما تنصب (أن) وقد شرحْنا نصبها فيما مضى وذكرنا ما قاله النحويون فيه.

ونصب (أبداً) لأنه ظرف من الزمان ،  : لن يَتَمَنوهُ في طول عُمرهم إِلى

موتهم ، وكذلك قولك : لا أكلمك أبداً ،  لا أكلمك ما عشت . ومعنى (بما قدمت أيديهم) أي بما تقدمه أيديهم . ويصلح أن يكون بالذي قدمته أيديهم.

* * *

٩٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللّه بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (٩٦)

يعني به علماءَ إليهود هؤلاءِ ،  أنك تجدهم في حال دعائهمْ إلى تمنى

الموت أحرص الناس على حياة.

ومعنى (لَتَجِدَنَّهُمْ) لَتَعْلَمَنَّهَم.

وَمَعْنى (وَمِنَ الَّذِينَ أشْرَكُوا) أي وَلَتَجِدَنَهُمْ أحْرَصَ من الذين أشركوا ، وهذا نهاية في التمثيل.

والذين أشركوا هم المجوس ومن لا يُؤمن بالبعث.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ).

ذكرت الألْفُ لأنها - نهايةُ ما كانت المجوس - تدْعُو به لمُلوكها - كان الملك

يُحَيَّا بأن يقال عش ألفَ نَيْبُروزٍ وَألْفَ مِهْرَجَانٍ.

يقول فهؤُلاءِ الذين يزعمون أن لهم الجنة ، وأنَّ نعيم الجنة له الفضل

لاَ يتمنون - الموت وهم أحرص مِمَّن لا يُؤمن بالبعث ، وكذلك يجب أن يكون هُؤلاءِ لأنهم كُفَّار بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم - وهو عِنْدهُم حق ، فيعلمون أنهم صائرون إِلى النارِ لا محالة ، فهم أحْرصُ لهذه العلة ، ولأنهم يعلمون أنهم لو تمنوا الموت لماتوا ، لأنهم علموا أن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - حق لولا ذلك لما أمسكوا عن التمني ، لأن التمني من واحد

منهم كان يثبت قولهم.

وإِنما بالغنا في شرح هذه الآيات لأنها نهاية في الاحتجاج في تثْبِيتِ أمْرِ

النبي - صلى اللّه عليه وسلم -.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ).

هذا كناية عن (أحدهم) الذي جرى ذكره ، كأنه قال : وما أحدهم

بمزحزحه من العذاب تعميره ، ويصلح أن تكون " هو " كناية عما جرى ذكره - من طول العمر ، فيكون : وما تعميره بمزحزحه من العذاب ، ثم جعل - أن يعمر مبنياً عن " هو " كأنَّه قال : ذلك الذي ليس بمزحزحه

(أن يعمر).

وقد قال قوم : إن (هو) لِمَجْهول وهذا عند قوم لا يصلح في " ما " إذا

جاءَ في خبرها الباءِ مع الجملة : لا يجيز البصريون : " ما هو قائما زيد.

يريدون ما الأمر قائماً زيد ، ولا كان هو قائماً زيد ، يريدون ما الأمر قائماً

زيد ؛ ولا كان هو قائماً زيد ، يريدون كان الأمر قائماً زيد وكذلك لا يجيزون ما هو بقائم زيد يريدون ما الأمْرُ.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاللّه بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ).

شرحه تقدم في الآية التي قبل هذه

وتقول في يود : وددت الرجل أودة وُدًّا أبيْ وِداداً ومودة " وودادة

وحكى الكسائي ودَدْتُ الرجلَ والذي يعرفه جميع الناس ودِدْتُه ، ولم يحك إلا ما سَمِع إِلا أنه سمع ممن لا يجب أن يؤْخذ بلغته ، لأن الإجماع على تصحيح

أوَدُّ ، وأوَدُّ لَا يكون ماضيه ودَدَتً.

فالإجماع يُبْطِل وَدَدْتُ . أعني الإجماع في قولهم أودُ.

* * *

٩٧

قوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإنَهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّه مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧)

جبريل في اسمه لغات قرئ ببعضها ومنها ما لم يُقْرأ به ، فأجود

اللغات جَبْرَئِيل - بفتح الجيم ، والهمز ، لأن الذي يروى عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - في صاحب الصور " جَبْرَئِيل عن يمينه وميكائيل عن يساره ، هذا الذي ضبطه أصحاب الحديث ، ويقال جَبْرِيل بفتح الجيم وكسرها ويقال أيضاً جبرأَلُّ - بحذف الياءِ وإثبات الهمزة (وتشديد اللام) ، ويقال جبرين - بالنون وهذا

لا يجوز في القرآن - أعني إثبات النون لأنه خلاف المصحف -

قال الشاعر :

شهِدْنَا فما تَلْقى لنا من كتيبةٍ . . . َ الدهرِ إلا جَبْرَئِيلُ أَمامَها

وهذا البيت على لفظ ما في الحديث وما عليه كثير من القراءِ.

وقد جاءَ في الشعر جبريل قال الشاعر :

وجبريلٌ رسولُ اللّه فينا . . . وروحُ القُدْسِ ليس له كِفَاءُ

و(نما جرى ذكر هذا لأن إليهود قالوا للنبي ي : جبريل عدونا فلو أتاك

ميكائيل ، لَقَبِلْنَا منك ، فقال اللّه عزَّ وجلًَّ : (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإنَهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّه مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧).

ونصب (مصدقاً) على الحال.

* * *

٩٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (مَنْ كَانَ عَدُوًّا للّه وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّه عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (٩٨)

ميكائيل فيه لغات ، ميكائيل وميكال . وقد قرئ . بهما جميعاً ، وميكَال -

بهمزة بغير ياءٍ . وهذه أسماء أعجمية دفعت إلى العرب فلفظت بها بألفاظ

مختلفة - أعني جبريل ، وميكائيل . وإسرائيل فيه لغات أيضاً : إسرايِيل

وإسرال ، وإسرايل . وإِبراهيم وإبراهَم ، وأبرَهْم وإبْرَاهام ، والقرآن إنما أتى

بإبراهيم فقط وعليه القراءة.

وأكثر ما أرويه من القراءَة في كتابنا هذا فهو عن أبي عبيد ممَّا رواه

إسماعيل بن إسحاق عن أبي عبد الرحمن عن أبي عُبَيْد.

* * *

٩٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (٩٩)

يعني الآيات التي جرى ذكرها مما قد بيَّنَّاه ، والآية في اللغة العلامة.

وبينات : واضحات ، و " قد " إنما تدخل في الكلام لقوم لا يتوقعون

الخبر ، واللام في لقد لام قسم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا يَكْفُرُ بِها إلا الفَاسِقُونَ).

يعني الذين قد خرجوا عن القصد ، وقد بيَّنَّا أن تول العرب فَسقَت

الرطبة : خرجت عن قشرتها.

* * *

١٠٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٠)

معنى نبذه رفضه ورمى به.

قال الشاعر :

نَظَرتَ إلى عُنْوانه فنبذتَه . . . كنبذك نَعْلا أخلقت من نِعالكَا

ونصب أوكلما عاهدوا على الظرف.

وهذه الواو في أوكلما تدخل عليها ألف الاستفهام ، لأن الاستفهام مستأنف ، والألف أمُّ حروف الاستفهام.

وهذه الواو تدخل على هل فتقول : وهل زيد عاقل لأن معنى ألف الاستفهام

موجود في هل ، فكأن التقدير  هل إِلا أن ألف الاستفهام وهَلْ لا يجتمعان

لأغناء هل عن الألف.

١٠١

وقوله عزَّ وجلََّّ : (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللّه مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللّه وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١)

يعني به النبي - صلى اللّه عليه وسلم - لأن الذي جاءَ به مصَدّق التوْرَاةَ والِإنجيلَ ، و (لَمَّا) يقع بها الشيء لوقوعِ غيره (مُصَدِّقٌ) رفع صفة لرسول ، لأنهما نكرتان.

ولو نصب كان جائزاَ ، لأن (رَسُولٌ) قد وصف بقوله (مِنْ عِنْدِ اللّه) فلذلك صار النصب يحسن ، وموضع " ما " في " (مِصدّق لما معهم) جَر بلام الإِضافة ، و " مَعَ " صلة لها ، والناصب لمع الاستقرار.

 لما استقر معهم.

وقوله عزَّ وجلََّّ : (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللّه وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ).

(الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) يعني به إليهود ، والكتاب هنا التوراة و (كِتَابَ اللّه وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) فيه قولان : جائز أن يكون القرآن وجائز أن يكون التوراة ، لأن الذين كفروا بالنبي قد نبذوا التوراة.

وقوله عزَّ وجلََّّ : (كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).

أعْلَمَ أنهم علماء بكتابهم ، وأنهم رفضوه على علم به ، وعداوةً للنبي

صلَّى اللّه عليه وسلم . وأعْلَمَ أنَّهم نَبذوا كتاب اللّه.

* * *

١٠٢

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللّه وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢)

ما كانت تتلوه ، والذي كانت الشياطين تلته في ملك سليمان كتاب من

السحر فَلِبهتِ اليهود وكَذِبِهم ادعَوْا أن هذا السحر أخذوه عن سليمان وأنه اسم اللّه الأعظم ، يتكسَّبُون بذلكَ ، فأعلم اللّه - عزَّ وجلَّ - أنهم رفضوا كتابه واتبعوا السحر ، ومعنى على (ملك سليمان) ، على عهد ملك سليمان

(عَلَيْهِم) فبرأ اللّه - عزَّ وجلَّ - سليمانَ من السحر ، وأظهر محمداً - صلى اللّه عليه وسلم - عَلَى كذبهم

وقال : (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ).

لأن اللّه جعل الإتيان من سليمان بالسحر كفراً فبرَّأهُ منه ، وأعلم أن الشياطين كفروا فقال : (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا)

(يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)

فمن شدد (لَكِنَّ) نصب الشياطين ، ومن خفف رفع

فقال : (وَلَكِنِ الشيَاطِينُ كَفَرُوا) وقد قرئ بهما جميعاً.

وقوله عزَّ وجلَّ : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ).

وقد قريءَ على الملِكَيْنِ ، و (المَلَكَيْنِ) أثْبتُ في الرواية والتفسير

جميعاً ،  يعلمون الناس السحرَ ويعلمون ما أنزلَ على الملكين فموضع

(ما) نصب ، نَسق على السحْر ، وجائز أن يكونَ واتبعوا ما تَتْلُو الشياطين واتَبعوا ما أنزل على الملكين ، فتكون ما - الثانية عطفاً على الأولى.

و (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ).

فيه غير قول : أحدها - وهو أثبتها أن الملكين كانا يعلمان الناس

السحر . وعلمتُ ، وأعْلَمْتُ جميعاً في اللغة بمعنى واحد . (كانا يعلمان) نَبأ

السحر ويأمران باجتنابه - وفي ذلك حكمة لأن سائلاً لو سأل : ما الزنا وما

القذف لوجب أن يوقف ويُعَلَّمَ أنه حرام ، فكذلك مجاز إعلام الملكين الناس

وأمرهما باجتنابه بعد الإعلام يدل على ما وصفنا ، فهذا مستقيم بين ، ولا

يكون على هذا التأويل تعلم السحر كفراً ، إنما يكون العمل به كفراً ، كما أن من عَرَفَ الزنا لم يأثَمْ بأنه عرفه ، وإنما يأثم بالعمل به.

وفيه قَوْل آخر ، جائز أن يكون اللّه عزَّ وجلَّ امتحن بالملكين الناس في ذلك الوقت ، وجعل المحنة في الكفر والِإيمان أن يقبل القابل تعلم السحر ، فيكون بِتَعلُّمِه كافراً ، وبتْرَكِ تعَلمه مؤمناً ، لأن السحر قد كان كثر وكان في كل أمة ، والدليل على ذلك أن فرعون فزع في أمر موسى - صلى اللّه عليه وسلم - إلى السحر - فقال : (ائتوني بكل ساحر عليم)

وهذا ممكن أن يمْتَحِن اللّه به كما امتحن بالنهر في قوله

(إِنَّ اللّه مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإنَهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ).

وقد قيل إن السحر ما أنزل على الملكين ، ولا أمرا به ولا أتى به

سليمانُ عليه السلام . فقال قوم : (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) ، فيكون " ما " جحْداً ، ويكون هاروت وماروت من صفة الشياطين ، على تأويل هؤلاء ، كان التأويل عندهم على مذهب هؤلاءِ : كان الشياطين هاروت وماروت ، ويكون معنى قولهمَا على مذهب هؤلاءِ (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ) كقول الغاوي والخليع : أنا في ضلال فلا تَرِدْ ما أنا فيه.

فهذه ثلاثة أوجه ، والوجهان الأولان أشبه بالتأويل وأشبه بالحق عند كثير

من أهل اللغة ، والقول الثالث له وجه ، إلا أن الحديث وما جاءَ في قِصَّةِ

الملكين أشبه وأولى أن يؤخذ به

وإنما نذكر مع الإعراب  والتفسير ، لأن كتاب اللّه ينبغي أن يتبين

ألا ترى أن اللّه يقول (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) (فحُضِضْنَا) على التدبر

والنظر ، ولكن لا ينبغي لأحد أن يتكلم إلا على مذهب اللغة ،  ما يوافق نقلة أهل العلم ، واللّه - أعلم بحقيقة تفسير هذه الآية.

فإن النحويين قد ترك كثير منهم الكلام فيها لصعوبتها ، وتكلم جماعة منهم وإنما تكلمنا على مذاهبهم.

وقال بعض أهل اللغة : إن الذي أنزل على الملكين كلام ليس بسحر

إلا إنَّه يفرق به بين المرء وزوجه فهو من باب السحر في التحريم وهذا

يحتاج من الشرح إلى مثل ما يحتاج إليه السحر.

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا).

ليس (يَتَعَلَّمُونَ) بجواب لقوله (فلا تكفر) وقد قال أصحاب النحو في هذا

قولين - قال بعضهم : إِن قوله يتعلمون عطف على قوله (يُعلِّمونَ) وهذا

خطأ ، لأن قوله منهما دليل ههنا على أن التعلم من الملكين خاصة وقيل -

(فَيَتَعَلَّمُونَ) عطف على ما يوجبه معنى الكلام.

 : إنما نحن فتنة فلا تكفر : فلا تتعلم ولا تعمل بالسحر ، فيأبون فيتعلمون ، وهذا قول حسن.

والأجود في هذا أن يكون عطفاً على يعلمان فيتعلمون واستغنى عن ذكر

يعلمان بما في الكلام من الدليل عليه .

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللّه).

الإذن هنا لا يبهون الأمر من اللّه عزَّ وجلَّ : (إِنَّ اللّه لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ).

ولكن  إِلا بعلم اللّه.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ).

 إنَّه يضرهم في الآخرة وِإدْ تعجلوا به في الدنيا نفعاً.

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ).

الخلاق النصيب الوافر من الخير ، ويعني بذلك الذين يعلمون السحر

لأنهم كانوا من علماءِ إليهود.

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).

فيه قولان : قالوا : (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) : يعني به الذين يُعَلًمُونَ السحْر.

والذين علموا أن العالم به لا خلاق له هم المعلمون . .

قال أبو إسحاق والأجود عندي أن يكون (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) راجعاً إلى

هُؤلاء الذين قد علموا أنه لا خلاق لهم في الآخرة).

أي لمن عُلِّمَ السحرَ ولكن قيل (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) وأي لو كان علمهم ينفعهم لسُمُّوا عالمين ، ولَكِنَّ عِلْمَهُم نبذوه وراء ظهورهم ، فقيل لهم (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أي ليس يوفون العلم حقه ، لأنَّ العالِمَ ، إِذا ترك العَمَلَ بِعِلْمِه قيل له لست بعالم ودخول اللام في لقد على جهة القسم والتوكيد.

وقال النحويون في (لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) قولين :

جعل بعضهم " مَنْ " بمعنى

الشرط ، وجعل الجواب (مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ).

وهذا ليس بموضع شرط ولا جزاء ، ولكن  : ولقد علموا الذي اشتراه ما له في الآخرة من خلاق : كما تقول : واللّه لقد علمت للذي جاءَك ما له من عقل.

فأمَّا دخول اللام في الجزاءِ في غير هذا الموضع وفيمن جعل هذا موضع شرط وجزاء مثل  (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)

ونحو (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ)

فاللام الثانية هي لام القسم في الحقيقة ، لأنك إنما تحلف على فعلك لا على فعل غيرك في قولك : واللّه لئن جئتني لأكرمنك ، فزعم بعض النحويين أن اللام لما دخلت في أول الكلام أشبهت القسم فأجيبت بجوابه وهذا خطأ ، لأن جواب القسم ليس يشبه القسم ، ولكن اللام الأولى دخلت إعْلاماً أنَّ الجملة بكمالها معقودة للقسم ، لأن الجزاء وإن كان للقسم عليه فقد صار للشرط فيه حظ ، فلذلك دخلت اللام.

* * *

١٠٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللّه خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣)

مَثُوبة في موضع جواب " لو " لأنها تنْبِئ عن قولك " لأثيبُوا " ومعنى الكلام

أن ثواب اللّه خير لهم من كَسْبِهم بالكُفْر والسحْرِ.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (لَوْ كَانُوا يَعلَمُونَ).

أي لو كانوا يَعْمَلُونَ بِعِلمِهم ، ويعلمون حقيقة ما فيه الفضل .

١٠٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٠٤)

وقرأ الحسن " لا تقولوا راعِناً " بالتنوين ، والذي عليه الناس راعنا غير

منون ، وقد قيل في (راعنا) بغير تنوين ثَلاثةُ أقوال : قال بعضهم راعنا :

ارعنا سمعك ، وقيل كان المسلمون يقولون للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - راعنا ، وكانت إليهود تَتَسَابُّ بينها بهذه الكلمة ، وكانوا يسبون النبي - صلى اللّه عليه وسلم - في نُفُوسهم ، فلما سمعوا

هذه الكلمة اغتنموا أن يظهروا سَبَّه بلفظ يسمع ولا يلحقهم به في ظاهره

شيء ، فأظهر اللّه النبى - صلى اللّه عليه وسلم - والمسلمين على ذلك ونهى عن هذه الكلمة.

وقال قوم : (لَا تَقُولُوا رَاعِنَا) : من المراعاة والمكافأة ، فأمروا أن يخاطبوا

النبي - صلى اللّه عليه وسلم - بالتقدير والتوقير ، فقيل لهم لا تقولوا راعنا ، أي كافنا في المقال ، كما يقول بعضهم لبعض ، -

(وَقُولُوا انْظُرْنَا) أي أمهلنا واسمعوا ، كأنه قيل لهم استَمِعُوا.

وقال قوم إِن راعنا كلمة تجري على الهُزُءِ والسخرية ، فنهيَ

المسلمون أن يَلْتَفِظُوا بها بحضرة النبي - صلى اللّه عليه وسلم -

وأما قراءَة الحسن " راعناً " فالمعنى فيه لا تقولوا حُمْقاً ، من الرعونة.

* * *

١٠٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللّه يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥)

 ولا من المشركين ، الذين كفروا من أهل الكتاب : إليهود

والمشركون في هذا الوضع عَبَدةُ الأوثان.

(أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ).

- ويُقْرأ أن يُنْزَل عليكم بالتخفيف والتثقيل جميعاً ، ويجوز في العربية أن

يَنْزِلَ عليكم ، ولا ينبغي أن يقرأ بهذا الوجه.

الثالث ، إذ كان لم يقرأ به أحد من القراء المشتهرين.

وموضع (مِنْ خَيْرٍ) رفع .  : ما يود الذين كفروا

والمشركون أن ينزل عليكم خير من ربكم ، ولو كان هذا في الكلام لجاز ولا

المشركون ، ولكن المصحف لا يخالف ، والأجود ما ثبت في المصحف

أيضاً ، ودخول من ههنا على جهة التوكيد والزيادة كما في " ما جَاءني من

أحد) ، وما جاءَنى أحد.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاللّه يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)

أي يختص بنُبوته من يشاءُ من أخبر - عزَّ وجلَّ - أنه مختار.

* * *

١٠٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ  نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا  مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦)

في (نُنْسِهَا) غير وجه قد قرئ

به :  نُنْسِهَا ، وَنَنْسَهَا ، وَنَنْسُؤها.

فأما النسخ في اللغة فإبطال شيء وإقامة آخر

مقامه ، العرب تقول نسخت الشمسُ الظل ، والمعنى أذهبت الظل وحلَّت

محلَّه ، وقال أهل اللغة في معنى ( نُنْسِهَا) قولين قال بعضهم ، ( ننسها)

من النسيان ، وقالوا دليلنا على ذلك قوله عزَّ وجلَّ (سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى إلا مَا شَاءَ اللّه) فقد أعلم اللّه أنه يشاء أن يُنْسى ، وهذا القول عندي ليس

بجائز ، لأن اللّه عزَّ وجلَّ : قد أنبأ النبي - صلى اللّه عليه وسلم -

في قوله (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) إنَّه لا يشاء ، أن يذهب بالذي أوحَى به إلى النبي - صلى اللّه عليه وسلم -.

وفي قوله (فَلَا تَنْسَى إلا مَا شَاءَ اللّه) قولان يُبْطلان هذا القول الذي حكينا عن بعض أهل اللغة : أحدهما (فلا تنسى) أي لست تترك إلا ما شاءَ اللّه أن

تترك ، ويجوز أن يكون إلا ما شاءَ اللّه مما يلحق بالبشرية ، ثم تذكر بعد ،

ليس أنه على طريق السلب للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - شيئاً أوتيه من الحكمة وقيل في ( ننْسِهَا) قول آخر وهو خطأ أيضاً ، قالوا  نَتْرُكُهَا " وهذا يقال فيه نسيت إذا تركت ، ولا يقال أنسيت أي تركت ، وإنما معنى ( ننسها)  نَتركِها أي نأمر بتركها ، فإِن قال قائل ما معنى تركها غير النسخ وما الفرق بين الترَك والنسخ ؟

فالجواب في ذلك أن النسخ يأتي في الكتاب في نسخ الآية

بآية فتُبطِل الثانيةُ العملَ بالأولى.

ومعنى الترك أن تأتي الآية بضرب من العمل

فيؤمر المسلمون بترك ذَلك بغير آية تَأْتِي ناسخة للتي قبلهَا ، نحو

(إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ)

ثم أمر المسلمون بعد ذلك بترك المِحْنَة.

فهذا معنى الترك ، ومعنى النسخ قد بيَّنَّاه فهذا هو الحق.

ومن قرأ "  نَنْسؤُها " أراد نؤَخًرُها . والنَّسْءُ في اللغة التأخير ، يقال : نسأ

اللّه في أجله وأنْسَأ اللّه أجله أي أخر أجله.

و (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا).

 بخير منها لكم ، ( مِثْلِها) فأما ما يؤتى فيه بخير من المنسوخ

فتمام الصيام الذي نسخ الِإباحة في الِإفطار لمن استطاع الصيام.

ودليل ذلك  (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) فهذا هو خير لنا كما قال اللّه

عزَّ وجلَّ.

وأمَّا قوله ( مِثْلِهَا) أي نأْتي بآية ثوابها كثواب التي قبلها ، والفائدة في

ذلك أن يكون الناسخ اشهل في المأخذ من المنسوخ ، والإيمان به أسوغ.

والناس إليه أسرع.

نحو القِبْلة التي كانت على جهة ثم أمر اللّه النبي - صلى اللّه عليه وسلم -

بجعل البيت قبلةَ المسلمين وعدل بها عن القصد لبيت المقدس ، فهذا - وإِن

كان السجود إلى سائر النواحي متساوياً في العمل والثواب ، فالذي أمر اللّه به في ذلك الوقت كان الأصلح ، والأدعى للعرب وغيرهم إِلى الإِسلام.

* * *

١٠٧

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (١٠٧)

لفظ (أَلَمْ) ههنا لفظ استفهام ومعناه التوقيفُ ، وجزم (أَلَمْ) ههنا كجزم

" لم " لأن حرف الاستفهام لا يغير العامل عن عمله ، ومعنى الملك في اللغة

تمام القدرة واستحكامها فما كان مما يقال فيه مَلِك سمي المُلْكَ ، وما نالته

القدرة مما يقال فيه مَالِك فهو مِلْك ، تقول : ملكت الشيء أمْلِكه مِلْكاً.

وكقوله تعالى ، (على مُلك سليمان) أي في سلطانه وقُدْرته.

وأَصل هذا من - قولهم ملكتُ العَجين أملُكُه إِذا بالغْتُ في عَجْنِه ، ومن هذا قيل في التزويج شهدنا " إِملاكَ " فلان ، أي شهدنا عقد أمر نكاحه وتشديده.

ومعنى الآية إِن اللّه يَمْلك السَّمَاوَات والأرض ومن فيهن فهو أعلم بوجه

الصلاح فيما يتعبدهم به ، من ناسخ ومنسوخ ومتروك وغيره.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ).

هذا خطاب للمسلمين يخبرون فيه أن من خالفهم فهو عليهم ، وأن اللّه

جلَّ وعزَّ ناصرهم ، والفائدة فيه أنه بنَصْره إياهم يغلبون من سواهم .

١٠٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١٠٨)

أجود القراءَة بتحقيق الهمزة ، ويجوز جعلها بَينَ بينَ ، يكون بين

الهمزة والياء فيلفظ بها سُيل.

وهذا إنما تحكمه المشافهة لأن الكتاب فيه

غير فاصل بين المتحقق والمُلَيَّن وما جُعِلَ ياءً خالصة ، ويجوز كما سِيلَ موسى

من قبل ، من قولك " سِلْت " ، أسَال في معنى سئِلت اسْأل وهي لغة للعرب

حجاها جميع النحويين ، - ولكن القراءَة على الوجهين اللذين شرحناهما قبل

هذا الوجه من تحقيق الهمزة وتليينها.

ومعنى (أم) ههنا وفِي كل مكان لا تقع فيه عطفاً على ألف

الاستفهام - إِلا أنها لا تكون مبتدأة - أنها تؤذن بمعنى بل ومعنى ألف

الاستفهام ،  " بل أتريدون أن تسألوا رسولكم كما سُئِل موسى

من قبل " فمعنى الآية أنهم نًهوا أن يسألوا النبي - صلى اللّه عليه وسلم - ما لا خير لهم في السؤال عنه وما يُكَفِّرهم ، وإِنما خوطبوا بهذا بعد وضوح البراهين لهم وإقامتها على مخالفتهم وقد شرحنا ذلك في قوله

(فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) وما أشبه ذلك مما تقدم شرحه.

- فأُعْلِم المسلمون أن السؤال بعد قيام البراهين كفر كما قال عزَّ وجلَّ :

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).

و (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ).

أي من يسأل عما لا يعنيه النبى - صلى اللّه عليه وسلم - بعد وضوح الحق فقد ضل سواءَ السبيل أي قصد السبيل.

* * *

١٠٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّه بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩)

يعني به علماءَ إليهود.

و (حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) موصول بود الذين كفروا ، لا بقوله حسداً ، لأن حسد الإِنسان لا يكون من عند نفسه ، ولكن  مودتهم بكفركم من عند أنفسهم ، لا أنهم عندهم الحق الكفر ، ولا أن كتابهم أمرهم بما هم عليه من الكفر بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم -.

الدليل على ذلك  (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ).

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّه بِأَمْرِهِ).

هذا في وقت لم يكن المسلمون أمروا فيه بحرب المشركين ، وإِنما

كانوا يدعون بالحجج البينة وغاية الرفق حتى بين اللّه أنهم إنما يعاندون بعد

وضوح الحق عندهم فأمر المسلمون بعد ذلك بالحرب.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ ، : (إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

أي قدير على أن يدعو إِلى دينه بما أحب مما هو عنده الأحكم

والأبلغ . ويقال : اقدر على الشيءِ - قَدْراً وقَدَراً وقُدْرة ، وقُدْرَاناً ، ومَقْدِرَة

ومقدُرة ومقدَرة.

هذه سبعة أوجه مروية كلها ، وأضعفها مقدرة - بالكسر -.

* * *

١١١

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا  نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١١١)

الِإخبار في هذا عن أهل الكتاب ، وعقد النصارى معهم في قوله

وقالوا لأن الفريقين يقرآن التوراة ، ويختلفان في تثبيت رسالة موسى وعيسى ، فلذلك قال اللّه عزَّ وجلَّ : (وقالوا : " فأُجْمِلوا).

فالمعنى أن إليهود قالت لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً ، والنصارى

قالت لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً ، وجاز أن يلفظ بلفظ جمع لأن

معنى (من) معنى جماعة . فَحُمِل الخبر على .

والمعنى إِلا الذين كانوا هودا وكانوا نصارى.

وهو جمع هائد وهود ، مثل حائل وحول ، وبازل وبزل.

وقد فسَّرْنَا واحد النصارى وجمعه فيما مضى من الكتاب.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ).

هذا كما يقال للذي يدعي ما لا يبرهن حقيقته إنما أنت مُتَمَن.

وأمانيهم مشددة ، ويجوز في العربية تلك " أمَانِيهِمْ " ولكن القراءَة بالتشديد

لا غير ، للإِجماع عليه ، ولأنه أجود في العربية.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)).

أي إِن كنتم عند أنفسكم صادقين فَبَينوا ما الذي دلكم على ثبوت

الجنة لكم .

١١٢

وقوله عزَّ وجلَّ : (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢)

أي فهذا يدخل الجنة ، فإن قال قائل فما برهان من آمن في قولكم ، قيل

ما بيناه ، من الاحتجاج للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - ومن إظهار البراهين بأنبائهم ما لا يعلم إِلا من كتاب  وحي ، وبما قيل لهم في تمني الموت ، وما أتى به النبي - صلى اللّه عليه وسلم - من الآيات الدالة على تثبيت الرسالة ، فهذا برهان من اسلم وجهه للّه.

* * *

١١٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّه يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣)

يعني به أن الفريقين يَتْلُوَان التوراة ، وقد وقع يينهم هذا الاختلاف

وكتابهم واحد ، فدل بهذا على ضلالتهم ، وحذر بهذا وقوع الاختلاف في

القرآن ، لأن اختلاف الفريقين أخرجهما إلى الكفر.

فتفهموا هذا المكان فإن فيه حجةً عظيمة وعِظَةً في القرآن.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ).

يعني به الذين ليسوا بأصحاب كتاب ، نحو مشركي العرب والمجوس.

 أن هؤلاء أيضاً قالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا.

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَاللّه يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

 يريهم من يدخل الجنة عِياناً ، ويدخل النار عيانا.

وهذا هو حكم الفصل فيما تصير إليه كل فرقة ، فأما الحكم بينهم في العقيدة فقد بينه اللّه عزَّ وجلَّ - فيما أظهر من حجج المسلمين ، وفي عجز الخلق عن أن يأتوا بمثل القرآن.

* * *

١١٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّه أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١١٤)

موضع (مَنْ) رفع ولفظها لفظ استفهام ،  : وأي أحد أظلم ممن منع

مساجد اللّه ، و (أَظْلَمُ) رفع بخبر الابتداء ، وموضع أن نصب على البدل من

مساجد اللّه ،  : ومن أظلم ممن منع أن يذكر في مساجد اللّه اسمه.

وقد قيل في شرح هذه الآية غير قول : جاءَ في التفسير أن هذا يعني به

الروم ، لأنهم كانوا دخلوا بيت المقدس وخربوه ، وقيل يعني به مشركو

مكة لأنهم سعوا في منع المسلمين من ذكر اللّه في المسجد الحرام.

وقال بعض أهل اللغة غير هذا . زعم أنه يعني به جميع الكفار الذين تظاهروا

على الإسلام ، ومنعوا جملة المساجد ، لأن من قاتل المسلمين حتى منعهم

الصلاة فقد منع جميع المساجد وكل موضِع مُتَعَبَّدٍ فيه فهو مسجد ، ألا

ترى أن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - قال :

" جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً "

فالمعنى على هذا المذهب : ومن أظلم ممن خالف ملة الإسلام.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ).

أعلم اللّه في هذه الآية أن أمر المسلمين يظهر على جميع من خالفهم

حتى لا يمكن دخول مخالف إِلى مساجدهم إلا خائفاً ، وهذا كقوله عزَّ وجلَّ : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).

 (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

يرتفع (خِزْيٌ) من وجهتين : إِحدَاهما الابتداءُ ، والأخرى الفعل الذي

ينوب عنه (لهم).  وجب لهم خزي في الدنيا وفي الآخرة عذاب

عظيم ، والخزي الذي لهم في الدنيا ، أن يُقْتَلوا إن كانوا حَرْباً ، ويُجْزَوا إن

كانوا ذمة ، وجعل لهم عظيم العذاب لأنهم أظلم مَن ظلم ل (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ).

* * *

١١٥

وقوله عزْ وجل : (وَللّه الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّه إِنَّ اللّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥)

يرتفعان كما وصفنا من جهتين ، ومعنى (للّه) أي هو خالقهما.

و (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّه).

(تُوَلُّوا) جزم بـ (أيْنَمَا) ، والجوإبُ (فَثَمَّ وَجْهُ اللّه) ، وعلامة الجزم في (تُوَلُّوا)

سقوط النون.

و (ثَمَّ) موضع نصب ولكن مبني على الفتح لا يجوز أن تقول ثَمًّا

زيد . وإنما بني على الفتح لالتقاءِ السَّاكنين ، وثم في المكان أشارة بمنزلة هنا

زيد ؛ فإذا أردت المكان القريب قلت هنا زيد ، وإذا أردت المكان المتراخي

عنك قلت (ثَمَّ) زيد ، وهناك زيد ، فإنما منعت (ثَمَّ) الإعراب لإبهامها.

ولا أعلم أحداً شرح هذا الشرح لأن هذا غير موجود في كتبهم.

ومعنى الآية أنه قيل فيها أنه يعني به البيت الحرام ، فقيل أينَما تولوا فثم

وجه اللّه أي فاقصدوا وجه اللّه بِتَيَمُّمِكم القبلة ، ودليل من قال هذا القول

 (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).

فقد قيل : إن قوماً كانوا في سفر فأدركتهم ظلمة ومطر فلم يعرفوا القبلة فقيل : (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّه).

وقال بعض أهل اللغة إنما  معنى  (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)

فالمعنى على قوله هذا : أن اللّه معكم أينما تولوا - كأنه أينما تولوا

فثم اللّه (وهو معَكم) وإنَّما حكينا في هذا ما قال الناس : وليس عندنا قطع

في هذا ، واللّه عزَّ وجلَّ أعلم بحقيقته -

ولكن قوله (إِنَّ اللّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ) يدل على تَوْسيعه على الناس

في شيءِ رخص لهم به.

* * *

١١٦

(وَقَالُوا اتَّخَذَ اللّه وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (١١٦)

قالوا) للنصارى ومشركي العرب ، لأن النصارى قالت : المسيح ابنُ

اللّه ، وقال مشركو العرب الملائكة بنات اللّه ، فقال اللّه عزَّ وجلَّ :

(بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ).

القانت في اللغة المُطِيعُ ، وقال الفرَّاءُ : (كل له قانتون) هذا خصوص إنما

يعني به أهل الطاعة ، والكلام يدل على خلاف ما قال ، لأن

(مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ)

كل إحاطة وإنما تأويله : كل ما خلق اللّه في

السَّمَاوَات والأرض فيه أثَرُ الصنْعَة فهو قانت للّه والدليل على أنه مخلوق -

والقانت في اللغة القائم أيضاً ألا ترى أن القنوت إِنما يُسَمًى بِه من دَعا قائماً

في الصلاة قانتا ، فالمعنى كل له قانت مقر بأنه خالقه ، لأن أكثر من يخالف

ليس بدفع أنه مخلوق وما كان غير ذلك فأثر الصنْعَةِ بين فيه ، فهو قانت

على العموم ، وإِنما القانت الداعي.

١١٧

و (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧)

يعني ، أنشاهما على غير حِذَاءٍ ولا مِثَال ، وكل من أنْشَأ ما لَم يُسْبَق إليه

قيل له أبدعت ، ولهذا قيل لكل من خالف السُّنَّةَ والإجماعَ مبتدع ، لأنه يأتي

في دين الإِسلام بما لم يسبقه إِليه الصحابة والتابعون.

و عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

رفع (يكون) من جهتين : إِن شئت على العطف على يقول ، وإِن شئت

الاستئناف.

 فهو يكون ، ومعنى الآية قد تكلم الناس فيها بغير قول :

قال بعضهم : إِنما يقول له (كُنْ فَيَكُونُ) إِنما يريد ، فيحدث

كما قال الشاعر :

امْتَلأ الحوضُ وقال قَطْنِي . . . مهلاً رويداً قد ملأت بطني

والحوض لم يقل.

وقال بعض أهل اللغة - (إِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)

يقول له وإِن لم يكن حاضراً : كن ، لأن ما هو معلوم عنده بمنزلة الحاضر.

وقال قائل : (إِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) له معنى من أجلها فكأنه إنما يقول

من أجل إِرادته إِياه (كُنْ) أي أحدُث فيحدث ، وقال قوم : هذا يجوز أن تكون لأشياءَ معلومة أحدث فيها أشياءَ فكانت ، نحو

(فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) . واللّه أعلم.

* * *

١١٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللّه  تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨)

(لولا) معنى هلا ،  : هلا يكلمنا اللّه  تأْتينا آية ، فأعلم اللّه

عزَّ وجلَّ أن كفرهم في التعنُّتِ بطلب الآيات على اقتراحهم كقول الذين من

قبلهم لموسى : (أَرِنَا اللّه جَهْرَةً) ، وما أشبه هذا ، فأعلم اللّه أن كفرهم متشابه ، وأن قلوبهم قد تشابهت في الكفر .

وقوله عزَّ وجلَّ : (قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).

 فيه أن من أيقن وطلب الحق فقد آتته الآيات البينات ، نحو

المسلمين ومن لم يشاق من علماءِ إليهود ، لأنه لما أتاهم - صلى اللّه عليه وسلم - بالآيات التي يُعْجَزُ عنها من أنبائهم بما لا يُعلم إلا من وحي ، ونحو انشقاق القمر وآياته التي لا تحصى عليه السلام ، والقرآن الذي قيل لهم فأتوا بسورة من مثله فعجزوا عن ذلك.

ففِي هذا برهان شافٍ.

* * *

١١٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (١١٩)

نصب (بشيراً ونذيراً) على الحال ، ومعنى بشيراً ، أي مبشراً المؤمنين

بما لهم من الثواب ، وينذر المخالفين بما أعد لهم من العقاب.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ).

وتقرأ (ولا تَسْألُ) ، ورفع القراءتين جميعاً من جهتين ، إحداهما أن

يكون (ولا تسأل) - استئنافاً ، كأنَّه قيل ولست تسأل عن أصحاب الجحيم ، كما قال عزَّ وجلَّ : (فإِنما عَلَيْكَ البَلَاغُ وعَلَيْنَا الحِسَابُ) ويجوز أن يكون له

الرفع على الحال ، فيكون  : أرسلناك غير سائل عن أصحاب الجحيم.

ويجوز أيضاً " ولا تَسْألْ عن أصحاب الجحيم "

وقد قرئ به فيكون جزماً بلا.

وفيه قولان على ما توجبه اللغة : أن يكون أمَرَهُ اللّه بترك المسألة ، ويجوز

أن يكون النهي لفظاً ، ويكون  على تفخيم ما أعد لهم من العقاب.

كما يقول لك القائل الذي تَعْلَمُ أنت أنه يجب أن يكون من تسأل عنه في حال جميلة  حال قبيحة ، فتقول لا تسأل عن فلان أي قد صار إلى أكثر مما

تريد ، ويقال : سالته أسأله مسألة وسؤالاً ، والمصادر على فُعَال تقِلُّ في غير

الأصوات والأدْواءِ فأمَّا في الأصوات فنحو الدعاء والبكاء والصراخ

وأما في الأدواء فنحو : الزكام - والسعال وما أشبه ذلك.

وإِنما جاءَ في السؤال لأن السؤال لا يكون إلا بصوت.

* * *

١٢٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّه هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّه مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (١٢٠)

قد شرحنا معنى . إليهود والنصارى . و " ترضى " يقال في مصدره

رضي ، يرضى ، رضاً ومرضاة ، ورِضواناً ورُضواناً.

ويروي عن عاصم في كل ما في القرآن من (رضوان) الوجهان جميعاً ، فأمَّا ما يرويه عنه أبو عمرو (فَرِضوانٍ) بالكسر ، وما يرويه أبو بكر بن عياش : فَرُضْوان ، والمصادر تأتي على فِعْلان وفُعْلان ، فأمَّا فِعْلان ، فقولك عرفته عِرْفاناً ، وحسبته حسباناً.

وأما فُعلان كقولك : غُفرانك لا كفْرانك.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).

(تَتَّبِعَ) نصب بحتى ، والخليل وسيبويه وجميع من يوثق بعلمه يقولون إن

الناصب للفعل بعد حتى (أن) إلَّا أنها لا تظهر مع حتى ، ودليلهم أن حتى غير

ناصبة هو أن حتى بإجماع خافضة.

