سُورَةُ الْفاَتِحَةِ الْكِتاَبِ

مَكِّيَّةٌ وَهِيَ سَبْعُ آياَتٍ

١

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قَال أبو إسحاق إِبراهيمُ بنُ السَّري الزجَّاج :

هذا كتاب مختصر في إِعرَاب القُرآنِ ومَعَانِيه ، وَنَسْألُ اللّه التَّوْفِيق فِي كُل الأمُورِ.

قوله عزَّ وجلَّ : (بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) :

الجالب للباءِ معنى الابتِدَاء ، كَأنَّك قُلْتَ : بَدَأتُ بِاسْم اللّه الرحمن الرحيم ، إِلا أنَّهُ لم يُحْتَج لذكر " بَدأت " لأن الحال تنبئ أنك مبتدئ.

وسقَطت الألف من باسم اللّه في اللفظ وكان الأصلُ : " باسم اللّه " لأنها

ألف وصل دخَلتْ ليتَوَصلَ بِهَا إِلى النُطْقِ بالسَّاكِن . والدَّلِيل على ذلِكَ أنَّك إذَا صغرت الاسم قلت سُمَيٌّ والعرب تقول : هَذا اسم ، وهذا اسم ، وهذا سِمٌ.

قال الرَّاجزُ :

بِاسمِ الذي في كل سُورَةٍ سِمُهُ .

وسُمه أيضاً روى ذلِك أبُو زَيد الأنصَارِيّ وَغَيْرُه من النَّحويينَ ، فَسَقَطَت

الألف لمَا ذكَرْنَا.

وكذلك قولك : " ابن " الألف فيه ألف وصل ، تقول في تصغيره " بُنَى).

ومعنى قولنا اسم : إنَّه مشتق من السمو ، والسمو الرفعة ، والأصل فيهِ سَمَو

- بالواو - على وزن جَمَل ، وجمعه أسْمَاء ، مثل قِنْو وأقناءٍ ، وحَنْو وأحْنَاء.

وَإنَّما جُعِلَ الاسْم تنويهاً باسم اللّه على  ؛ لأنَّ  تحتَ

الِإسْمَ.

ومنْ قال : إِنَّ اسْما مأخوذ من " وَسَمْتُ " فهو غلط ، لأنَّا لا نعرف شيئاً

دخلته ألف الوصل وحُذفت فاؤُه ، أعني فاءَ الفعل ، نحو قولك " عِدَة "

و " زِنَة ".

وأصْله " وعْدة " و " وَزْنة).

فلو كان " اسم " وسمة لكان تصغيره إذا حذفت منه

ألف الوصل " وُسَيْم " ، كما أن تصغيرَ عِدة وَصِلة : وُعَيْدة ، ووُصَيْلة ، ! ولا يقْدِر أحَد أنْ يَرى ألِف الوَصْلَ فيما حذفَتْ فاؤه من الأسماء.

وسقطت الألف في الكتاب من " بِسْم اللّه الرحمن الرحيم "

ولم تسقط في (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) لأنه اجتمع فيها مع أنها تسقط في

اللفظ كثرةُ الاسْتعمَال.

وزعم سيبويه أن معنى الباء الإلصاق ، تقول كتبتُ بالقلم والمعنى أن

الكتابة ملصقة بالقلم ، وهي مكسورة أبداً لأنه - لا معنى لها إِلا الخفض

فوجب أن يكون لفظها مكسوراً ليفصل بين ما يجُر وهو اسم نحو كاف قولك

كزيد ، وما يجر وهو حرف نحو بزيد ، لأن أصل الحروف التي يُتَكلم بها

وهي على حرف واحد الفتحُ أبداً إلا أن تجِيءَ علة تزيلُه لأن الحرف الواحد لا حظ له في الإِعراب ، ولكن يقع مبتدأ في الكلام ولا يبتدأ بساكن فاختير الفتح لأنه أخف الحركات ، تقول رأيت زيداً وعمراً ، فالواو مفتوحة ، وكذلك فعمراً الفاءُ مفتوحة ، وإِنما كسرت اللام في قولك : " لِزَيد " ليفصل بين لام القسم ولام الِإضافة.

ألاترى أنك لوقلت : إِنَّ هذا لِزيدٍ علم أنه ملكه.

ولو قلت : " إِن هذا لَزَيدٌ " علم أنَّ المشار إِليه هو زَيد فلذَلكَ كُسِرَت اللام في قولك لِزَيْدٍ

ولو قلت : إِنَّ هذا المال لَكَ ، وإِنَ هذا لأنْت فتحت اللام لأنَّ اللبس قد

زال .