قال اللّه عزَّ وجلَّ : (سلام هي حتى مَطلَعِ الفجر)

فخفض مطلع بحتى ، ولا نعرف في العربية أن ما يعمل في

اسم يعمل في فعل ، ولا ما يكون خافضاً لاسم يكون ناصباً لفعل ، فقد بانَ أن حتى لا تكون ناصبة ، كما أنك إذا قلت : جاءَ زيد ليضربك فالمعنى جاءَ زيد لأن يضربك ، لأن اللام خافضة ، للاسم ، ولا تكون ناصبة - للفعل ، وكذلك ما كان زيد ليضربك ، اللام خافضة ، والناصب ليضربك أن المضمرة.

ولا يجوز إظهارها مع هذه اللام ، وإنما لم يجز لأنها جواب لما يكون مع الفعل وهو

حرف واحد يقول القائل : سيضربك ، وسوف يضربك ، فجعل الجواب في

النفي بحرف واحد كما كان في الإيجاب بشيءٍ واحد.

ونصب ملتهم بتتئع ، ومعنى ملتهم في اللغة سنتهم وطريقتهم ، ومن هذا

المَلة أي الموضع الذي يختبز فيه ، لأنها تؤَثر في مكانها كما يؤَثِّر في الطريق.

وكلام العرب إذا اتفق لفظه فأكثره مشتق بعضه من بعض ، وآخذ بعضه برقاب بعض . .

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ هُدَى اللّه هُوَ الْهُدَى).

أي الصراط الذي دعا إليه وهدى إليه هو الطريق أي طريق الحق.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ).

إِنما جمع ولم يقل هواهم ، لأن جميع الفرق ممن خالف النبي - صلى اللّه عليه وسلم - لم يكن ليرضيهم منه إلا أتباع هواهم . وجمع هوى على أهواءَ ، كما يقال جمل وأجمال ، وقتب وأقتاب.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (مَا لَكَ مِنَ اللّه مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ).

الخفض في (نصير) القراءَة المجمع عليها ، ولو قرئ ولا نصير بالرفع

كان جائزاً ، لأن معنى من ولي مالك من اللّه ولي ولا نصير.

ومعنى الآية أن الكفار كانوا يسألون النبي - صلى اللّه عليه وسلم - الهدنة وُيرُونَ إنَّه إِن هادنهم وأمهلهم أسلموا ، فأَعلم اللّه عزَّ وجلَّ أَنهم لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم ، فنهاه اللّه ووعظه في الركون إِلى شيءٍ مما يدعون إِليه ، ثم أعلمه اللّه عزَّ وجل - وسائِرَ الناس - أن من كان منهم غير متعنت ولا حاسد ولا طالب

لرياسة تلا التوراة كما أنزلت فذكر فيها أن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - حق فآمن به فقال تعالى :

* * *

١٢١

(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٢١)

يعني أن الذين تَلُوا التوراة على حقيقتها ، أُولَئِكَ يُؤمنون بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم -.

وفي هذا دليل أن غيرهم جاحد لما يعلم حقيقته ، لأن هؤُلاءِ كانوا من علماءِ

اليهود ، وكذلك من آمن من علماءِ النصارى ممن تلا كتبهم.

و (الذين) يرفع بالابتداءِ ، وخَبَر الابتداءِ (يتلونه) ، وإن شئت كان خبر الابتداءِ (يتلونه وأولئك) جميعاً ، فيكون للابتداءِ خبران كما تقول هذا حلو حامض).

* * *

١٢٢

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٢٢)

(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) نصب لأنه نداء مضاف ، وأصل النداءِ النصب ، ألا ترى.

أنك إذا قلت يا بني زيد ، فقال لك قائل : ما صنعت ؛ قلت ناديتُ بني زيد ، فمحال أن تخبره بغير ما صنعت ، وقد شرحناه قبل هذا شرحاً أبلغ من هذا ، وإسرائيل لا يتصرف ، وقد شرحنا شرحه في مكانه وما فيه من اللغات.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ).

موضع (أن) نصب كأنه قال اذكروا أني فضلتكم على العالمين.

والدليل من القرآن على أنهم فُضلَوا قول موسى - صلى اللّه عليه وسلم - (كما قال اللّه عزَّ وجلَّ :

(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (٢٠).

وتأويل تفضيلهم في هذه الآية ما أوتوا من الملك وأن فيهم أنبياءَ

وأنهم أُعطوا علم التوراة ، وأن أمر عيسى ومحمد - صلى اللّه عليهما وسلم - لم يكونوا يحتاجون فيه إلى آية غير ما سبق عندهم من العلم به ، فذكرهم اللّه عزَّ وجلَّ ما همْ عارفون ، ووعظهم فقال :

* * *

١٢٣

(وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣)

العدل الفدية ، وقيل لهم : (ولا تنفعها شفاعة) ، لأنهم كانوا يعتمدون على

أنهم أبناءُ أنبياءِ اللّه ، وأنهم يَشْفَعُون لهم ، فأيئسَهم اللّه عزَّ وجلَّ من ذلك.

وأعلمهم أن من لم يتبع محمداً - صلى اللّه عليه وسلم - فلَيْسَ يُنْجِيه منْ عذاب اللّه شيءٌ وهو كافر.

* * *

١٢٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤)

 اذكروا إِذ اابتلى إبراهيم ربه ، ومعنى (فاتمهن) وفَّى بما أمر به

فيهن ، وقد اختلفوا في الكلمات : فقال قوم تفسيرها أنه أمره بخمس خلال في الرأس ، وخمس خلال في البدَن ، فأمَّا اللاتِي في الرأس فالفرْق وقَص

الشَارِبِ والسواكُ ، والمضْمضَةُ ، والاستنشاق ، وأمَّا التي في البدن فالختان

وحلق العانة والاستنجاءُ وتقليم الأظافر ونتف الإبط.

فهذا مذهب قوم وعليه كثير من أهل التفسير.

وقال قوم : أن الذي ابتلاه به " ما أمره به من ذبح ولده.

وما كان من طرحه في النار ، وأمر النجوم التى جرى ذكرها في القرآن في قوله عزَّ وجلَّ : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا) وما جرى بعد الكواكب من ذكر القمر والشمس ، فهذا مذهب قوم .

وجميع هذه الخلال قد ابتلِيَ بها إبراهيم ، وقد وفَّى بما أُمِر به وأتى بما

يأتي به المؤْمن بل البر المصطفى المختار ، ومعنى ابتلى اختبر.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا).

الأم في اللغة القَصْدُ ، تقول : أممْتُ كذا وكذا ، إذا قصدته وكذلك

 (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) أي فاقصدوا.

والِإمام الذي يْؤتم به فيفعل أهلُه وأمته كما فعل ، أي يقصدون - لمَا يقصد.

(قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

فأَعلم اللّه إبراهيم أن في ذريته الظالم ، وقد قرئت (لا ينال عهدي الظالمُون) والمعنى في الرفع والنصب - واحد ، لأن النَّيْلَ مشتمل على العهد.

وعلى الظالمين إلا أنه منفي عنهم ، والقراءَة الجيّدة هي على نصب

الظالمين ؛ . لأن المصحف . هكذا فيه ، وتلك القراءَة جيدة (بالغة) إلا أني

لا أقرأ بها ، ولا ينبغي أن يُقْرأ بها لأنها خلاف المصحف ، ولأن  :

أن إبراهيم عليه السلام كأنَّه قال : واجعل الإمامة تنال ذريتي (واجعل) هذا

العهد ينال ذريتي ، قال اللّه : (لا ينال عهدي الظالمين).

فهو على هذا أقوى أيضاً.

* * *

١٢٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥)

(مثابة) يثوبون إِليه ، والمثاب والمثابة واحد ، وكذلك المقام والمقامة.

قال الشاعر :

وإنِّي لَقَوَّامٌ مَقَاوِمَ لم يكن . . . جريرٌ ولا مَوْلَى جريرٍ يقومُها

وواحد المقاوم مقام - وقال زهير :

وفيهم مقامات حسان وجوهها . . . وأنْديَة يَنْتَابُها القولُ والفعلُ

وواحد المقامات مقامة . والأصل في مثابة مَثْوَبَة . ولكن حركة الواو

نقلت إلى التاءِ ، وتبعت الواو الحركة فانقلبت ألفاً ، وهذا إِعلال إتباع ، تبع

مثابة باب " ثاب " وأصل ثاب ثَوَبَ ، ولكن الواو قلبت ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها لا اختلاف بين النحويين في ذلك.

وهذا الباب فيه صعوبة إلا أن كتابنا هذا يتضمن شرح الِإعراب

والمعاني فلا بد من استقصائها على حسب ما يعلم.

ومعنى  (وَأَمْنًا) : (قيل) كان من جنى جناية ثم دخل الحرم لم يقم عليه الحد ، ولكن لا يبايع ولا يكلم حتى يضطر إِلى الخروج منه ، فيقام عليه الحد.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)).

قرئت " واتخذوا " بالفتح والكسر : وَاتَخَذُوا ، واتَّخِذوا روى أن عمر بن

الخطاب قال للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - وقد وقفا على مقام إبراهيم : أليس هذا مقامَ خليل ربنا ؟ . " وقال بعضهم مقامَ أبينا " ، أفَلا نتخذه مصلى ؛ فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) فكان الأمر . والقراءَة (واتخذوا)

بالكسر على هذا الخبر أبين . ولكن ليس يمتنع " واتخَذُوا " لأن الناس

اتخذوا هذا ، فقال : (وإِذ جعلنا البيت مثابة) (واتخذوا) فعطف بجملة

على جملة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

معنى (طَهِّراه امنعاه من تعليق الأصنام عليه ، والطائفون هم الذين يطوفون

بالبيت ، والعاكفون المقيمون به ، ويقال قد عَكَف يعكُف وَيعْكِف على الشيءِ عُكُوفاً أي أقام عليه ، ومن هذا قول الناس : فلان معتكف على الحَرام ، أي مقيم عليه.

(والرُّكعِ السَجود) سائر من يُصلي فيه من المسلمين.

و (بيْتِيَ) : الأجود فيه فتح الياءِ ، وإن شئت سكَّنتها ، والرُّكًع جمع راكع ، مثل غاز وغُزًى ، والسجود جمع ساجد ، كقولك : ساجد وسجود ، وشاهد وشهود.

* * *

١٢٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦)

 واذكروا إِذ قال إبراهيم . وأمنا : ذا أمن.

وقوله عزَّ وجل : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ . . .)

(مَن) نَصْبٌ بدلٌ من أَهله ،  أرزق من آمن من أهله دون غيرهم.

لأن اللّه تعالى قد أعلمه أن في ذريته غيرَ مؤمن ، ل عزَّ وجلّ ؛

(لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ).

أكثر القراءَة على فأمتِّعُه (قليلًا) ثم أضطَره ، على الإِخبار ، وقد

قرئَ أيضاً - فَأمْتِعْه ، ثم اضْطَرَّه ، على الدعاءِ ، ولفظ الدعاءِ كلفظ الأمر

مجزوم ، إِلا أنه استعظم أن يقال "أمر" فَمسْألتك مَنْ فوقَك نَحْو أعطني ، وأغفر لي دعاءُ ومسْألة ، ومسألتُك من دُونَك أمْرُ كقولك لغلامك افعل كذا وكذا.

والراءُ مفتوحة في قوله ثم " اضطرَّه " لسكونها وسكون الراءِ التي قبلها الأصل ثم اضطَرِرْه ، ويجوز ثم أضطره ولا أعلم أحداً قرأ بها.

* * *

١٢٧

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧)

القواعد واحدتها قاعدة وهي كالأساس والأس للبنيان ، إلا أن كل قاعدة

فهي للتي فوقها ، وإِسماعيلُ عطف على إِبراهيم.

و (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا)  يقولان (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) ، ومثله في كتاب اللّه :

(وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) ومثله : (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ).

(أي يقولون سلام عليكم).

* * *

١٢٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨)

تفسير المسلم في اللغة الذي قد استسلم لأمر اللّه كله " وخضع له ، فالمسلم

المحققُ هو الذي أظهر القبول لأمر اللّه كله وأضمر مثل ذلك ، وكذلك  (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) . .

 : قولوا جميعاً خضعنا وأظهرنا الإسلام . وباطنهم غير ظاهِرهم

لأن هُؤلاءِ . منافقون فأظهر اللّه عزَّ وجلَّ النبي على أسْرارِهم ، فالمسلم على

ضَرْبين مظهِرٌ القبولَ ومبطن مثلَ ما يُظْهِر ، فهذا يقال له مؤمن ، ومسلم إنما

يظهر غير ما يبطن فهذا غير مؤمن ، لأن التصديق والِإيمان هو بالإِظهار مع

القبول ، ألا ترى أنهم إنما قيل لهم (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ، أي

أظهرتم الإيمان خشية.

وقوله " عزَّ وجلَّ : (وأرِنَا منَاسِكَنَا).

معناه عَزِفْنَا متعبداتنا ، وكل متعبَّد فهو مَنْسَك ومَنْسِكِ ، ومن هذا قيل

للعابد ناسك ، وقيل للذبيحة المتقرب بها إلى اللّه تعالى النسيكة ، كأنَّ

الأصل في النسك إنما هو من الذبيحة للّه جلَّ وعزَّ.

وتقرأ أيضاً (وأرنا) على ضربين : بكسر الراءِ وبإسكانها والأجود الكسر.

وإنما أسكن أبو عمرو لأنه جعله بمنزلة فَخِذ وعَضُد وهذا ليس بمنزلة فخذ ولا

عضد ، لأن الأصل في هذا " أرْئِنَا " فالكسرة إنما هي كسرة همزة ألقيت.

وطُرحت حركتها على الراء فالكسرة دليل الهمزة ، فحذفها قبيح ، وهو جائز على بعده لأن الكسر والضم إنما يحذف على جهة الاستثقال.

فاللفظ بكسرة الهمزة والكسرة التي في بناءِ الكلمة واللفظ به واحد ، ولكن الاختيار ما وصفنا أولاً.

* * *

١٣٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإنَهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠)

معنى (مَنْ) التقرير والتوبيخ ، ولفظها لفظ الاستفهام وموضعها رفع

بالابتداءِ ، والمعنى ما يرغب عن ملة إبراهيم إلا مَنْ سَفه نَفْسَه ، والملَّةُ قد

بيناها وهي السُّنَّة والمذهب ، وقد أكْثَر النحويونَ واختلفوا في تفسير (سفه نفسه) ، وكذلك أهل اللغة ، فقال الأخفش : أهل التأويل يزعمون أن

(سَفَه نفسه) ، وقال يونس النحوي : أراها لغة ، . وذهب يونس إلى أن فَعِل

للمبالغة ، - كما أن فعُل للمبالغة فذهب في هذا مذهب التأْويل ، ويجوز على

هذا القول سَفِهْتُ زيداً بمعنى سَفهْتَ زيداً ، وقال أبو عبيدة معناه أهلك نفسه ، وأوْبَق نفسه ، فهذا غير خارج من مذهب أهل التأويل ومذهبِ يونس.

وقال بعض النحويين : إِن نفسه منصوب على التفسير ، وقال التفسير في النكرات أكثر نحو طاب زيدٌ بأمره نفسا ، وقَر بِه عيْناً وزعم أن هذه المُفَسِّرات المعارف أصل الفعل لها ثم نقل إِلى الفاعل نحو وجِعَ زيدٌ رأسَه ، وزعم أن أصل الفعل للرأس وما أشبهه ، وأنه لا يجيز تقديم شيءٍ من هذه المنصوبات وجعل (سفه نفسه) من هذا الباب.

قال أبو إسحاق : وعندي أن معنى التمييز لا يحتمل التعريف لأن التمييز

إِنما هو واحد يدل على جنسٍ  خلة تخلص من خلال فإذا عرفه صار مقصوداً قصده ، وهذا لم يقله أحد ممن تقدم من النحويين.

وقال أبو إِسحاق : إِن (سفه نفسه) بمعنى سفُه في نَفْسه إِلا أن " في " حُذِفَتْ ، كما حذفت حروف الجر في غير موضع.

قال اللّه عزَّ وجلَّ : (ولا جناح عليكم أنْ تسترضعوا أولادكم).

والمعنى أن تسترضعوا لأولادكم ، فَحُذِفَ حرف الجرّ في غير

ظرف ، ومثله قوله عزَّ وجلَّ : (ولا تعزموا عقدة النكاح)

أي على عقدة النكاح

ومثله قول الشاعر :

نُغالي اللحمَ للأضيافِ نَيْئاً . . . ونَرْخُصُهُ إذا نَضِجَ القدورُ

 : نغالي باللحم ، ومثله قول العرب : ضرب فلان الظهر والبطن

والمعنى : على الظهر والبطن . فهذا الذي استعمل من حذف حرف الجر

موجود في كتاب اللّه ، وفي إشعار العرب وألفاظها المنثورة ، وهو عندي

مذهب صالح.

والقول الجَيِّد عندي في هذا أن سفه في موضع جهل ، فالمعنى :

- واللّه أعلم - إلا من جهل نفسه ، أي لم يفكر فى نفسه.

كقوله عزَّ وجلَّ : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) ، فوضع جهِل.

وعدى كما عدى.

فهذا جميع ما قال الناس في هذا ، وما حضرنا من القول فيه.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا).

معناه اخترناه ولفظه مشتق من الصفوة.

(وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).

فَالصالحُ في الآخرة الفائز.

* * *

١٣١

و (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٣١)

معناه اصطفاه إِذ قال له ربه أسلم : أي في

ذلك الوقت (قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).

* * *

١٣٢

و (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّه اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)

 (بِهَا) هذه الهاءُ ترجعِ على الملة ، لأن إِسلامه هو إِظهار طريقته

وسنته ويدل على  (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ)  (إِنَّ اللّه اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ).

وإنما كسرت " إنَّ) لأن معنى وصي وأوصى : قَوْل :

قال لهم إِن اللّه اصطفى لكم الدين ، ووصى أبلغ من أوصى ، لأن أوصى

جائز أن يكون قال لهم مرة واحدة ، ووصَّى لا يكون إلا لمرات كثيرة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

إن قال قائل كيف ينهاهم عن الموت ، وهم إنما يمَاتُون ، فإنما وقع

هذا جملى سعة الكلام ، وما تكثر استعماله " العرب " نحو قولهم : " لا أريَنك

ههنا " ، فلفظ النهي إِنما هو للمتَكَلِّم ، وهو في الحقيقة للمُكَلَّمِ.

 : لا تكونن ههنا فإن من كان ههنا - رأيته - والمعنى في الآية : ألزموا الإسلام ، فإذا أدرككم الموتُ صادَفكم مُسْلمين.

* * *

١٣٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣)

ْالمعنى : بل أكنتم شهداءَ إذ حضر يعقوب الموت ، إذْ قَالَ لِبَنِيهِ "

فقولك : (إذ) الثانية ، موضعها نصب كموضع الأولى ، وهذا بَدَل مؤَكد.

و (قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ).

القراءَة على الجمع ، وقال بعضهم : (وإله أبيك) كأنه كره أن يجعل

العم أباه ، وجعل إِبراهيم بدلاً من أبيك مبيناً عنه ، وبخفض إسماعيل

وإسحاق ، كان  إِلهك وإله أبيك وإله إسماعيل ، كما تقول : رأيت غلام

زيد وعمرو أي غلامهما ، ومن قال : (وَإِلَهَ آبَائِكَ) فجمع وهو المجتمع عليه ، جعل إبراهيم وإسماعيل وإِسحاق بدلًا ، وكان موضعهم خفضاً على البدل

المبين عن آبائك.

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِلَهًا وَاحِدًا).

منصوب على ضربين : إن شئت على الحال ، كأنهم قالوا نعبد : إلهك

في حال وحدانيته ، وإِن شئت على البدل.

وتكون الفائدة من هذا البدل ذكر التوحيد ، فيكون  نعبد إِلهاً واحداً .

١٣٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤)

معنى (خَلَتْ) مضت ، كما تقول لثلاث خلون من الشهر أي مضين.

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

 : إنما تسألون عن أعمالكم.

* * *

١٣٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا  نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥)

 : قالت إليهود : كونوا هوداً ، وقالت النصارى : كونوا نصارى.

وجزم تهتدوا على الجواب للأمر ، وإنما معنى الشرط قائم في الكلمة.

 إن تكونوا على هذه الملة تهتدوا ، فجزم تهتدوا على الحقيقة جواب

الجزاءِ.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (بَلْ مِلةَ إبرَاهِيمَ حَنِيفاً).

تنصب الملة على تقدير بل نتبعُ ملة إِبراهيم ويجوز أن تنصب على

معنى : بل نكون أهل ملة إِبراهيم ، وتحذف " الأهل " كما قال اللّه عزَّ وجلَّ : (واسْألِ الْقَرْيَةَ الًتِي كُنَّا فِيهَا) لأن القرية لا تُسْأل ولا تجيب.

ويجوز الرفع (بل ملةُ إِبراهيم حنيفاً).

والأجود والأكثر : النصب . ومجاز الرفع على معنى : قل ملتُنا ودينُنُا ملة إبراهيم ، ونصب (حنيفاً) على الحال.

 : بل نتبع ملة إِبراهيم في حال حنيفَتِه ، ومعنى الحنيفة في اللغة الميل.

فالمعنى : أن إبراهيم حنيف إِلى دين اللّه ، دين الِإسلام.

كما قال عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه الْإِسْلَامُ) فلم يبعث نبي إِلا به.

وإن اختلفت شرائعهم ، فالعقد توحيد اللّه عزَّ وجلَّ والإيمان برسله وِإن اختلفت الشرائع ،

إلا أنَّه لا يجوز أن تُتركَ شريعة نبي ،  يعمل بشريعة نبي قبله تخالف شريعة

نبي الأمة التي يكون فيها.

وإِنما أخذ الحنفُ من قولهم : - امراة حَنْفَاءُ ورجل أحْنَف ، وهو الذي

تميل قدماه كل واحدة منهما بأصابعها إِلى أختها بأصابعها ، قالت أم الأحنف

بن قيس وكانت ترقصه ، وخرج سيدَ بَنِي تميم : -

واللّه لولا حَنَف في رجله . . . ودقة في ساقه من هُزْلِه

ما كان في فِتْيانِكم منْ مِثْله

* * *

١٣٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (قُولُوا آمَنَّا بِاللّه وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦)

(لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ)

 : لا نكفر ببعض ونؤمن ببعض.

* * *

١٣٧

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّه وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧)

فإِن قال قائل : فهل للإيمان مِثْلٌ هو غير الِإيمان ؟

قيل له :  واضح بين ، وتأويله : فإِن أتَوْا بتصديق مثل تصديقكم وإِيمانكم - بالأنبياءِ ، ووحَّدوا كتوحيدكم - فقد اهتدوا ، أي فقد صاروا مسلمين مثلكم.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) أي في مشاقة وعداوة ومن هذا قول

الناس : فلان قد شق عصا المسلمين ، إِنما هو قد فارق ما اجتمعوا عليه من

اتباع إِمامهم ، وإِنما صار في شق - غير شق المسلمين.

وقوله جمزّ وجلَّ : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّه).

هذا ضمان من اللّه عزَّ وجلَّ في النصر لنبيه - صلى اللّه عليه وسلم - لأنه إِنما يكفيه إِياهم

بإظهار ما بعثه به على كل دين سواه - وهذا ك (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) فهذا تأويله - واللّه أعلم.

وكذا  (كَتَبَ اللّه لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي).

فإن قال قائل فإن من المرْسَل مَنْ قُتِل.

فإن تأويل ذلك - واللّه أعلم - أن اللّه غالب هو ورسله بالحجة الواضحة ، والآية البينة ، ويجوز أن تكون غلبةَ الآخرة لأن الأمر هو على ما يستقر عليه في العاقبة.

وقد قيل : إِن اللّه لم يأمر رسولاً بحرب فاتبع ما أمره اللّه به في حربه إِلا غَلَب . فعلى هذا التأويل يجوز أن يكون لم يقتل رسول قط محارباً.

* * *

١٣٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (صِبْغَةَ اللّه وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّه صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (١٣٨)

يجوز أن تكون (صبغة) منصوبة على  (بل نتبع ملة إبراهيم) أي

بل نتبع صبغة اللّه.

ويجوز أن يكون نصبها على ، بل نكون أهل صبغة اللّه.

كما قلنا في ملة إبراهيم ، ويجوز أن ترفع الصبغة على إضمار هي ، كأنهم

قالوا : هي صبغة اللّه أي هي ملة إِبراهيم صبغة اللّه.

وقيل : إِنما ذكرت الصبغة لأنَّ قوماً من النصارى كانوا يصبغون أولادهم في ماءٍ لهم ، ويقولون هذا تطهير كَمَا أن الختان تطهير لكم : فقيل لهم - : (صِبْغَةَ اللّه وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّه صِبْغَةً) ، أي التطهير الذي أمر به مبالِغٌ في النظافة.

ويجوز أن يكون - واللّه أعلم - صبغة اللّه أي خلقة اللّه - جلَّ وعزَّ -

الخلق ، فيكون "  : . أن اللّه ابتدأ الخلق - على الِإسلام ، ويكون دليل هذا القول قول اللّه عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى).

وجاءَ في الحديث : أنهم

أخرجهم كالذر ، ودليل هذا التأويل أيضاً قوله عزَّ وجلَّ : (فِطْرَتَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَ) ويجوز أن يكون منه " الخبر :

" كل مولودٍ يُولَد على الفطرة حتى يكون أبواه

هما اللذان يهودانه  ينصرانه "

وصبغت الثوب إِنما هو غيرت لونه وخلقته.

* * *

١٣٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللّه وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩)

في (أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللّه) لغات فأجودها : (أتحاجوننا) بنونين وإن شئت

بنون واحدة - " أتُحَاجُونَّا " على إدغام الأولى في الثانية وهذا وجه جيد ، ومنهم من إِذا أدغم أشار إِلى الفتح كما قراوا : (مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ) على الإدغام والِإشارة إِلى الضم ، وإِن شئت حذفت إِحدى النونين فقلت

(أتحاجونَا) فحذف لاجتماع النونين قال الشاعر :

تراه كالثغام يُعَلُّ مسكا . . . يسوءِ الغانِيات إِذَا فَليني

يريد فَلَيْنَنَي ، ورأيت مذهب المازني وغيره ردُّ هذه القراءَةَ ، وكذلك

ردُّوا (فبم تبشرونِ) - قال أبو إِسحاق " والأقدام على رد هذه القراءَة غلط

لأن نَافِعاً رحمه اللّه قرأ بها ، وأخبرني إِسماعيل بن إسحاق أنَّ نافعاً رحمه اللّه

لم يقرأ بحرف إلا وأقل . ما قرأ به إثنان من قراءِ المدينة ، ولَه وجْه في العربية

فلا ينبغي أن يرد ، ولكن " الفتح " في قوله (فبم تبشرونَ) أقوى في العربية.

ومعنى  (قلْ أتُحاجُّونَنَا فِي اللّه) أن اللّه عزَّ وجلَّ أمر المسلمين أن

يقولوا لليهود الذين ظاهروا من لا يوحد اللّه عزَّ وجلَّ مِن النًصارى وعبدةِ

الأوْثَانِ ، فأمر اللّه أن يحتج عليهم بأنكم تزعمون أنكم موحدون ، ونحن نوحّد فلم ظَاهرْتُمْ مِن لا يوحِّدُ اللّه جلَّ وعزَّّ

(وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ).

ثم أعلموهم أنهم مخلصون ، وإخلاصهم إِيمانهم بأن اللّه عزَّ وجلّ

واحد ، وتصديقهم جميع رسله ، فاعلموا أنهم مخلصون ، دون من خالفهم.

* * *

١٤٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا  نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّه وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّه وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠)

كَأنَّهُمْ قَالُوا لَهُم : بأيِّ الحُجتَين تَتَعَلَّقُون في أمْرِنَا ؟

أبالتوحِيد فنحن موحدون ، أم باتباع دين الأنبياءِ فنحن متبعون.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّه).

تأويله : أن النبى الذي أتانا ب (الآيات) المعجزات وأتاكم بها -

أعلمكم ، وأعلمنا أن الإِسلام دين هُؤلاءِ الأنبياءِ.

والأسباط هم " " الذين من ذرية الأنبياءِ ، والأسباط اثنا عشر سِبْطاً وهم ولد

يعقوب عليه السلام ، ومعنى السبط في اللغة : الجماعة الذين يرجعون إلى

أب واحد ، والسبط في اللغة الشجرة ، فالسبط ، الذين هم من شجرة واحدة .

و (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّه).

يعني بهم هُؤلاءِ الذين هم علماء إليهود ، لأنهم قد علموا أن رسالة

النبي حق ، وإِنما كفروا حسداً - كما قال اللّه عزَّ وجلَّ - وطلبا لدوام رياستهم وكسبهم ، لأنهم كانوا - يتكسبون بإِقامتهم على دينهم فقيل

وَمَنْ أظَلَمُ مِمَن كَتَمُ أمرَ النّبيِّ - صلى اللّه عليه وسلم - ولا أحدَ أظْلَم مِنْه و (وَمَا اللّه بغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُوْنَ).

يعني : من كتمانكم ماعلمتمه من صحة أمرالنبي - صلى اللّه عليه وسلم -.

* * *

١٤١

و (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)

 : لها ثواب ما كسبت ، ولكم ثواب ما كسبتم.

* * *

١٤٢

وقوله عزَّ وجلَّ : (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ للّه الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢)

فيه قولان ، قيل يعني به :

كفار أهل مكة ، وقيل يعني به : إليهود والسفهاءَ واحدهم سفيه ، - مثل شهيد وشهداءُ ، وعليم وعلماءُ.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا)

معنى ؛ (مَا وَلَّاهُمْ) : ما عدلهم عنها يعني قبلة بيت المقدس.

لأن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - كان أُمِرَ بالصلاة إِلى بيت المقدس ، لأن مكة وبيت اللّه الحرام كانت العرب آلِفةً

لِحجّهِ ، فأحبَّ اللّه - عزَّ وجلَّ - أن يمتحن القوم بغير ما ألفوه ليظهر من يتبع

الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - ممن لا يتبعه ، كما قال اللّه عزَّ وجلَّ : (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)

فامتحن اللّه ببيت المقدس فيما روى لهذه العلة ، واللّه أعلم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ للّه الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).

معناه حيث أمر اللّه أن يُصَلَّى وُيتَعَبَّدُ ، فهو له ، وعالم به ، وهو فيه كما

قال : (وَهُوَ اللّه فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (٣)

وكما قال : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ).

وكما قال : (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ).

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)

معناهّ : طريق مستقيم كما يحبُّ اللّه.

* * *

١٤٣

و (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّه وَمَا كَانَ اللّه لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّه بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٤٣)

معنى الأمة : الجماعة أي جماعة كانت إلا أن هذه الجماعة وصفت

بأنها وسط.

وفي (أُمَّةً وَسَطًا) قولان ، قال بعضهم وسطا : عدلًا ، وقال بعضهم :

أخياراً ، واللفظان مختلفان والمعنى واحد ، لأن العدل خير والخير عدل.

وقيل في صفة النبي - صلى اللّه عليه وسلم - : إنه من أوسط قومه جِنْساً ، أي من خيارها ، والعرب تصف الفَاضِل النسب بأنه : من أوسط قومه ، وهذا يعرف حقيقته أهل اللغة لأن العرب تستعمل التمثيل كثيراً "

فتمثل القبيلة بالوادي والقاع وما أشبهه فخير

الوادي وسطه فيقال : هذا من وسط قومه ، ومن وسط الوادي ، وسَررِ الوادي وسِرَارة الوادي وسر الوادي ، ومعناه كله : من خير مكان فيه ، فكذلك النبي - صلى اللّه عليه وسلم -

من خير مكان في نسب العرب

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) أي خياراً

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)

(تَكُونُوا) في موضعْ نصب.

 جعلناكم خياراً لأن شهداءَ ، فنصب " تكونوا " " بأن.

و (شهداءَ) نصب خبر تكونوا ، إِلا أن (شهداءَ)

لا ينون ، لأنه لا يَنصرِف لأن فيه ألفَ التأنيث ، وألف التأنيث يبنى معها

الاسم ولم يلحق بعد الفراغ من الاسم فلذَلك لمْ تَنصَرِفْ (شهداءَ).

فإن قال قائل : فلم جعل الجمع بألف التأنيث قيل : كما جعل التأنيث في نحو

قولك جَريب وأجْربة ، وغراب وأغربة وضارب وضَرَبَة ، وكَاتِب وكَتبَة.

وتأويل (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى الناسِ) فيه قولان : جاءَ في التفسير أن أممَ

الأنبياءِ تكذب في الآخرة إذا سُئِلت عمن أرسل إليها فتجْحَدُ أنبياءَها ، هذا

فَيمنَ جحد في الدنيا منهم فتشهد هذه الأمة بصدق الأنبياءِ ، وتشهد عليهم

بتكذيبهم ، ويشهد النبي - صلى اللّه عليه وسلم - لهذه الأمة بصدقهم وإنَّما جازت هذه الشهادة ، وإن لم يكونوا ليعاينوا تلك الأمم لأخبار النبي - صلى اللّه عليه وسلم - فهذا قول.

وقال قوم (لِتَكونُوا شهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي محتجين على سائر من خالفكم ، ويكون الرسول محتجاً عليكم ومبيناً لكم.

والقول

الأول : أشبه بالتفسير وأشبه ب (وَسَطاً)

لأن النبيَّ - صلى اللّه عليه وسلم - يحتج عَلَى المسلمين وغيرهم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّه).

يعني قِبْلَة بيتِ المقدِس ، أي وإن كان اتباعها لكبيرة.

 إنه كبير على غير المخلصين ، فأما من أخلص فليست بكبيرة عليه ، كما قال : (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّه) أي فليست بكبيرة عليهم.

وهذه اللام دخلت على " إِنْ " لأن اللام

إِذا لم تدخل مع إِنْ الخفيفة كان الكلام جُحْداً فلولا " اللام " كان

" ما كانت كبيرة " فإِذا جاءَت إِن واللام فمعناه التوكيد للقصة ، واللام تدخل في

الخبر ، ونحن نشرح دخولها على " الخفيفة " في موضعها إن شاءَ اللّه.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا كَانَ اللّه لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ).

هذه اللام أهي ، التي يُسميها النحويون لام الجحود ، وهي تنصب الفعل المستأنف.

وقد أحكمنا شرحها قبل هذا الموضوع.

ومعنى : (وَمَا كَانَ اللّه لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) : أي من كان صَلَّى إلَى بيْتِ

المقدس قبل أن تُحوّل القبلة إِلى البيت الحرام بمكة فصلاتُه غير ضائعة وثوابه

قائم ، وقيل : إِنَّه كان قوم قالوا : فما نَصنع بصَلاتِنَا التي كنا صليناها إلى بيت المقدس ، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ : (ومَا كَانَ اللّه ليُضِيعَ إيَمَانَكُمْ)

أي تصديقكم بأمر تلك القبلة.

وقيل أيضاً : إِنَّ جماعة . من أصحاب النبي - صلى اللّه عليه وسلم - تُوفُّوا وهم يصلون إِلى بيت المقدس قبل نقل القبلة إلى بيت اللّه الحرام ، فسئل النبي - صلى اللّه عليه وسلم - عن صلاتهم فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ :

(وَمَا كَانَ اللّه لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّه بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)

إِن شئت قلت لرؤوف ، وإِن شئت لرووف رحيم.

فهمزت وخففت ومعنى الرأفة كمعنى الرحمة.

* * *

١٤٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤)

 : في النظر إلى السماءِ ، وقيل : تقلب عينك ، والمعنى واحد

لأن التقلب إنما كان لأن - النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أمر بترك الصلاة إِلى بيت المقدس فكان ينتظر أن ينزل عليه الوحي إلى أي قبلة يُصَلِّي ، وتقلب مَصْدر تَقَلَّبَ تقلُّباً ، ويجوز في الكلام تِقْلَاباً ، ولا يجوز في القرآن لأنه تغيير للمصْحفَ.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) :

قد كان النبي - صلى اللّه عليه وسلم - بالمدينة حين أمر بأن ينتقل عن الصلاة إِلى بيت المقدس ، فأمر بأن يصلي إِلى بيت اللّه الحرام ، وقيل في  (ترضاها) قولان قال قوم معناه تحبها ، لا أنَّ النبي - صلى اللّه عليه وسلم - لم يكن راضياً بتلك القبلة ، لأن كل ما أمر اللّه الأنبياءَ " عليهم السلام " به فهي - راضية به - وإِنما أحبها النبي - صلى اللّه عليه وسلم - لأنها كانت - فيما يروى - قبلة الأنبياءِ ، وقيل لأنها كانت عنده ادعى

لقومه إِلى الِإيمان.

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَولِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ)

أي المسجد الحرام ، فأمر أن يستقبل - وهو بالمدينة - مكة ، والبيت الحرام ، وأمر أن يستقبل البيت حيث كان الناس ، ومعنى الشطر : النحو.

وشطر منصوب على الظرف.

قال الشاعر :

إِنّ العَسِيرَ بها داءٌ يخامرها . . . فَشَطْرَها نظر العينين محسور

أي فنحوَها ، ولا اختلاف بين أهل اللغة أن الشطر النحو ، وقول الناس

فلان شاطر ، معناه " قد أخذ في نحو غير الاستواءِ ، فلذلك قيل شاطر لعدوله

عن الاستواءِ ، يقال قد شطر الرجل يشطُر شِطَارة وشَطَارة ، ويقال : هؤلاءِ قوم مشاطرونا أي دورهم تتصل بدورنا - ، كما تقوِل هؤلاءِ يناحوننا أي نحن نحوهم ، وهم نحونا ، فلذلك هم شاطرونا.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)

إِن قال قائل ما معنى : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)واللّه عزَّ وجلَّ - قد علم ما يكون قبل كونه ؟

فالجواب في ذلك أن اللّه يعلم من يتبع الرسول مِمن لا يتبعه من قبل وقوعه وذلك العلم لا تجب به مجازاة في ثواب ولا عقاب ولكن  ليعلم ذلك منهم شهادة فيقع عليهم بذلك العلم اسمُ مطيعين واسمُ عاصين ، فيجب ثوابهم على قدر عملهم.

ويكون معلومُ مَا في حال وقوع الفعل منهم علم شهادة - كما قال عزَّ وجلَّ : (عَالمُ الغَيْبِ والشَهَادَةِ) فعلمه به قبل وقوعه علم غيب ، وعلمه به في

حال وقوعه شهادة ، وكل ما علمه اللّه شهادة فقد كان معلوماً عنده غيباً ، لأنه يعلمه قبل كونه ، وهذا يبين كل ما في القرآن مثله نحو قوله تعالى :

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (٣١).

* * *

١٤٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥)

زعم بعض . النحويين ، أن " لَئِنْ " أجِيب بجواب " لوْ " لأن الماضي وَليها

كما وَليَ " لو " فأجيب بجواب " لو " ودخلت كل واحدة منها على أختها

قال اللّه عزَّ وجلَّ : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١).

فجرت مجرى : " وَلَوْ أرْسَلْنَا رِيحاً " وكذلك قال الأخفش بهذا

القول ، قال سيبويه وجميع أصحابه : إن معنى (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ).

ليظَلُّنَّ ومعنى (لَئِنْ) غير معنى " لو " في قول الجماعة ، وإِن كان هؤُلاءِ قالوا

إِنَّ الجواب متفِق فإِنهم لا يدْفعون أن معنى (لئن) مايستقبل ومعنى " لو " ماض

وحقيقة معنى " لو " أنها يمتنع بها الشيء لِامتناع غيره ، تقول لو أتيْتني

لأكْرمتُك ، أي لم تأتني فلمْ أكرمكَ ، فإِنما امتنع إكرامي لامتناع إِتيانك.

ومعنى " إِنْ " و (لئِنْ) أنه يقع الشيء فيهما ، لوقوع غيره في المستقبل

تقول إِنْ تأتِنِي اكْرِمْكَ ، فالإكرام يقع بوقوع الِإتيان فهذه حقيقة معناهما.

فأما التأويل فإنّ أهل الكتاب قد علموا أن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - حق وأن صفته ونبوته في كتابهم ، وهم يحققون العلم بذلك فلا تغني الآيات عند من يجد ما يعرف.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ).

لأن أهل الكتاب تظاهروا على النبي - صلى اللّه عليه وسلم - واليهودُ لا تتبع قبلة النصارى ، ولا النَصارى تتبع قبلة إليهود ، وهم مع ذلك في التظاهر على النبي متفقون.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ)).

أي أنك لمنهم أن اتبعتَ أهواءَهم . وهذا الخطاب للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - ولسائر أُمَّتِه ، لأن ما خوطب به (مِنْ هذَا الجنس) فقد خوطب به الأمة والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ)

أول الخطاب للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - وليس معه لفظ الأمة ، وآخره دليل أن الخطاب عام .

١٤٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦)

يعني به علماءُ إليهود . و (الذين) رفع بالابتداءِ ، وخبر (الذين) - (يَعْرفونَه) ، وفي (يَعْرفونَه) قولان : قال بعضهم : يعرفون أن أمر القبلة وتحول النبي - صلى اللّه عليه وسلم - من قِبلِ بيتِ المقدس إِلى البيت الحرام حق.

كما يعرفون أبناءَهم.

وقيل معنى (يَعْرفونَه) يعرفون النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وصِحة أمره.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)

أي يعلمون (أنَّهُ الحقُّ) ، أي يكتمون صِفَتَهُ ، ومن لا يعلم أمر النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وما جاءَ به

(وهم يعلمون) أنَّهُ الحقُّ.

* * *

١٤٧

وقوله عزَّ وجلَّ : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)

أَي من الشاكين والخطاب أيضاً عام أي فلا تكونوا من

الشاكين.

* * *

١٤٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللّه جَمِيعًا إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨)

يقال هذه جِهةٌ ووَجْهةٌ ، ووِجْهَةٌ ، وكذلك يقال ضَعَة وَوَضْعَةٌ ، وَضِعةَ.

وقيل في  (هُوَموليًهَا) قَوْلَان : قال بعض أهل اللغة - وهو أكثر القول - " هو " لِكُل :  هو موليها وجهه ، أي وكل أهل وجهة هم الذين ولوا وجوههم إِلى تلك الجهة - وقد قرئ أيضاً - هو مُوَلَّاها . وهو حسن. وقال قوم : أي اللّه - على ما يزعمون - يولي أهل كل ملة القبلة التي يريد ، وكلا القولين جائز ، واللّه أعلم.

وقوله عزَّ وجلَّ : (فاسْتَبِقُوا الخَيراتِ).

أي فبادروا إلى القبول من - اللّه عزَّ وجلَّ ، ووَلُّوا وجوهكم حيث أمركم أن

تولوا.

وقَوله عزَّ وجلَّ : (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللّه جَمِيعًا).

أي يرجعكم إِليه.

(إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فَتُوفَوْنَ مَا عَمِلتُمْ

وأينما تَجزم ما بعدها . لأنها إِذا وصلت ب " ما " جزمت ما بعدها

وكان الكلام شرطاً.

وكان الجواب جزماً كالشرط.

وإِن كانت استفهاماً نحو أين زيد فإِن أجبته -

أجبت بالجزم ، تقول أين بيتك أزُرْك.

 إِنْ أعرف بَيتَك أزرْكَ.

وزعمَ بعض النحويين أن  (هّلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) جوابه (يَغْفِرْ لَكُمْ)

وهذا خطأٌ لأنه ليست بالدلالة تَجب المغفرة إِنما تجب المغفرة

بقبولهم ما يُؤَدي إِليهم النبي - صلى اللّه عليه وسلم -.

ولكن (يغفر لكم ذنوبكم) جواب (تؤمنونَ باللّه ورسوله وتجاهدون).

فإِنه أَمرٌ في لفظ خبر.

 : آمنوا باللّه ورسوله وجاهدوا يغْفِرْ لكُمْ.

* * *

١٥٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠)

(لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ)

أي قد عرفكم اللّه أمر الاحتجاج في القبلة مما قد بيَّنَّاه لئلا يَكون

للناس على اللّه حجة في  (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) أي هو موليها

لئلا يكون.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلمُوا مِنْهُم فلا تَخْشَوْهُمْ).

قال بعضهم لكن الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم ، والقول عندي أن

 في هذا واضح : ( لئلا يكون للناس عليكم حجة ، إِلا من ظلم

باحتجاجه فيما قد وضح له ، كما تقول : ما لك على مِنْ حُجة إِلا الظلمَ ، أي إلا أن تظلمني ،  ما لك عليَّ من حجة ألبتَّة ، ولكنك تظلمني ، وما لك على حجة إِلا ظلمي . وإِنما سُميّ ظلمة هنا حجة لأن المحتج به سماه

حجة - وحجَّتُه دَاحِضَةٌ عِنْدَ اللّه ، -

قال اللّه عزَّ وجلَّ : (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

سميت حجة إلا أنها حجة مُبْطلَة.

ْفليست بحجة موجبة حقاً.

وهذا بيانٌ شاف إِن شاءَ اللّه.

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) أي عرفتكم لئلا يكون عليكم

حجة (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) ، (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

* * *

١٥١

وقوله عزَّ ونجل : (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١)

(كَمَا) تصلح أن تكون جواباً لما قبلها ، فيكون : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)

(كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ).

والأجود أن تكون (كَمَا) معلقة بقوله عزَّ وجلّ

(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ).

أي فاذكروني بالشكر والإِخلاص كما أرسلنا فيكُمْ.

فإن قال قائل فكيف يكون جواب " (كَمَا أَرْسَلْنَا) (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)، فالجواب ههنا إنما يصلح أن يكون جوابين لأن قوله ، (فَاذْكُرُونِي) أمر ، وقوله (أَذْكُرْكُمْ) جزاءُ اذكروني :

والمعنى إن تذكروني أَذْكُرْكُمْ. .

ومعنى الآية أنها خطاب لمشركي العرب ، فخاطبهم اللّه عزَّ وجلَّ بما

دلهم على إِثبات رسالة النبي - صلى اللّه عليه وسلم - فقال كما أرسلنا فيكم محمداً - صلى اللّه عليه وسلم - وهو رجل

منكم أُمِّي تعلمون أنه لم يتل كتاباً قبل رسالته ولا بعدها إلا بما أوحي إليه.

وإنكم كنتم أهل جاهلية لا تعلمون الحكمة ولا أخبار الأنبياءِ ، ولا آبائهم

ولا أقاصيصهم . فأرسل إِليكم النبي - صلى اللّه عليه وسلم - فأنبأكم بأخبار الأنبياءِ ، وبما كان من أخبارهم مع أممهم ، لا يدفع ما أخبر به أهل الكتاب ، فكما أنعمت عليكم بإِرساله فاذكروني - بتوحيدي ، وتصديقه - صلى اللّه عليه وسلم - (واشكروا لي) أذكركم برحمتي

ومغفرتي والثناءِ عليكم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلا تَكْفُرونِ).

الأكثر الذي أتى به القُرَّاءُ حذف الياءات مع النون.

* * *

١٥٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللّه مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣)

(يَا أَيُّهَا) نداء مفرد مبهم و (الذين) في موضع رفع صفة لـ (أَيُّهَا).

هذا مذهب الخَليل وسيبويه ، وأما مذهب الأخفش.

فالذين صلة لأي وموضع الذين رفع بإِضمار الذكر العائد على أي كأنَّه على

مذهب الأخفش بمنزلة قولك : يا من الذين ، أي يا من هم الذين.

و " ها " لازمة لأي عوض عما حذف منها للِإضافة ، وزيادة في التنبيه.

وأي في غير النداءِ لا يكون فيها " هاء " ويحذف معها الذكر العائد عليها ، تقول أضرب أيُّهم أفضل ، وأيُّهم هو أفضل - تريد الذي هو أفضل.

وأجاز

المازني أن تكون صفة أي نصباً.

فأجاز : يا أيها الرجُلَ أقبل ، وهذه الِإجازة غير

معروفة في كلام العرب ، ولم يجز أحد من النحويين هذا المذهب قبله ، ولا

تابعة عليه أحد بعده - فهذا مطروح مرذول لمخالفته كلام العرب والقرآن وسائر الأخبار.

ومعنى (استعينوا بالصبر والصلاة) أي بالثبات على ما أنتم عليه.

وإن نالكم فيه مكروه في العاجل ، فإِن اللّه مع الصابرين.

وتأويل إن اللّه مَعَهُمْ أي يظهر دينه على سائر الأديان.

لأن من كان اللّه معه فهو الغالب - كما قال عزَّ وجلَّ :

(فَإِنَّ حِزْبَ اللّه هُمُ الْغَالِبُونَ).

ومعنى استعينوا بالصلاة ، أي أنكم إِذا صليتم تلوتم في صلاتكم ما

تعرفون به فضل ما أنتم عليه فكان ذلك لكم عوناً.

* * *

١٥٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّه أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (١٥٤)

بإضمار مكنيهمْ ، أي لا تقولوا هم أموات ، فنهاهم اللّه أن يُسَمُّوا من قتل في سبيل اللّه ميْتاً ، وأمرهم بأن يسموهم شُهداءَ - فقال :

(بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)

فأعلمنا أن من قتل في سبيل اللّه حي.

فإِن قال قائل : فما بالنا نرى جثة غير مُتَصرفة ؟

فإِن دليل ذلك مثل ما يراه الإنسان في منامه ، وجثته غير متصرفة على

قدر ما يُرى واللّه عزَّ وجلَّ قد توفى نفسه في نومه فقال تعالى :

(اللّه يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا).

وينتبه المنتبه من نومه فيدركه الانتباه وهو في بقية من ذلك ، فهذا دليل أن أرواح الشهداءِ جائز أن

تفارق أجسامهم ، وهم عند اللّه أحياءٌ ، فالأمر فيمن قُتِلَ في سبيل اللّه لا

يجب أن يقال له ميت لكن يقال له شهيد وهو عند اللّه حى.

وقد قيل فيها قول غير هذا - وهذا القول الذي ذكرته آنفاً هو - الذي أخْتَاره -.

قالوا معنى الأموات أي لا تقولوا هم أموات في دينهم ، بل قولوا إِنهم أحْياءٌ في دينهم.

وقال أَصحاب هذا القول : دليلنا واللّه أعلم -  (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) فجعل المهتدي حياً وانَّه حين كان على الضلالة كان ميتاً ، والقول الأول أشبه بالدين وألْصقُ بالتفسير.

قوله عزَّ وجلَّ : (وَلنَبْلُوَنَكُمْ بشَي منَ الخَوفِ وَالجُوع).

(إختلف النحويون في فتح هذه الواوي) فقال سيبويه : إنها مفتوحة لالتقاءِ

السَّاكنين ، وقالّ غيره من أصحابه أنها مبنيه علي الفتح ص* وقَدْ قال سييويه في لام

يفعل ، لأنها مع ذلك قد تبنى على الفتحة ، فالذين قالوا من أصحابه إِنها مبنية

على الفتح غير خارجين من قول له . وكلا القولين جائز . : +

* * *

١٥٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥)

ولم يقل بأشياءَ ، فإِنما جاءَ على الاختصار ، والمعنى يدل على أنَّه وشيءٍ من

الخوف وشيءٍ من الجوع وشيءٍ من نقص الأموال والأنفس ، وإِنما جعل اللّه هذا

الابتلاءَ لأنه أدْعى لمن جاءَ بعد الصحابة ومن كان في عصر - صلى اللّه عليه وسلم - إِلى اتباعهم لأنهم يعلمون أنه لا يصبر على هذه الأشياءِ إِلا من قد وضح له الحق وبانَ له البرهان ، - واللّه عزَّ وجلَّ - يعطيهم ما ينالهم من المصائب في العاجل والآجل ، وما هو أهم نفعاً - لهم فجمع بهذا الدلالة على البصيرة وجوز الثواب للصابرين على ذلك الابتلاء فقال عزَّ وجلَّ :

(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) : بالصلاة عليهم من رَبِّهم والرحمة وبأنهم المهتدون -

١٥٦

فقال عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للّه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦)

أي نحن وأموالنا للّه ونحن عبيده يصنع بنا ما شاءَ ، وفي ذلك صلاح لنا وخيرٌ.

(وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) : أي نحن مصدقون بأنا نُبْعث ونُعْطي الثًوابَ على

تصديقنا ، والصبرَ علَى ما ابتَلَانا به.

* * *

١٥٧

وقوله عزَّ وجلَّ : (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)

والصلاة في اللغة على ضرببن : أحدهما الركوع والسجود ، والآخر الرحْمَةُ

والثناءُ والدعاءُ - فصلاةٌ الناس على الميت إِنما معناها الدعَاءُ والثناء على اللّه

صلاة ، والصلاة من اللّه عزَّ وجلَّ على أنبيائه وعباده معناها الرحمة - لهم ، والثناء عليهم ، وصلاتنا الركوع والسجود كما وصفنا.

والدعاءُ صلاة قال الأعشى :

عليك مثل الذي صليتِ فاغتَمِضِي . . . نَوماً فإِن لجنب المرءِ مضطجعاً

ويروى مثل الذي صليت ، فمن قال عليك مثل الذي صليت ، فمعناه

أنه يأمرها بأن تدعو له مثل الذي دعا لها . أي تعيد الدعاءَ له

ومن روى عليك مثل الذي صليتِ فهو رَد عليها.

كأنه قال عليك مثل دعائك ، أن ينالك من

الخير مثلُ الذي أرَدْتِ لِي بهذه ودعوتِ به لي -

وقال الشاعر :

صَلى على يحيى وأشْيَاعِه . . . رَبٌّ كَرِيمٌ وَشَفِيعٌ مُطَاع

 عليه الرحمة من اللّه والثناءُ الجميل.

وأصل هذا كله عندي من اللزوم يقال صَلِيَ وأصْلَى واصْطَلى ، إذَا لَزِم . ومن هذا ما يُصْلى في النار ، أىِ أنه يلزَم.

وقال : أهل اللغة في الصلاة هي من الصَّلْوينِ ، وهما مُكتَنفَا ذَنب الناقة.

وأول موصل الفخذ من الإنسان ، وكأنهما في الحقيقة مُكتنف العُصْعُص.

والأصل عندي القول الأول.

ألا ترى أن الاسم للصيام هو الِإمساك عن الطعام والشراب ، وأصل

الصيام الثبوت على الإمساك عن الطعام ، وكذلك الصلاة إنما هي لزوم ما

فرض اللّه ، والصلاة من أعظم الفَرْضِ الذي أمَرَ بلزومه وأما المصلي الذي يأتي في أثر السابق منَ الخَيْل فهو مسمى من الصلوين لا محالة ، وهما مكتنفا ذنب الفرس ، فكأنة يأتي مع ذلك المكان.

- قال الشاعر في الصيام الذي هو ثبوت على القيام :

خَيْل صيام وخيل غير صائمة . . . تحت العجاج وخيل تعلك اللجما

وقوله تعالى : (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).

الأكثرون في  (إِنَّا للّه) - تفخيم الألف ولزوم الفتح - وقد قيل وهو

كثير في كلام العرب إِنَّ اللّه بإِمالة الألف إلى الكسر ، وكان ذلك في هذا

الحرف بكثرة الاستعمال ، وزعم بعض النحوين أن النون كسرت ، ولم يفهم ما قاله القوم . إنما الألف ممالة إِلى الكسرة.

وزعم أن هذا مثل قولهم :

" الحمدِ للّه " ، فهذا صواب أعني قولهم (إِنَّا للّه) بالكسر وقولهم " الحمدِ للّه من أعظم الخطأ ، فكيف يكون ما هو صواب بإجماع كالخطأ.

* * *

١٥٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ  اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّه شَاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨)

الصفا في اللغة الحجارةُ الصلبة الصلدة التي لا تنبت شيئاً ، وهو جمع

واحدته ضفاة وصفا ، مثل حصاة وحصى ، والمروة والمرو : الحجارة اللينة.

وهذان الموضعان من شَعَائِر اللّه ، أي من أعلام متعبداته وواحدةُ الشعائر

شَعِيرة ، والشعائر كلى ما كان منَ موقف  مسْعى وذبحْ.

وإنما قِيلَ شَعَائِرَ لِكُل علَم لما تُعُبد به ، لأن قَوْلهمْ شَعَرْتُ بِهِ : عَلِمْتهُ ، فلهذَا سُمِّيَتُ الأعلَام التي هِيَ متعبّدَات شَعَائِرُ.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ  اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا).

وإنما كان المسلمون اجتنبوا الطواف بينهما لأن الأوثان كانت قبل

الإسلام منصوبة بينهما ، فقيل إنَّ نَصْبَ الأوثان بيتهما قبل الإسلام لا يوجب

اجتنابهما ، لأن البيت الحرام والمشاعر طُهِّرت بالِإسلام من الأوثان وغيرها.

فأعملَم اللّه عزَّ وجلَّ أن هذين من شعائره وأنه لا جُناح في الطوافِ بينهما وأن من تطوع بذلك فاللّه شاكر عليم.

والشكر من اللّه عزَّ وجلَّ المجازاة والثناءُ الجميل ، والحج والعمرة يكونان

فرضاً وتطوعاً - والطواف بالبيت مجْراهُ مجرى الصلاة إِلا أنه يطوفُ بالبيت الحاجُّ والمعتمر ، وغيرُ الحاجِّ والمعتمر ، ومعنى قولهم حَجَحْتُ في اللغة قَصَدْتُ ، وكل قاصدٍ شيئاً فقد حَجَّهُ ، وكذلك كل قاصدٍ شيئا فقد اعتَمرهُ ، قال الشاعر :

يحجُ مأمومةً في قَعْرِها لَجَفٌ . . . قَاست الطبيب قَذاها كالمغاريدِ

وقال الشاعر في قوله اعتمر أي قصد :

لقد سما ابن معمر حينَ اعتمرْ . . . مغزىً بعيداً من بعيدٍ وضَبَر

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا).

أي لا إثم عليه ، والجُناح - أُخِذَ من جنح إِذَا مال وعدل عن القصد وأصل

ذلك من جناح الطائر ، و (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فيه غير وجه : يَجوز أن يطَوَّف وأن يُطَوِّف ، وأن يطُوف بهما ، فمن قرأ أن يُطَوِّف بهمَا أراد أن يتطوف فأدمِغت التاء في الطاء لقرب المخرجين ، ومن قرأ أن يُطَوِّف بهما فهو من طَوَّف إِذا أكثر ا لتَّطواف . . .

وفي قوله عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا) : (وجهان).

إِن شئتَ قلت (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا) على لفظ المضِى ومعناه الاستقبال لأن

الكلام شرط وجزاء فلفظ الماضي فيهءيُؤول إِلى معنى الاستقبال.

ومن قرأ يَطَّوَّعْ - فالأصل يتطوع فأدغمت التاءُ في الطاءِ.

ولست تدغم حرفاً من حرف إِلا قلبته إلى لفظ المدغم فيه.

١٥٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّه وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (١٥٩)

هذا إِخبار عن علماءِ إليهود الذين كَتَمُوا ما علِموه من صحة أمر

النبي - صلى اللّه عليه وسلم -

 (مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ) يعني به القرآن.

ومعنى (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).

فيه غيرُ قول ، أما ما يُروى عن ابن عباس فقال : (اللَّاعِنُونَ) كل شيء في

الأرض إِلا الثقلين ، ويروى عنْ ابن مسعود أنه قال (اللَّاعِنُونَ) : الاثنان إذا

تلاعنا لحقت اللعنة بمستحقها منهما ، فإِن لم يستحقها واحدٌ منهما رجعت على إليهود ، وقيل (اللَّاعِنُونَ) هم المؤمنون ، فكل من آمن باللّه من الإنس والجن والملائكة فهم - اللاعنون لليهود وجميع الكفرة فهذا ما روي في قوله (اللَّاعِنُونَ) واللّه عزَّ وجلَّ أعلم.

* * *

١٦٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠)

(الذين) في موضع نصب على الاستثناءِ ، والمعنى أن من تاب بعد هذا وتبين

منهم أن ما أتى به النبي - صلى اللّه عليه وسلم - حق ، قبل اللّه توبته . فأعلم اللّه عزَّ وجلَّ : أنه يقبل التوبة ويرحم ويغفر الذنب الذي لا غاية بعده.

* * *

١٦١

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّه وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّه وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١)

يعني لم يتوبُوا قبل موتهم من كفرهم.

(أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّه)، واللعنة هي إبعاد اللّه ، وإبعاده عذابه.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

 لعنة الملائكة ولعنة الناس أجمعين.

فإن قال قائل : كيف يلعنه الناس أجمعون ، وأهل دينه لا يلعنونه ؟

قيل لَهُ إنَّهم يلْعَنُونَه في الآخرة ، كما قالَ عزَّ وجلَّ :

(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)

وقرأ الحسن : "أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّه [وَالْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ] أَجْمَعِينَ)

وهو جيد في العربية إلا أني أكرهه لمخالفته - المصحف ، والقراءَة ، إنما ينبغي أن يلزم فيها ْالسنة ، ولزوم السنة فيها أيضاً أقوى غند أهل العربية ، لأن الإجماع في القراءَة إنما يقع على الشيء الجَيِّد البالغ ورفع الملائكة في قراءَة الحسن على تأويل : أُولَئِكَ جزاؤُهم أن لَعنَهُم اللّه والملائكةُ ، فعطف الملائكة على موضع إعراب للّه في التأويل.

ويجوز على هذا عجبت من ضرب زيدٍ وعمرو ومن قيامِكَ وأخُوك :

 عجبت من أنْ ضَربَ زيد وعمرو ومن أن قمتَ أنتَ وأخوك.

ومعنى (خالدين فيها) أي في اللعنة.

وخلودهم فيها خلود في العذاب.

* * *

١٦٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (١٦٣)

أخبَر عزَّ وجلَّ بوحدانيته ثم أخبَرَ بالاحتجاج في الدلالة على أنه واحد

فقال :

١٦٤

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللّه مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)

فهذه الآيات تدل على أنه واحد - عزَّ وجلَّ - فأما الآية في أمر السماءِ فمن

أعظم الآية لأنهها سقف بغير عمد ، والآية في الأرض عظيمة فيما يُرى من

سهْلِها وجبلِها وبحارها . وما فيها من معادن الذهب والفضة والرصاص والحديد اللاتي لا يمكن أحد أن ينشئ مثلها ، وكذلك في تصريف الرياح ، وتصريفها أنها ِتأتي من كل أفق فتكون شمالًا مرة وجنوباً مرة ودبُوراً مرة وصبا مرة ، وتأتي لواقح للسحاب.

فهذه الأشياءُ وجميع ما بث اللّه في الأرض دالة على أنه واحد.

كما قال عزَّ وجلَّ : (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) - لا إله غيره لأنه لا يأتي آت بمثل هذه الآيات (إلا واحداً).

* * *

١٦٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّه أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّه وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للّه وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للّه جَمِيعًا وَأَنَّ اللّه شَدِيدُ الْعَذَابِ (١٦٥)

فأعلم أن بعد هذا البيان والبرهان ؛ تُتخذ من دونه الأنداد.

وهي الأمثال ، فأبان أن من الناس من يتخذ نِدُّا يعلم أنه لا ينفع ولا يضر ولا يأتي بشيء مما ذكرنا ، وعنَى بهذا مشركي العرب.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّه).

أي يُسَوُّون بين هذه الأوثان وبين اللّه - عزَّ وجلَّ - في المحبة.

وقال بعض النحويين ، يحبونهم كحبكم أنتم للّه - وهذا قول ليس بشيء - ودليل نقضه  (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للّه)

والمعنى أن المخلصين الذين لا يشركون مع اللّه غيره

هم المحبُّون حقاً .

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) - إذْ يروْنَ العذَاب - (أَنَّ الْقُوَّةَ للّه جَمِيعًا).

في هذا غير وجه ، يجوز أنَّ القوةَ للّه وأن اللّه ، ويجوز أن القوةَ للّه وإن

اللّه ، ولو تَرى الذينَ ظلموا وتُفتح أن مع ترى ، وتُكسَر ، وكل ذلك قد قُرئ بهِ.

قرأ الحسن (ولَوْ يَرَى الَّذِين ظَلَمُوا إذْ يَرَون العَذاب إِنَّ القوةَ ، وإِنَّ اللّه).

ونحن نفسر ما يجب أن يُجْرَى عليه هذا إن شاءَ اللّه.

من قرأ أنَّ القوةَ - فموضع أن نصب بقوله - ولو يرى الذين ظلموا أن

القوة للّه جميعاً ، وكذلك نصب أن الثانية -

والمعنى ولو يرى الذين ظلموا شدَّةَ عذاب اللّه وقوتَه لعلموا مضرة

اتخاذهم الأنداد ، وقد جرى ذكرُ الأنداد في

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّه أَنْدَادًا).

ويجوز أن يكون العامل في أنَّ الجوابَ ، على ما جاءَ في التفسير : يروى في

تفسير هذا أنه لو رأى الذين كانوا يشركون في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه أن القوة للّه جميعاً ، ففتح أنَّ أجود وأكثر في القراءَة ، وموضعها نصب في هاتين الجهتين على ما وصفنا ، ويجوز أن تكون " إنَّ " مكسورةً مستأنفة ، فيكون جواب (ولو يرى الذين ظلموا إِذ يرون العذاب) لرأوا أمراً عظيماً لا تبلغ صفته ؛ لأن جواب لو إنما يترك لعظيم الموصوف

نحو قوله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ  قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ  كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى)

 لكان هذا القرآن أبلغ من كل ما وصف.

وتكون (أَنَّ الْقُوَّةَ للّه جَمِيعًا) ، على الاستئناف.

يُخْبِر ب أن القوة للّه جميعاً ويكون الجواب المتروك غير معلق بإِنَّ.

ومن قرأ (ولو ترى الذين ظلموا) فإِن التاء خطاب للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - يراد به الناس

كما قال : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (١٠٧).

فهو بمنزلة : ألمْ تَعلموا . وكذلك ولو ترى " الذين ظلموا " بمنزلة - ولو ترون - وتكون (أَنَّ الْقُوَّةَ للّه جَمِيعًا) مستأنفة كما وصفنا.

ويكون الجواب - واللّه أعلم لرأيتم أمراً عظيماً - كما يقول : لو رأيت فلاناً والسياط تأخذه ، فيُستغنى عن " الجواب لأن  معلوم.

ويجوز فتح أن مع ترى فيكون لرأيتم أيها المخاطبون أن القوة للّه جميعاً ،  لرأيتم أن الأنداد لم تنفع ، وإنما بلغت الغاية في الضرر لأن القوة للّه جَميعاً.

و (جميعاً) منصوبة - على الحال :  أن القوة - ثابتةَ للّه عزَّ وجلَّ في حال

اجتماعها.

* * *

١٦٦

و (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (١٦٦)

يعني به السادة والأشراف (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) وهم الأتباع والسفلة.

(وَرَأَوُا الْعَذَابَ) - يُعْنَى به التابِعُونَ والمتبوعون ، (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) ، أي انقطعَ وصْلُهُم الذى كان جمعهم.

كما قال : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)

فَبَيْنهُمْ وَصْلُهُمْ.

والذي تقطع بينهم في الآخر كان وصل بينهم في الدنيا.

وإِنما ضُمَّت الألف في قوله (اتُّبِعُوا) لضمَّةِ التاءِ ، والتاءُ ضمت علامة ما

لم يُسَمَّ فاعِلُه.

فإن قَال قائل : فما لم يسم فاعله مضموم الأول ، والتاءُ

المضمومة في (اتُّبِعُوا) ثالثة ، قيل إنما يضم لما لم يُسَم فاعله الأول من

متَحركات الفعل ، فإذا كان في الأول ساكن اجتلبت له ألف الوصل ، وضم ما كان متحركاً ، فكان المتحرك من اتبعوا التاء الثانية فضمت دليلاً على ترك

الفاعل ، وأيضاً فإنَ في (اتُّبِعُوا) ألفَ وصل دخلت من أجل سكون فاءِ الفعل ، لأن مثَاله من الفعل افْتعِلوا ، فالأف ألف وصل ولا يبنى عليه ضَمة الأول

في فِعْل لم يُسَمَّ فاعلُه ، والفاءُ ساكنة ، والسَّاكنُ لا يُبْنى عليه فلم يبق إلا

الثالث ، وهو التاءُ فضمت عَلَماً للفعل الذي لم يسم فاعله ، فكان الثالث لهذه العلة هو الأول.

* * *

١٦٧

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّه أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)

أي عودة إلى الدنيا فنتبرأ منهم ، موضع "أن" رفع ،  لو وقع لنا

كرورٌ لتبرأنا منهم ، كما تبرأوا منا ، " يقال تبرات منهم تبرؤا ، وبرِئت منه

بَرَاءَة وبرِئْت من المرض وبَرَأتُ أيضاً لغتان " أبرأ ، بَرءًا ، وبريت القلم وغيره

وأبريه غير مهموز ، وبرأ اللّه الخلقَ بَرءًا.

وقوله عزَّ وجلََّّ : (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّه أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ).

أي كـ تَبرِّي بعضهم من بعض يريهم اللّه أعمَالَهُمْ حَسَراب عليهم لأن ما

عمله الكافر غير نافعه مع كفره ، قال اللّه عزَّ وجلَّ :

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّه أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)

وقال : (حَبطَتْ أَعْمَالُهُمْ) ومعنى (أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) لم يجازهم على ما عَملوا من خير ، وهذا كما تقول لمن عَمل عملاً لم يعد عليه فيه نفع : لقد ضَل سَعْيُكَ .

١٦٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨)

هذا على ضربين : أحدهما الإباحة لأكل جميع الأشياءِ إلا ما قد حظر

اللّه عزَّ وجلَّ من الميتة وما ذَكر معهَا ، فيكون (طَيِّبًا) نعتاً للْحَلَال ، ويكون

طيباً نعتاً لما يستطاب ، والأجود أن يكون (طَيِّبًا) من حيث يطيب لكم ، أي لا تأكلوا وتنفقوا مما يحرم عليكم كقوله عزَّ وجلَّ :

(وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ).

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ).

أكثر القراءَة خُطُوات بِضَم الخاءِ والطاءِ ، وإن شئت أسكنْتَ الطاءَ.

(خُطوَات) لثقل الضمة ، وإن شئت خُطَواتٍ ، وهي قراءَة شاذة ولكنها جائزة في العربية قوية ، وأنشد الخَليلُ وسيبويه وجميع البصريين النحويين :

ولما رَأوْنا بَادياً رُكُبَاتُنَا . . . عَلَى مَوْطِنٍ لا نَخْلِطُ الجدَّ بالهَزلِ

ومعنى (خطوات الشيطان) طرقه ، أي لا تَسْلكوا الطريق الذي يدعوكم إليه

الشيطان.

* * *

١٧٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللّه قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (١٧٠)

معنى (ألفينا) صَادَفْنا ، فعنَّفهم اللّه وعاب عليهم تقليدهم آباءَهم.

فقال : (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ).

 أيتبعون آباءَهمْ وإن كانوا جهالاً ، وهذه الواو مفتوحة لأنها واو

عطف ، دخلت عليها ألف التوبيخ ، وهي ألف الاستفهام فبقيت الوَاو مفتوحة على ما يجب لها.

* * *

١٧١

قوله عزَّ وجلَّ : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٧١)

وضرب اللّه عزَّ وجلَّ لهم هذا المثل ، وشبهَهم بالغنم المنعوق بها.

بما لا يَسْمَع مُنه إلا الصوتَ ، فالمعنى مثلك يا محمد ، ومثلهم كمثل

الناعق والمنعوق به ، بما لا يسمع ، لأن سمعهم ما كان ينفعهم ، فكانوا في

شركهم وَعَدَمِ قبول ما يسيمعون بمنزلة من لم يسمع ، والعرب تقول لمن

يسمع ولا يعمل بما يسمع : أصم.

قال الشاعر :

أصمُّ عمَّا سَاءَه سمِيعُ

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ).

وصفهم بالبَكَم وهو الخَرَس ، وبالعَمَى ، لأنهم في تركهم ما يبصرون

من الهداية بمنزلة العُمْي.

وقد شرحنا هذا في أول السورة شرحاً كافياً إِن شاءَ اللّه . .

* * *

١٧٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّه فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)

النَّصبُ في (الميتةَ) وماعطف عليها هو القراءَة ، ونصبه لأنه مفعول

به ، دخلت " ما " تمنع إنَّ من العمل ، ويليها الفعل ، وقد شرحنا دخول ما

مع إن ، ويجوز إِنَما حرم عليكُم الميْتَةُ ، والذي أختاره أن يكون ما تمنع أن من

العمل ، ويكون  ما حرم عليكم إِلا الميْتةَ ، والدم ولحم الخنزير ، لأن

" إنما " تأتي إِثباتاً لما يذكر بعدها لما سواه.

قال الشاعر :

أنا الزائد الحامي الذمار وإنما . . . يدافع عن أحسابهمْ أنا  مثلي

 ما يدافع عن أحسابهم إلا أنا  مثلي ، فالاختيار ما عليه جماعة

القراءِ لإتباع السنة ، وصحته في  . .

ومعنى (مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّه).

أي ما رُفَعَ فيه الصوتُ بتسمية غير اللّه عليه وهذا موجود في اللغة.

ومنه الإهلال بالحج إنما هو رفع الصوت بالتلبية.

والميتة أصلها الميِّتَةُ ، فحذقت الياءُ الثانية استخفافاً لثقل الياءين والكسرة والأجود في القراءَة الميْتَةُ (بالتخفيف).

وكذلك في  (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) أصله  من كان ميِّتاً

بالتشديدَ ، وتفسير الحذف والتخفيف فيه كتفسيره في الميتة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ).

في تفسيرها ومعناها ثلاثة أوجه : قال بعضهم (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ) ، أي فمن اضطر جائعاً غير باغ - غير آكلها تلذذاً - ولا عاد ولا مُجَاوِزٍ ما

يدفع عن نفسه الجوع ، فلا إِثم عليه .

وقالوا : - (غَيْرَ بَاغٍ) غير مجاوز قدر حاجته وغير مقصِر عما يقيم به

حياته ، وقالوا : أيضاً : معنى غيرباغ على إمَام وغيرمتعد على أمتِه ، ومعنى

البغي في اللغة ، قصد الفساد ، يقال : بَغَى الجَرْحُ يبغي بغياً ، إذا ترامى إلى

فساد ، هذا إجماع أهل اللغة ، تقول ويقال بغى الرجل حاجته يَبْغِيهَا بِغَاءً.

والعرب تقول خرج في بِغَاءٍ إبله قال الشاعر : "

لا يمْنعنكَ من بِغاءِ الخير تعقادُ التمائم

إنَّ الأشائم كالأيامن والأيامنُ كالأشائم

ويقال بغت المرأة تبغي بِغَاءً إذا فجرت :

قال اللّه عزَّ وجلَّ : (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا)

أي على الفجور ويقال : ابتَغَى لفلان أنْ يفعل كذا : أي صلح له أن يفعل كذا وكأنه قال : طلب فعل كذا فانطلب له ، أي طاوعه ، ولكن اجتزئ بقولهم - ابتغى ، والبغايا في اللغة شيئان ، البغايا الفواجر ، والبغايا الإماء ، قال الأعشى :

والبغَايا يركضن أكْسية ألا . . . ضْرِيج والشرعَبيَّ ذَا الأذيالِ

ونصب (غَيْرَ بَاغٍ) على الحال.

* * *

١٧٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللّه مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللّه يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٤)

يعني علماءَ إليهود الذين كتموا أمر النبي - صلى اللّه عليه وسلم.

و (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) أي كتموه لأنهم أخذوا على كِتْمَانِه

الرِّشَى .

(أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ).

 أن الذين يأكلونه يعذبون به ، فكأنهم إنما أكلوا النار وكذلك قوله

عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)).

أي يُصَيرُهُمْ أكْلُهُ في الآخرة إلى مثل هذه الحالة.

و (الَّذِينَ) نصب ب (إِنَّ) ، وخبر (إِنَّ) جملة الكلام وهي (أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) ، و (أُولَئِكَ) رفع بالابتداءِ وخبر (أُولَئِكَ) (مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ).

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلاَ يُكَلمُهُمْ اللّه يَوْمَ القِيَامَةِ).

فيه غير قول : قال بعضهم معناه يغضب عليهم ، كما تقول : فلان لا

يكلم فلاناً ، تريد هو غضبان عليه.

وقال بعضهم معنى (لاَ يُكَلمُهُمْ اللّه يَوْمَ القِيَامَةِ) لا يرسل إليهم الملائكة بالتَحيةِ ، وجائز إِن يكون : (لاَ يُكَلمُهُمْ اللّه) لا يسمعهم اللّه كلامه ، ويكون الأبرار وأهل المنزلة الذين رضي اللّه عنهم يسمعون كلامه.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا يُزَكِّيهِمْ).

أي لا يثنى عليهم ، ومن لا يثني اللّه عليه فهو معذب.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

معنى (أَلِيمٌ) مؤلم ومعنى مؤلم مبالِغٌ في الوجع.

* * *

١٧٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥)

(فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)

وفيه غير وجه : قال بعضهم أيُّ شيءٍ أصْبرهُمْ على النار.

وقال بعضهم : فما أصبرهم على عمل يؤدي إِلى النار لأن هؤلاءِ كانوا علماءَ بأن من عاند النبي - صلى اللّه عليه وسلم - صار إلى النار.

كما تقول ما أصبرَ فلاناً على الجنس أي ما أبقاه منه .

١٧٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّه نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)

 الأمر ذلك ،  ذلك الأمر فذلك مرفوع بالابتداءِ.

 بخبر الابتداءِ.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)

بتباعد بعضهم في مَشَاقَّةِ بعض ، لأن إليهود والنصارى هم الَّذين اختلفوا في

الكتاب ومشاقتهم بعيدة.

* * *

١٧٧

وقوله عزَّ وجلَّ : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)

 ليس البر كله في الصلاة (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ). . . إلى آخر الآية ، فقيل إن هذا خصوص في الأنبياءِ وحدهم ، لأن هذه الأشياءِ التي وصفت لا يؤديها بكليتها على حق الواجب إِلا الأنبياءَ عليهم السلام.

وجائز أن يكون لسائر الناس ، لأن اللّه عزَّ وجلَّ قد أمر الخلق

بجميع ما في هذه الآية.

ولك في البرِّ وجهان : لك أن تَقْرَأ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا) ، و (لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا) فمن نصب جعل أنْ مع صلتها الاسم ، فيكون  : ليس توليتُكُم

وجُوهَكُم البرَّ كلَّه ، ومن رفع البر فالمعنى : ليس البَّر كلُه توليتكم ، فيكون البر اسم ليس ، وتكون (أَنْ تُوَلُّوا) الخبر.

وقوله عؤّ وجلَّ : (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

إِذا شددتَ (لَكَنَّ) نصبت البر ، وإِذا خففت رفعت البر ، فقلت ولكنِ

البِر من آمن باللّه ، وكسرتَ النونَ من التخفيف لالتقاءِ السَّاكنين ، والمعنى :

ولكن ذا البر من آمن باللّه ، ويجوز أن تكون : ولكن البر بَر مَن آمن باللّه ، كما قال الشاعِر :

وكيف تواصل من أصبحت . . . خلالته كأبي مرحب

 كخلالة أبي مرحب - ومثله (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا).

 وأسال أهل القرية.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (والمُوفونَ بعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا).

في رفعها قولان : الأجود أن يكون مرفوعاَ على المدح ، لأن النعت إذا

طال وكَثُرَ رُفِعَ بعضُه ونُصِب على المدح.

 " هم الموفون بعهدهم وجائز أن يكون معطوفاً على من.

 ولكن البر ، وذو البر المؤمنون والموفون بعهدهم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالصَّابِرِينَ).

في نصبها وجهان : أجودهما المدح كما وصفنا في النعت إذا طال.

 أعني الصابرين ، قال بعض النحويين ، إِنه معطوف على ذوي القربى.

كأنه قال : وآتي المالَ على حبه ذوي القربى والصابرين وهذا لا يصلح إلا أن

يكون - والموفون رفع على المدح للمُضْمَرِينَ ، لأن ما في الصلة لا يعطف

عليه بعد المعطوف على الموصول.

ومعنى " وحينَ البَأْسِ " أي شدة الحرب ، يقال قد بأس الرجل يَبْأسُ

بَأساً وبَاساً (وبُؤساً) يا هذا إذا افتقر وقد بؤس الرجل ببؤس ، فهو بَئيس إذا

اشتدت شجاعته.

* * *

١٧٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٨)

معنى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) فرض عليكم ، وقوله (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) : يقال إنه كان لقوم من العرب طَول على آخرين فكانوا يتزوجون فيهم بغير مهور ، ويطلبون بالدم أكثر من مقداره ، فيقتلون بالعبد من عبيدهم الحر من الذين لهم عليهم طولٌ فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ).

أي من ترك له القتل ورضي منه بالدِّية -

وهو قاتل متعمد للقتل عفى له بأن ترك له دمُه ، ورضي منه بالدية - قال اللّه عز وجلَّ : (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) وذكر أن من كان قبلنا لم يفرض عليهم إلا النفس -

كما قال عزَّ وجلَّ : (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) أي في التوراة - فتفضل اللّه على هذه الأمة بالتخفيف والدية إذا

رضي بها وفيُ الدم.

ومعنى (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) على ضربين : جائز أن يكون

فعلَى صاحب الدم اتباع بالمعروف ، أي المطالبة بالدية ، وعلى القاتل أداء

بإحسان - وجائز أن يكون الإتباع بالمعروف والأداء بإحسان جميعاً على

القاتل - واللّه أعلم.

وقوله غز وجلَّ : (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

أي بعد أخذ الدية ، ومعنى اعتدى : ظلم ، فوثب فقتل قَاتِلَ صَاحِبِه بعد أخذ الدية - (فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي موجع .

ورفع (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) على معنى فعليه اتباع - ولوكان في غير

القرآن لجاز فاتباعاً بالمعروف وأداءً على معنى فليتبع أتباعاً ويؤد أداءً.

ولكن الرفع أجود في العربية.

وهو على ما في المصحف وإجماع القراءِ فلا سبيل إلى غيره.

* * *

١٧٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)

(حَيَاةٌ) رفعَ على ضربين : على الابتداءِ ، وعلى لكم ، كأنَّه قال وثَبَت لكم

في القصاص حياة يا أولي الألباب أي يا ذوي العقول.

ومعنى الحياة في القصاص أن الرجل - إذا علم أنَّه يُقْتَل إنْ قتَل -

أمسك عن القتل ففي إمساكه عن القتل حياة الذي همَّ هو بقتله . -

وحياة له ؛ لأنه من أجل القصاص أمسك عن القتل فَسَلِم أن يقتل.

* * *

١٨٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠)

 وكتب عليكم : إلا أن الكلام إذا طال استغنى عن العطف بالواو ، وعلم أن معناه معني الواو.

ولأن القصة الأولى قد اسْتَتَمَّت وانْقَضَى معنى الفرض فيها ، فعلم أن  فرض عليكم القصاص وفرض عليكم الوصية.

ومعنى . (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ).

هذا الفَرضُ بإجماع نسخته آياتُ المَواريث في سورة النساءِ وهذا مجمع

عليه ، ولكن لا بد من تفسيره ليعلم كيف كان وجه الحكمة فيه ، لأن اللّه

عزَّ وجلَّ لا يتعبد في وقت من الأوقات إِلا بما فيه الحكمة البالغة

فمعنى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) : فرض عليكم - إن ترك أحدكم مالا - الوصية (للوالدين والأقربين بالمعروف) ، فَرَفَعَ الوصية على ضربين ، أحدهما على ما لم يسم فاعله ، كأنه قال كتب عليكم الوصية للوالدين ، أي فرض عليكم ، ويجوز أن تكون رفع الوصية على الابتداءِ ، ويجوز أن تكون ، للوالدين الخبر ، ويكون على مذهب الحكاية ، لأن معنى كتب عليكم قيل لكم : الوصية للوالدين والأقربين . ، وإِنما أُمِرُوا بالوصية في ذلك الوقت لأنهم كانوا ربما جاوزوا بدفع المال إلى البعَداءِ طلباً للرياءِ والسمعة.

ومعنى (حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) ليس هو إنَّه كتب عليه أن يوصي إذا حضره

الموت ، لأنه إِذا عاين الموت " يكون " في شغل عن الوصية وغيرها.

ولكن  كتب عليكم أن توصُّوا وأنتم قادرون على الوَصيةِ ، فيقول الرجل إذا حضرني الموت ، أي إِذا أنا مِت فلفلان كذا ، على قدر - ما أمِرَ به - والذي أمِرَ به أن يجتهد في العدل في وقت الإمْهَال ، فيوصي بالمعروف - كما قال اللّه عزَّ وجلَّ - لوالديه ولأقربيه - ومعنى بالمعروف بالشيءِ الذي يعلم ذو التمييز أنه لا جَنَفَ فيه ولا جَوْر ، وقد قال قوم إِن المنسوخ من هذا ما نسخته المواريث.

وأمر الوصية في الثلث باق ، وهذا القول ليس بشي لأن إجماع المسلمين أن

ثلث الرجل له إن شاءَ أن يوصي بشي فله ، وإن ترك فجائز (فالآية) في

 (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) . . . الوصية منسوخة بإجماع.

وكما وصفنا.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).

نصب على حق ذلك عليكم حقاً ، ولوكان في غير القرآن فَرُفعَ كان

جائزاً ، على معنى ذلك حق على المتقين.

* * *

١٨١

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١)

يعني فمن بدل أمر الوصية بعد سماعهِ إيَّاها ، فإِنما إثْمُه على مُبَدلِهِ ، ليس على الموصى ، - إذا احتاط  اجتهد فيمن يوصى إليه - إثم ، ولا على الموصى له إِثم وإِنما الإثم على الموصي إن بدل.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

أي قد سمع ما قاله الموصي ، وعلم ما يفعله الموصَى إِليه ، لأنه

عزَّ وجلَّ عالم الغيبِ والشَهَادَة.

* * *

١٨٢

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا  إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)

أي مَيْلاً ،  إثماً ،  قَصَداً لِإثم ، (فأصلح بينهم) أي عمل بالإصلاح بين

الموصى لهم فلا إثم عليه ، أي لأنه إنما يقصد إلى إصلاح بعد أن يكون

الموصي قد جعل الوصية بغير المعروف مخالفاً لأمر اللّه فإِذا ردها الموصى

إليه إِلى المعروف ، فقد ردها إِلى ما أمر اللّه به.

* * *

١٨٣

(وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣)

 فرض عليكم الصيام فرضاً كالذي فرض على الذين من قبلكم.

وقيل إنه قد كان فرض على النصارى صوم رمضان فَنَقَلُوه عن وقته ، وزادوا

فيه ، ولا أدري كيف وجه هذا الحديث ، ولا ثقة ناقليه ، ولكن الجملة أن اللّه عزّ وجلَّ قد أعلمنا أنه فرض على من كان قبلنا الصيام ، وأنه فرض علينا كما فرضه على الذين من قبلنا .

وقوله عزَّ وجلَّ : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

 أنَّ الصِّيَام وَصْلَة إلى التقي ، لأنه من البر الذي يكف الِإنسان

عن كثير مما تتطلع إِليه النفس من المعاصي ، فلذلك قيل (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

و " لعل " ههنا على ترجي العباد ، واللّه عزَّ وجلَّ من وراءِ العلم أتتقون أم

لا . ولكن  أنه ينبغي لكم بالصوم أن يقوى رجاؤكم في التقوى.

* * *

١٨٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا  عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤)

ْنصب (أَيَّامًا) على ضربين ، أجْوَدهما أن تكون على الظرف كأنه ، كتب

عليكم الصيام في هذه الأيام - والعامل فيه الصيام كان  كتب عليكم

أن تصوموا أياماً معدودات.

وقال بعض النحويين ، إنه منصوب مفعول مَا لم يسَمَّ فاعله.

نحو أعَطِيَ زيد المال.

وليس هذا بشيءٍ لأن الأيام ههنا معلقة بالصوم.

وزيد والمال مفعولان لأعطى.

فلك أن تقيم أيهما شئت مقام الفاعل.

وليس في هذا إلا نصب الأيام بالصيام.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا  عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

أي فعليه عدة ،  فالذي ينوب عن صومه في وقت الصوم عدة من أيام

أُخَرَ.

و (أُخَرَ) في موضع جر ، إِلا أنها لا تَنْصَرِف فَفتِحَ فيها المجرور.

ومعنى (وعلى الذين يطيقونه) أي يطيقون الصوم فدية طعام ، مسكين ، أي

إن أفطر وترك الصوم كان فدية تركه طعام مسكين.

وقد قرئ " طعام مساكين "

فمعنى طعام مساكين فدية أيام يفطر فيها وهذا بإجماع وبنص القرآن منسوخ.

نَسخَته الآية التي تَلي هذه.

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ).

رفع خير خبر الابتداءِ .  صومكم خير لكم هذا كان خيراً لهم مع

جواز الفدية ، فأما ما بعد النسخ فليس بجائز أن يقال : الصوم خير - من الفدية والإفطارِ في هذا الوقت ، لأنه ما لا يجوز ألبتَّة فلا يقع تفضيل عليه فيوهم فيه أنه جائز . وقد قيل إِن الصوم الذي كان فرض في أول الإسلام . صوم ثلاثة أيام في كل شهر ويوم عاشوراءِ ، ولكن شهر رمضان نَسَخَ الفرضَ في ذلك الصوم كله.

* * *

١٨٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا  عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللّه عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥)

القراءَة بالرفع ويجوز النصب ، وهي قراءَة ليست بالكثيرة ورفعه على

ثلاثة أضرب : أحدها الاستئناف .  الصيام الذي كتب عليكم  الأيام

التي كتبت عليكم شهر رمضان ، ويجوز أن يكون رفعه على البدل من الصيام

فيكون مرفوعاً على ما لم يسم فاعله ،  كتب عليكم شهر رمضان.

ويجوز أن يكون رفعه على الابتداءِ ويكون الخبر (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)

والوجهان اللذان شرحناهما - " الذي " ْ فيهما رفعٌ على صفة الشهر ، ويكون الأمر بالفرض فيه (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)

ومعنى من شهد : من كان شاهداً غير مسافر فليصم ، ومن كان مسافراً  مريضاً فقد جُعِل له أن

يصوم عدةَ أيامِ الْمَرض وأيامِ السفرِ من أيام أخر ، ومن نصب شهر رمضان

نصبه على وجهين ، أحدهما أن يكون بدلاً من أيام معدودات.

والوجه الثاني على الأمر ، كأنه قال عليكم شهر رمضان . على الِإغْراءِ.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الْيُسْرَ).

أيْ أن يُيسِّر عليكم بوضعه عنكم الصوم في السفر والمرض.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلِتُكَمِّلُوا الْعِدَّةَ) (قرئ) بالتشديد ، وَلِتُكْمِلُوا

بالتخفيف.

من كمَّل يكمِّل ، وأكمل يُكْمِل.

ومعنى اللام والعطف ههنا معنى لطيفْ هذا الكلام معطوف محمول على . () فعل اللّه ذلك ليسهل عليكم ولتكملوا العدة.

قال الشاعر :

بَادَت وغُيِّر آيهن مع البلي . . . إلاَّ رَواكدَ جَمْرُهُنَّ هَباءُ

ومشججٌ أما سواءُ قذا له . . . فبدا وغيره سَارَه المَعْزَاءُ

فعطف مشججٌ على معنى بها رواكد ومشجج ، لأنه إذْ قال بادت

إلاَّ رَواكدَ علم أن  بَقيَتْ رواكدُ ومشججٌ.

١٨٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)

 إذا قال قائل : اينَ اللّه . فاللّه عزَّ وجلَّ قريب لا يخلو منه مكان -

كما قال : (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ)

وكما قال : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ).

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)

وقوله عزَّ وجلَّ : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ).

إن شئت قلت إذا دعاني بياء وإن شئت بغير ياء إلا أن المصحف يتبع

فيوقف على الحرف كما هو فيه.

ومعنى الدعاءِ للّه عزَّ وجلَّ على ثلاثة أضرب.

فضرب منها توحيده والثناءُ عليه كقولك يا اللّه لا إله إلا أنت

وقَولك : رَبَّنَا لَك الحَمْدُ ، فقد دعوتَه بقولك ربنا ، ثم أتيت بالثناءِ والتوحيد

ومثله : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (٦٠).

أي يستكبرون عن توحيدي والثناءِ عليَّ ، فهذا ضرب من الدعاءِ.

وضرب ثانٍ هو مَسْألة اللّه العفوَ والرحمة ، وما يقرب منه

كقولك اللّهم اغفر لنا.

وضرب ثالث هو مسألته من الدنيا كقولك :

اللّهم ارزقني مالًا وولداً وما أشبه ذلك.

وإنما سمي هذا أجمعُ دعاء لأن الِإنسان يصدر في هذه الأشياءِ بقوله يا اللّه ، ويا رب ، ويَا حَي . فكذلك سمي دعاءُ.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي)

أي فليُجِيبُوني.

قال الشاعر :

وداع دعا يا من يجيب إلى الندا . . . فلم يَسْتَجِبْه عند ذاك مجيب

أي فلم يجبه أحد.

* * *

١٨٧

وقوله عزَّ وجلَّ : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللّه أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللّه لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّه فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّه آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)

ْ(الرفث) كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من المرأة ، والمعنى ههُنا كناية

عن الجماع : أي أحل لكم ليلة الصيام الجماع ، لأنه كان في أولَ فرض

الصيام الجماعُ محرماً في ليلة الصيام ، والأكل والشربُ بعد العِشَاءِ الآخرة

والنوم.

فأحل اللّه الجماع والأكل والشراب إِلى وقت طلوع الفجر.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ).

قد قيل فيه غير قول : قيل  ، فَتُعانقوهن وُيعَانِقْنكم ، وقيل كل

فريق منكم يسكن إلى صَاحِبه وُيلابسه -

كما قال عزَّ وجلَّ : (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا).

والعرب تسمى المرأة لباساً وإِزاراً قال الشاعر :

إذا مَا الضجيع ثَنَى عِطفَه . . . تَثَنَّتْ فكانت عليه لِبَاساً

وقال أيضاً :

ألاَ أبْلغ أبَا حَفْصٍ رَسُولا . . . فِدًى لكَ من أخِي ثِقَةٍ إِزاري

قال أهل اللغة : فدى لك امرأتي.

قوله عزَّ وجلَّ : (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللّه لَكُمْ).

قالوا معناه الولد . ويجوز أن يكون - وهو الصحيح عندي - واللّه أعلم -

وابتغوا ما كتب اللّه لكم : اتبعوا القرآن فيما أبيح لكم فيه وأمرتم به فهو

المبتغى .

وقوله عزَّ وجلَّ : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ).

هما فجران : أحدهما يَبْدُو أسودَ معترضاً وهو الخيط الأسود ، والأبيض

يطلع ساطعاً يملأ الأفق ، وَحَقِيقَتُه : حَتَّى يتبين لكم الليل من النهار ، وجعل اللّه عزّ وجلَّ حدود الصيام طلوع الفجر الواضح ، إِلا أن اللّه عزَّ وجلَّ بين في فرضه ما يستوي في علمه أكثر الناس.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).

معنى الباشرة هنا الجماع . وكان الرجل يخرج من المسجد وهو معتكف

فيجامع ثم يعودُ إِلى المسجد ، والاعتكاف أن يحبس الرجل نفسه في مَسْجِدِ

جَماعةٍ يتعبَّد فيه ، فعليه إذا فعل ذلك ألا يُجَامع وألا يتصرَّفَ إلا فيما لا بد له مِنْهُ من حاجته.

وقوله عزَّ وجلَّ : (تِلْكَ حُدُودُ اللّه فَلَا تَقْرَبُوهَا).

معنى الحدود ما منع اللّه عزَّ وجلَّ من مخالفتها ، - ومعنى الحدَّادُ في اللغة

الحاجب ، وكل من منع شيئاً فهو حدَّاد . وقولهم أحَدَّتَ المرأة على زوجها معناه قطعتِ الزينَةَ وامتنعت منها ، والحديد إِنما سمي حديداً لأنه يمتنع به من

الأعداءِ . وحَدُّ الدَّار هُوَ مَا يمنع غيرها أن تدخل فيها.

وقوله عزَّ وجلََّّ : (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّه آيَاتِهِ لِلنَّاسِ)).

أي مثل البيان الذي ذكر ،  ما أمرهم به يبين لهم.

* * *

١٨٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)

(تأْكلوا) جزم بلا ، لأن " لا " التي ينهي بها تلزم الأفعال دون الأَسماءِ

وتأثيرها فيها بالجزم ، لأن الرفع يدخلها ، بوقوعها موضع الأسماءِ والنصب

يدخلها لمضارعة الناصب فيها الناصب للأسماءِ ، وليس فيها بعد هذين

الحيزين إلا الجزم . ومعنى بالباطل أي بالظلم.

(وتُدْلُوا بهَا إلى الحُكَّام) : أي تعملون على ما يوجبه ظاهر الحكم ويتركون ما

قد علمتم أنه الحق ، ومعنى تُدْلوا في اللغة إِنَّما أصله من أدْلَيْتُ الدلو إِذا أرسلتها للمليءِ ، ودلوتها إذا أخرجتها ، ومعنى أدلى لي فلان بحجته أرسلها وأتى بها على صحة ، فمعنى (وتُدْلُوا بهَا إلى الحُكَّام) أي تعملون على ما يوجبه الِإدلاءُ بالحجة ، وتخونون في الأمانة.

(لِتَأكُلُوا فَريقاً مِنْ أموَالِ النَّاسِ بِالإثمِ وأنْتُم تَعْلَمُونَ).

أي وأنتم تعلمون أن الحجة عليكم في الباطن ، وإن ظهر ، خلافها.

ويجوز أن يكون (موضع) " وتدلوا " جزماً ونصباً - فأما الجزم فعلى النهي.

معطوف على ولا تأكلوا ، ويجوز أن تكون نصباً على ما تنصب الواو ، وهو الذي يسميه بعض النحويين الصرف ، ونصبه بإِضمار أن ،  لا تجمعوا بين الأكل بالباطل والِإدلاءِ إِلى الحكام ، وقد شرحنا هذا قبل هذا المكان.

* * *

١٨٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللّه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩)

كان النّبى - صلى اللّه عليه وسلم - سئل عن الهلال في بدئه دقيقاً وعن عِظَمِهِ بعد ، وعن رجوعه دقيقاً كالعرجون القديم ، فأعلم اللّه عزَّ وجلَّ أنه جعل ذلك ليعلم

الناس ، أوقاتهم في حَجهِمْ وَعِدَدِ نِسائِهمْ ، وجميع ما يريدون عدمه مشاهرة.

لأن هذا أسهل على الناس من حفظ عدد الأيام ، ويستوى فيه الحاسب وغير

الحاسب.

ومعنى الهلال واشتقاقه : من قولهم اسْتَهَل الصبي إِذا بكى حين يولد

صاح ، وكأن قولهم أهَل القوم بالحج والعمرة - أي رفعوا أصواتهم بالتلبية ، وإنما قيل له هلال لأنه حين - يرى يهل الناس بذكره ويقال اهِلً الهلال واسْتَهَلً ، ولا يقال أهَلّ ، ويقال أهلَلْنا . أي رأينا الهلال.

وأهللنا شهر كذا وكذا ، إِذا دخلنا فيه.

وأخبرني من أثق به من رواة البصريين والكوفيين - جميعاً بما أذكره في أسماءِ

الهلال وصفات الليالي التي في كل شهر :

فأول ذلك : إِنما سمي الشهر شهراً لشهرته وبيانه ، وسُمِّيَ هلالا لِمَا وصفنا

من رفع الصوت بالِإخبار عنه ، وقد اختلف الناس في تسميته هلالًا ، وكم ليلةً يُسَمَّى ومَتَى يُسَمَّى قمراً ، فقال بعضهم يسمى هلالًا لليلتين من الشهر ثم لا يسمى هلالًا ، إِلى أن يعود في الشهر التالي ، وقال بعضهم يسمى هلالًا ثلاث ليال ثم يسمى قمراً ، وقال بعضهم يسمى هلالًا إِلى أن يحجَّر وتحجيره أن يستدير بخطة دقيقة.

وهو قول الأصمعي . وقال بعضهم يسمى هلالًا إِلى أن

يَبْهَرَ ضوؤة سوادَ الليل ، فإذا غلب ضوؤة سوادَ الليل قيل له قمر ، وهذا لا

يكون إِلا في الليلة السابعة ، والذي عندي وما عليه الأكثر أنه يسمى هلالاً

ابنَ ليلتين ، فإِنه في الثالثة يَبِين ضوؤه.

واسم القمر الزبرقان ، واسم دارته الهالة ، واسم ضوئه الفَخْت وقد قال

بعض أهل اللغة لا أدري الْفَخْت اسم ضوئه أم ظلْمَتِه ، واسم ظلمته على

الحقيقة " (واسم ظله) السَّمَر ، ولهذا قيل للمتحدثين ليلا سمَّار ، ويقال ضاءَ

القمر وأضاءَ ، ويقال طلع القمر ، - ولا يقال أضاءَت القمر  ضاءَت.

قال أبو إسحاق وحدثني من أثق به عن الرِّيَاشي عن أبي زيد ، وأخبرني

أيضاً من أثق به عن ابن الأعرابي بما أذكره في هذا الفصل : قال أبو زيد

الأنصاري ، يقال للقمر بنَ ليلةٍ : عَتَمَةَ سُخَيْلة حل أهلها برمَيْلَةِ ، وابنَ ليلتين

حديث أمَتَين كذبٌ ومَيْن ورواه ابن الأعرابي بكذب ومَيْن ، وابن ثلاث

حديث فتيات غير جد مؤتلفات.

وقيل ابن ثلاث قليل اللبَاث ، وابن أربع عتمة ربَع لا جائع ولا

مرْضَع ، وعن ابن الأعرابي عتمة أم الربع ، وابن خمس حديث وأنس ،

وقال أبو زيد عشا خَلِفَات قُعْسْ ، وابن ست سِمرْوَبِتْ.

وابن سَبْع دُلْجَة الضبع وابن ثمان قمر أضحيان وابن تسع عن أبي

زيد : انقطع السشسع ، وعن غيره يلتقط فيه الجزع ، وابن عشر ثلث

الشهر ، وعن أبي زيد وغيره محنق الفجر . -

ولم تقل العرب بعد العشر في صفته ليلة ليلة كما قالت في هده العشر

ولكنهم جزأوا صفته أجزاء عشرة ، فجعلوا لكل ثلاث ليال صفة فقالوا ثلاث غُرَر ، وبعضهم يقول غُز ، وثلاث شُهْب ، وثلاث بُهْر وبَهْر ، وثلاث عُشْر ، وثلاث بيض ، وثلاث دُرْع ، ودُرُع ، ومعنى الدرَعُ سواد مُقَدَّم

الشاة وبياضُ مؤخرها ، وإنما قيل لها دُرْع ودُرُع لأن القمر يغيب في أولها.

فيكون أول الليل أدرع لأن أوله أسود وما بعده مضي ، وثلاث خُنْس ، لأن

القمر يَنْخَنِس فيها أي يَتَأخر ، وثلاث دهم ، وإنما قيل لها دهم لأنها تُظْلم حتى تَدْهَامّ ، وقال بعضهم ثلاث حَنَادِس ، وثلاث فُحْم لأن القمر يتفحم

فيها ، أي يطلع في آخر الليل وثلاث دَادِي ، وهي أواخر الشهر وإنما أخذت من الدأداءِ وهو ضرب من السير تسرع فيه الإبل نقل أرجلها إلى موضع أيديها.

فالدأدأة آخر نقل القوائم ، فكذلك الدأدِيُ في آخر الشهر.

وجمع هلال أهله ، لأدنى العدد وأكثرِه ، لأن فِعالا يجمع في أقل العدد على أفعلة مثل مِثَال وأمْثِلَة وحِمَار وأحْمِرَةُ وإذا جاوز أفعلة جُمِعَ على فُعْل ، مثل حُمُر ومُثُل ، فكرهوا في التضعيف فعل نحو هُلُل وخُلُل ، فقالوا أهِلة وأخِلة ، فاقتصروا على جمعِ أدنى العدد ، كما اِقتصروا في ذوات الواو والياءِ على ذلك ، نحو كِسَاء وأكسية ورِدَاء وأرْدِية.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى)

قيل إنه كان قوم من قريش وجماعة معهم من العرب إِذا خرج الرجل

منهم في حاجة فلم يقضها ولم تتَيسر له رجع فلم يدخل من باب بيته سنة ، يفعل ذلك تَطيرا - فأعلمهم اللّه عزَّ وجل أن ذلك غَيْرُ بِر ، أي الإقامة على الوفاءِ - بهذه السَّنة ليس ببر ، وقال الأكثر من أهل التفسير : إنهم الحُمْسُ ، وهم قوم من قريش ، وبنُو عامر بن صعصعة وثَقيف وخزاعة ، كانوا إِذا أحرموا لا يأقطُون الأقط ، ولا ينْفُونَ الوَبَرَ ولا يسْلون السَّمْنَ ، وإِذا خَرجَ أحدهم من الإحرام

لم يدخل من باب بيته ، وإنما سُمُّوا الحُمْسَ لأنهم تَحمَّسوا في دينهم أي تشددوا.

وقال أهل اللغة الحماسة الشدة في الغضب والشدة في القتال ، والحماسة على

الحقيقة الشدة في كل شيءٍ.

وقال العجاج :

وكمْ قطَعنا من قِفَافٍ حُمْس

أي شِدَاد - فأعلمهم اللّه عزَّ وجلَّ أن تشددهم في هذا الإحرامْ ليس بِبر.

وأعلمهم أن البر التقي فقال : (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى).

 ولكن البر برُّ من اتقى مخالفةَ أمر اللّه عزَّ وجلَّ ، فقال :

(وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) فأمرهم اللّه بترك سنة الجاهلية في هذه

الحماسة.

* * *

١٩٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّه لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠)

قالوا في تفسيره قاتلوا أهلَ مكة ، وقال قوم هذا أول فرض الجهاد ثم

نسخه (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً).

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (ولا تَعْتَدُوا).

أي لا تظلموا ، والاعتداء : مجاوزة الحق ، وقيل في تفسيره قولان : قيل لا

تعتدوا : لا تقاتلوا غير من أمرتم بقتاله - ، ولا تقتلوا غيرهم ، وقيل لا تعتدوا : أي لا تجاوزوا إِلى قتل النساءِ والأطفال.

* * *

١٩١

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (١٩١)

أي حيث وجدتموهم ، يقال ثَقِفْتهُ أثقفه ثَقْفاً وَثَقَافَة ، ويقال : رجل ثَقِفٌ

لَقِفٌ.

ومعنى الآية : لا تَمْتنِعوا من قتلهم في الحرم وغيره .

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ).

أي فكفرهم في هذه الأمكنة أشد من القتل.

وقَوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ).

كانوا قد نُهوا عن ابتدائهم بقتل  قتال حتى يبتدي المشركون بذلك.

وتقرأ : (ولا تَقْتُلوهم عند المسجد الحرام حتى يَقْتُلوكم فيه) أي لا تبدأوهم بقتل حتى يبدأوكم به ، وجائز ولا تقتلوهم وإن وقع القتل ببعض دون بعض ، لأن اللغة يجوز فيها قتَلْتُ القومَ وإنَّما قُتِلَ بعضُهم إذا كان في الكلام دليل على إرادة المتكلم.

* * *

١٩٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للّه فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣)

هذا أمر من اللّه عزَّ وجلَّ أن يقاتَل كل كافر لأن  - ههنا في الفتنة

والكفر.

* * *

١٩٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)

(الشَّهْرُ) رفع بالابتداءِ وخبره (بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ) ، ومعناه قتال الشهر الحرام.

ويروى أن المشركين سألوا النبي - صلى اللّه عليه وسلم - عن الشهر الحرام هل فيه قتال : . فأنزل اللّه عز وجلَّ أن القتل فيه كبير ، أي عظيم في الإثم ، وإنما سألوا ليَغُرًّوا المسلمين ، فإن علموا أنهم لم يؤمروا بقَتلهم قاتلوهم ، فأعلمهم اللّه عزَّ وجلَّ أن القتال فيه محرم إلا أن يبتدئ المُشْرِكُونَ بالقِتَال فيه فيقاتلهم المسلمون :

فالمعنى في  (الشَّهْرُ الْحَرَامُ) أي قِتَالَ الشهر الحرام ، أي في (الشهر الحرام ، بالشهر الحرام).

وأعلم اللّه عزَّ وجلَّ أن هذه الحرمات قصاص ، أي لا يجوز للمسلمين

إلا قصاصاً.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمن اعْتَدى عَليْكُمْ).

أي من ظلم فقاتل فقد اعتدى ، (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) ، وسُمًيَ الثاني اعتداءً لأنه مجازاة اعتداء فسُمًيَ بِمِثل اسمه ، لأن صورة

الفعلين واحدة . وإن كان أحدهما طاعة والآخر معصية ، والعرب تقُول ظلمني فلان فظلمته أي جازيته بظلمه ، وجهل عليَّ فجهلت عليه أي جازيته

بجهله.

قال الشاعر :

ألا لا يجهلنَّ أحد علينا . . . فنَجهل فوق جهل الجاهلينا

أي فنكافئ على الجهل بأكثر من مقداره.

وقال اللّه عزَّ وجلَّ : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّه)

وقال : (فَيسْخرون منهم سَخر اللّه مِنْهُمْ).

جعل اسم مجازاتهم مكراً كما مكروا ، وجعل اسم مجازاتهم على سخريتهم سُخرياً ، فكذلك : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ).

* * *

١٩٥

ْوقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّه وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)

أيْ في الجهاد في سبيل اللّه ، وكل ما أمر اللّه به من الخير فهو من سبيل

اللّه ، أي من الطريق إلى اللّه عزَّ وجلَّ.

لأن السبيل في اللغة الطريق ، وإنما استعمل في الجهاد أكثر لأنه السبيل الذي يقاتل فيه على عقد الدين.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (ولا تُلْقُوا بأيدِيكُم إلى التهْلُكَةِ).

أصل بأيديْكُمْ (بأيدِيكم) بكسر الياءِ . ولكن الكسرة لا تثبت في الياءِ (إذا كان ما قبلها مكسوراً) لثقل الكسرة في الياءِ .

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّه وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِلَى التَّهْلُكَةِ) معناه إلى الهلاك ، يقال هلك الرجل يهلكُ

هَلاكاً وهُلْكاً وتَهْلُكَةً وتَهُلِكَةً.

وتهْلُكَة اسم . ومعناه إن لم تنفقوا في سبيل اللّه هَلَكتم ، أي عصيتم اللّه فهلكتم ، وجائز أن يكون هلكتم بتقوية عدوكم

عليكم واللّه أعلم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

أي أنفقوا في سبيل اللّه فمن أنفق في سبيل اللّه فَمُحْسِن.

* * *

١٩٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا  بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ  صَدَقَةٍ  نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللّه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ (١٩٦)

يجوز في العمرة النصب والرفع : والمعنى في النصْب أتموهما.

والمعنى في الرفع وأتموا الحج ، والعمرةُ للّه ، أي هي مما تَتَقرَّبون به إلى اللّه " عزَّ وجلَّ وليس بفَرْض.

وقيل أيضاً في قوله عزَّ وجلَّ : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ). غير قول :

يُروى عن علي وابنِ مسعود - رحمة اللّه عليهما - أنهما قالا : إتمامهمَا أن

تحرم من دُويرة أهلك ، ويروى عن غيرهما إنَّه قال إِتمامُهما أن تكون النفقةُ

حلالاً . وينتهي عما نهى اللّه عنه.

وقال بعضهم إِن الحج والعمرةَ لهما مواقف

ومشاعر ، كالطواف والموقِفُ بعرفة وغير ذلك ، فإتمامهما تأدية كل ما فيهما ، وهذا بين ، ومعنى اعتمر في اللغة قيل فيه قولان.

قال بعضهم اعتمر قصد.

قَال الشاعر :

لَقدْ سما ابن معمر حين اعتمر . . . مغزى بعيداً من بعيد وضَبر

 حين قصد مغزى بعيداً ، وقال بعضهم معنى اعتمر : زار من

الزيارة ، ومعنى العُمْرةِ في العَمل الطوافُ بالبَيْتِ والسعيُ بين الصفا والمروة

فقط ، والعمرة للِإنسان في كل السنة ، والحج وقته وقت واحد من السنة ، ومعنى اعتَمر عِنْدي في قصد البيت . أنه إِنما خص بهذا - أعني بذكر اعتمر - لأنه قصد العمل في وضع عامر لهذا قيل معتمر :

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).

الرواية عند أهل اللغة أنه يقال للرجل الذي يمنعه الخوف  المرض من

التصرف قد احصر فهو مُحْصَر - ويقال للرجل الذي حُبِسَ قد حُصِرَ فهو

مَحْصُور.

وقال الفراءُ : لو قيل للذي حُبِسَ أُحْصِرَ لجاز ، كأنه يجعل حابسه بمنزلة

المرض والخوف الذي ، منعه من التصرف ، وألحق في هذا ما عليه أهل اللغة من أنه يقال للذي يمنعه الخوفُ والمرضُ أُحْصِرَ وللمَحبُوس حُصِر ، وإِنما كان ذلك هو الحق لأن الرجل إذا امتنع من التصرفَ فقد حبس نفسه ، فكأن المَرض أحبسه أي جعله يحبس نفسه ، وقوله حصرت فلاناً إنما هو حبسته ، لا أنه حبس نفسه ، ولا يجوز فيه أحصر.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).

موضع " مَا " رفْع  فواجب عليه ما اسْتَيسَر من الهَديِ ، وقد قيل في

الهدى : الهَدِي . والهَدِي جمْع هَديًةٍ . وهَدْي ، كقولهم في حَذْية السَرجِ حَذِيَّة

وحَذْيٌ . وقال بعضهم ما استيسر ما تيسر من الإبل والبقر.

وقال بعضهم بعير  بقرة  شاة وهذا هو الأجود.

(وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ).

قالوا في مَحِلهِ من كان حاجا محله يوم النحر ، ولمن كان معتمراً يوم

بدخل مكة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا  بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ).

- أي فعليه فدية ، ولو نصب جاز في اللغة على إضمار فليعط فدية

فليأت بفدية ، وإِنما عليه الفدية إذا حلق رأسه وحل من إِحرامه وقوله

( نُسُكٍ) أي  نَسيكة يذبحها ، والنسِيكة الذبيحة . .

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).

أي فعليه ما استيسر من الهدي ، وموضع (ما) رفع ويجوز أن يكون نصباً

على إضمار فليهد ما استيسر من الهدي.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ).

معناه فعليه صيام ، والنصب ، جائز على فليصم هذا الصيام ، ولكن

القراءَة لا تجوز بما لم يقرأ به.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)

قيل فيها غير قول : قال بعضهم : (كَامِلَةٌ) أي تكمل الثواب.

وقال بعضهم (كَامِلَةٌ) في البدل من الهدي.

والذي في هذا - واللّه أعلم - أنه لما قيل (فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) ، جاز أن يَتَوهم المتوهمُ أن الفرض ثلاثة أيام في الحج

سبعة في الرجوع - فأَعلم اللّه عزَّ وجلَّ - أن العشرة مفترضة كلها ، فالمعنى

المفروض عليكم صوم عشرة كاملة على ما ذكر من تفرقها في الحج والرجوع.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).

أي هذا الفرض على من لم يكن من أهله بمكة

و (حاضري المسجد الحرام) أصله حاضرين المسجدَ الحرام فسقطت النون للإضافة وسقطت الياءُ في الوصل لسكونها وسكون اللام في المسجد ، وأما الوقف فتقول فيه متى اضطررت إلى أن تقف (حاضري)

* * *

١٩٧

وقوله عزَّ وجلَّ : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّه وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٧)

قال أكثر الناس : إن أشهر الحج شوالُ وذُو القَعدة وعشر منْ ذي

الحجًة.

(فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ).

وقال بعضهم : لو كانت الشهور التي هي أشهر الحج شوالاً ، وذا القعدة لما جاز للذي منزله بينه وبين مكة مسافة أكثر من هذه الأشهر أن يفرض على نفسه الحج.

وهذا حقيقته عندي أنه لا ينبغي للإنسان أن يبتدئ بعمل من أعمال

الحج قبل هذا الوقت نحو الإحرام ، لأنه إذا ابتدأ قبل هذا الوقت أضر بنفسه - فأمر اللّه عزَّ وجل - أن يكون أقصى الأوقات التي ينبغي للإنسان ألا يتقدمها في عقد فرض الحج على نفسه شوالًا ، وقال بعض أهل اللغة : معنى الحج إنما هو في السنة في وقت بعينه ، وإنما هو في الأيام التي يأخذ الإنسان فيها في عمل الحج

لأن العمرة له - في طول السنة ، فينبغي له في ذلك الوقت ألا يَرْفُث ولا يفْسُقَ.

وتأويل (فلا رفَثَ ولا فُسْوقَ) ، لا جماعَ ولا كلمةً من أسباب الجماع قال

الراجز :

عن اللَّغَا وَرَفَث التَكَلمِ

والرفث كلمة جامعة لما يريده الرجل من أهله.

وأمَّا فَلا فُسُوقَ فإذا نُهيَ عن الجِماع كُلَّهِ فالفسوق داخل فيه - ولكن  - واللّه أعلم - فلا فسوق أَي لا يخرج عن شيء من أمر الحج -

وقالوا في قوله (ولا جدالَ في الحج) قولين :

قالوا : (لا جدَالَ في الحَجِّ) - لا شك في الحج ، وقالوا لا ينبغي للرجل أن يجادل أخاه فيخرجه الجدال إِلى ما لا ينبغي تعظيماً لأمر الحج ، وكلٌّ صَوابٌ ، ويجوز فلا رفثٌ ولا فسوق ولا جدالٌ في الحج.

وبعضهم يقرأ - وهو أبو عمرو - (فلا رَفَثٌ ولاَ فُسُوقٌ ولا جِدَالٌ في الحج) . وكلٌّ صَواب.

وقد شرحنا (أن) لا تنصب النكرات بغَير تنوين وبيَّنَّا حقيقةَ نصبها وزَعم سيبويه والخليلُ أنه يجوز أن تُرفَع النًكرات بتَنْوينِ

وأن قول العجاج

تاللّه لولا أن يحشَّن الطُّبَّخُ . . . بَي الجَحيمَ حينَ لامُسْتَصرخُ

يجب أن يكون رفع مستصرخ بلا ، وأن قوله.

مَن صَدَّ عن نِيرانِها . . . فأنا ابن قيس لاَ بَراحُ

وحقيقة ما ارتفَعَ بعدها عند بعض أصحابه على الابتداءِ لأنه إذا لم تنصب

فَإنَّما يُجريَ ما بعدها كما يُجرى ما بعد هَل ، أي لا تَعْمل فيه شيئاً ، فيجوز أن يكون لا رفث على ما قال سيبويه ويجوز أن يكون على الابتداءِ كما وصفنا ، ويكون في الحج هو خبر لهذه المرفوعات ، ويجوز إِذا نصبت ما قبل المرفوع بغير تنوين وأتيت بما بعده مرفوعاً أن يكون عطفاً على الموضع ، ويجوز أن يكون رفعه على ما وصفنا ، فأما العطف على الموضع إِذا قلت لا رجل وغلام في الدار فكأنك قلت ما رجل ولا غلام في الدار.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى).

يروى أن قوماً كانوا يخرجون في حجهم يَتَأكَّلونَ الناس ، يخرجون بغير

زاد ، فأمروا بأن يتزودوا ، وأعلموا مع ذلك أن خير ما تزود به تقوى اللّه

عزَّ وجلَّ.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ).

(الألباب) واحدها لب ، وهي العقول (أُولِي) نصب لأنه نداء مضاف.

* * *

١٩٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللّه عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨)

قيل إنهم كانوا يزعمون أنه ليس لِحمَّال ولا أجير ولا تَاجر حج فأعلمهم

اللّه عزَّ وجلَّ . أن ذلك مباح ، واف لا جناح فيه ، أي لا إِثم فيه ، وجناح اسم ليس ، والخبر عليكم ، وموضع أنْ نصب على تقدير ليس عليكم جناح في أن تبتغوا فلما أسقطت " في " عمل فيها معنى جناح.

 لستم تأثمون أن تبتغوا ، أي في أن تبتغوا .

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ).

قد دل بهذا اللفظ أن الوقوف بها واجب لأن الِإفاضة لا تكون إلا بعد

وقوف ، ومعنى (أفضتم) ، دَفعتم بكثرة ، ويقال أفاض القوم في الحديث إذا اندفعوا فيه وأكثروا التصرف.

وأفاض الرجل إِناءَه إِذا صبه وأفاضَ البعيرُ بجرته إذا

رمى بها متَفرقَةً كثيرة.

قال الراعي :

وأفضْن بعد كظُومُهن بجرة . . . من ذي الأباطح إذ رعْين حقيلا

وأفاض الرجل بالقداح إذا ضرب بها ، لأنها تقع منبعثة متفرقة

قال أبو ذؤلب :

وكأنهنَّ رِبابَة وكأنَّه . . . يَسِر يَفِيض على القِداح ويصدع

وكل ما في اللغة من باب الإفاضة فليس يكون إِلا من تَفْرقةٍ اوكثرة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (مِنْ عَرَفَاتٍ).

القراءَة والوجه الكسر والتَنْوينُ ، وعرفات اسم لمكان واحد ولفظه لفظ

الجمع ، والوجه فيه الصرف عند جميع النحوين لأنه بمنزلة الزيدين يستوي نصبه وجره ، وليس بمنزلة هاءِ التأنيث - ، وقد يجوز منعه من الصرف إذا كان اسماً لواحد ، إِلا أنه لا يكون إلا مكسوراً وإن أسقطت التنوين.

قال امرؤ القيس :

تنورثها من أذرعاتَ وأهلُها . . . بيثرب أدنى دارها نظر عال

فهذا أكثر الرواية ، وقد أنشد بالكسر بغير تنوين ، وأما الفتح فخطأ لأن

نصب الجمع وفتحه كسر.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَاذْكُرُوا اللّه عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ).

هو مزدلفة ، وهي جمع ، يسمى بهما جميعاً المشعر المتعبد

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ).

موضع الكاف نصب ، والمعنى واذكروه ذكراً مثل هدايته إياكم أي يكون

جزاء لهدايته إياكُم ، واذكروه بتوحيده ، والثناءِ عليه والشكر.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ).

معنى (من قبله) أي من قبل هدايته ، ومعنى كنتم من قبله (لمن

(الضالين) هذا من التوكيد للأمر ، كأنه قيل وما كنتم من قبله إلا ضالين.

* * *

١٩٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللّه إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩)

قيل كانت الحُمْسُ من قريش وغيرها (وقد بيَّنَّا الحمس فيما تقدم)

لا تفيض مع الناس في عرفة - تتمسك بسنتها في الجاهلية ، وتفعل ذلك افتخاراً على الناس وتعالياً عليهم ، فأمرهم اللّه عزَّ وجلَّ أن يساووا الناس في الفرض ، وأن يقفوا مواقفهم وألا يفيضوا من حيث أفاضوا.

وقله عزَّ وجلَّ : (وَاسْتَغْفِرُوا اللّه إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ).

أي سلوه أن يغفرَ لكم من مخالفتكم الناسَ في الِإفاضة والموقف.

* * *

٢٠٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللّه كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ  أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (٢٠٠)

أي متعبداتكم التي أمرتم بها في الحج.

(فَاذْكُرُوا اللّه كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ).

وكانت العرب إذا قضت مناسكها ، وقفت بَيْن المسْجد بمنى وبين الجبل

فتعدد فضائل آبائها وتذكر محاسنَ أيامها.

فأمرهم اللّه أن يجعبوا ذلك الذكر له.

وأن يزيدوا على ذلك الذكر فيذكروا اللّه بتوحيده وتعديد نعمه ، لأنه إِنْ كانت لآبائهم نعم فهي من اللّه عزَّ وجلَّ ، وهو المشكور عليها.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : ( أَشَدَّ ذِكْرًا).

(أَشَدَّ) في موضع خفض ولكنه لا يتصرف لأنه على مثال أفعل ، وهو

صفته ، وِإن شئت كان نصباً على واذكروه أشد ذكراً.

و (ذِكْرًا) منصوب على التميز.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا).

(آتنا) وقف لأنه دعاء ، ومعناه أعطنا في الدنيا ، وهُؤلاءِ مشركو العرب

كانوا يسألون التوسعة عليهم في الدنيا ولا يسألون حظا من الآخرة لأنهم كانوا غير مؤمنين بالآخرة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ).

يعني هُؤلاءِ ، والخلاق النصيب الوافر من الخير.

* * *

٢٠١

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (٢٠١)

هؤُلاءِ المؤمنون يسْألون الحظ في الدنيا والآخرة.

والأصل في " قنا "  قِينا -

ولكن الواو سقطت كما سقطت من يَقِي ، لأن الأصل " يَوْقي " فسقطت الواو

لوقوعها بين ياء وكسرة ، وسقطت ألف الوصل للاستغناء عنها لأنها اجتلبت

لسكون الواو ، فإذَا أسقطت الواو فلا حاجة بالمتكلم إليها ، وسقطت الياءُ

للوقف - وللجزم في قول الكوفيين - والمعنى أجعلنا مُوقَيْنَ مِن عذاب النار.

* * *

٢٠٢

وقوله عزَّ وجلَّ : (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللّه سَرِيعُ الْحِسَابِ (٢٠٢)

أي دعاؤهم مستجاب لأن كسبهم ههنا الذي ذكر هو الدعاءُ

وقد ضمن اللّه الِإجابة لدعاء من دعاه إِذا كان مؤمناً ، لأنه قد أعلمنا أنه يضل أعمال الكافرين ، ويحبطها ، ودعاؤُهم من أعمالهم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاللّه سَرِيعُ الحِسَابِ).

 أنه قد علم ما للمحاسَب وما عليه قَبْل توقيفه على حسابه ، فالفائدة

في الحساب علم حقيقته - وقد قيل في بعض التفسير - إِن حساب العبد أسرع من لمح البصر - واللّه أعلم.

* * *

٢٠٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاذْكُرُوا اللّه فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللّه وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)

قالوا : هي أيام التشريق ، (معدودات) يستعمل كثيراً في اللغة للشيءِ

القليل - وكل عدد قل  كثر فهو معدود ، ولكن معدودات أدل على القلة ، لأن كل قليل يجمع بالألف والتاء ، نحو دريْهمَات وجماعات.

وقد يجوز وهو حسن كثير أن تقع الألف والتاء للكثير ، وقد ذُكِرَ أنه عيبَ عَلى القائل :

لنا الجَفَنَاتُ الغر يلمعْن بالضحى . . . وأسيافنا يقطرْنَ من نجدة دمَا

فقيل له لم قَلَّلْتَ الجَفَنَاتِ ولَمْ تَقُل : الجِفان.

وهذا الخبر - عندي - مَصْنوع لأن الألف والتاء قد تأتي للكثرة - قال اللّه

عزَّ وجلَّ :

(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).

وقال : (في جنات) ، وقال (في الغرفات آمنون) ، فالمسلمون ليسوا في جنات قليلة ، ولكن إذا خص القليل في الجمع بالألف والتاء ، فالألف والتاء أدل عليه ، لأنه يلي التثْنِيَةِ ، تقول : حمام ، وحمامان وحمامات ، فتؤَدى بتاءِ الواحد ، فهذا أدل على القليل ، وجائز حسن أن يراد به الكثير ، ويدل  المُشَاهَدُ على الإرَادَة ، كما أن قولك جمع يدل على القليل والكثير.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ).

أي من نفر في يومين.

(فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى).

قيل لمن اتقى قتل الصيد ، وقالوا : لمن اتقى التفريط في كل حدود الحج.

فموسع عليه في التعجل في نَفْرِه.

* * *

٢٠٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّه عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (٢٠٤)

- موضع (مَنْ) رفع على ضربين : على الابتداء ، وبالعامل في (مِنْ) وقد

شرحنا هذا الباب.

ويروى أن رجلًا من ثقيف كان يعجب النبي - صلى اللّه عليه وسلم - كلامُه ، ويظهر له من الجميل خلاف ما في نفسه.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيُشْهِدُ اللّه عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ).

وإِن قلت ويشْهدُ اللّه على ما في قلبه فهو جائز إِن كان قد قرئ به

والمعنى فيه أن اللّه عالم بما يُسِرَّه ، فأعلم اللّه عزَّ وجلَّ النبي - صلى اللّه عليه وسلم - حقيقةَ أمر هذا المنافق - وقال : (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ).

ومعنى خَصم ألدُّ في اللغة - الشديد الخصومة والجَدَلِ ، واشتقاقه من

لُدَيْدَي العُنق ، وهما صفحتا العنق ، وتأويله ، أن خصمه في أي وجه أخذ - من يمين  شمال - من أبواب الخصومة غلبه في ذلك.

يقال رجل ألدُّ ، وامرأة لَدَّاء

وقوم لُدٌّ - وقد لَدَدْتُ فُلاناً ألَده - إِذا جادلته فغلبتُه.

وخصام جمع خَصْمٍ ، لأن فعلاً يجمع إِذا كان صفة على فِعَالٍ ، نحو صَعْب وصِعَاب ، وخَدْل وخِدَال.

وكذلك أن جعلت خصماً صفة ، فهو يجمع على أقل العدد ، وأكثره على فَعُول وفِعَالٍ جميعاً ، يقال خَصْم وخِصَام وخُصُوم ، وإِن كان اسماً فَفِعَال فيه أكْثر العدَدِ ، نحو فَرْخ وأفراخ ، لأقل العدد ، وفِراخ وفُروخ لما جاوز العشرة.

* * *

٢٠٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّه لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (٢٠٥)

نصب (لِيُفْسِدَ) على إضمار أن ،  لأن يفسد فيها ، وعطف ويُهلك

علي وُيفسد ، ويجوز أن يكون (يُهْلِكَ الحَرْثَ والنَسْلَ) على الاستئناف أي وهو يهلكُ الحرثَ والنسل ، أي يعتقد ذلك.

وقالوا في (الحرث والنسل) : إن الحرث النساء والنسل الأولاد.

وهذا غير منكر

لأن المرأة تُسمَّى حرْثاً - قال اللّه عزَّ وجلَّ : (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ)

وأصل هذا إِنما هو في الزرع ، وكل ما حرث . فيشبه ما منه الولد بذلك . وقالوا في الحرث هو ما تعرفه من الزرع . لأنه إذَا أفسد في الأرض أبطل - بإفْساده وإِلقائه الفتنة - أمْرَ الزراعة.

* * *

٢٠٧

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه وَاللّه رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٢٠٧)

قال أهل اللغة - (يَشْرِي نَفْسَهُ) يبيع نفسه ، ومعنى بيعه نفسه بذلها في الجهاد

في سبيل اللّه.

قال الشاعر في شريت بمعنى بعت :

وَشَرَيْتُ بُرداً ليتني . . . من بعد برد كنت هامه

وقال أهل التفسير هذا رجل كان يقال له صهيب بن سنان . أراده

المشركون مع نفر معه على ترك الِإسلام ، وقتلوا بعض النفر الذين كانوا معه

فقال لهم صهيب أنا شيخ كبير ، إن كنت عليكم لم أضُركم " وإِن كنت معكم لم أنفعكم فخلوني وما أنا عليه ، وخذوا ماليَ فقبلوا منه ماله ، وأتى المدينة فلقيه أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه فقال له : ربح البيع يا صهيب ، فرد عليه وأنت فربح بيعك يا أبا بكر وتلا الآية عليه .

ونصب (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه) على معنى المفْغول له.

 يشريها لابتغاءِ مرضاة اللّه.

* * *

٢٠٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨)

(كافة) بمعنى الجميع الِإحاطة ، فيجوز أن يكون معناه ادخلوا جميعاً ، ويجوز

أن يكون معناه : ادخلوا في السلم كله أي في جميع شرائعه ، ويقال السلْم

والسلم - (جميعاً) ، ويعني به الِإسلام والصلح ، وفيه ثلاث لغات : يقال :

السِّلْم ، والسَّلَمُ ، والسَّلْمُ ، وقد قرئ به : (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إِلَيْكم السلَامَ).

ومعنى (كافة) في اشتقاق اللغة ما يكف الشيء من آخره ، من ذلك كفُة

القميص ، يقال لحاشية القميص كُفة ، وكل مستطيل فحرفه كُفَه ، ويقال في كل مستدير كِفَّه ، وذلك نحو كِفَّة الميزان ، ويقال إِنَّما سميت كُفَّة الثوب لأنها تمنعه أن ينتشر ، وأصل الكَف المنع ، ومن هذا قيل لطرف اليد " كف " لأنها يكف بها عن سائر البدن ، وهي الراحة مع الأصابع ، ومن هذَا قيل رجل مكفوف ، أي قد كُف بصره من أن ينظر : فمعنى الآية : ابْلغُوا في الِإسلام إلى حيث تنتهي شرائعه ، فكفوا من أن تعدوا شرائعه.

 ادْخُلُوا كلكم حتى يكف عن عددٍ وأحدٍ لم يدْخل فيه.

وقيل في معنى الآية أن قوعاً من إليهود أسلموا فأقاموا على

تحريم السبت وتحريم أكل لحوم الِإبل ، فأمرهم اللّه عزَّ وجلَّ - أن يدخلوا في

جميع شرائع الِإسلام وقال بعض أهل اللغة : جائز أن يكون أمرَهُمْ - وهم مؤمنون - أن يدخلوا في الِإيمان ، أي بأن يقيموا على الِإيمان ويكونوا فيما

يستقبلون عليه كما قال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) ، وكلاَ القولين

جائز لأن اللّه عزَّ وجلَّ ، قد أمر بالِإقامة على الِإسلام فقال : (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلا وَأنْتم مُسْلِمونَ).

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَتبِعُوا خطواتِ الشيْطَانِ).

أي لا تقتفوا آثاره ، لأنَّ تَركَكم شيئاً من شرائع الِإسلام اتباع الشيطان.

(خُطُواتِ) جمع خطوة ، وفيها ثلاث لغات : خُطُوات ، وخطَوات ، وخُطْوات ، وقد بيَّنَّا العلة في هذا الجمع فيما سلف (من الكتاب).

* * *

٢٠٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩)

يقال زل يزِل زَلاً وزلَلاً جميعاً ، ومَزلَّة ، وزل - في الطين زليلًا ، ومعنى

(زَلَلْتُمْ) تنحيتم عن القصد والشرائع.

(فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

ومعنى (عَزِيزٌ) : لا يُعْجِزونه ولا يُعجزه شيء . ومعنى (حَكِيمٌ) ، أي حكيم فيما فطركم عليه ، وفيما شرع لكم من دينه.

* * *

٢١٠

ْوقوله عزَّ وجلَّ : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّه فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠)

قال أهل اللغة معناه يأتيهم اللّه بما وعدهم من العذاب ، والحساب كما

قال : (فَأَتَاهُمُ اللّه مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أي آتاهم بخذلانه إياهم.

و (ظُلَلٍ) جمع ظُلَّة . و (الملائكة) تقرأ على وجهين بالضم والكَسْر فمن قرأ الملائكةُ بالرفع ،

فالمعنى ينظرون إلا أن يأتيهُبم اللّه والملائكةُ ، والرفع هو الوجه المختار عند أهل اللغة في القراءَة ، ومن قرأ والملائكة ، فالمعنى هل ينظرون إلا أن يأتيهُمُ اللّه في ظلل مِنَ الغمام وظُلَل منَ الملائكة.

ومعنى (وَقُضِيَ الأمْرُ) أي فرغ لهم ما كانوا يُوعَدُونَ.

ومعنى (وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الْأُمُورُ)

وتَرجِعُ الأمور - يقرأان جميعاً - تُرَدُّ

فإن قال قائل أليست الأمور - الآن وفي كل وقت - راجعة إِلى اللّه عزَّ وجلَّ ، فالمعنى في هذا : الإعْلامُ في أمر الحساب والثواب والعقاب ، أي إِليه تصيرون فيعذب من يشاءُ ويرحم من يشاءُ.

* * *

٢١١

وقوله عزَّ وجلَّ : (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّه مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢١١)

الخطاب للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - والمعنى له ولسائر المؤمنين وغيرهم .  أنهم أعْطُوا آياتٍ بينات قد تقدم ذكرها ، وقد علموا صحة أمر النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وجحدوا ، وهم عالمون بحقيقته.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّه مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ).

يعني به في هذا الموضع حُجَجَ اللّه الدالة على أمر نبيه - صلى اللّه عليه وسلم - فإن اللّه شديد العقاب (أي شَدِيدُ التعْذِيبِ).

* * *

٢١٢

وقوله عزَّ وجلَّ : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّه يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٢١٢)

رُفِعَ على ما لم يسم فاعله ، و (زُيِّنَ) جاز فيه لفظ التذكير ، ولو كانت زُيِّنَت

لكان صواباً . وزين صواب حسن ، لأن تأنيث الحياة ليس بحقيقي ، لأن معنى

الحياة ومعنى العيش واحد ، وقد فُصِلَ أيضاً بين الفعل وبين الاسم المؤنث .

وقيل في قوله (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) قولان :

قال بعضهم زينها لهم إِبْلِيس ، لأن اللّه عزَّ وجلَّ قَد زَهَّد فيها وأعلم أنها متاع الغرور.

وقال بعضهم : معناه أن اللّه عزَّ وجلَّ خلق فيها الأشياءَ المعجبة فنظر إليها الذين كفروا بأكثر من مقدارها ، ودليل قول هُؤلاءِ قوله تعالى :

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ)

وكلٌّ جائز.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا).

كان قوم من المشركين يسخرون من المسلمين لأن حالهم في ذات اليد

كانت قليلة ، فأعلم اللّه - عزَّ وجلَّ - بأن الذين اتقوا فوقهم يوم القيامة . لأن المسلمين في عليين والفجَّارَ في الجحيم ، قال اللّه - عزَّ وجلَّ -

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩).

ومعنى : (واللّه يَرْزقُ مَنْ يَشَاءُ بغَيْر حِسَابٍ).

أي ليس يَرْزُق المؤمنَ على قدر إيمانه ولا يَرزُقُ الكافرَ على قدر كفره.

فهذا معنى (بغير حساب) - أي ليس يحاسبه بالرزق في الدنيا على قدر العمل ، ولكن الرزق في الآخرة على قدر العمل وما يتفضل اللّه به جلَّ وعزَّ.

٢١٣

قوله عزَّ وجلَّ : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّه النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّه الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّه يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣)

أي على دين واحد ، والأمة في اللغة أشياءُ ، فمنها الأمة الدين ، وهو

هذا ، والأمة القَامة يقال فلان حسن الأمَّة ، أي حسن القامة.

قال الشاعر :

وأن معاوية الأكرمين حِسَان الوجُوه طوال الأمَمْ

أي طوال القامات ، والأمة القرن من الناس ، يقولون قد مضت أمَمٌ أي

قرون ، والأمة الرجَل الذي لا نظير له.

ومنه قوله عزَّ وجلَّ - (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للّه حَنِيفًا).

قال أبو عبيدة معنى (كَانَ أُمَّةً) كان إمَاماً ، والأمة في اللغة النَعْمَةُ والخير.

قال عدي بن زيد.

ثم بعد الفلاح والرشد والأمَّةِ وارتْهُمُ هناك القبور.

أي بعد النعمة والخير ، وذكر أبو عمرو الشيباني أن العرب تقول للشيخ

إذا كان باقي القوة فلان بِأمَّةٍ ، ومعناه راجع إلى الخير والنعمة ، لأن بقاءَ

قوته من أعظم النعمة ، وأصل هذا كله من القصد ، يقال أمَمْتُ الشيءَ إذا

قصدْتُه ، فمعنى الأمة في الدين أن مقصدهم مقصد واحد ، ومعنى الأمة في

الرجل المنفرد الذي لا نظير له ، أن قصده منفرد من قصد سائر الناس.

ويروى أن زيد بن عدي بن نفيل يبعث يوم القيامة أمة وحده وإنما

ذلك لأنه أسلم في الجاهلية قبل مبعث النبي - صلى اللّه عليه وسلم - فمات موحداً فهذا أمة في وقته لانفراده ، وبيت النابغة :

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة . . . وهل يأثمن ذو أمَّةٍ وهو طائع

ويروى ذو أمَةَ ، وذو إمة ، ويحتمل ضربين من التفسير : ذو أمة : ذو دين

وذو أمة : ذو نعمة أسْدَيَتْ إليه ، ومعنى الأمة القامة : سائر مقصد الجسد.

فليس يخرج شيء من هذا الباب عن معنى أممت أي قصدت ، ويقال إِمامنا

هذا حَسنُ الأمة أي يقوم بإمامتهِ بنَا في صلاته ويحسن ذلك.

وقالوا في معنى الآية غيرَ قول : قالوا كان الناس فيما بين آدم ونوح

عليهما السلام - كُفاراً ، فبعث اللّه النبيين يبشرون من أطاع بالجنة ، وينذرون من عصي بالنار ، وقال قوم : معنى كان الناس أمَّة واحدةً ، كان كل من بعث إليه الأنبياءِ كفاراً :

(فَبَعَثَ اللّه النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)

ونصب (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) على الحال ، فالمعنى أن أمم الأنبياءِ الذين

بعث إليهم الأنبياءَ كانوا كفاراً - كما كانت هذه الأمة قبل مبعث النبي - صلى اللّه عليه وسلم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ).

أي ليفصل بينهم بالحكمة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ).

أي ما اختلف في أمر النبي - صلى اللّه عليه وسلم - إلا الذين أعْطُوا علمَ حَقيقتِهِ.

و (بَغْيًا بَيْنَهُمْ) نصب (بَغْيًا) على معنى مفعول له ،  لم يوقعوا الاختلاف إلا

للبغي ، لأنهم عالمون حقيقة أمره في كتبهم.

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَهَدَى اللّه الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ).

أي للحق الذي اختلف فيه أهل الزيغ.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (بِإِذْنِهِ) أي بعلمه ، أي من الحق الذي أمَرَ به.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).

أي إلى طريق الدين الواضح ، ومعنى (يَهْدي من يشاءُ) : يدله على طريق

الهدى إذا طلبه غير متعنت ولا باغ.

* * *

٢١٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّه أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللّه قَرِيبٌ (٢١٤)

معناه : بل أحسبتم أن تدخلوا الجنة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ).

معنى (مثل الذين) : أي صفة الذين ، أي ولما يصبكم مثل الذي أصاب

الذين خلوا من قبلكم ، و (خلوا) - مضوا.

(مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ) البأْساءُ والضراءُ : القتل والفقر.

و (زُلزلوا) معنى (زلزلوا) - خُوِّفُوا وحُركُوا بما يُؤْذي ، وأصل الزلزلة في اللغة من زَلً الشيءَ عن مكانه فإذا قلت زلزلة فتأويله كررت زلزلته من مكانه ، وكل ما فيه ترجع كررت فيه فاءُ التفعيل ، تقول أقل فلان الشيءَ إذا رفعه من مكانه فإِذا كرر رفعه ورده قيل قلقله ، وكذا صل ، وصَلْصَل وصَر وصَرْصَرَ ، فعلى هذا قياس هذا الباب.

فالمعنى أنه يكرر عليهم التحريك بالخوف.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (حتى يقولَ الرسُولُ).

قرئت حتى يقولَ الرسولُ - بالنصب - ويقولُ - بالرفع.

وإِذا نصبت بحتىٍ فقلت سرت حتى أدخلها.

فزعم سيبويه والخليل وجميع أهل النحو الموثوق

بعلمهم أن هذا ينتصب على وجهين.

فأحد الوجهين أن يكون الدخول غاية السير ، والسير والدخول قد نصبا جميعاً ، فالمعنى : سرت إِلى دخولها ، وقد مضى الدخول ، فعلى هذا نصبت الآية :  وزلزلوا إِلى أن يقول الرسول . وكأنه حتى قول الرسول . ووجهها الآخر في النصب أعني سرت حتى أدخلها أن يكون السير قد وقع والدخول لم يقع ، ويكون  سرت كي أدخلها - وليس هذا وَجْه نَصْب الآية.

ورفع ما بعد حتى على وجهين ، فأحد الوجهين هو وجه الرفع في الآية.

والمعنى سرت حتى أدخلها ، وقد مضى السير والدخول كأنَّه بمنزلة قولك

سرت فأدخلها . بمنزلة : (سِرْتً) فدخلتها ، وصارت حتى ههنا مما لا يَعْمَل

في الفعل شيئاً ، لأنها تلي الجمل ، تقول سرت حتى أني دَاخل - وقول

الشاعر :

فيا عجبا حتى كليب تَسُبُّنِي . . . كَأنَّ أباها نهشَلٌ  مُجَاشِع

فعملها في الجمل في معناها لا في لفظها.

والتأويل سرت حتى دخولها

وعلى هذا وجه الآية . ويجوز أن يكون السير قد مضى والدخول واقع الآن وقد انقطع السير ، تقول سرت حتى أدخلها الأن ما امْنَع فَهذه جملة باب حتى . .

ومعنى الآية أن الجهد قد بلغ بالأمم التي قبل هذه الأمة حتى استبطأوا

النصر ، فقال اللّه عزَّ وجلَّ : (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللّه قَرِيبٌ) .

فأعلم أولياءَه أنَّه ناصرهم لا محالةَ ، وأن ذلك قريب منهم كما قال :

(فَإِنَّ حِزْبَ اللّه هُمُ الْغَالِبُونَ (٥٦).

* * *

٢١٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّه بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥)

قيل إِنهم كانوا سألوا : عَلى مَنْ ينبغي أن يُفْضِلوا - فأعلم اللّه عزَّ وجل

أن أول مَن تُفُضِّلَ عليه الوالدان والأقربون ، فقال :

(قُلْ مَا أنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) أي من مال : (فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّه بِهِ عَلِيمٌ).

أي يحصيه ، وإِذا أحصاه جازى عليه ، كما قال : (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره) . أي يرى المجازاة عليه ، لأن رؤْية فعله الماضي لا فائدة فيه.

ولا يرى لأنه قد مضى.

ومعنى " مَاذَا " في اللغة على ضربين ، فأحدهما أن يكون " ذا " في معنى

الذي ، ويكون ينفقون من صلته ،  يسألونك أي شيءٍ الذي ينفقون كأنه أي شيء وجه الذي ينفقون ، لأنهم يعلمون ما المنفق ولكنهم أرادوا علم اللّه وجهه.

ومثل جعلهم " ذَا " في معنى الذي قول الشاعر :

عَدَسْ ما لعَبَّادٍ عليك إمارَةٌ . . . أَمِنْتِ وهذا تَحْملين طليقُ

والمعنى والذي تحملينه طليق ، فيكون ما رفعاً بالابتداءِ ، ويكون ذا

خبرها.

وجائز أن يكون " مَا " " مع " " ذا " بمنزلة اسم واحد ، ويكون المَوضِع نَصباً

بـ (ينفقون).

 يسألونك أي شيءٍ ينفقون ، وهذا إِجماع النحويين ، وكذلك

الوجه الأول إِجماعٌ أيضاً ، ومثل جعلهم ذا بمنزلة اسم واحد ، قول

الشاعر :

دَعِي ماذا علمت سأتقيه . . . ولكن بالمغيب فنبئيني

كأنه بمنزلة : دعي الذي علمت.

وجزم (وَمَا تَفْعَلوا) بالشرط ، واسم الشرط " ما " والجواب (فَإنَّ اللّه بِهِ عَلِيمٌ) وموضع " ما " نصب بقوله (تَفْعَلوا).

* * *

٢١٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللّه يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢١٦)

معنى (كتب عليكم) فرض عليكم ، والكره يقال فيه كرِهت الشيءَ كًرْهاً

وكَرْهاً ، وكَرَاهة ، وكَرَاهِيَةً ، وكل ما في كتاب اللّه عزَّ وجلَّ من الكُرْهِ فالفتح جائز فيه ، تقول الكُره والكَرْه اِلا أن هذا الحرف الذي في هذا الآية - ذكر أبو عبيدةَ - أن الناس مجمعونَ على ضَمهِ ، كذلك قراءَة أهل الحجاز وأهل الكوفة جميعاً (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) فضموا هذا الحرف .

ارتفع (كُرْهٌ) لأنه خبر الابتداءِ - وتأويله ذو كره - ومعنى كراهتهم القتال

أنهم إِنما كرهوه على جِنْس غِلَظَه عليهم ومشقًتِه ، لاَ أن المؤمنين يكرهون

فرض اللّه - عزَّ وجلَّ - لأن اللّه - عزَّ وجلَّ - لا يفعل إِلا ما فيه الحكمة

والصلاح.

و (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

(وهو خير لكم) يعني به ههنا القتال ، فمعنى الخير فيه ، أن مَنْ قُتِلَ

فهو شهيد وهذا غاية الخير ، وهو إنْ قَتَل مُثاب (أيضاً) وهادِمٌ أمرَ الْكُفْر.

وهو مع ذلك يغنم ، وجائز أن يستدعِيَ دخولَ من يقاتله في الإسلام ، لأن أَمر قتال أهل الإسلام كله كان من الدلالات التي تثبت أمر النبوة - والإسلَام ، لأن اللّه أخبر أنَّه ينصر دينه ، ثم أبان النصر بأن العدد القليل يغلبُ العددَ الكثيرَ فهذا ما في القتال من الخير الذي كانوا كرهوه.

ومعنى : (وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ).

أي عسى أن تحبوا القعود عن القتال فتحرموا ما وصص عن الخير الذي

في القتال.

* * *

٢١٧

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللّه وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللّه وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢١٧)

(قتالٍ) مخْفُوضٌ على البدل من الشهر الحرام.

 يسألونك عن قتال في الشهر الحرام ، وقد فسرنا ما في هذه الآية فيما مضى من الكتاب.

ورفع (قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) (قِتَالٌ) مرتفع بالابتداءِ ، و (كَبِيرٌ) خبره .

ورفع (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللّه وَكُفْرٌ بِهِ) على الابتداءِ ، وخبر هذه الأشياءُ

(أَكْبَرُ عِنْدَ اللّه)

والمعنى وصد عن سبيل اللّه ، وكفر به ، وإخراج أهلَ المسجد الحرام منه

أكبر عند اللّه أي أعظم إِثْماً.

(وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ).

أي والكفر أكبر من القتل ،  وهذه الأشياءُ كفر ، والكفر أكبر من

القتل.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ يَرتَدِدْ مِنكُمْ عنْ دِينه فيمُتْ وهوكَافِرٌ).

يرتدد جزم بالشرط ، والتضعيف يظهر مع الجزم ، لسكون الحرف الثاني -

وهو أكثر في اللغة - وقرئَ : (يَا أيَهَا الذين امنوا من يَرتَدَّ) بالإدغام والفتح

وهي قراءَة الناسِ إِلا أهلَ المدينة فإِن في مصحفهم مَن يرتدد وكلاهما صواب ، والذي في سورة البقرة لا يجوز فيه إلا من يرتَدِدْ لإطباق أهل الأمصار على

إِظهار التضعيف وكذلك هو في مَصَاحفهم ، والقراءَة سنَة لا تُخَالف ، إِذا كان في كل المصحف الحرف على صورة لم تجز القراءَة بغيره.

ويجوز أن تقولَ من يرتدَّ منكم فتكسر لالتقاءِ السَّاكنين إِلا أن الفتح أجود

لانفتاحَ التاءِ ، وإِطباق القراءِ عليه.

* * *

٢١٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّه أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّه وَاللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)

(الذين) نصب بأنَّ ، و (أُولَئِكَ) رفع بالابتداءِ ، و (يرجُونَ) خَبَرُ (أُولَئِكَ)

و (أُولَئِكَ يَرْجُونَ) خبرُ (إِنَّ الذين) - وإِنما قيل في المؤمنين المجاهدين ههنا أنهم إِنما يرجون

رحمة اللّه لأنهم عند أنفسهم غيرُ بالغين ما يَجب للّه عليهم ، ولا يعملون ما

يختمون به أمرهم.

وجملة ما أخْبَرَ اللّه به عن المؤمنين العاملين الصالحاتِ أنَّهم يجازَوْن بالجنة.

قال اللّه عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ).

* * *

٢١٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩)

(الخمر) المجمع عليه ، وقياس كل ما عمل عملها أن يقال له خمر.

وأن يكون في التحريم بمنزلتها.

وتأويل الخمر في اللغة أنه كل ما ستر العقل ، يقال

لكل ما ستر الِإنسان مق شجرٍ وغيره خمر ، وما ستره من شجر خاصة ضَرَى ، " مقصور " ، ويقال دخل فلان في خِمَارٍ أي في الكثير الذي يستتر فيه وخِمار المرأة قناعها ، وإِنما قيل له خِمار لأنه يغطي ، والْخُمرَةُ التي يُسْجَد عليها إنما سميت بذلك لأنها تستر الوجه عن الأرض ، وقيل للعجين قد اختمر لأن فطرته قد غطاها الخمر أعني الاختمار - يقال قد اختمر العَجينُ وخَمَرَته ، وفَطَرْتُه وأفْطَرتُه.

فهذا كله يدل على أن كل مسكر خمر وكل مسكر مخالط العقل ومغط

عليه ، وليس يقول أحد للشارب إِلا مخمور - من كل سكر - وبه خُمَار ، فهذا بَيِّن واضح.

وقد لُبِّس على ابي الأسود الدؤُلي فقيل له : إِن هذا المسكر الذي سموه

بغير الخمر حلال فظن أن ذلك كما قيل له ، ثم قاده طبعه إِلى أن حكم بأنهُمَا

واحد ، فقال :

دع الْخَمْرَ يَشْربْها الغواةُ فإِنَني . . . رأيت أخَاها مجزياً لمكانها

فإلَاَ يكنها أوتكنه فإنه . . . أخوها غذَتْه أمها بلبانها

وقال أهل التفسير في قوله عزَّ وجلََّّ : (قُلْ فيهمَا إِثم كَبِير) وقرئت " كثير " قالَ قوم زَهَّد فيها في هذا الموضع وبين تحريمها في سورة المائدة في

(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّه وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١).

ومعنى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)

التًحْضِيضُ على الانتهاءِ والتفديد على ترك الانتهاءِ.

وقال قوم : لا بل تحرم بما بين ههنا مما دل عليه الكتاب في موضع آخر.

لأنه قال : (إِثْمٌ كبير) وقد حرم اللّه الإثم نصًّا فقال : (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ).

وإنما بينا تحريم الخمر وإن كان مجمعاً عليه ليعلم أن نص ذلك في

الكتاب.

فأما الِإثم الكبير الذي في الخمر فبين ، لأنها توقع العداوة والبغضاءَ

وتحول بَيْنَ المرءِ وعقله الذي يميز به ويعرف ما يجب لخالقه . والقِمَارُ يورث

العداوة والبغضاء وإن مال الإنسان يصير إلى غيره بغير جزاء يؤخذ عليه ، وأما المنافع للناس فيه فاللذة في الخمر والربْحُ فِي المُتَجَّرِ فيها ، وكذلك المنفَعَةُ في

القمار ، يصير الشيءِ إلى الإنسان بغير كد ولا تعب فأَعلم اللّه أن الإثم فِيهِما

(إثم) أكبر من نفعهما.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ).

النصنب والرفع في (العفو) جميعاً ، مَنْ " جعل (ماذا) اسماً واحداً رد العفو

عليه ومن جعل " ما " اسماً و " إذا " خبرها وهي في معنى الذي رد العفو عليه

فرفع ، كأنه قال : ما الذي ينفقون ؟

فقال : العفو ، ويجوز أن ينصب العفو وإن كان ما وحدها اسماً فتحمل العفو علي ينفقون ، كأنه قيل أنفقوا العفو.

ويجوز أيضاً أن ترفع - وإن جعلت (ماذا) بمنزلة شيء واحد على

"قل هًو العفوُ".

والعفوُ في اللغة الفضل والكثرة ، يقال عفا القومُ إذا كثروا . فَأمروا أَن

ينفقوا الفضل إلى أن فرضت الزكاة ، فكان أهل المكاسب يأخذ أحدهم من

كسبه ما يكفيه ويتصدق بباقيه ، ويأخذ أهل الذهب والفضة ما يكفيهم في

عامهم وينفقون باقيه هذا قد روي في التفسير ، والذي عليه الإجماع أن الزكاة في سائر الأشياء قد بينت ما يجب فيها.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (كَذَلِكَ يُبين اللّه لكُمُ الآياتِ).

أي مثل هذا البيان في الخمر والميْسِرْ (يبين اللّه لكم الآيات) : لأن خطاب

النبي - صلى اللّه عليه وسلم - مشتمل على خطاب أمته كما قال عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ)

ومثل هذا في القرآن كثير يحكي مخاطبة الِإجماع بذلك ، وذلكم أكثر في

اللغة ، وقد أتي في القرآن في غير " ذَلِك " للجماعة - قال اللّه تعالى :

(يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرًا (٣٠) -

والأصل ذلكن ، إلا أن الجماعة في معنى القبيل.

* * *

وقوله عز وجل : (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).

يجوز أن يكون (تتفكرون في الدنيا والآخرة) من صلة تتفكرون  لعلكم

تتفكرون في أمر الدنيا وأمر الآخرة - ، ويجوز أن يكون في الدنيا والآخرة من صلة كذلك يبين اللّه لكم الآيات).

أي يبين لكم الآيات في أمر الدنيا وأمر الآخرة

لعلكم تتفكرون.

* * *

٢٢٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّه يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللّه لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)

هذا مما نحكم تفسيره في سورة النساءِ إنْ شاءَ اللّه ، إلا أن جملته أنهم

كانوا يظلمون اليتامى ، فيتزوجون العشر ويأكلون أموالهم مع أموالهم ، فَشُدِّدَ عليهم في أمر اليتامى تشديداً خافوا معه التزويج بنساءِ اليتامى ومخالطتهم ، فأعلمهم اللّه أن الإصلاح لهم هو خير الأشياء ، وأن مخالطتهم في التزويج وغيره جائزة مع تحري الِإصلاح فقال : (وإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) أي فهم إخوانكم.

فالرفع على هذا . والنصب جائز " وإِنْ تخالطوهم فإِخوانَكم " أي فإِخوانَكم

تخالطون ، ولا أعلم أحداً قرأ بها ، فلا تقرأَنَّ بها إِلا أن تثبت رواية صحيحة.

وقوله عزَّ وجلَّ : (ولَوْشَاءَ اللّه لأعنَتَكُمْ).

قال أبو عبيدة معناه لأهلككم ، وحقيقته ولو شاءَ اللّه لكلفكم ما يشتد

عليكم فتعنتون ، وأصل العنتْ في اللغة من قولهم : عنِتَ البعير يعنت إذا حدث في رجله كسر بعد جبر لا يمكنه معه تصريفها ، ويقال اكمة غَنوتْ إِذا كان لا يمكن أن يُحازيها إلا بمشقة عنيفة.

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ)).

أي يفعل بعزته ما يحب لا يدفغه عنه دافع.

(حَكِيمٌ) أي ذو حكمة فيما أمركم به من أمر اليتامى وغيره.

* * *

٢٢١

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّه يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١)

معنى (لَا تَنْكِحُوا) لا تتزوجوا المشركات ، ولو قرئت ولا تُنكِحوا المشركات

كان وجهاً ، ولا أعلم أحداً قرأ بها ، والمعنى في هذا ولا تتزوجوا المشركات حتى يؤمن ، ومعنى المشركات ههنا لكل من كفر بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم -

واللغة تطلق على كل كافر إنما يقال له مشرك - وكان التحريم قد نزل في سائر الكفار في تزويج نسائهم من المسلمين ، ثم أحل تزويج نساءِ أهل الكتاب من بينهم . فقال اللّه - عزَّ وجلَّ : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ).

فإِن قال قائل : من أين يقال لمن كفر بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم - مشرك وإِن قال إِن اللّه عزَّ وجل واحد ؟

فالجواب في ذلك أنه إذا كفر بالنبي - صلى اللّه عليه وسلم - فقد زعم أن ما أتى به من القرآن من عند غير اللّه - جل ثناؤًه - والقرآن إِنما هو من عند اللّه - عزَّ وجلَّ - لأنه يُعجِز المخلوقين أن يأتوا بمثله - فقد زعم أنه قد أتى غير اللّه بما لا يأتي به إِلا اللّه - عزَّ وجلَّ - فقد أشرك به غيره .

وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّه يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١)

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا)).

أي لا تزوجوهم مُسْلِمَةً.

و (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ).

معناه وإن اعجبكم ، إلا أن " لو " تأتي فْتنوب عن أن في الفعل الماضي.

ومعنى الكلام أن الكافر شر من المؤمن لكم وإن أعجبكم أي أعجبكم أمره في باب الدنيا ، لان الكافر والكافرة يدعوان إلى النار أي يعملان بأعمال أهل

النار - فكأن نَسْلَكُمْ يتربى مَعَ مَنْ هذه حاله.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاللّه يَدْعُو إلى الْجَنة والْمَغْفِرَةِ بِإذْنِه).

أي يدعوكم إلى مخالطة المؤمنين لأن ذلك أوصلُ لكم إلى الجنة

ومعنى (بإِذنه) أي بعلمه الذي أعلم إنَّه وصلة لكم إليها.

(وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ) أي علاماته ، يقال آية وآيٌ ، وآيات أكثر وعليها أتى القرآن

الكريم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

معنى لعل ههنا الترجي لهم أي ليكونوا هم راجين - واللّه أعلم

أيتذكرون أم لا ، ولكنهم خوطبوا على قدر لفظهم واستعمالهم.

* * *

٢٢٢

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّه إِنَّ اللّه يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢)

يقال حاضت المرأة تحيض حَيْضاً ومَحاضاً ومَحِيضاً ، وعند النحويين أن

المصدر في هذا الباب " الْمَفْعِل " ، و " المفْعَل " جَيِّدٌ بَالِغٌ فيه يقال ما في

بُرِّكَ " مَكال " أي كيل ويجوز ما فيه " مَكيل ".

قال الشاعر وهو الراعي :

بُنِيَتْ مَرافِقُهُن فَوْق مَزلَّة . . . لا يستطيع بها القرادُ مقيلا

أي قيلولة ، ومعنى الآية أن العرب كانت تفعل في أمر الحائض ما كانت

تفعل المجوس ، فكانوا يجتنبون تَكْلِيفها عمل أي شيء وتُجْتَنَبُ في الجماع

وسائر ما تُكَلَّفُه النساء ، يريدون أنها نجَس ، فأعلم اللّه أن الذي ينبغي أن

يجتنب منها بُضْع فقط ، وأنها لا تُنَخسُ شيئاً ، وأعلم أن المحيض أذى.

أي مستقذر ، ونهى أن تقرب المرأة حتى تتطهر من حيضها - بالماءِ بعد أن تطهر من الدم أي تنقى منه ، فقال : (وَلَا تَقْربُوهُن حَتى يَطْهُرْنَ) -

 يتطهرن أي يغتسلن بالماءِ ، بعد انقطاع الدم - وَقُرِئَتْ حتى يَطهَّرْنَ " ولكن (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) يدل على (وَلَا تَقْرَبُوهُن حَتى يَطهرْنَ)

وكلاهما (يَطْهُرْن) ويطهَّرْن -

وقرئ بهما - جيِّدان.

ويقال طهَرَت وَطَهُرَتْ جمميعاً وطَهُرَتْ أكثر.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّه).

أي من الجهات التي يحل فيها أن تُقْرب المرأة ، ولا تقربوهن مِنْ حيث

لا يَجب ، أعني ولا تقربوهن صاحباتٍ ولا عشيقاتٍ ، وقد قيل في التفسير :

(مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه). في الفروج ، ولا يجوز أن يُقْربن في الدبر ، والذي

يروى عن مالك ليس بصحيح لأن إِجماع المسلمين أن الوطءَ ، حيث يُبْتَغَى

النًسْلُ ، وأن أمر الدُّبُر فاحشة ، وقد جاءَ الحديث أن مَحَاشَّ النساء حرام.

ويكنى به عن الدبر.

* * *

٢٢٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللّه وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣)

زعم أبو عبيدة أنه كناية ، والقول عندي فيه أن معناه أن نساءكمْ حرث

لكم منهن تحرثون الولد واللذة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)).

أي كيف شئتم ، أي ائْتوا موضع حرثكم كيف شئتم ، وإنما قيل لهم

كيف شئتم ، لأن إليهود كانت تقول : إِذا جامع الرجل المرأة من خلفٍ خرج الولد أحول ، فأَعلم اللّه أن الجماع إِذا كان في الفرج حلال على كل جهة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللّه).

أي اتقوا اللّه فيمَا حَدَّ لكمْ من الجِمَاع وامر الحيْض ، (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ)

أي قدموا طاعته واتباعَ أمره ، فمن اتَبَعَ ما أمر اللّه به فقد قَدَّمَ لنفسه خيراً.

* * *

٢٢٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤)

موضع " أنْ " نصب بمعنى عرضة  لا تعرضوا باليمين باللّه في أن

تبروا - فلما سقطت " في " أفضى لمعنى الاعتراض ، فنصب أن.

وقال غير واحد من النحويين إن موضعها جائز أن يكون خفضاً وإن

سقطت " في " لأن " أن " الحذف فعها مستعمل ، تقول جئت لأن تضرب زيداً ، وجئت أن تضرب زيداً ، فحذفْتَ اللام مع " أن " ولو قلت جئت ضربَ زيد

تريد لضرب زيد لم يجز كما جاز مع " أن " لأن " أن " إذا وصلت - دل ما بعدها على الاستقبال.

والمعنى : كما تقول : جئتك أن ضربت زيداً ، وجئتك أن

تضرب زيداً ، فلذلك جاز حذف اللام . وإذا قلت : جئتك ضرب زيد لم يدل الضرب على معنى الاستقبال.

والنصب في " أن " في هذا الموضع هو الاختيار عند جميع النحويين.

ومعنى الآية أنهم كانوا يعتلون في البر بأنهم حلفوا ، فأَعلم اللّه أن الإثم

إِنما هو في الإِقامة على ترك البر والتقوى ، وإن اليمين إذا كفرت فالذنب فيها

٢٢٥

مغفور ، فقال عزَّ وجلَّ : (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّه غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥)

فقيل في معنى اللغو غير قول ، قال بعضهم معناه :

" لا واللّه " و " بلى واللّه " وقيل : إِن معنى اللغو الإِثم -

فالمعنى لا يؤاخذكم اللّه بالإِثم في الحلف إِذا كَفًرْتُمْ.

وإِنَّمَا قيل له لغو لأن الإثم يسقط فيه إذا وقعت الكفارة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ).

أي بعَزْمكم على ألا تَبَروا وألا تتقوا ، وأن تعتلوا في ذلك بأنكم قد

حلفتم ، ويقال : لغوت ألغو لغْواً ، ولغوت ألْغَى لغواً ، مثل محوت أمحو

محواً ، وأمْحَى ، ويقال لغيت في الكلام ألغَى لَغًى ، إِذا أتيْتَ بلَغْو ، وكل ما لا خير فيه مما يؤثَمُ فيه  يكون غير محتاج إليه في الكلام فهو لغو وَلَغِى.

قال العجاج :

عَنِ اللَّغا وَرَفَثِ التكلمِ.

وجملة الحلف أنه على أرْبَعَة أوجه ، فوجهان منها الفقهاءُ يجمعون أن

الكفارةَ فيهمَا واجبة ، وهو قولك : واللّه لا أفعل  واللّه لأفْعَلَنَّ ، ففي هاتين الكفارة إِذا آثر أن يُخَالف ما حلف عليه ، إذا رأى غيره خيراً منه فهذا فيه الكفارة لا محالة.

ووجهان أكثر الفقهاءُ لا يرون فيهما الكفارة ، وَهُمَا قَولك : " واللّه ما

قد فعلت " ، . وقد فعل  " واللّه لقد فعلت " ولم يفعل.

فهذا هو كذب أكَّدَهُ بيمين ، فينبغي أن يستغفر اللّه منه ، فهذا جملة ما في اليمين.

ويجوز أن يكون موضع " أن " رفعاً ، فيكون  : "ولا تجعلوا اللّه عرضة

لأيْمَانِكُمْ ، أنْ تَبروا وتَتَقُوا وتصلِحُوا أولَى ، أي البر والتقى أولى ، ويكون أولى محذوفاً كما جاءَ حذف أشياءَ في القرآن.

لأن في الكلام دليلاً عليها ، يشبه هذا منه : (طاعة وقول معروف)

أي طاعة وقول معروف أمْثَل.

والنصب في ان والجرُ مذهب النحويين ولا أعلم أحداً منهم ذكر هذا المذهب ونحن نختار ما قالوه لأنه جيد ، ولأن الاتباع أحب وإِن كان غيره جائزاً.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

معناه في هذا الموضع يسمع أيمانكم ويعلم ما تقصدون بها.

* * *

٢٢٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦)

معنى (يُؤْلُونَ) يحلفون ، ومعناه في هذا الموضع أن الرجل كان لا يريد

المرأة فيحلف ألا يقربها أبداً ، ولا يُحب أن يزوجها غيره ، فكان يتركها لَا أيماً ولا ذاتَ زوج ، كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية والِإسلام ، فجعل اللّه الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة آخر مداه نهاية أربعة أشهر ، فإذا تمت أربعة أشهر ثمً لَمْ يَفئ الرجُلُ إلى امْرَأتِهِ ، أي لم يرجع إليها ، فإِن امرأته بعد الأربعة - في قول بعضهم - قَد بَانَتْ مِنْهُ ، ذكر الطلاق بلسانه أم لم يذكره.

وقال قوْم يْؤخذ بعد الأربعة بأن يطلق  يَفِيءَ.

ويقال آليت أولي إِيلَاءً واليةً ، والُوَّةَ ، وإِلِوَّةً ، و (إِيَلُ).

" والكسر أقل اللغات ، ومعنى التربص في اللغة الانتظار.

وقال الذين احتجوا بأنه لا بد أن يذكر الطلاق بقوله عزَّ وجلَّ :

(وإِنْ عَزَمُوا الطلَاقَ فإِنَ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

وقالوا (سميع) يدل على أنه استماع الطلاق في هذا الموضع ، وهذا

في اللغة غير مُمْتَنِع ، وجائز أن يكون إِنما ذكر (سميع) ههنا من أجل حلفه.

أي اللّه قد سمع حلفه وعلم ما أراده ، وكلا الوجهين في اللغة محتمل.

* * *

٢٢٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّه فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨)

يقال طَلَقَتِ المرأةُ طَلَاقاً فهي طَالِق ، وقد حكوا طَلُقتْ وقد زَعم قَوم أن

تاءَ التأنيثِ حُذِفَتْ من " طالِقَة " لأنه للمؤنثِ لاحظ للذكر فيه ، وهذا ليس

بشيء ، لأن في الكلام شيئاً كثيراً يشترك فيه الْمُذَكَر والمؤَنثُ لا تثبت فيه الهاء في المؤَنث ، نحو تولهم بعير ضامر ، وناقَةٌ ضَامِر ، وبعير ساعل وناقة

ساعل ، وهذا أكثر من أن يحصى.

وزعم سيبويه وأصحابه أن هذا وقع على لفظ التذكير صفة للمؤَنث لأن  شيء طالق ، وحقيقته عندهم أنه على جهة النسب نحو قولهم امراة مذكار ورجل مذكار ، وامراة مئناث ورجل مئناث ، وإِنما معناه ذات ذكران وذات إِناث ، وكذلك مطفل ذات طفل.

وكذلك طالق معناه ذات طلاق.

فإِذا أجريته على الفعل قلت طالقة.

قال الأعشى :

أيَا جارتَا بينِي فإِنكِ طَالِقَةٍ . . . كذاكِ امور النَّاسِ غادٍ وَطَارقَة

وأما (ثلاثة قروءٍ) فقد اخْتَلَفَ الفقهاءُ وأهل اللغة في تفسيرها وقد ذكرنا

في هذا الكتاب جملة قول الفقهاء وجملة قول أهل اللغة :

فأما أهل الكوفة فيقولون : الأقْرَاءُ الحَيض ، وأما أهل الحجاز ومالك

فيقولون الأقراء الطهر ، وحجة أهل الكوفة في أن الأقراءَ و (القِراءَ) والقروء

الحيض ما يروى عن أم سلمة إنها استفتت لفاطمة بنت أبي حبيش وكانت

مستحاضة فقال - صلى اللّه عليه وسلم - تنتظر أيام أقرائها وتغتسل فيما سوى ذلك فهذا يعني أنَّها تحبس عن الصلاة أيام حيضها ثم تغتسل فيما سوى أيام الحيضَ ، وفي خبر آخر أن فاطمة سألته فقال إِذا أتى قرؤُك فلا تصلي ، فإِذا مر فَتَطَهَّرِي.

وصلِّي ما بين القرءِ إلى القرءِ ، فهذا مذهب الكوفيين ، والذي يقويه من

مذهب أهل اللغة أن الأصمعي كان يقول : القُرءُ الحيض ، ويقال أقرأتِ المرأة إذا حاضت.

وقال الكسائي والقراء جميعاً أقرأت المرأة إذا حاضت فهِي

مقريءٌ ، وقال القراءُ : أقرأت الحاجة إذا تأخرت.

وأنشدوا في القرء الحيض وهو بالوقت أشبه :

لَه قُروءٌ كقرُوُء الحائض

فهذا ؛ هو مذهب أهل الكوفة في الأقراء ، وما احتج به أهل اللغة مما

يقوي مذهبهم ، وقال الأخفش أيضاً : أقرأت المرأة إِذا حاضت ، وما قرأتْ

حيضة ما ضمَّت رحمَها على حيْضة .

وقال أهل الحجاز : الأقراءُ والقرُوُء واحد ، وأحدهما قَرءٌ ، مثل قولك :

فَرْعٌ ، وهما الأطهار ، واحتجوا في ذلك بما يروى عن عائشة أنها قالت الأقراءَ الأطهار ، وهذا مذهب ابن عمرو ومالك ، وفقهاءُ أهل المدينة ، والذَي يقوي مذهب أهل المدينة في أن الأقراءَ الاطهار.

قول الأعشى :

مُورِّثَةً مالا وفي الأصل رفعة . . . لما ضاع فيها من قُروء نسائِكا

فالذي ضاع هنا الأطهار لا الحيض.

وفي هذا مذهب آخر ، وهو أن القرءَ الطهر ، والقرء الحيض.

قال أبو عبيدة : إن القرءَ يصلح للحيض والطهر ، قال وأظنهُ من أقْرأتِ النُجومْ إِذَا غابت ، وأخبرني من أثق به يدفعه إلى يونس أن الِإقراءَ عنده يَصلح للحيض والطهر ، وذكر أبو عمرو بن العلاءِ أن القرءَ - الوقت ، وهو يصلح للحيض ويصلح للطهر ، ويقال : " هذا قارئ الرِّياح " : لوقت هبوبها.

وأنشد أهل اللغة :

شَنِئث العُقْر عقر بني شلَيل . . . إِذا هبت لقاريها الرياحُ

أي لوقت هبوبها ، وشدة بردها ، ويقال " ما قرأت الناقة سلا قط! أي

لم تضم رحمها على ولد ، وقال عمرو بن كلثوم :

نريكَ إذا دخلت على خلاءٍ . . . وقد أمنتْ عيونَ الكاشِحينا

ذراعي عَيْطَلٍ أدماءَ بكر . . . هجينَ اللون لم تقرأ جنينا

وأكثر أهل اللغة يذهب إلى أنها لم تجمع ولداً قط في رحمها وذكر

قطرب هذا القول أيضاً ، وزاد في لم تقرأ جنيناً أي لم تلقه مجموعاً.

فهذا جميع ما قال الفقهاءُ وأهل اللغة في القرءِ.

والذي عندي أن القرءَ في اللغة الجمع ، " وأن قولهم قَرَيْتُ الماءَ في الحوض

من هذا ، وإن كان قد ألْزِمَ الماء - فهو جمعته ، وقولك قرأت القرآن أي

لفظت به مجموعاً ، والقرد يُقْرئُ ، أي يجمع ما يأكل في بيته ، فإِنما القرءُ

اجتماع الدم في البدن ، وذلك إنما يكون في الطهر ، وقد يكون اجتماعه في

الرحم ، وكلاهما حسن وليس بخارج عن مذاهب الفقهاءِ ، بل هو تحقيق

المذهبين ، والمقرأة الحوضُ الذي يقرأ فيه الماءُ أي يجمع ، والمَقرَأ الِإناءُ

الذي يقرأ فيه الضيف.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّه فِي أَرْحَامِهِنَّ).

قيل فيه لا يحل لهن أن يكتمن أمر الولد لأنهن إِن فعلن ذلك فإنما

يقصدن إِلى إِلزامه غير أبيه.

وقد قال قوم هو الحَيْض . وهو بالولد أشبه لأن ما خلق اللّه في أرحامهن

أدل على الولد ، لأن اللّه جلَّ وعزَّ قال : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ)

وقال : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا) فوصف خلق الولد.

" ومعْنى : (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

تأويله إِن كن يصدقن باللّه وبما أرهب به وخوف من عذابه لأهل الكبائر

فلا يكتمن ، كما تقول لرجل يظلمُ إِن كنت مؤمناً فلا تظلم ، لَا إنَّه يقول له

هذا مطلِقاً الظلم لغير المؤمن.

ولكن  : إن كنت مؤمناً فينبغي أن يحجزك إِيمانك عن ظلمي.

ْوقوله عزَّ وجلَّ : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ).

بعولة جمع بَعْل ، مثل ذكر وذكورة ، وعم وعمومة أشبه ببَعْلٍ وبعولة.

ويقال في جمع ذكر ذِكارة وحجر حِجَارة . وإِنما هذه الهاءُ زيادة مؤَكدة

معنى تأْنيث الجماعة ، ولكنك لا تدخلها إِلا في الأمكنة التي رواها أهل

اللغة ، لا تقول في كعب كعوبة ولا في كلب كِلابة ، لأن القياس في هذه

الأشياءِ معلوم ، وقد شرحنا كثيراً مما فيه فيما تقدم من الكتاب.

ومعنى (فِي ذَلِكَ) أَي في الأجل الذي امِرْنَ أن يتربصن فيه ، فأزواج

قبل انقضاءِ القروءِ الثلاثة أحق بردهن إِن رَدُّوهُنَّ على جهة الِإصلاح ، ألا ترى  (إِنْ أرَادُوا إِصْلاَحاً).

ومعنى قوله عزَّ وجلَّ : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

أي للنساءِ مثل الذي عَليهنَّ بما أمر اللّه به من حق الرجل على المرأة.

وهو معنى (بِالْمَعْرُوفِ).

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ).

معناه زيادة فيما للنساءِ عليهن كما قال تعالى : (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللّه بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ).

والمعنى أن المرأة تنال من اللَّذة من الرجل كما ينال الرجل ، وله

الفضل بنفقته وقيامه بما يصلحها.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

معناهُ مَلِكٌ يحكم بما أراد ، ويمتحن بما أحب ، إِلا أن ذلك لا يَكون إِلا

بحكمة بالغة - فهو عزِيز حكيم فيما شرع لكم من ذلك.

* * *

٢٢٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ  تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّه فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّه فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّه فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّه فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩)

(الطلاقُ) رفع بالابتداءِ ، و (مرتان) الخبر ، والمعنى الطلاق الذي تمْلك فيه

الرجعة مرتان ، يدل عليه (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ)  فالواجب عليكم إِمساك

بمعروف  تسريح بإِحسان.

ولو كان في الكلام فإِمساكاً بمعروف كان جائزاً.

على فأمسكوهن إمساكاً بمعروف كما قال عزَّ وجلَّ :

(فأمسكوهن بمعروف  سرحوهن بمعروف) ، ومعنى (بمعروف) بما يعرف من إِقامة الحق في إِمساك المرأة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا).

أي مما أعطيتموهن من مهر وغيره.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّه).

قرئت (يَخَافا) ، ويُحافَا - بالفتح والضم - قال أبو عبيدة وغيره : معنى

(إِلَّا أَنْ يَخَافَا) إِلا أن يوقنا ، وحقيقة  (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّه)أن يكون الأغْلب عليهما وعندهما أنهما على ما ظهر منهما من أسباب التباعد

الخوفُ في أن لا يقيما حدود اللّه - ومعنى (حُدُودَ اللّه) ما حدَّه اللّه جلَّ وعزَّ مما لا تجوز مجاوزته إِلى غيره ، وأصل الحدِّ في اللغة المنع ، يقال حَدَدْتُ الدار.

وحددت حدود الدار ، أي بنيت الأمكنة التي تمنع غيرها أن يدخل فيها.

وَحَدَدْتُ الرجل أقمت عليه الحد ، والحد هو الذي به منع الناس من أن

يدخلوا فيما يجلب لهم الأذى والعقوبة ، ويقال أحدت المرأة على زوجها

وحدت فهي حَادٌّ وَمُحدٌّ ، إِذا امتنعت عن الزينة ، وأحددت إليه النظر إِذا منعت نظري من غيره وصرفته كله إِليه ، وأحْدَدْتُ السكين إِحْدَاداً.

قال الشاعر :

إِن العبادي أحَدَّ فأسَه . . . فعاد حدُّ فأسه برأسه

وَإِنَّمَا قيل للحديد حديد لأنه أمنع ما يمتنع به ، والعرب تقول للحاجب

والبواب وصاحب السجن : الحَدَّاد ، وإِنما قيل له حداد لأنه يمنع من يدخل

ومن يخرج ، وقول الأعشى :

فقمنَا ولمَّا يصحْ ديكُنَا . . . إِلى خمرة عند حَدَّادها

أي عند ربها الذي منع منها إِلا بما يريد.

ومعنى : (فلا تَعْتَدُوهَا) : أي لَا تُجَاوِزُوهَا.

* * *

٢٣٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللّه وَتِلْكَ حُدُودُ اللّه يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠)

أي فإِن طلقها الثالثة ، لأن الثنتين قد جرى ذكرهما أيْ فلا تحل له حتى

تتزوج زوجاً غيره ، وفعل اللّه ذلك لعلمه بصعوبة تزوج المرأة على الرجل ،

فحرم عليه التزوج بعذ الثلاث لئلا يعجلوا بالطلاق ، وأن يَتَثَنتُوا.

وقوله عزَّ وجلَّ : (بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) يدل على ما قلناه.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا)

أي فإن طلقها الزوج الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج الأول أن

يتراجعا ، وموضع أن نصب ،  لا يَأثمان في أن يتراجعا.

فلما سقطت " في " وصل معنى الفعل فنصب - ويجيز الخليل أن يكون موضع أن خفضا علىْ إِسقاط " في " ومعنى إرادتها في الكلام.

وكذلك قال الكسائي.

والذي قالاه صواب لأن " أن " يقع فيها الحذف ، ويكون جعلها موصولة عوضاً مما حذف ، ألا ترى أنك لو قلت لا جناح عليهما الرجوع لم يصلح . والحذف مع أن سائغ فلهذا أجاز الخليل وغيره أن يكون موضِع جر على إِرادة في.

ومعنى . (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللّه).

أي إنْ كان الأغلب عليهما أن يقيما حدود اللّه.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللّه يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

ويُقْرأ "نبينُهَا" بالياءِ والنون جميعاً.

(لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي يعلمون أن وعد اللّه حق وأن ما أتى به رسوله صدق.

* * *

٢٣١

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ  سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللّه هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللّه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١)

أي وقت انقضاءِ عدتهن.

(فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ  سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).

أي اتركوهن حتى ينقضي تمام أجلهن ويكن أملك بأنفسهن.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا).

أي لا تمسكوهن وأنتم لا حاجة بكم إليهن ، وقيل إنه كان الرجل يطلق

المرأة ويتركها حتى يقرب انقضاءُ أجلها ثم يراجعها إضراراً بها ، فنهاهم اللّه

عن هذا الإضرار بهن.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).

أي عَرَّضَها لعذاب اللّه عزَّ وجلَّ : لأن إتيانَ ما نهى اللّه عنه تعرض

لعذابه ، وأصل الظلم وضع الشي - في غير موضعه وقد شرحنا ذلك.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللّه هُزُوًا) أي ما قد بينه لكم من

دلالاته ، وعلاماته في أمر الطلاق وغيره.

وقيل في هذا قولان : قال بعضهم : كان الرجل يُطَلِّقُ وُيعْتِقُ ويقول :

كنت لاعباً ، فأعلم اللّه عز وجل أن فرائضه لا لعب فيها ، وقال قوم : معنى (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللّه هُزُوًا) ، أي لا تَتْركُوا العَمل بما حدَّد اللّه لكم فتكونوا مقصرين لاعبين كما تقول للرجل الذي لا يقوم بما يكلفه ، - ويتَوَانى فيه : إنما أنت لاعب.

* * *

٢٣٢

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّه يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢٣٢)

(فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ).

هذا مخاطبة للأولياءِ ، وفي هذا دليلُ أن أمر الأولياءِ بين.

لأنَّ المطلَّقة التي تراجع إِنما هي مالِكة بُضْعها إلا أن الولي لا بُد منه ، ومعنى

(تَعْضُلوهُنَّ) : تمنعوهُنَّ وتحبسوهنَّ ، من أن ينْكِحن أزْواجَهُنَّ.

والأصْل في هذَا فيما رُوي أن معقل بن يسَار طلق أختَه زوجُها ،

فَأبى معقل بن يَسار أن يزَؤَجَها إيَّاه ، ومَنَعَها بِحَقّ الولاَية منْ ذلك ، فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - فقال معقل : رَغِمَ أنْفِي لأمْر اللّه.

وأصل العَضْل من قولهم : عضلت الدجاجة ، فهي مُعْضَل ، إذا احتبس

بيضها ونَشَبَ فلم يَخْرج ، ويقَال عضلت الناقة أيضاً ، فهي معْضَل إِذا احْتَبس ما في بَطْنِهَا . . .

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

أي بأمر اللّه الذي تلا عليكم ، (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، أي من صدق بأمر اللّه ووعيده والبعث وأطاع اللّه في هذه الحدود.

وقال (ذلك يوعظ به) وهو يخاطب جميعاً ، وقد شرحنا القول فيه فيما

تقدم.

وقال بعض أهل اللغة : إنه توُهِّمَ أنَّ ذَا مع الْمعَارف كلمة واحدة.

ولا أدْري - منْ غَير قائل هذا - بهذا التوَهم . اللّه خاطب العرب بما يعقلونه

وخاطبهم بأفصح اللغات ، وليس في القرآن توهم ، تعالى اللّه - عن هذا ، وإِنما حقيقة ذلك وذلكم مخاطبَة الجميع ، فالجميع لفظه لفظ واحد ، فالمعنى ذلكَ أيها القبيل يُوعظ به من كان منكم يؤمن باللّه ، وقوله عزَّ وجلَّ بعد هذا.

(ذَلُكُمْ أزْكَى لَكمْ وأطْهَرُ).

يَدُل على أنَّ " ذلك " - و " ذلكم " مخاطبة للجماعة.

ومعنى (واللّه يَعْلَمُ وأنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).

أي اللّه يعلم ما لكم فيه الصلاح في العاجل والآجل ، وأنتم غير عالمين

إِلا بما أعلمكم.

* * *

٢٣٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللّه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣)

اللفظ لفظ الخبر والمعنى الأمر كما تقول : حسبك درهم فلفظه لفظ

الخبر ، ومعناه اكتف بدرهم ، وكذلك معنى الآية لترضع الوالدات يقال

أرضعت المرأة فهي مرضعة ، (قولهم) امرأة مرضع بغير هاءٍ ، معناه ذات

إِرضاع ، فإذا أردتم اسْمَ الفاعلَ عَلى أرضعَتْ قلتَ مرضعة لا غير.

ويقال : رُضِعَ المولود يُرْضَع ، وَرَضَعَ يرْضَع ، والأولى أكثر وأوضح.

ويقال : الرضَاعَةُ والرضَاعَةُ - بالفتح والكسر - والفتح أكثرُ الكلام وأصحه ، وعليه القراءَة (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ).

وروى أبو الحسن الأخفش أن بعض بني تميم تقول الرضاعة بكسر

الراءِ ، وروى الكسرَ أيضاً غيره ، ويقال : الرَّضاع والرضَاعَ ويقال : ما حمله

على ذلك إِلا اللؤْم والرضَاعَة بالفتح لا غير ههنا.

ويقال : ما حمله عليه إِلا اللؤْم والرضْع مثل . الحلْف والرضْعُ ، يقالان

جميعا.

ومعنى (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) أربعة وعشرون شهراً ، من يوم يولد إِلى يوم

يفطم ، وإِنما قيل : (كَامِلَيْنِ) لأن القائل يقُول : قد مضى لذلك عامان وسنتان فيجيز أن السنتين قد مضتا ، ويكون أن تبقى منهما بقية ، إِذا كان في الكلام دليل على إِرادة المتكلم فإِذا قال : (كَامِلَيْنِ) لم يجز أن تنقصا شيئاً ، وتقرأ (لمن أراد أن تَتِمَ الرضاعةُ) و (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)

وهذا هو الحقُّ في الرضاعة إِلا أن يتراضيا - أعني الوالدين - في الفطام بدون الحولين وُيشَاوَرَا في ذلك .

ومعنى (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ).

- أي على الزوج رزْق المرأة المطلقة إذا أرضعت الولد وعليه الْكِسْوة.

ومعنى بالمعروف ، أي بما يعرفون أنه العدل على قدر الإمكان.

ومعنى (لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا).

أي لا تكلف إلا قدر إمكانها.

وقوله عزَّ وجلَّ : (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا).

قرئت على ضربين لا تضارُّ والدة برفع الراءِ على معنى : لا تكلف

نفْس ، على الخبر الذي فيه معنى الأمر ، ومن قرأ : (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ) بفتح

الراءِ ، فالموضع موضع جزم على النهي.

الأصل : لا تُضَاررْ ، فأدغمت الراءُ الأولى في الثانية وفتحت الثانية لالتقاءِ السَّاكنين ، وهذا الاختيار في التضعيف إِذا كان قبله فتح  ألف الاختيار عضَّ يا رجل ، وضَارَّ زيداً يا رجل ، ويجوز

لَا تُضَار والدة بالكسر ، ولا أعلم أحداً قرأ بها ، فلا تقرأنَّ بها ، وإِنما جاز

الكسر لالتقاءِ السَّاكنين لأنه الأصل في تحْريك أحد السَّاكنين.

ومعنى (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) : لا تترك إِرضاع ولدها غيظاً على أبيه فَتضرَّ بهِ لأن الوالدة ، أشفق على ولدها من الأجنبية.

(وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ).

أي لا يأخذْه من أمه للإضرار بها فيضُر بولَدِهِ.

(وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) أي عليه ترك الإِضرار.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ).

أي فِطاماً وتراضياً بذلك بعد أن تشاورا وعلماً أن ذلك غير مدخل على

الولد ضرراً .

(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا).

أي فلا إثم عليهما في الفصال على ما وصفنا.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ).

معناه تسترضعوا لأولادكم غير الوالدةِ ، فلا إثم عليكم.

(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ).

قيل فيه إذا سلمتم الأمر إلى المسترضَعةِ وقيل إذا أسلمتم ما أعطاه

بعضكم لبعض من التراضي في ذلك.

* * *

٢٣٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤)

هذا للمتوفى عنها زوجُهَا ، عليها أن تنتظر بعد وفاته إِذا كانت غير ذاتِ

حمْل أربعةَ أشْهُر وعشْراً لا تتزوج فيهن ولا تستعمل الزينة.

وقال النحويون في خبر (الذين) غير قول :

قال أبو الحسن الأخفش المعني يتربصن بعدهُمْ  بعد موتهم ، وقال

غَيْرُه من البصريين أزوَاجُهُمْ يتربصن ، وحذف أزواجهم لأن في الكلام دليلاً

عليه ، وهذا إطباق البصريين وهو صواب.

وقال الكوفيون : وهذا القول قول الفراءِ وهو مذهبه أنَّ الأسماءَ إِذا

كانت مضافة إِلى شيءٍ ، وكان الاعتماد في الخبر الثاني ، أخبر عن الثاني وتُرِكَ

" الإخبار عن الأول ، وأغنى الإِخبارُ عن الثاني عن الإخبار عن الأول.

قالوا : فالمعنى : وأزواج الذين يتوفون يتربصن.

وأنْشَد الفَراءُ :

لَعَلِّي إِنْ مالَتْ بي الرّيحُ ميْلَةً . . . على ابن أبي ذَبَّانَ أن يتقدما

 : لعل ابن أبي ذُبَّان أن يتقدم إِليَّ مالت بِي الريح ميلة عليه.

وهذا القول غير جائز . لا يجوز أن يَبْدَأ اسم ولا يحدَّث عنه لأن الكلام إِنما

وضع للفائدة ، فما لا يفيد فليس بصحيح ، وهو أيضاً من قولهم محال ، لأن

الاسم إنما يرفعه اسم إذا ابتدئ مثله  ذكر عائد عليه ، فهذا على قولهم

باطل ، لأنه لم يأت اسم يرفعه ولا ذكر عائد عليه.

والذي هو الحق في هذه المسألة عندي أن ذكر (الذين) قد جرى ابتداءً

وذكر الأزواج قد جرى متصلاً بصلة الذين ، فصار الضمير الذي في (يَتَرَبَّصْنَ)

يعود عَلَى الأزواجِ مضافاتٍ إِلى الَّذِينَ . .

كأنك قلت : يتربَّصُ أزواجهم ، ومثل

هذا من الكلام قولك الذي يموت ويُخلف ابنَتَينِ ترثان الثلثين ،  ترث

ابنتاه الثلثين.

ومعنى قوله عزَّ وجلَّ : (وَعَشْرًا) يدخل فيها الأيام.

زعم سيبويه أنك إِذا قلت " لخمس بَقِينَ " فقد علم المخاطب أن الأيام

داخلة مع الليالي ، وزعم غيره أن لفظ التأنيث مغلَّبٌ في هذا الباب.

وحكى الفرَّاءُ صُمْنَا عَشْراً من شهر رمضان ، فالصوم إنَّما يكون في

الأيَّامِ ولكن التأنيث مغلَّبٌ في الليالي - لِإجْمَاعِ أهل اللغة

" سرْنَا خَمْساً بيْنَ يوْمٍ وليلة "

أنشد سيبوبه :

فطافت ثلاثأ بيْنَ يوم وليلة . . . يكون النكير أنْ تَصيح وتَجْأرَا

قال سيبوبه هذا باب المؤَنث الذي استعمل للتأنيث والتذكير ، والتأنيث

أصله ، قال تقول : عندي ثلاث بطات ذكور وثلاث منَ الِإبل ذكور ، قال لأنك تقول : هذه إبل ، وكذلك ثلاث من الغنم ذكور.

(قال) فإن قلت عندي ثلاثة ذكورٍ من الِإبل لم يكن إلا التَّذكير ، لأنك إِنما ذكرت ذكوراً ثم جئت تقول من الإبل بعد أن مضى - الكلام على التذكير ، وليس بين النحويين البصريين والكوفيين خلاف في الذي ذكرنا من باب تأنيث هذه الأشياءِ

فإن قلت عندي خمسة بين رجل وامرأة غلبت التذكير لا غير.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ)

أي غَاية هذه الأشهر والعشر.

(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

أي لا جناح عليكم في أن تتركوهن - إذا انقضت هذه المدة - أن

يتزوجن ، وأن يتزين زينةً لا ينكر مثلها.

وهذا معنى (بالمعروف).

* * *

٢٣٥

وقوله عزَّ وجلَّ َ : (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ  أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللّه أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥)

 أنه لاجناح على الرجل أن يُعَرِّضَ للمرأة التي هي في عدَّةِ

بالتزويجِ . والتعريض أن يقول إني فيك لراغب.

وإِن قضى اللّه أمراً كان ، وما أشبه هذا من القول.

ولا يجوز أن يقطع أمر التزويج والمرأة لم تخرج من

عدتها ، ومعنى خِطْبَة كمعنى خَطْب ، أما خطْبة فهو ماله أول وآخر نحو

الرسالة ، وحُكِيَ عن بعض العرب " اللّهم ارفع عنا هذه الضُغْطَة " فالضغْطَة

ضَغْطْ له أول وآخر متصل.

ومعنى : ( أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ).

يقال في كل شيء تستره أكْننته وكَننَتْه ، وأكْننته فيِما يَسْترهُ أكثر ، وما

صُنْتَه تقول فيه كننته فهو مكنون.

قال اللّه عزَّ وجلَّ : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩).

أي مَصون ، وكل واحدة منْهما قَريبَة من الأخرى.

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا).

قال أبو عبَيدَةَ : السِّر الإفْصَاح بالنكاح وأنشد :

ويحْرم سرُّ جارَتهمْ عليْهمْ . . . ويأْكلُ جَارُهَمْ أنفَ القصَاع

وقال غيره : كَأن السِّرَ كناية عن الجماع - كما أن الغائطَ كناية عن

الموضع وهذا القول عندي صحيح.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ).

معناه : لا تَعْزموا على عَقْدِ النكاح ، وحذف " عَلَى " استخفافاً كما تقول :

ضرب زيد الظهر والبطن ، معناه على الظهر والبطن ، وقال سيبويه : إِن الحذف في هذه الأشياءِ لا يقاس.

وقوله عزَّ وجلَّ : (حَتَّى يَبْلُغَ الكتابُ أجَلَهُ).

فعناه حتى يبلغ فرض الكتاب أجله ، ويجوز أن يكون الكتاب نفسه في

معنى الفرض ، فيكون  حتى يبلغ الفرضُ أجلَه -

كما قال : عزَّ وجلَّ : (كُتِبَ عَلَيْكُم الصِّيَامُ) أي فرض عليكم ، وِإنَّمَا جَازَ أن يَقَعَ (كُتِبَ) في معنى فُرِضَ ، لأن ما يكتب يقع في النفوس أنه ثَبَتَ ، ومعنَى هذا الفرض الذي يبلغ أجله أيام عدة المطلقة والمتوفي عنها زوجها.

* * *

٢٣٦

ْوقوله عزَّ وجلَّ : (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ  تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦)

فقد أعلم اللّه في هذه الآية أن عقد التزويج بغير مهر جائز ، وأنه لاَ إِثْم

على من طلق من تزوج بها من غير مهر كما أنه لا إِثم على من طلق من تزوج

بمهر ، وأمر بأن تمتع المتزوج بها بغير مهر إذا طلقت ولم يدخل بها فقال اللّه

عزَّ وجلَّ : (ومَتعُوهُن على المُوسِع قَدَرُه وعلى المُقْتِر قَدَرُه).

و (قَدرُهُ) ، يُقْرآن جميعاً ، فقالوا إِن التَمتُّعَ يَكونُ بأشياءَ بأنْ تَخدَم المرأة

وبأن تُكْسَى ، وبأن تُعْطى ما تُنفِقُه ، أيَّ ذَلكَ فَعَلَ يُمَتعُ ، فذلك جائز له على

قدر إمكانه.

وقوله عزَّ وجلَّ : (مَتَاعاً بالْمَعْرُوفِ).

أي بما تعرفون أنه القصد وقدر الإِمكان ، ويجوز أن يكون نصب (متاعاً بالمعروف) ، على  ومتعوهن متاعا ، يجوز أن يكون منصوباً على الخروج من  على الموسع قدره متاعاً أي مُمَتِّعاً متاعاً.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (حَقاً عَلَى المُحْسِنينَ).

منصوب على حق ذلك عليهم حقاً ، كما يقال حققت عليه القضاءَ

وأحققته ، أي أوجبته.

* * *

٢٣٧

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ  يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧)

أي فعليكم نصف ما فرضتم ، ويجوز النصب - (فنصف ما فرضتم).

 فَأدُّوا نصفَ ما فرضتم ، ولا أعلم أحداً قرأ بها فإِن لم تثبت بها رواية

فلا تَقْرَأنَّ بها.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِلًا أنْ يَعْفُونَ  يَعْفُوَ الذي بِيَدِهِ عُقْدَة النِّكَاحِ).

 إلا أن يعفوَ النساءُ  يعفوَ الذي بيده عقدة النكاح ، وهو الزوج

 الولي إِذَا كان أباً.

ومعنى عَفْو المرأة - أن تعفو عن النصف المواجب لها من

المهر فتتركه للزوج ،  يعفو الزوج عن النصف فيعطيها الكل.

وموضع (أن يعفون) نصب بأن ، إِلا أن جماعة المؤَنث في الفعل المضارع تستوي في الرفع والنصب ، والجزم ، وقد بيَّنَّا ذلك فيما سلف من الكتاب.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ).

ظاهر هذا الخطاب للرجال خاصة دون النساءِ ، وهو محتمل أن يكون

للفريقين لأن الخطاب إِذا وقع على مذكرين ومَؤنثين غلب التذكير لأن الأول

أمكن.

والأجود في  (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) الضمُ.

ويجوز ُ وَلاَ تَنْسَوْ الفضل بينكم) - وقد شَرَحْنَا العلة فيه.

* * *

٢٣٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للّه قَانِتِينَ (٢٣٨)

قالوا : (الصلاة الوسطى) العصر - وهو أكثر الرواية ، وقيل إِنها الغداة وقيل

إنها الظهر.

واللّه قَدْ أمر بالمحافظة على جميع الصلَوَاتِ إِلا أن هذه الواو إذا

جاءَت مخصصَةً فهي دالة على الفضل للذي تُخَصصُه كما قال : عز وجل :

(مَنْ كَانَ عَدُوًّا للّه وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) فذكرا مخصوصين

لفضلهما على الملائكة ، وقال يونس النحوي في قوله عزَّ وجلَّ :

(فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) إِنما خص النخل والرمان وقد ذكرت الفاكهة لفضلها على سائرها.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقُومُوا للّه قَانِتِينَ).

القانِت المُطيع والقَانِت - الذاكر اللّه ، كما قال عزَّ وجلَّ : (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا) وقيل القانت العابد -

وقالوا في قوله عزَّ وجلَّ : (وكانت من القانتين) أي العابدين.

والمشهور في اللغة والاستعمال أن القنوت : الدعَاءُ في القيام ، وحقيقة

القانت أنه القائم بأمر اللّه ، فالداعي إِذا كان قائماً خص بأن يقال له قانت ،

لأنه ذاكر اللّه عزَّ وجلَّ وهو قائم على رجليه . فحقيقة القنوت العبادَة والدعاءُ للّه في حال القيام.

ويجوز أن يقع في سائر الطاعة ، لأنه إِنْ لم يكن قياماً بالرجْلين فهو قيام بالشيء بالنية.

* * *

٢٣٩

ومعنى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا  رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللّه كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩)

أي فصلوا ركباناً  رجالاً ، ورجَال جمع راجل ورجال ، مثل صاحب

وصِحَاب ، أي إن لم يمكنكم أن تقوموا قَانتين أي عابدين مُوَفِّينَ الصَّلَاةَ حقَهَا

لخوف ينالَكم ، فصلوا رجالاً  ركباناً.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللّه كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ).

أي فَإِذَا أمِنْتُم فَقُومُوا قانتين مُؤَدِّينَ للفرض.

* * *

٢٤٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠)

(وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ) و (وصيةٌ لأزواجهم) يقرءَان جميعاً.

فمن نصب أراد فلْيوصوا وَصِيةً لأزواجهم.

ومن رفع فالمعنى فَعَلَيْهِم وصيةٌ لأزواجهم.

(مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ)

أي مَتَعُوهُنَّ مَتَاعاً إِلى الحَول ، ولا تخرجوهن ، وهذا منسوخ بإِجماع.

نسخَهُ ما قبله وقد بَينَاه.

وقيل إِنه نسخته آية المواريث وكلاهما - أعني ما

أمر اللّه به من تربص أربعة أشهر وعشراً ، وما جعل لهن من المواريث قد

نسخه.

* * *

٢٤٢

وقوله عزَّ وجلَّ : (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢)

آياته علاماته ودلالاته على ما فرض عليكم ، أي مثل هذا البيان يبين

لكم ما هو فرض عليكم ، وما فرض عليكم.

ومعنى (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) معنى يحتاج إِلى تفسير يبالغ فيه ، لأن أهل

اللغة والتفسير أخبروا في هذا بما هو ظاهر ، وحقيقة هذا أن العاقل ههنا أهو ، الذي يعمل بما افْتُرِضَ عليه ، لأنه إِن فهم الفرض ولم يعمل به فهو جاهل

ليس بعاقل ، وحقيقة العقل هو استعمال الأشياءِ المستقيمة متى عُلمَت ، ألا

ترى إِلى قوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّه لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) ، لو كان هُؤلاء جهالاً غيرَ مميزين ألبَتَّةَ لسقط عنهم

التكليف ، لأن اللّه لا يكلف من لا يميز ، ويقال جهال وإِن كانوا مميزين . لأنهم آثروا هواهم على ما علموا أنه الحق.

* * *

٢٤٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّه مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّه لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٢٤٣)

معنى (أَلَمْ تَرَ) ألم تعلم ، أي ألم ينته علمك إلى خبر هؤُلاءِ وهذه

الألف ألف التوقيف ، و (تَرَ) متروكة الهمزة ، وأصله ألم ترءَ إلى الذين.

والعرب مجمعة على ترك الهمزة في هذا.

ونصب (حَذَرَ الْمَوْتِ) على أنه مفعول له والمعنى خرجوا لحذر الموت ، فلما سقطت اللام نصب على أنه مفعول له وجاز أن يكون نَصبه على المصدر ، لأن خروجهم يدل على حذر الموت حذراً.

وقيل في تفسير الآية : إِنهم كانوا ثمانية ألوف ، أمروا في أيام بني إسرائيل

إِسرائيل أن يجاهدوا العَدُوَّ ، فاعتلوا بأن الموضع الذي ندبوا إِليه ذو طاعون.

(فَقَالَ لَهُمُ اللّه مُوتُوا).

معناه فاماتهم اللّه ، ويقال إِنهم أمِيتوا ثمانية أيامٍ ثم أُحْيوا ، وفي ذكر

هذه الآية للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - احتجاج على مشركي العرب وعلى أهل الكتاب من إليهود والنصارى ، أنه أنْبَأ أهلَ الكتاب بما لا يدفعون صِحَتَه ، وهو لم يقرأ كتاباً - صلى اللّه عليه وسلم -.

فالذين تلا عليهم يعلمون إنَّه لمَ يقرأ كتاباً وأنه أمي ، فلا يَعْلَم هذه

الأقاصيصَ إِلا بوحي ، إذْ كانَتْ لَمْ تعْلَم من كتاب فعلم مشركو العرب أن كل من قرأ الكتب يصدقه - صلى اللّه عليه وسلم - في إخباره أنها كانت في كتبهم ، ويعلم العرب الذين نشأ معهم مثل ذلك وأنه ما غاب غيبة يُعَلَّم في مثلها أقاصيصَ الأمم وأخبارَها على حقيقة وصحة ، وفي هذه الآية أيضاً معنى الحث على الجهاد.

وأن الموت لا يُدْفَعُ بالهَرَب منه.

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ اللّه لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ).

أي تفضل على هُؤلاءِ بأنْ أحياهم بعدَ مَوْتهم

فأراهم البَصِيرَةَ التي لا غَايةَ بعدها.

وقوله عزَّ وجلَّ : يَعقِب هذه الآية :

٢٤٤

(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤)

اى لا تهربوا من الموت كما هرب هؤُلاءِ الذين سمعتم خبرهم ، فلا

ينفعكم الهرب.

ومعنى قوله عزَّ وجلَّ مع ذكر القتال : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

أي إن قلتم كما قال الذين تقدم ذكرهم بعلة الهرب من الموت سمع

قولكم وعلم ما تريدون.

* * *

٢٤٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّه قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّه يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)

معنى القرض في اللغة البلاء اسيئ ، والبلاء الحَسَن ، والعرب تقول :

لك عندي قرض حسن وقرض سيئ ، وأصلهُ مَا يُعْطِيه الرجلُ  يَعْملُه ليجازَى عليه ، واللّه عزَّ وجلَّ : لا يَستَقْرض من عَوَز ولكنه يَبْلو الأخبار ، فالقرض كما وصفنا ، قال أميةُ بنُ أبي الصلت :.

لا تَخْلِطَن خَبِيثاتِ بطيبةٍ . . . وأخلعْ ثيابَك منهَا وانجُ عُريَانَا

كل امرىءِ سوف يُجْزَى قَرضَه حَسناً . . .  سيئاً  مَدِينَا كالذي دانا

وقال الشاعر :

وإذا جُوزِيتَ قرضا فاجزه . . . إِنَما يَجْزِي الفتى ليس الجمل

فمعنى القرض ما ذكرنَاهُ.

قأعلم اللّه أن ما يعْمل وينفق يرادُ به الجزاءَ فاللّه يضاعفه أضعافاً كثيرة.

والقراءَة فيضاعفَه ، و (قرأوا) : فيضاعفُه ، بالنَّصب والرفع فمن رفع

عطف على يقرض ، ومن عطف نصب على جواب الاستفهام وقد بَينا

الجَوابَ بالفاء - ولو كان قرضاً ههنا مصدراً لكان إقراضاً ، ولكن قرضاً ههنا اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء.

فأما قرضته أقرُضه قرضاً : فجاوزته ، وأصل القرض في اللغة القطع.

والقِرَاضُ من هذا أخِذ ، فإنما أقرضته قطعت له قطعة يجازى عليها.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاللّه يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ).

قيل في هذا غير قول : قال بعضهم : معناهُ يُقَترُ ويوسعُ ، وقالَ بعضهم

يَسْلُب قوماً مَا أنعَمَ علَيهِم ويوسع عَلَى آخَرين (وقيل معنى - يقبض) أي

يقبض الصدقات ويخلفها ، وإخلافها جائز أن يكون ما يعطي من الثواب في

الآخرة ، وجائز أن يكون مع الثواب أن يخلفها في الدنيا.

* * *

٢٤٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّه وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللّه عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦)

الملأ أشراف القوم ووجوههمْ ، ويروي أن النَبِي - صلى اللّه عليه وسلم - سَمِعَ رجلًا من الأنصار وقد رجعوا من بدر يقول : ما قتلنا إلا عَجَائِزَ ضلْعاً ، فقال - صلى اللّه عليه وسلم - : أُولَئِكَ المَلَاءُ من قريش ، لو حضرتَ فعالهم لاحتَقرْتَ فِعْلَك ، والملأ في اللغة الخلُق ، يقال أحْسِنوا مَلأكم ، أي أخْلَاقَكمْ قال الشاعر :

تَنَادَوْا يآل بهثَةَ إذ رأونَا . . . فقلنا أحسِني مَلًأ جُهَيْنَا

أي خلقاً ، ويقال : أحسني ممَالأةً أي معَاونَةً ، ويقال رجل مَلِيء -

مهموز - أي بَين المَلآء يا هذا - وأصِل هذا كله في اللغة من شيء واحد.

فالمَلأ الرؤساء إِنما سمُّوا بذلك لأنهم ملءٌ بما يحتاج إليه منهم . والمَلأ الذي

في الخُلُق ، إنما هو الخلق المليء بما يحتاج إليه ، والملا : المُتسَعُ من

الأرض غير مهموز ، يكتب بالألِف - والياءِ في قول قوم - وأما البصريون

فيكتبون بالألِف ، قال الشاعر في الملا المقْصورِ الذي يدل على المتسَع من

الأرض :

ألَا غنيانِي وارفعا الصوتَ بالمَلا . . . فإن المَلَا عندي يزيد المَدَى بُعْدا

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه).

الجَزْمُ في (نُقَاتِلْ في سبيل اللّه) الوجهُ على الجوابِ للْمسْألَة الَّتِي في

لَفْظِ الأمْر ، أي ابْعَثْ لَنَا - مَلِكاً نُقاتِلْ ، أي إنْ تَبعث لنا مَلِكاً نُقَاتِلْ في سبيل اللّه ، ومن قرأ " مَلِكاً يُقَاتِلُ " بالياءِ ، فهو على صفة المَلِك ولكن نقاتلْ هو الوجهُ الذي عليه القراء ، والرفع فيه بعيد ، يجوز على معنى فَإنا نقاتل في سبيل اللّه ، وكثيرٌ مِن النَّحوِّيينَ ، لا يُجِيزُ الرفْعَ فِي نُقَاتِل . -

وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا)

أي لعَلكم أن تَجْبنُبوا عَنِ القتال ، وقرأ بعضُهم : هل عَسِيتم بكسر السين

إن كتب عليكم القتال ، وهي قراءَة نافع ، وأهل اللغة كلهم يقولون عَسَيْتُ أن أفْعَلَ ويختارونه ، وموضع (ألَّا تُقَاتِلُوا) نَصْبٌ أعني موضع " أنْ " لأن

(أنَّ) وما عملت فيه كالمصدر ، إِذا قلت عسيت أن أفعل ذاك فكأنك قلت عسيت فعل ذَلِكَ.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّه).

زعم - أبو الحسن الأخفش أنَ " أنْ " ههنا زائدة - قال :  وما لنا

لا نقاتل في سبيل اللّه ، وقال غيره ، وَمَا لَنَا فِي ألا نُقاتل في سبيل اللّه.

وأسقط " في " وقَال بعْضُ النحويين إنما دخلت " أن" لأنَّ " ما " معناه ما يمنعنا

فلذلك دخلت " أن " لأن الكلام ما لك تفعل كذا وكذا.

والقول الصحيح عندي أنَّ " أن " لا تلغى ههنا ، وأن  وأي شي

لنا في أنْ لا نقاتل في سبيلِ اللّه ، أي أي شيء لنا في ترك القتال.

(وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)

ومعني (وَأَبْنَائِنَا) ، أي سُبِيَتْ ذرارينا.

ولَكِنَّ " في " سقطت مع " أن " لأن الفعلَ مُستَعمل مع أن دالا على وقت

معلوم ، فيجوز مع " أن " يحذف حرف الجر كما تقول : هربت أن أقول لك

كذا وكذا ، تريد هربت أن أقول لك كذا وكذا.

وقوله عزَّ وجلّ ؛ (تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ).

(قليلاً) منصموب على الاستثناءِ ، فأما - من روى " تَولوْا إِلا قليلٌ منهم " فلا أعرف هذه القراءَة ، ولا لها عندي وجه ، لأن المصحف على النصب والنحو يوجبها ، لأن الاستثناء - إِذا كان أولُ الكلام إِيجاباً - نحو قولك جاءَني القوم إلا زيداً - فليس في زيد المستثنى إِلا النصب - والمعنى تولوا أسْتَثْنِي قَليلاً مِنْهم - وإِنما ذكرت هذه لأن بعضهم روى " فشربوا منه إِلا قليلٌ منهم " وهذا عندي ما لا وجه له.

* * *

٢٤٧

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّه اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّه يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧)

أي قد أجابكم إلى ما سألتم . من بعث ملك يقاتل ، وتقاتلون معه

وطالُوت وجالُوت وداوُد . لا تنصرف لأنها أسماء أعجمية ، وهي معارف فاجتمع فيها شيئان - التعريف والعجمة ، وأما جاموس فلو سميت به رجلًا لانصرف ، وإن كان عجمياً لأنه قدتمكن في العربية لأنك تدخل عليه الألف واللام ، فتقول الجاموس والراقُودُ.

فعلى هذا (قيَاسُ جميع) الباب.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا).

أي من أي جهة يكون ذلك.

(وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ) أي لم يؤت ما تَتَمَلَّكُ به الملوك.

فأعلمهم اللّه أنه (اصطفاه) ومعناه اختاره ، وهو " افتعل " من الصفوة.

والأصل اصتفاه فالتاءُ إذا وقعت بعد الصاد أبدلت طاء لأن التاء من مخرج

الطاء ، والطاء مطبقة ، كما أن الصادَ مطبقة ، فأبدلوا الطاء من التاء ، ليسهل النطق بما بعد الصاد ، وكذلك افتعل من الضرب : اضطرب ، ومن الظلم اظطلم ، ويجوز في اظطلم وجهان آخران ، يجوز اطَّلم بطاء مشددة غير

معجمة واظَّلم بظاء مشددة قال زهير :

هو الجواد الذي يعطيك نائلَهُ . . . عفواً ويُظْلم أحياناً فيظطلم

و " فيطَّلم " و " فيظَّلِم ".

أعلمهم اللّه أنه اختاره ، وأنه قد زِيدَ في العلم والجسم بسطة ، وأعلمهم

أن العلم أهو ، الذي به يجب أن يقع الاختيار ليس أن اللّه - جلَّ وعزَّ - :

لا يُمَلكَ إلا ذا مال ، وأعلم أن الزيادة في الجسم مما يهب به العدو ، وأعلمهم أنه يؤتِي مُلْكَه من يشاء ، وهو جلَّ وعزَّ لا يشاء إلا ما هو الحكمة والعدل.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاللّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ).

أي يوسع على منِ يشاء ويعلم أين ينبغي أن تكون السعة.

* * *

٢٤٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨)

أي علامة تمليك اللّه إياه (أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ).

وموضع (أنْ) رَفْع  : إن آية ملكه إتيانُ التابوت ائاكم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).

أي فيه ما تسكنون به إذا أتاكم ، وقيل في التفسير إن السكينة لها رأس

كرأس الهِر من زبرجد  ياقوت ، ولها جناحان.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ).

قيل في تفسيره : البقيةُ رضاض الألواح وأن التوراة فيه وكتاب آخر جمع

التوراة وعصا موسى . فهذا ما رُوِيَ مما فيه ، والظاهر ، أن فيه (بقية) جائز أن يكون بقية من شيء من علامات الأنبياء ، وجائز أن يكون البقية من العلم ، وجائز أن يتضمنها جميعاً.

والفائدة - كانت - في هذا التابوت أن الأنبياءَ - صلوات اللّه عليهم -

كانت تستفتح به في الحروب ، فكان التابوت يكون بين أيديهم فإِذا سُمِعَ من

جوفه أنين دف التابوت أي سار والجميع خلفه - واللّه أعلم بحقيقة ذلك.

وروي في التفسير أنه كان من خشب الشمشار وكان قد غلب

جالوت وأصحابُه عليه فنزلهم بسببه داء ، قيل هو الناسور الذي يكون في العنب فعلموا أن الآفة بسببه نزلت ، فوضعوه على ثورين فيما يقال ، وقيل معنى تحمله الملائكة : إنها كانت تسوق الثورين وجائز أن يقال في اللغة تحمله الملائكة ، وإنما كانت تسوق ما يحمله ، كما تقول حَمَلْتَ متاعي إلى مكة ، أي كنت سبباً لحمله إلى مكة.

ومعنى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ).

أي في رجوع التابوت إليكم علامة أن اللّه ملك طالوت عليكم إذ أنبأكم

في قصته بغيب.

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن كنتم مصدقين.

* * *

٢٤٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّه مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللّه كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّه وَاللّه مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩)

(إِنَّ اللّه مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ)

معناه مختبركم وممتحنكم بنهر ، وهذا لا يجوز أن يقوله إلا نبي ، لأن اللّه

عزَّ وجلَّ قال : (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)

ومعنى الاختبار بهذا النهر كان ليعلم طالوت من له نيَّة القِتَال معه ومن ليسَتْ له نيَّة . فقال : (فمَنْ شَرِبَ منْه فَلَيْسَ مِني).

أي ليس من أصحابي ولا مِمَن تبعني ، ومن لم يطعَمْه.

(وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإنَهُ مِنِّي) أي لم يتطعم به.

(إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) ، غُرفة وغَرفَة قرئ بهما جميعاً فمن قال غَرفَة

كان معناه غرفة واحدة باليد.

ومن قال غُرفة كان معناه مقدار ملء اليد.

ومعنى (فَشَرِبُوا مِنْهُ إلا قَلِيلاً مِنْهُمْ)

شربوا منه ليرجعوا عن الحرب ، لأنه قد أعلمهم ذلك.

وذكر في التفسير أن القليل الذين لم يشربوا كان عدتهم ثلاثمائة وبضعة

عشر رجلًا كعدد أهل بدر.

وقوله عزَّ وجلّ ؛ (فَلَمَّا جَاوَزَهُ).

أي جاوز النهر هُوَ وَالَّذِينَ مَعَهُ.

قيل لما رأوا قلتهم ، قال بعضهم لبعض :

(لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ).

أي لا قوةَ ، يقال أطقتُ الشيءَ إطاقةً وطَوْقاً ، مثل أطعت طاعة وإطاعَة

وطَوْعاً.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللّه).

قيل فيه قولان : قال بعضهم وهو مذهب أهل اللغة - قال الذين يوقنُونُ

أنهم مُلاقو اللّه قالوا ولو كانوا شاكين لكانوا ضُلالاً كَافِرين وظننت في اللغة

بمعنى أيقنت موجود.

قال الشاعر - وهو دريد :

فقلت لهم ظُنُّوا بألفَيْ مُدَجَّجٍ . . . سَرَاتُهُمُ في الفارسيِّ المُسَرَّدِ

أي أيقنوا.

وقال أهل التفسير : معنى (يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللّه) أي أنهم كانوا يتوهمون

أنهم في هذه الموقعة يقتلون في سبيل اللّه لِقِلَّةِ عَدَدِهمْ ، وعظم عددِ عدُوهم.

وهم أصحاب جالوت .

وقوله عزَّ وجلَّ : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّه).

أي كم من فرقة ، وإنما قيل للفرقة فئة - من قولهم فأوت رأسه بالعصا.

وفأيْتُ إذَا شَقِقْتُه ، فالفِئَةُ الفِرقَةُ مِنْ هذَا.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاللّه مَعَ الصَّابِرِينَ).

(أي أن اللّه ينْصُر الصَّابِرِينَ) ، إذا صبروا على طاعته ، وما يُزْلِفُ

عنده.

* * *

٢٥٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٥٠)

(رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا).

أي أصْبُبْ علينا الصبرَ صبًّا ، كما تقول : أفرغتُ الإنَاءَ إذا صببْتُ ما فيه.

* * *

٢٥١

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللّه وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّه الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللّه النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّه ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (٢٥١)

(فَهَزَمُوهُمْ بِإذْنِ اللّه).

معناه كسَروهم وردوهم ، وأصل الهزم في اللغة كسر الشيء ، وثنى بعضه

على بعض ، يقال سقاء مَهْزوم ، إذا كان بعضه قد ثنى على بعض مع جفاف ، وقَصب مُتَهزَِّم ، ومهْزُوم ، قد كسر وشقق ، والعرب تقول هَزَمتُ على زيدٍ أي عطفتُ عليه.

قال الشاعر :

هِزمت عليك اليوم يا بنْتَ مَالكٍ . . . فجُودِي عليْنا بالنوالِ وأنْعِمِي

ويقال : سمعت هَزْمةَ الرعْدِ

قال الأصْمَعِي كأنهُ صوت فِيه تشقُق :

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَآتَاهُ اللّه المُلْكَ وَالحِكْمَةَ).

أي آتى داود - عليه السلامُ - الملك لأنه مَلَكَ بعد قتله جالوت وأوتي العلم.

ومعنى (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ).

قيل ممَّا علَّمه عمَلُ الدرُوعِ ، ومنْطِقُ الطيْر .

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْلَا دَفْعُ اللّه النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ).

أي لولا ما أمر اللّه به المسلمين من حرب الكافرين لفسدت الأرض وقيل

أيضاً : لولا دفع اللّه الكافرين بالمسلمين لكثر الكُفْر فنزلت بالناس السخطة

واستؤصِل أهلُ الأرض.

ويجوز (وَلَوْلَا دَفْعُ اللّه) ، ولولا دِفاعُ اللّه.

ونُصِبَ (بَعْضَهُمْ) بدلاً من الناس ،  ولولا دفع اللّه بعض الناس

ببعض ، و (دفعُ) مرفوع بالابْتِدَاءِ ، وقد فسرنا هذا فيما مضى.

* * *

٢٥٢

وقوله عزَّ وجلَّ : (تِلْكَ آيَاتُ اللّه نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢)

أي هذِه الآياتُ التي أنْبأت بها وَأنْبِئْتَ ، آيات اللّه أي علاماته التي تدُل

على توْحيدِه ، وتَثْبيتِ رسالاتِ أنْبِيَائِه ، إِذْ كان يعجز عن الِإتيان بمثلها

المخلقون.

وقوله عزَّ وجل : (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).

أي وأنت من هؤلاءِ الذين قصصْتُ آياتهم ، لأِنَك قدْ اعْطِيتَ مِنَ

الآياتِ مثل الذي أعْطُوا وزدْتَ على مَا أعْطُوا.

ونحنُ نبين ذلك في الآية التي تليها إِن شاءَ اللّه.

* * *

٢٥٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّه وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللّه مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللّه مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللّه يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (٢٥٣)

(الرُّسُلُ) صفة لتلك كقولك أولئِك الرسلُ فضلنا بعضهم على بعض إلا

أنهُ قيل تِلْك للجماعة ، وخبر الابتداءِ (فضلنا بعضهم على بعض).

ومعنى : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّه) : أي من كلَّمَهُ اللّه .

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّه وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللّه مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللّه مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللّه يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (٢٥٣)

والهاء حُذقت منْ الصلة لطول الاسَم ، وهو مُوسى - صلى اللّه عليه وسلم - أسْمَعَه اللّه كلامه من غير وحي أتاه به عن اللّه مَلَك.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ).

أي أعطيناه . والبيناتُ الحُجَجُ التي تَدُل على إثبات نُبُوته - صلى اللّه عليه وسلم - من إبراء الأكْمه والأبرص وإحياءِ المَوْتى والإنباءِ بما غاب عنه.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَرَفعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ).

جاءَ في التفسير أنه يُعْنَى به محمدٌ - صلى اللّه عليه وسلم - أرْسِل إلى الناس كافة ، وليس شيء من الآيات التي أعطيها الأنبياء إلا والذي أُعطى محمدٌ - صلى اللّه عليه وسلم - أكثر مُنْه ، لأنه - صلى اللّه عليه وسلم -

كلمتْه الشجرةُ ، وأطْعَمَ " من كفِّ التمر خلقاً كثيراً ، وأمرَّ يدَه على شاة أم معبد فدرت ، وحلبت بعد جفاف ، ومنها انشقاق القمر ، فإِن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - رأى الآيات في الأرض ورآها في السماءِ ، والذي جاءَ في آيات النبي كثير.

فأما انشقاق القمر وصحته فقد روينا فيه أحاديث :

حدثني إسماعيل بن إسحاق قال : (حدثنا محمد بن المُنْهَال ، قال حدثنا يزيد

ابن زُرَيْع عن سعيد عن قتادة عن أنس قال : سأل أهل مكة النبيَّ - صلى اللّه عليه وسلم - آيةً فأراهم انشقاقَ القَمَرِ فِرْقَتَيْن.

وحدثني مُسدّد يرْفعه إلى أنس أيضاً مثل ذلك.

ونحن نذكر جميع ما روى في هذا الباب في مكانه إِن شاءَ اللّه ، ولكنا ذكرنا

ههنا جملة من الآيات لنُبين بها فضل النبيِّ - صلى اللّه عليه وسلم - فيما أتى به من الآيات.

ومن أعظم الآيات القرآنُ الذي أتى به العرب وهم أعلم قوم بالكلام.

لهم الأشعار ولهم السجع والخَطَابةُ ، وكل ذلك معروف في كلامها ، فقيل لهم

ائتوا بعشْر سُورٍ فعجزوا عَنْ ذلك ، وقيل لهم ائتوا بسورِة ولم يشترط عليهم فيها

أن تكون كالبقرة وآل عمران وإنما قيل لهم ائتوا بسورة فعجزوا عن ذلك.

فهذا معنى (وَرَفَعَ بَعْضَهُم دَرَجَات).

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْ شَاءَ اللّه مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ).

يعني من بعد الرسل : (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ).

أي من بعد ما وضحت لهم البراهين ، فلو شاءَ اللّه ما أمر بالقتال بعد

وضوح الحجة ، ويجوز أن يكون (وَلَوْ شَاءَ اللّه مَا اقْتَتَلُوا) أي لو شاءَ اللّه أن

يضطرهم أن يكونوا مؤمنين غير مختلفين لفعل ذلك كمَاِ قال : (وَلَوْ شَاءَ اللّه لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى).

* * *

٢٥٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤)

أي أنفقوا في الجهاد وليُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً عليه.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ).

يعني يوم القيامة " والخُلَّةُ " الصداقة ، ويجوز (لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ) ، (لَا بَيْعَ فِيهِ وَلَا خُلَّةَ وَلَا شَفَاعَةَ)، على الرفع بتنوين والنصب (بغير تنوين) ، ويجوز (لا بيعَ فيه ولا خلة ولا شفاعةَ) بنصب الأول بغير تنوين

وعطف الثاني على موضع الأول ، لأن موضعه نصب ، إِلا أن التنوين حذف لعلة قد ذكرناها ، ويكون دخول " لا " مع حروف العطف مؤَكداً ، لأنك إِذا عطفت على موضع ما بعد " لا " عطفته بتنوين.

تقول : لا رجلَ وغلاماً لك.

قال الشاعر :

فلا أبَ وابناً مثل مروان وابنِه . . . إذا هُو بالمجد ارتدى  تأَزَّرَا.

ومعنى : (والكَافِرُون هُمُ الظَّالِمُونَ).

أي هم الذين وضعوا الأمر غير موضعه وهذا أصل الظلم في اللغة.

* * *

٢٥٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (اللّه لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥)

يروى عن ابن عباس رحمة اللّه عليه أنَّه قال : أشرف آية في القرآن آية

الكرسي.

وإعراب (لَا إلهَ إلا هُوَ) النصبُ بغير تنوين في (إِله).

 لا إله لكل مخلوق إلا هُو ، وهو محمول على موضع الإبتداء

 ما إلهٌ للخلق إلا هو ، وإن قلت في الكلام لا إِله إِلا اللّه جاز ، أما

القرآن فلا يقرأ فيه إلا بما قد قرأت القراءُ بِه ، وثَبَتتْ به الرواية الصحيحة ، ولو قيل في الكلام لا رجلَ عندك إلا زيداً جاز ، ولا إله إلا اللّه جاز ولكن الأجودَ ما في القرآن ، وهو أجودُ أيضاً في الكلام.

قال اللّه عزَّ وجلَّ : (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥).

فإذا نصبت بعد إلا فإنما نصبت على الاستثناء.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ)

معنى (الْحَيُّ) الدائم البقاء ، ومعنى (الْقَيُّومُ) القائم بتدبير سائر أمر خلقه.

ويجوز القائم ، ومعناهما واحد.

فهو اللّه عزَّ وجلَّ قائم بتدبير أمر الخلق في إنْشائِهِم وَرزْقِهمْ وعلمه

بأمكنتهم وهو قوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللّه رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا).

ومعنىِ : (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) أي لا يأخذه نعاس.

(وَلَا نَوْمٌ).

وتأويله أنه لا يغفل عن تدبير أمر الخلق.

ومعنى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ).

أي : لا يشفع عنده إلا بِمَا أمر به من دعاء بعض المسلمين لبعْض ومن

تعظيم المسلمين أمْرَ الأنبياء والدعاء لهم ، وما علمنا من شفاعة النبي - صلى اللّه عليه وسلم -

وإنما كان المشركون يزعمون أنَّ الأصنام تشفع لهم ، والدليل على ذلك

قولهم : (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى) وذلك قولهم :

(وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه) ، فَأنْبأ اللّه عزَّ وجلَّ أن الشفاعة ليست إلا ما أعلَم من شَفاعة بَعْضِ المؤمنين لبعض في الدعاء وشفاعة النبي - صلى اللّه عليه وسلم -.

ومعنى : (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ).

أي يعلم الغيب الذي تقدمهم والغيب الذي يأتي من بعدهم.

ومعنى : (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ).

أي لا يعلمون الغيبَ لا مِما تقدمهُمْ ولا مما يكُونُ مِنْ بَعْدِهِمْ.

ومعنى : (إِلَّا بِمَا شَاءَ) : إلا بما أنبأ به ليكون دليلاً على تثبيت نبوتهم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ).

قيل فيه غير قول ، قال ابن عباس : كرسيُه علمه ، ويروى عَنْ عطاء أنه

قال : ما السَّمَاوَات والأرض في الكرسي إِلا حَلْقَةٌ في فلاة ، وهذا القول بين

لأن الذي نعرفه من الكرسي في اللغة الشيءُ الذي يعتمد عليه ويجلس عليه.

فهذا يدل أن الكرسي عظيم ، عليه السَّمَاوَات والأرضُونَ ، والكرسيُّ في اللغة والكراسة إِنما هو الشيءُ الذي ثبت ولزم بعضه بعضاً ، والكرسي ما تَلَبَّد بعضُه على بعض في آذان الغنم ومعاطن الِإبل.

وقال قوم : (كُرْسِيُّهُ) قدْرتُه التي بها يمسك السَّمَاوَات والأرض.

قالوا : وهذا قولك اجعل لهذا الحائط كرسياً ، أي

اجعل له ما يعْمِدُه وُيمسكه ، وهذا قريب من قول ابن عباس رحمه اللّه.

لأن علمه الذي وسع السموات والأرض لا يخرج من هذا.

واللّه أعْلم بحقيقة الكرسي ، إِلا أن جملته أنه أمر عظيم من أمره - جلَّ وعزَّ.

ومعنى : (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا).

أي لا يُثقله ، فجائز أن تكون الهاءُ للّه عزَّ وجلَّ ، وجائز أنْ تكون

للكرسي ، وإِذا كانت للكرسي فهو من أمر اللّه.

* * *

٢٥٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللّه فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦)

(إِكْرَاهَ) نصب بغيرتنوين ، ويجوز الرفع " لَا إكْرَاهٌ " ولا يُقرا به إِلَا أن تَثْبت

رواية صحيحةٌ وقالوا في (لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ثلاثة أقوال : قال بعضهم إن هذه نسخها أمر الحرب في قوله جلَّ وعزَّ : (واقْتلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ)

وقيل إِن هذه الآية نزلت بسبب أهل الكتاب في أنَّ لا يكرهوا بعد أن يؤدوا الجزية ، فأما مشركو العرب فلا يقبل منهُم جزية وليس في أمرهم إِلا القَتْلُ  الإسلام.

وقيل معنى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) أي لا تقولوا فيه لمن دخل بعد حرْبِ أنهُ دخَل

مكرهاً ، لأنه إِذا رضي بعد الحرب وصح إِسلامه فليس بمكره .

ومعنى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بالطَّاغُوتِ).

قيل الطاغوت مَرَدَةَ أهل الكتاب ، وقيل إِن الطاغوت الشيطان ، وجملته

أن من يكفر به ، وصدق باللّه وما أمر به فقد استمسك بالعروة الوثقى ، أي

فقد عقد لنفسه عقداً وثيقاً لا تحله حجة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (لا انْفِصَام لَهَا) : لا انقطاع لها.

يقال فصمت الشيءَ أفْصُمُه فصماً أي قطعته.

ومعنى : (وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

أي يسمع ما يعقد على نفسه الإنسان من أمر الإِيمان ، ويعلم نيته في

ذلك.

* * *

٢٥٧

وقوله جلَّ وعزَّ : (اللّه وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٥٧)

يقال قد توليت فلاناً ، ووليت فلاناً ولايةً ، والوِلَايَةُ بالكسر اسم لكل ما

يتولى ، ومعنى وَلى على ضروب ، فاللّه - ولي المؤمنين في حِجَاجِهم

وهدايتهم ، وإقامةِ البرهان لهم لأنه يزيدهم بإِيمانهم هداية ، كما قال عزَّ وجلَّ : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى). ووليهم أيضاً في نصرهم وإظهار دينهم

على دين مخالفيهم ، ووليهم أيضاً بتولي قولهم ومجازاتهم بحسن أعمالهم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).

أي يخرجهم من ظلمات الجهالة إِلى نور الهدى لأن أمر الضلالة مظلم

غير بين ، وأمر الهدى واضح كبيان النور.

وقد قال قوم (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) يحكم لهم بأنهم

خارجون من الظلمات إلى النُور ، وهذا ليس قولَ

أهل التفسير ، ولا قول أكثر أهل اللغة.

إِنما قاله الأخفش وحده .

والدليل على أنه يزيدهم هدى ما ذكرناه من الآية.

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمُ إيمَاناً).

ومعنى : (والَّذِينَ كَفَرُوا أوليَاؤُهُم الطاغُوتُ).

أي الذين يتولون أمرهم هم الطاغوت.

وقد فسرنا الطاغوت.

و (الطاغوت) ههنا واحد في معنى جماعة ، وهذا جائز في اللغة إذا كان في الكلام دليل على الجماعة.

قال الشاعر :

بها جِيَف الحَسْرى فأمَّا عِظامُها . . . فَبيضٌ وأَمَّا جِلْدُها فَصَلِيبُ

جلدها في معنى جلودها.

* * *

٢٥٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّه الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّه يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨)

هذه كلمة يوقف بها المخاطب على أمر يعجب منه ، ولفظها لفظ

استفهام ، تقول في الكلام : ألم تر إلى فلان صنع كذا وصنع كذا.

وهذا مما أعْلِمَه النبي - صلى اللّه عليه وسلم - حُجةً على أهل الكتاب ومشركي العرب لأنه نبأ لا يجوز أن يعلمه إلا من وقف عليه بقراءَة كتاب  تعليم معلم ،  بوحي من اللّه عزَّ وجلَّ.

فقد علمت العرب الذين نشأ بينهم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - أنه أمِّيٌّ ، وأنه لمْ يعَلمْ التوراة والإنجيلَ وأخبارَ من مضى من الأنبياءِ ، فَلم يبق وجه تعلم منه هذه الأحاديث إلا الوحيُ.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (أنْ آتَاهُ اللّه المُلْكَ).

أيْ آتى الكافرَ الملكَ ، وهذا هو الذي عليه أهل التفسير وعليه يصح

 ، وقال قوم إن الذي آتاه - اللّه الملك إبراهيمَ عليه السلام

وقالوا : اللّه عزَّ وجلَّ لا يُمَلِكُ الكفَارَ.

وإنما قالوا هذا لذكره عزَّ وجلَّ : (آتاه الملك)

واللّه قال : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ).

فتأويل إِيتاءِ اللّه الكافرَ الملكَ ضرب من امتحانه الذي يَمْتَحنُ

اللّه به خلقه ، وهو أعلم بوجه الحكمة فيه.

والدليل على أن الكافر هو الذي كان مُلِّكَ إنَّه قال : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)

وأنه دعا برجلين فقتل أحدهما وأطلق الآخر ، فلولا أنه كان ملكاً وإبراهيمُ عليه السلام غيرَ ملك لم يتهيأ له أن يقتل وإبراهيم الملك ، وهو النبي عليه السلام.

وأمَّا معنى احتجاجه على إبراهيم بأنه يحيى ويميت ، وترك إبراهيم

مناقضته في الإحياءِ والإماتة ، فمن أبلغ ما يقطع به الخصوم ترك الإطالة

والاحتجاج بالحجة المُسْكِتةِ لأن إبراهيم لما قال له : (فَإِنَّ اللّه يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) كان جوابه على حسب ما أجاب في

المسألة الأولى أن يقول : فأنا أفعلُ ذلك فَتَبَيَّن عجزه وكان في هذا إِسكَات

الكَافِرِ فقال اللّه عزً وجل : (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)

وتأويله انقطع وسَكتَ متحَيِّراً ، يقال : بهِتَ الرجل

يُبْهَتُ بهْتاً إِذا انقطع وتحير ، ويقال بهذا  " بَهِتَ الرجل يَيْهَتُ " ، ويقال

بَهَتُ الرجل أبْهَته بهْتاناً إِذا قابلتُه بكذبٍ .

٢٥٩

وقوله عزَّ وجلَّ : ( كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّه مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا  بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩)

هذا الكلام معطُوف على معنى الكلام الأول ، والمعنى - واللّه أعلم -

أرأيت كالذي مرَّ على قَريةٍ ، والقرية في اللغة سميت قرية لاجتماع الناس

فيها ، يقال قرَيْتُ المَاءَ في الحوضِ إِذَا جمعتُه.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَهِيَ خَاوِية عَلَى عُرُوشِهَا).

معنى (خاوية) : خالية - و (عروشها) - قال أبو عبيدة : هي الخِيَام وهي

بيوت الأعراب ، وقال غير أبي عبيدة : معنى (وهي خاوية على عروشها) بَقِيَتْ حيطانُها لا سُقُوف لها.

ويقال خَوتِ الدار والمدينة تخْوي خَواءً - ممدود - إِذا خلت من أهلها ، ويقال فيها : " خَوِيَتْ " والكلام هو الأول - ويقال للمرأة إِذا

خَلَا جوفُها بعدَ الولادةِ وللرجل إِذا خَلا جوفُه من الطًعامِ - قدْ خوِيَ ويخْوَى

خَوًى - مقصور - وقد يقال فيه خَوَى يخْوِي - والأولُ فِي هَذَا أجود.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِهَا).

معناه منُ أيْنَ يُحيي هَذه اللّه بعْدَ مَوْتِهَا.

وقيل في التفسير إِنه كان مؤمناً وقد قيل إِنه كان كافراً ، ولا ينكر أن

يكون مُؤْمناً أحبَّ أن يزداد بصيرة في إِيمانه فيقول : ليت شعري كيف تُبْعَثُ

الأموات كما قال إبراهيم عليه السلام : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى).

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأَمَاتَهُ اللّه مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ).

معناه ثم أحياه لأنه لا يُبْعث ولا يتصرف إِلا وهو حي.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (كَمْ لَبِثْتَ).

ْيقرأ بتبيين الثاءِ ، وبإِدغام الثاءِ في التاءِ ، وإِنما أدغمت لقرب

المخرجين.

ومعنى : (قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا  بَعْضَ يَوْمٍ) أنه كان أميت في صدر النهار ثم

بعث بعد مائة سنة في آخر النهار ، فظنُ أنَّ مقدار لبثه ما بين أول النهار

وآخره ، فأعلمه اللّه أنه قد لبث مائة عام وأراه علامة ذلك ببلَى عظام حماره ، وأراه طَعَامَه وشَرَابه غير متغير وأراه كيف ينْشِز العِظَامَ ، وكيف تُكْتسَى اللحمَ.

فقال : (فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ).

يجوز بإِثبات الهاءِ وبإِسقاط الهاءِ في الكلام ، ومعناه لم تغيره

السنون ، فمن قال في السنة سانهت فالهاء من أصل الكلمة ، ومن قال في

السَّنَة سَانَيت فالهاء زيدت لبيان الحركة ، ووجه القراءَة على كل حال إثباتُها

والوقوف عليها بغير وصل فمن جَعَلَهُ سانيت ووصلها إِن شاءَ  وقفها على

من جعله من سانهت ، فأما من قال : إِنه من تغير من أسِنَ الطعام يأسَنُ فخطأٌ.

وقد قال بعض النحويين إِنه جائز أن يكون من (التغيير) من قولك من حمإٍ

مسنون وكان الأصل عنده " لم يتسنن " ولكنه أبدل من النون ياءً كما قال :

تقضي البازي إِذا البازي كَشَرْ.

يريد تقضض ، وهذا ليس من ذاك لأن " مسنون " إنما هو مَصْبُوب على

سنة الطريق.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وانْظُرْ إِلى العِظامِ كيْف نُنْشِزُها).

يقرأ (نُنْشِزُها) بالزاي ، ونُنْشِرُها ، ونَنْشُرُهَا بالراءِ ، فمن قرأ (نُنْشِزُها) كان

معناه نجعلها بعد بِلاها وهجودها ناشزه ينشز بعضها إِلى بعض ، أي يرتفع.

والنَشَزُ في اللغة ما ارتفع عن الأرض ، ومن قرأ (نُنْشِرُها) ، و (نَنْشُرُها) ، فهُو من أنْشَر اللّه الموتى ونشرهم - وقد يقال نَشَرهم اللّه أي بعثهم ، كما قال : (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ).

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

معناه : فلما تبين له كيف إِحياء الموتى.

قال : (أَعْلَمُ أَنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، فإن كان كلما قيل أنه كان مؤمناً ، فتأويل ذكره : (أَعْلَمُ أَنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ليس لأنه لم يكن يعلم قبل ما شاهد ولكن تأويله : أني قد علمت ما كنت أعلمه غيباً - مشاهدة ، ومن قرأ (اعْلَمْ أن اللّه على كل شي قدير) فتأويله إذا جزم أنه يُقْبل على نفِسه فيقول : " اعْلَمْ أيها الِإنسان أن اللّه على كل شيءٍ قدير " -

والرفع على الِإخبار.

* * *

٢٦٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)

موضع " إذ " نصب ،  اذكر هذه القصة - وقوله (رَبِّ أَرِنِي).

أصله أرْإني ، ولكن المجمع عليه في كلام العرب والقراءَة طرح الهمزةِ ، ويجوز

(أرْنِي). وقد فسرنا إلْقَاءَ هذه الكسرة فيما سلف من الكتاب.

وموضع (كيف) نصب ب (تُحْيِ الْمَوْتَى) أي بأي حال تُحْيِ الْمَوْتَى وإبراهيم عليه السلام لم يكن شاكا ولكنه لمْ يكن شَاهَدَ إِحْياءَ ميّتٍ ، ولا يعْلم كيف تجتمع العظام المتفرقةُ الباليةُ ، المستحيلة ، من أمكنة متباينة فأحب علم ذلك مشاهدة.

ويروى في التفسير أنه كان مرَّ بجيفَةٍ على شاطئ البحر والحيتان تخرج

من البحر فتنتف من لحم الجيفة ، والطيرُ تَحُط عليها وتَنْسِرُ منها ، ودوابُّ

الأرض تأكلُ منها ، ففكر كيف يجتمع ما تفرق من تلك الجيفة فحلَّ في حيتان

البحر وطير السماءِ ودواب الأرض ثم يعود ذلك حياً ، فسأل اللّه تبارك وتعالى أن يريه كيف يحي الموتى ، وأمره اللّه أن يأخذ أربعة من الطير ، وهو قوله عز وجل : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ).

وتقرأ فَصِرْهُنَّ إليك - بالضم والكسر -.

قال أهل اللغة : معنى صُرْهُنَّ أملْهن إليك ، وأجمعهن إِليك ، قال ذلك

أكثرُهم ، وقال بعضهم : صرهن إليك اقْطَعْهن ، فأما نظير صُرهُن أملهن

وأجمعهن فقول الشاعر :

وجاءَت خِلْعةٌ دهسٌ صفايا . . . يصور عنوقَها أحْوى زَنيم

 أن هذه الغنم يعطف عنوقها هذا الكبش الأحوى.

ومن قال صرت : قطعت ، فالمعنى فخذ أربعة من الطير فصرهن أي قَطعْهُنَّ ، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا.

 اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءًا.

ففعل ذلك إِبراهيم عليه السلام ثم دعاهن فنظر إِلى الريش يسعى بعضه

إِلى بعض ، وكذلك العظام واللحَم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاعْلَمْ أَنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

(عَزِيزٌ) أي لا يمتنع عليه ما يريد - حكيم فيما يدبر ، لا يفعل إِلا ما فيه

الحكمة.

فشاهد إبراهيم عليه السلام ما كان يعلمه غيباً رأْيَ عيْن ، وعلم كيف

يفعل اللّه ذلك.

فلما قَصً اللّه ما فيه البرهانُ والدلالَةُ على أمر تَوْحيده.

وما آتاه الرسل من البيِّنَات حثَّ على الجهاد ، وأعلن أن من عانده بعد هذه البراهين فقد ركب من الضلال أمراً عظيما وأن من جاهد مَنْ كَفَر بعدَ هذا البرهَان فله - في جهاده ونفقته فيه - الثوابُ العظيم ، وأن اللّه عزَّ وجلَّ وعد في الجنَّة عشْرَ أمْثالِهَا من الجهَاد.

ووعد في الجهاد أنْ يُضاعِفَ الواحد بسبع مائة مرة لما في إقامة الحق

من التوحيد ، وما في الكفر من عظم الفساد فقال :

٢٦١

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّه كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللّه يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١)

أي جواد لا ينقصه ما يتفضَّل به من السعة ، عليم حيث يضعه.

* * *

٢٦٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٢٦٤)

فالمن أن تمُنَّ بما أعطيت وتعْتَدَّ به كأنك إنما تقصد به الاعتداد والأذى أن

تَوبخ المعطي.

فأعلم اللّه عزَّ وجلَّ أن المن والأذى يبطلان الصدقة كما تبطل نفقة المنافق

الذي إِنما يعطي وهو لا يُريدُ بذَلك العَطاءِ ما عندَ اللّه ، إنما يعطي ليُوهِمَ أنه

مؤمن ، وقال عزَّ وجلَّ : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ).

والصفوان الحجر الأملس وكذلك الصفا.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌا).

والوابل المطرُ العظيم القطْر - فإذا أصاب هذا المطرُ الحجرَ الذي عليه

تراب لم يبْق عليه من التراب شيءٌ ، وكذلك تبطل نفقة المنافق ونفقة المنَّان

والمؤذِي.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (واللّه لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ).

أي لا يجعلهم بكفرهم مهتدين ، وقيل لا يجعل جزاءَهم على الكفر أنْ

يهديهم ، ثم ضرب اللّه لمن ينفق يريد ما عند اللّه ولا يمن ولايؤذي مثلًا.

فقال :

٢٦٥

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥)

أي ليطلب مرضاة اللّه وتثبيتاً من أنفسهم ، أي ينفقونها مقرين أنها مما

يثيب اللّه عليها .

(كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) بفتح الراءِ وبرُبوة . بالضم - وبرِبْوة - بالكسر - وبِرِباوة ، وهذا وجه رابع.

ْوالربوة ما ارتفع من الأرض ، والجنة البستان ، وكل ما نبت وكثف

وكثر ، وستر بعضه بعضاً فهو جنة - والموضع المرتفع إِذا كان له ما يرويه من الماءِ فهو أكثر ريْعاً من المستفِل ، فأعلم اللّه عزَّ وجلَّ أن نفقة هُؤلاءِ المؤمنين تزْكو كما يزكو نبْتُ هذه الجنة التي هي في مكان مرتفع.

(أصَابَها وَابلٌ) وهُو المطرُ العظيمُ القَطْر.

(فَآتَتْ أُكُلَهَ) : أي ثمرها ، ويقرأ أكْلَهَا والمعنى واحد.

(ضِعْفَينْ) : أي مثلين.

ْ (فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ).

و (الطَّلُّ) المطر الدائمُ الصِّغَارِ القَطْرِ الذي لا يكاد يسيل منه المثاعب.

ومعنى : (وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

أي عليم ، وإِذا علمه جازى عليه والذي ارتفع عليه (فَطَلٌّ) أنهُ على

معنى فإن لم يصبها وابل فالذي يصيبها طَلٌّ.

* * *

٢٦٦

وقوله جل ثَنَاؤُه : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦)

هذا مثل ضَربهُ اللّه لهم للآخرة وأعْلَمَهُم أن حاجتهم إلَى الأعمال

الصالحة كحاجة هذا الكبير الذي له ذُرَية ضُعفاءُ ، فإِن احترقت جنته وهو كبير وله ذرية ضعفاءُ انقطع به ، وكذلك من لم يكن له في الآخرة عمل يوصله إلى

الجنة فَحسْرتُه في الآخرة - مع عظيم الحسْرة فيها - كَحَسْرة هذا الكبير المنقَطَعِ به في الدنيا.

ومعنى : (فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ).

الِإعصار الريح التي تهب ، من الأرض كالْعَمُود إِلى نَحْو السماءِ وهي التي

تسميها الناس الزَوْبَعةَ ، وهي ريح شديدة ، لا يقال إنها إعصار حَتَى تهبَّ

بِشدةٍ ، قال الشاعر :

إنْ كنْتَ ريحاً فقد لاقيتَ إِعْصَارَا

ومعنى : (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمُ الْآيَاتِ).

أي : كهذا البيان الذي قد تبين الصَّدَقَة والجهاد وقصة إِبراهيم - عليه

السلام - والذي مرَّ على قرية ، وجميع ما سلَف من الآيات أي كَمَثل بيان هذه الأقاصيص (يبين اللّه لكم الآيات) ، أي العَلاَمَات والدّلالات التي تَختَاجُون إِليها في أمْر توحيده ، وإثْبَات رسالات رسله وثوابه وعقابه.

(لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ).

* * *

٢٦٧

وقوله تبارك اسمه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)

فالمعنى أنفقوا من جَيِّد ما كسبتموه من تجارة ، ومن وَرِقِ وعين ، وكذلك

من جَيِّد الثمار ، ومعنى (أنفقوا) : تصدقوا وكان قوم أتوا في الصدقة بردىءِ

الثمار.

ويروى عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أنه أمر السعاة إلا يُخَرصَ الجُعْرَورَ وَمِعَى الفارة

وذلك أنها من رديءِ النخل ، فأمر ألا تخرص عليهم لئلا يعتلوا به في

الصدقة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ).

أي لا تقصدوا إلى رديءِ المال ، والثمار فتتصدقوا به ، وأنتم (تعلمون أنكم) لا تأخذونه إلا بالِإغماض فيه.

ومعنى : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ).

يقول : أنتم لا تأخذونه إلا بوَكْس . فكيف تعطونه في الصدقة.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه غَنِيٌّ حَمِيدٌ).

أي لم يأمركم بأن تتصدقوا من عَوَزٍ . ولكنه لاختبَاركم.

فهو حميد على ذلك وعلى جميع نعمه.

يقال قد غَنِيَ زيد يغنى غِنى - مقصور - إِذا استغنى ، وقد

وقد غَنِيَ القومُ إِذا نَزَلوا في مكان يقيهم ، والمكان الذي ينزلون فيه مَغْنى ، وقد غَنَّى فلان غِنَاء إِذا بالغ في التطريب في الإنشاد حتى يستغنى الشعر أن يزاد في نغمته ، وقد غنيت المرأة غُنْيَاناً.

قال قيس بن الخطيم :

أجَدَّ بعمرة غُنْيانُها . . . فتهجرَ أم شأننا شأنُها

غُنْيَانها : غِنَاها . والغواني : النساءُ ، قيل إنهن سمين غواني لأنهن غَنِين

بجمالهن . وقيل بأزواجهن.

٢٦٨

وقوله جل وعلا : (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللّه يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨)

يقال الفقْر والفَقَر جميعاً ، والمعنى أنه يحملكم على أن تؤَدوا في الصدقة

رديءِ المال يخوفكم الفقْرَ بإعطاءِ الجَيدِ - ومعنى (يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) : يعدكم بالفقر ولكن الباءَ حذفت . وأفْضىَ الفعل فنصب كما قال الشاعر :

أَمَرْتُكَ الخير فافعلْ ما أُمِرْتَ به . . . فقد تَرَكْتُكَ ذا مال وذا نَشَبِ

ويقال وعدته أعده وَعْداً و عِدة ومَوْعِداً ومَوْعِدَةً وموْعُوداً وموعودة.

ومعنى : (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ).

أي بأن لا تَتَصَذقُوا فَتَتقاطَعوا.

ومعنى : (وَاللّه يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا).

أي يَعِدُكُمْ أن يُجازيكم على صَدقَتكم بالمغْفرةِ ، ويَعِدُكم أن يُخْلِفَ

عَلَيْكُمْ.

ومعنى : (وَاللّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ).

(واسع) يعطي من سعة ، و (عَليمٌ) يعلَم حيث يضع ذَلك ، ويعلم

الغيبَ والشَهادَةِ.

* * *

٢٦٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٢٦٩)

معنى (يُؤْتِي) يعطي ، و (الحكمة) فيها قولان : قال بعضهم هي النبوة.

وُيرْوَى عن ابن مسعود أن الحكمة هي ، القرآنُ ، وكفى بالقرآن حِكْمةً ، لأن الأمَّةَ بهِ صارت علماءَ بعد جهل ، وهو وصلة إِلى كل علم يُقَرِّب منَ اللّه

عزَّ وجلَّ : وذَريعة إِلى رحمته ؛ لذلك قال اللّه تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) .

أي أعْطِيَ كل الجلم ، وما يوصل إلى رحمة اللّه ، و " يُؤت " جزم بِمَن.

، والجواب (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)

ومعنى (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ).

أي ما يفكر فكراً يذكر به ما قص من آيات القرآن إلا أولو الألباب ، أي

ذَوُو العُقول.

وواحد الألبَاب لُب ، يقال قَد لَبِبْتَ يا رجُل وأنت تَلَب ، لَبَابَة

ولُبًّا ، وقرأتُ على مُحمد بن يزيدَ عن يونس : لَبُبْت لَبَابَةً.

وليس في المضاعف على فَعُلْتُ غيرُ هذا ، ولم يروه أحد إلا يونسَ ، وسألت غير البصريين عنه فلم يَعْرفْهُ.

* * *

٢٧٠

وقوله جلَّ وعزَّ : (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ  نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللّه يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٢٧٠)

أي ما تصدقتم به من فرض لأنه في ذكر صدقة الزكاة وهي الفرض

والنذر : التطوع ، وكل ما نوى الإنسانُ أن يتطوع به فهو نذر.

(فَإِنَّ اللّه يَعْلَمُهُ) : أى لا يخفى عليه فهو يجازي عليه ، كما قال

جلَّ ثَنَاؤه : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ).

يقال نذرْت النذْرَ أنذِرُه وأنْذُرُه ، والجميع النُّذُورُ ، وأنْذَرْتُ القَومَ إذَا أعْلَمْتُهُمْ وخَوفْتُهمْ إنْذَاراً ونَذِيراً ونذراً.

قال اللّه عزَّ وجلَّ : (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ).

وقال جل ثناؤه : (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ).

النذُر مثل النُّكُر ، والنذِير مثل النكِير .

٢٧١

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١)

معنى (إنْ تُبْدوا) : تُظْهِرُوا ، يُقَال بَدَا الشيءُ يبدو إذَا ظَهرَ ، وأبدَيتُه أنا

إبْدَاءً ، إذَا أظهرته ، وبدا لي بُدَا " إذا تَغيَّر رأي عمَّا كان عليه.

و(تُبْدوا) جُزمَ بـ (إنْ) ، و (فَنِعِمَّا هِيَ) الجواب.

وروى أبو عُبَيْدٍ أنَّ أبَا جَعْفَر وشَيْبَةَ ونافعاً وعاصماً وأبا عمرو بن العلاءِ قرأوا : (فَنِعِمَّا هِيَ) بكسر النون

وجزم العين وتشديد الميم ، وروى أن يحيى بن وثاب ، والأشْمس وحمزة

والكسائِى قراوا : (فنَعِمَّا هي) - بفتح النون وكسر العين.

وذكر أبو عُبَيْدٍ أنَّه رُويَ عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - قوله لابن العاص : نعْمَّا بالمال الصَّالح للرجل الصَّالِح.

فذكر أبو عبيدٍ أنه يَخْتَار هَذه القراءَة من أجل هذه

الروَاية.

ولا أحسب أصحابَ الحديث ضَبَطُوا هذَا ، ولا هذه القراءَةَ عند

البصريين النحويين جائزة ألبتَّة ، لأن فيها الجمعَ بينَ ساكنين من غير حرف مَا

ولين.

فأما مَا قَرأنَاه من حرف عاصم ورواية أبي عمرو (فنِعِمَّا هِي) ، بكسر النون

والعين ، فهذا جَيِّدٌ بَالغ لأن ههنا كسرَ العينِ والنونِ ، وكذلك قراءَة أهلِ

الكوفة (نَعِمَّا هي) جَيدة لأن الأصل في نِعْمَ نَعِمَ ونعِمَ . ونعْمَ فيها ثلاث

لغاتٍ ، ولا يجوز مع إدغام الميم نِعْمَّا هي . و " ما " في تأويل - الشيءِ زعم

البصريون أن نِعِمَّا هي : نعْمَ الشيءُ هِيَ . وقد فسرنا هذا فيما مضى.

ومعنى : (وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ).

هذا كان على عهد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - فكان الإخفاء في إِيتاءِ الزكاة أحْسَن ، فأمَّا اليومَ فالناس يُسِيئون الظن ، فإظهارُ الزكاة أحسنُ ، فأمَّا التطوع فإخفاؤُه أحسن ، لأنه أدل على أنه يريد اللّه به وحده.

يقال أخفَيْتُ الشيءَ إخفاءً إذا سَتَرتُهُ ، وخَفِي خَفَاءً إذا اسْتَتَر ، وخفَيْتُه أخْفِيه خَفْياً إِذا أظْهَرْتُه ، وأهل المدينة يسمون النبَّاشَ : المُخْتَفِي.

قال الشاعر في خفيته أظهرته :

فإِنْ تَدفِنُوا الداءَ لا نخْفِه . . .وإِن تَبْعَثُوا الحرْبَ لا نَقْعُدِ

* * *

٢٧٢

وقوله عزَّ وجلَّ : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّه يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللّه وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (٢٧٢)

معناه إِنما عليك الِإبلاغ كما قال - جلَّ وعزَّ - (وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (١١٩).

ومعنى : (وَلَكنَّ اللّه يَهْدي مَنْ يَشَاءُ).

أي يوفق من يشاءُ للّهداية ، وقال قوم : لَوْ شاءَ اللّه لهداهم أي

لاضطرهم إِلى أن يهتدوا - كما قال : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (٤).

وكما قال - عزَّ وجلَّ - (ولَوْ شَاءَ اللّه لجَمَعهُم عَلَى الهُدى)

وهذا ليس كذلك . هذا فيه : (وَلَكِنَّ اللّه يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ).

فَلاَ مُهتديَ إِلا بتَوفيق اللّه - كما قال : (وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ باللّه).

ومعنى : (وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللّه).

هذا خاص لِلْمُؤْمِنِينَ ، أعْلمهم أنه قد عَلِم أنهم يريدون بِنَفقتهم ما عند

اللّه جلَّ وعزَّ ، لأنه إِذا أعلمهم ذلك فقد علموا أنهم مثابون عليه ، كما قال : (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ).

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ).

الرفع في (يُكَفِّرُ) والجزمْ جائزان ، ويقرأ - ونُكفر عنكم - بالنون والياءِ.

وزعم سيبويه أنه يَخْتَار الرفعَ في وُيكَفَرُ ، قال لأن ما بعد الفاءِ قد صار بمنزلتِه

في غير الجزاءِ ، وأجاز الجزم على موضع فهو خير لكم لأن  يكن

خيراً لكم ، وذكر أن بعضهم قرأ : (مَنْ يُضْلِلِ اللّه فَلا هَادِيَ لَهُ ويَذَرْهم) بجزم الراءِ ، والاختيار عنده الرفع في قوله (ويذرهُم) وفي (ونُكَفِّر)

قال : فأمَّا النصب فضعيف جداً ، لا يجيزُ (ونُكَفِّرَ عَنْكم) إلا على جهة الاضطرار ، وزعم أنه نحو قول الشاعر :

سَأتركُ مَنزِلي لبَنِي تَمِيم . . . وألحقَ بالحجاز فأستريحَا

إلا أن النصب أقوى قليلاً لأنه إنَّمَا يَجبُ به الشًيءُ بوجُوبِ غيره فضارع

الاستفهامَ وما أشبَههُ.

هذا قول جميع البصريين وهو بين واضح.

* * *

٢٧٣

قوله عزَّ وجلَّ : (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّه لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّه بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣)

فُقراء : جمع فقير مثل ظريف وظُرَفَاء وقالوا في (أُحْصِرُوا) قولين : قالوا

أحْصَرهم فرضُ الجهاد فَمَنَعَهُم من التصرفِ.

وقالوا أحصرهم عَدُوهُم لأنه شَغَلَهُمْ بِجِهادِهِ ، ومعنى (أُحْصِرُوا) صاروا إلى أن حصروا أنفسهم للجهاد ، كما تقول رَابَط في سبيل اللّه.

ومعنى : (لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ).

أي قد ألزموا أنفسهم أمر الجهادِ فمنعهم ذلك من التصرف وليس لأنهم

لا يقدرون أن يتصرفوا . وهذا كقولك ، أمرني المولى أن أقيمَ فما أقدرُ على أن أبرحَ ، فالمعنى أني قد ألزَمْتُ نفسي طاعَتَهُ ، ليْس أنه لا يقدر على الحَرَكةِ

" وهو صحيح سَوِي ، ويقال ضربتُ في الأرض ضرباً ، وَضَرَبَ الفَحْلُ الناقَةَ إذا حَمَل عليها ضِراباً ، والضرِيبُ الجليد الذي يسقط على الأرض ، يقال ضَرَبَت الأرض وجُلِدت الأرض وَجَلِدَتْ الأرض.

وروى الكسائي : ضَرِبَتْ الأرضُ وجَلِدتْ.

والأكثر ضَرَبَتْ وجُلِدَات.

ومعنى (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ).

أي يحسبهم الجاهل ويخالهم أغنياء من التعفف عن المسألة وإظهارِ

التجمل.

ومعنى : (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا).

روي عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أنَّه قال " من سأل وله أربعون درهماً فقد ألْحَفَ "

ومعنى " ألحَفَ " أي اشتمل بالمسْألَة ، وهو مستغن عنها ، واللِّحَافُ من هذا

اشتقاقه لأنه يشْمَل الإنْسَان في التغطية.

والمَعْنَى أنه ليس منهم سؤَال فيكون منهم إلحاف.

كما قال أمرؤ القيس "

على لاحِبٍ لا يُهْتدى بمَنارهِ . . . إذا سافَه العَوْدُ النباطيُّ جَرْجَرا

 ليس به منار فيهتدى بها ، وكذلك ليس من هُؤلاءِ سؤَال فيقع فيه

إلحاف .

٢٧٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)

(الذين) رفع بالإبتداء ، وجاز أن يكون الخبر ما بعد الفاءِ ، ولا يجوز في

الكلام " زيد فمنطلق " لأن الفاءَ لا معنى لها - ، وإنما صلح في الذين لأنها تأتي بمعنى الشرط والجزاءِ.

* * *

٢٧٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّه الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّه وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٧٥)

 الَّذين يأكلونَ الرِّبَا لا يقومون في الآخرة إلا كما يقومُ المَجْنُون.

مِنْ حَالِ جُنُونه.

زعم أهل التفسير أن ذلك عَلَمٌ لهُمْ في الموقف ، يَعْرفُهُمْ به

أهل المَوْقِف ، يُعْلَمُ بِه أنَّهُمْ أكَلَةُ الربا في الدنيا يقال بِفُلان مَس ، وهو ألْمَس

وأوْلَق إذا كان به جنون.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى).

جاز تذكير (جاءَه) ، وقال : تعالى في موضع آخر (قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) لأن كل تأنيث ليس بحقيقي فتذكيره جائز ألا ترى أن الوعظ

والموعظة معبران عن معنى واحد.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّه).

أي قَد صُفِحَ لَه عَمَّا سَلَفَ (وأمْرُهُ إلَى اللّه) أي اللّه وليُّه.

ومعنى : (وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ).

أي من عاد إلى استحلال الربا فهو كافر ، لأن من أحلَّ ما حرَّم اللّه فهو

كافر ، وهؤُلاءِ قالوا : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) ومن اعتقد هذا فهوكافر.

* * *

٢٧٨

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨)

نزلت في قوم من أهل الطائف كانوا صُولحوا على أنْ وُضِعَ عَنهُمُ ما

كَانَ عَلَيْهِمْ مِنَ الربا ، وَجُعلَ لهم أن يأخُذُوا مَا لَهُمْ مِنَ الربَا وكان لهم على

قوم مِنْ قُريْش مال فطالَبُوهُمْ عندَ المَحْل بالمال والربَا فقالتْ تلك الفرقة ما

بالنا مِنْ أشقى الناس يؤْخذ منا الربا الذي قد وضع عن سائر الناس ، فأمر اللّه

عز وجلَّ - بترك هذه البقية ، وأعلم أن من كان مؤْمناً قَبلَ عن اللّه أمرَه ومن أبى فهو حرْبٌ ، أي كافر ، فقال :

٢٧٩

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (٢٧٩)

وقال بعضهم قآذِنُوا ، فمن قال (فَأْذَنُوا) : فالمعنى : أيقِنُوا ومن قال (قآذِنُوا)

كان معناه فأعلِمُوا كل مَنْ لمْ يترُكِ الربَا أنَّه حَرْب.

يقال قد آذنته بكذا وكذا ، أوذنُه إيذَاناً إذا أعْلَمْتُه وقد أذِنَ له يأذنُ إذْناً إذا عَلِمَ بِه.

* * *

٢٨٠

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠)

أي : وإن وقعَ (ذُوعُسْرَةٍ) ، ولو قرئت ، وإن كان ذا عُسْرَةٍ لجاز أي

وإن كان المدين الذي عليه الدَّينُ ذَا عُسْرةٍ ، ولكن لا يُخَالف المصحف

والرفع على أن ، (إنْ كان) على معنى إنْ وقع ذو عسرة - ورفع (فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) على فعلى الَّذِي تعاملونه نظرة أي تأخير ، يقال بعته بيعاً بِنَظرةٍ.

ومن قال فناظرة إلى ميسرة ففاعالة من أسماءِ المَصَادِر نحو (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ)

ونحو (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (٢٥).

وإنْ شئْتَ قُلتَ إلى مَيْسُرة

فأما منْ قَرأ (إلى مَيْسُرِهِ) على جهةِ الإضافة إلى الهاءِ فمخطئ ، لأن "ميسُر"

مَفْعُل وليْس في الكلام مفعُل.

وزعم البصريون أنهم لا يعرفونَ مفْعُلاً إنما يَعْرِفُون مفْعُلَة.

فَأمرهم اللّه بتأخيرِ رأس المال بعد إسقاط الربا ، إذا كان المُطَالَبُ

مُعْسِراً ، وأعلمهم أن الصدقة بِرأس المالِ عَلَيْهِ أفْضَلُ.

فقال : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

* * *

٢٨١

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّه ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٨١)

هذا يوم القيامة ، ويقال إنها آخر آية نزلت من كتاب اللّه جلَّ وعزَّ.

كذا جاءَ في التفسير.

٢٨٢

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّه فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّه رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا  ضَعِيفًا  لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا  كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّه وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللّه وَيُعَلِّمُكُمُ اللّه وَاللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ)

يقال دَايَنْتُ الرجلَ إذا عاملته بدين ، أخَذْتُ منه وأعطيتُه . وتَدايَنَّا على

دايَنْتُه ، قال الشاعر :

- دايَنْتُ ليْلَى والدُّيُونُ تقضَى . . . فمطلت بعضاً وأدَّت بعضاً

ويقال دِنْت وأدَّنْتُ أي اقْترضْت ، وأدَنْتُ إذا أقْرضْتُ.

قال الشاعر :

أدانَ وأنبِّأه الأولون . . . بأن المُدَان مَلِيء وفيُّ

فالمعنى إذا كان لبَعْضكم على بعْض ديْن إلى أجل مُسَمَّى فاَكتبوه فأمر

اللّه - عزَّ وجلَّ - بكَتْب الدين ، حِفظاً مِنْه للأمْوال ، وكذلك الإشهاد فيها

وللناسِ من الظلْمِ لأَن صاحب الدَّيْنِ إذا كانت عليه الشهُودُ والبَينَةُ قَلَّ

تحديثُه نفسَه بالطمَع في إذْهَابِهِا.

فأمر اللّه - جلَّ وعزَّ - بالإشهاد والكِتَابِ.

قال بعض أهل اللغة هذا أدب من اللّه عزَّ وجلَّ وليس بأمر حَتْم كما

قال عزَّ وجلَّ : (وإِذَا حَلَلْتُم فاصْطادوا) - فليس يجب كُلماِ يحل من

الإحرام أن يصطاد ، وكما قال : (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ).

وهذا خلاف ما أمَرَ اللّه به في كتاب الدين والإشهاد لأن هذين جميعاًْ

إباحة بعد تحريم - قال اللّه عزَّ وجلَّ : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) وقال : (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ثم أباح لهم - إِذا زال

الإحرام - الصيدَ " وكذلك " قال : (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللّه وَذَرُوا الْبَيْعَ)

فَأبَاحَ لَهُمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الصًلاةِ الابتغاءَ منْ فضْلِهِ ، والانتشارَ في الأرض لما أرادوا من بيع وغَيْره.

وليست آيةُ الدَّيْنِ كذلك ، ولكن الذي رخص في ترك الإشهاد في قول قوم  (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ).

أيْ يكتَب بالحق ، لا يكتب لصاحب الدين فضلًا على الذي عليه الدين

ولا يُنْقصُه مِنْ حقه - فهذا العدل .

ومعنى : (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّه فَلْيَكْتُبْ).

أي لا يأب أنْ يكتب كما أمره اللّه به من الحق.

وقيل (كَمَا عَلَّمَهُ اللّه فَلْيَكْتُبْ) ، أي كما فضله اللّه بالكتاب فلا يَمْنَعَن المعْرُوفَ بكتَابِهِ.

وأبى يأبَى في اللغة منفرد لَم يَأتِ مِثْلُه إلا قَلَى يَقْلَى ، والذي أتَى أبَى يأبى

لا غير - فَعَل يَفْعَل ، وهذا غير معروف إلا أن يكون في موضع العين من الفعل  اللام حرف من حروف الحلق ، وقد بيَّناها ، ولكن القول فيه أن الألف في أبى أشْبَهَت الهَمْزَة فَجاءَ يَفْعَل مفْتُوحاً لِهَذِه العِلة ، وهذا القول لإسماعيل بن إسحاق ومثله قلى يلقى.

ومعنى قوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا) أي لاَيَنْقُصْ مِنْهُ شَيْئاً.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا  ضَعِيفًا  لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ).

السفيه الخفيف العقل ، ومن هذا قيل تسفهت الريح الشيء إذا حركته.

واستخفته ، قال الشاعر :

مَشَيْنَ كما اهتزَّتِ رماحٌ تسفَّهَتْ . . . أَعَالِيَها مَرُّ الرِّياحِ النَّواسِم

فالنساء والصبيان اللاتي لا يميزن تميزاً صحيحاً سفهاء ، والضعيف

في عقله سفيه ، والذي لا يقدر - على الإملاء العيي.

وجائز أن يكون الجهول سفيهاً كهؤُلاءِ.

ومعنى : (فليملل وليه بالعدل) : أي الذي يقوم بأمره ، لأن اللّه أمر ألا

نْؤتي السفهاء الأموال . وأمر أن يقام لهم بها فقال :

(وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ).

فوليه الذي يقوم مقامه في ماله لو كان مميزاً.

وقال قوم : ولي الدَّيْنِ . وهذا بعيد : كيف يقبل قول المدعي ، وما

حاجتنا إلى الكتاب والإشهاد والقول

(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ).

معنى رجالكم من أهل ملتكم.

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ).

أي فالذي يشهد - إن لم يكن - رجلان - رجل وامراتان ومعنى (ممن ترضون من الشهداءِ) ، أي ممن ترضون مذهبه ، ودل بهذا القول أن في الشهود من ينبغي ألا يرضى.

(أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى).

مَنْ كسر (أنْ) فالكلامُ علي لَفظ الجَزَاءِ ، ومعناه :  في (إن تضِل)

إن تَنْسَى إحداهما ، تذكرْهَا الذاكرةُ فَتَذْكر.

و (فَتُذَكِّرُ) رُفِعَ مع كسر (إنْ)

لا غير - ومن قرأ "أن تَضِلَ قتُذَكرَ " وهي قراءَة أكْثر الناس ، فَزَعمَ بعضً أهل اللغة فيها أن الجزاء فيها مقدَّم أصله التاخير

وقال :  : استشهدوا امراتين مكان الرجل كي تُذَكرَ الذاكرة - الناسِيَةَ . إن نَسِيَتْ . فلما تقدم الجزاءُ اتصلَ بأول الكلام وفُتِحَتْ أنْ وصارَ جوابهُ مردُوداً عليه.

ومثله إني لَيُعْجِبُني أن يسْأل السائلُْ فيعطى ، قال - والمعنى إنما يُعجبُه الإعطاء إن سَأل السائِل وزعم أن هذا قول بين.

ولست أعرف لِمَ صار الجزَاءُ إدا تقدم - وهو في مكَانه  في غير

مكانِه وجب أن يفتح (أن) معه.

وذكر سيبويه والخليل " وجميع النحويين الموثوق بعلمهم أن

استَشهدوا امراتين لأن تُذَكرَ إحداهما الأخري ، ومِنْ أجْل أنْ تُذَكرَ إحداهما

الأخرى ، قال سيبويه : فإن قال إنْسَانُ فلم جاز (أن تضل) وإنما أعد هذا

للإذْكار ، فالجواب أن الإذكار لما كان سبَبُه الإضْلال جاءت أن يذكر

(أن تضل) لأنَّ الإضلال هو السبب الذي أوجب الإذكار.

قال ومثله : أعددت هذا الجذع أن يَمِيلَ الحائطُ ، فأدعمَهَ ، وإنَّما أعددته للدعم لا لِلْمَيل ، ولكنْ الميلَ ذُكرَ لأنه سَبَبُ الدعم ، كلما ذكر الإضْلال لأنه سبب الاذكار - فهذا هو البيِّن إن شاءَ اللّه.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا).

يروى عن الحسن أنه قال (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) لابتداء الشهادة.

أي ولا يأبوا إذا دُعُوا لإقامتها.

وهذا الذي قال الحسن هو الحق - واللّه أعلم - لأن الشهداء إذا أبوا -

وكان ذلك لهم - أن يشْهدوا تَوِيتْ حقوقهم وبطلت معاملاتهم فيما يحتاجون

إلى التوثق فيه.

وقال غير الحسن : (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) - وكانت في أعناقهم

شهادة - أن يقيموها.

فأما إذا لم يكونوا شهداء فهم مخيرون في ابتداء

الشهادة ، إن شاءُوا شهدوا وإن شاءُوا أبوا.

ويدل على توكيد أن الشاهد ينبغي له إذا ما دعي ابتداء أن يجيب.

قوله تعالى : (وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا  كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ).

أي لا تملوا أن تكتبوا ما أشْهَدتم عليه ، فقد أمِرُوا بهذا ، فهذا يَؤكد أن

أمر الشهادة في الابتداءِ واجب ، وأنه لا ينبغي أن يُمَل ويقال سئمت أسأم

سآمة . سأماً.

قال الراجز :

لما رأيت أنه لا قامة . . .وأننِي سَاق على السآمَة

نزعتُ نزعاً زَعْزَع الدعَامَة

ومعنى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً).

أكثر القراءِ على الرفع (تِجَارَةً حَاضِرَةً) على معنى : إلا أن تقَع تِجارةَ

حاضِرة . ومن نصب تجارة - وهي قراءَة عاصم فالمعنى إلا أن تَكونَ المُداينة

تجارةً حاضرةً.

والرفع أكثرُ وهي قراءَة الناس.

فرخص اللّه عزَّ وجلَّ في ترك كتابة ما يديرونه بينهم لكثرة ما تقع

المعاملة فيه ، وأنه أكثر ما تقع المتاجرة بالشيءِ القليل ، وإن وقع فيه الدين.

ووكدَ في الاشهاد في البيع فقال :

(وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) وقد بيَّنَّا ما الذي رخص في ترك ، الإشهاد.

ومعنى : (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ).

قالوا فيه قولين : قال بعضهم : (لَا يُضَارَّ) : لا يضارِرْ ، فأدغمت الراءُ

في الراءِ ، وفتحت لالتقاءِ الساكنين ، ومعنى (لَا يُضَارَّ) لا يكتب الكاتب إلا

بالحق ولا يَشْهدُ الشاهد إلا بالحق.

وقال قوم : (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) : لا يُدْعَى الكاتبُ وهو مشغول لا يمكنه ترك شغله إلا بضرر يدخل عليه ، وكذلك

لا يُدْعى الشاهد ومجيئُه للشهادة يضُرُّ به والأول أبينُ

ل (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ)

فالفاسق أشبه بغير العدل وبمَنْ حرف الكتاب منه بالذي دعا شاهداً

ليشهد ، ودعا كاتباً ليكتب ، وهو مشغول فليسَ يسمَّى هذا فاسقاً ولكن يسمى من كذب في الشهادة ومن حرف الكتاب فاسقاً.

* * *

٢٨٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّه رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)

قرأ الناس " فرُهُن مقبوضة " و " فَرِهان مقبُوضَة "

فأمَّا "رُهُنٌ" فهي قراءَة أبي عَمرو ، وذكر فيه غير واحد أنها قرئت : " فَرُهُن " ليُفْصَل بين الرهَانِ في الخَيْل

وبين جَمْع رَهْن في غيرها ، ورُهُن ورهان أكثر في اللغَةِ.

قالَ الفراء " رُهُن " جمعٍ رِهَانٍ ، وقال غَيْرُه : رُهُن وررَهْن " مِثْل سُقُف وسَقْف.

وفَعْل وفُعُل قليل إلا إنَّه صحيح قد جاءَ ؛ فأما في الصفة فكثير ، يقال : فرَس وَرْد ، وخيل وُرْد.

ورجل ثَط وقَوْم ثُط ، والقراءَةُ على " رُهُن " أعجَب إِليَّ لأنها موافقة

للمصحف ، وما وافق المصحف وصح معناه وقرأت به القراء فهو المُختار.

ورِهَان جَيِّد بَالغ.

يقال : رهنتُ الرهن وأرهَنْتُه ، وأرْهَنْتُ أقلهما.

قال الشاعر في أرْهنت :

فَلَمَّا خَشِيتُ أظافِيرهُم . . . نَجَوْتُ وَأرْهَنْتهُمْ مَالِكاً

وقال في رَهَنْت : أنشده غيرُ واحد :

فَهَلْ من كاهِنٍ  ذِي إله . . . إذا مَا حان من رَبي قُفول

يُرَاهِنُني فيَرهَنُني بَنِيه . . . وأرْهنه بَنِي بما أقولُ

لَمَا يَدْري الفقيرُ متى غِنَاه . . . ومَا يَدْري الغَنِيُّ متَى يُعِيلُ

* * *

٢٨٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (للّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ  تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّه فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)

معناه هو خالقهما.

(وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ  تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّه).

معناه إن تظهروا العمَل به  تُسِرُّوه يُحاسبكم به اللّه ، وقد قيل إن هذا

منسوخ ، روي عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أنه قال تُجَوِّزَ لهذه الأمة عن نسيانها وما حدَّثَتْ به أنْفُسَهَا.

ولما ذكر اللّه - جلَّ وعزَّ - ْ فَرْضَ الصلاة والزكاة والطلاق والحيض

والإيلاءِ والجهاد وأقاصيص الأنبياءِ والدَّيْن والربا ، ختم السورة بذكر تعظيمه وذكر تصديق نبيه - صلى اللّه عليه وسلم - والمؤمنين بجميع ذلك فقال :

٢٨٥

(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّه وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥)

أي صدق الرسول بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها وكذلك

المؤْمنون.

(كُلٌّ آمَنَ بِاللّه) أي صدق باللّه وملائكته وكتبه.

- وقرأ ابن عباس - وكِتَابه وقرأتْه جماعة من القراءِ.

فأمَّا كُتُب فجمع كِتاب ، مثل : َ مِثَال ومُثُل ، وحمَار وحُمُر.

وقيل لابن عباس في قراءَته " وكتابه " فقال كتاب أكثر من كتب.

ذهب به إلى اسم الجِنْس

كما تقول : كثر الدرْهَم في أيدِي الناس.

ومعنى : (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ).

أي لا نفعل كما فعل أهل الكتاب قبلنا . الذين آمنوا ببعض الرسل

وكفروا ببعض ، نحو كفْر إليهود بعيسى ، وكفْر النصارى بغيره فأخبر عن

المؤمنين أنهم يقولون (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ).

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا).

أي " سَمعْنَا " سَمْع قابِلينَ . و (أطَعْنَا) : قِبِلْنَا ما سَمِعْنَا ، لأن مَن سمع

فلم يعْمل قيل له أصم - كما قال جلَّ وعزَّ :

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ). ليس لأنهم لَا يسْمعون ولكنهم صاروا - في ترك القبول بمنزلة من لا يسمع

قال الشاعر :

أصَمُّ عمَّا سَاءَهُ سَمِيع

ومعنى : (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).

أي أغفر غُفْرانَك ، وفُعْلاَن ، من أسْمَاءِ الْمَصَادِر نحو السُّلوان والكُفْران.

ومعنى : (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي نحن مقرون بالبعْثِ.

* * *

٢٨٦

وقوله عزَّ وجلَّ : (لَا يُكَلِّفُ اللّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا  أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٨٦)

(لَا يُكَلِّفُ اللّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)

أي إلا قدرَ طَاقَتها ، لا يكلفها فَرضاً من فُروضهِ من صَوْم أوصَلاةٍ

صَدقَةٍ  غير ذلك إلا بمقدار طاقتها.

ومعنى : (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ).

أي لا يؤَاخذ أحداً - بذنب غيره - كما قال - جلَّ وعزَّ : (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).

ومعنى : (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا  أَخْطَأْنَا).

قيل فيه قولان : قال بَعضهم إِنَه على مَا جاءَ عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - "عُفِيَ لِهَذِهِ الأمة عن نِسُيَانِهَا ومَا حَدَّثتْ بِهِ أنفُسَهَا"

وقيل : (إِنْ نَسِينَا  أَخْطَأْنَا) أي إن تَرَكْنَا.

و ( أخْطَانَا) : أيْ كَسَبْنَا خطيئةً واللّه أعلم.

إلا أن هذا الدعاءَ أخبر اللّه به عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - والمؤْمنين وجعله في كتابه نيكون دعاءَ مَنْ يأتي بعد النبي - صلى اللّه عليه وسلم - والصحابة رحمهم اللّه.

وروى عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أن اللّه - جلَّ وعزَّ - قال في كل فصل من هذا الدعاء فَعلتُ فعلتُ أي اسْتَجَبْتُ.

فَهوَ منَ الدعاء الذي ينبغي أن يحفظ وأن يدعى به كثيراً.

* * *

وقوله جلَّ وعزَّ : (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا).

كل عقد من قرابة  عهد فَهُو إصْر ، العرب تقول : مَا تأصِرُني على

فلان آصرة . أي ما تَعطفني عليه قرابة ولا مِنَة قال الحطيئة :

عَطفُوا عليَّ بغير آصرة . . . فقد عَظُمَ الأواصِر

أي عطفوا على بغير عهد قرابة ، والْمَأصَرُ من هذا مأخوذ إنما هو

عقد ليحبس به ، ويقال للشيء الذي تعْقَدُ به الأشياء الإصَار.

فالمعنى لَا تَحْمِلْ علينا أمْرا يثقُل كما حمَلتَه على الذين من قبلنا نحو ما

أمِرَ به بنو إسرائيل من قتل أنفسهم ، أي لا تَمْتَحِنا بما يثقل . (أيضاً) نحو

 (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ).

والمعنى لا تمتحنا بمحنة تثقل.

ومعنى : (وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ).

أي ما يثقل علينا ، فإِن قال قائل - فهل يجوز أن يُحَمِّلَ اللّه أحداً ما لا

يطيق ؟

قيل له : إدْ أردت ما ليس في قدرته ألبتَّة فهذا محال.

وإن أردت ما يثقلُ ويخسف فللّه عزَّ وجلَّ أن يفعل من ذلك ما أحب.

لأن الذي كلفه بني إسرائيل من قتل أنفسهم (يَثقل) ، وهذا كقول القائل : ما

أطيقُ كلام فلان ، فليس  ليس في قُدرتِي أن ُكَلِّمَهُ ولكنْ معناه في اللغة أنه يثقل عليَّ.

ومعنى : (فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).

أي أنْصُرنا عليهم في إقامة الحجة عليهم ، وفي غلبنا إِياهم في حربهم

وسائر أمرهم ، حتى تظهر ديننا على الدِّين كلِّه كما وعدتنا .