والذي قلناه في اللام هو مذهب سيبويه ويونس والخليل ، وأبي عمرو بن العلاء وجميع النحويين الموثُوقِ بِعلْمِهِمْ.

وكذلك تقول : أزَيْد في الدار ؛ فالألف مفتوحة وليْس في الحُروف

المبتدأة مما هو على حرفٍ (حرفٌ) مكسور إِلا الباءُ ولام الأمر وحْدهما

وإنما كسرتا للعلة التي ذكرنا ، وكذلك لام الِإضافة ، والفتح أصلها.

وأما لام كي في قولك : جئتُ لِتَقُومَ يا هذا ، فهي لام الإضافة التي في

قولك " المالُ لِزَيدٍ " ، وإنما نُصبت تقوم بإضمار " أنْ "  " كَيْ " الًتي في معنى " أنْ " ، فالمعنى : جئتُ لِقيَامِك.

وما قلناه في اشتقاق " اسم " قول لا نعلم أحَداً فسره قَبْلنا .

وأمَّا قولك : ليضْربْ زيد عمراً ، فإنما كسرت اللام ليُفْرقَ بينها وبين لام التوكيد ، ولا يبالى بشبهها بلام الجر لأنَّ لام الجر لا تقع في الأفعال ، وتقع لام التوكيد في الأفعال ، ألا ترى أنك لو قلت : لَتَضْرِبْ وأنت تأمر لأشبه لام التوكيد إذا قلت : إنك لتَضْرِبُ.

فهذا جملة ما في الحروف التي على حرف واحد.

فأما اسم اللّه عزَّ وجلَّ فالألف فيه ألفُ وصل ، وأكْرهُ أنْ أذكر جميع ما

قال النحويون في اسم اللّه أعني قولنا (اللّه) تنزيهاً للّه عزَّ وجلَّ.

**

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٢

قوله عزَّ وجلَّ : (الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢)

(معنى الْحمْد الشُّكْرُ والثناءُ على اللّه تعالى . .

الحمدُ رفع بالابتداءِ ، و (للّه) إِخباز عَنِ الْحمْدِ والاختيارُ في

الكلَامِ الرفْعُ ، فَأمَّا القُرآنُ فلا يُقْرأ فِيه (الحمدُ) إِلا بالرفع ، لأن السُّنة تتبع فِي القرآن ، ولَا يُلْتَفَتُ فِيَه إِلى غَير الرِّوايةِ الصحِيحَةِ ائَتي قدْ قرأ بها القُراءُ

المشْهُورُونَْ بالضَبطِ والثِّقةِ ، والرفعُ القَرَاءَةُ ، ويجوز ُ في الكلام أن تقول

" الحَمْدَ " تريد أحْمَد اللّه الْحَمْدَ فاستغنيْت عن ذِكْرِ " أحْمَد " لأن حَالَ

الحَمدُ يجب أن يكونَ عليها الْخَلْقُ ، إلا أنَّ الرفْعَ أحْسَنُ وأبلغ في الثناءِ على

اللّه عزَّ وجلَّ.

وقد رُوي عن قوم من العرب : " الحمدَ للّه " و " الحمدِ للّه " ، وهذه لغة

من لا يُلْتَفَتُ إِليه ولا يتشاغل بالرواية عنه.

وإِنَما تشاغلْنَا نحنُ بِرِواية هذا الحرف لِنُحَذِّرَ الناس من أنْ يَسْتعْمِلُوه ،

 يَظن - جاهل أنه يجوز ُ في كِتاب اللّه عزَّ وجلَّ ،  فِي كَلَامٍ ، وَلَمْ يأتِ لهذَا نظير في كَلام العَرب . ولا وَجْه لَه.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (رَبِّ الْعَالَمِينَ)

قد فسرنا أنه لا يجوز ُ في القرآن إِلا (رَبِّ الْعَالَمِينَ الرحمَنِ الرحيمِ)

وَإِنْ كان المرفع والنصب جائزين " في الكلام ، ولا يتخَير لكتاب

اللّه عزَّ وجلَّ إلا اللفظ الأفْضل الأجْزَل.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (العالمين) معناه كلُ مَا خلق اللّه ، كَمَا قَال ؛

(وَهوَ ربُّ كل شيءٍ) وَهُوَ جَمْع عَالَم ، تَقول : هُؤلاءِ عَالَمونَ ، ورأيتُ عالَمِين ، ولا واحدَ لعَالَمٍ منْ لَفْظه لأن عالَماً جمع لأشياء مختلفة ، وأنْ جُعل

" عَالَم " لواحد منها صار جمعاً لأشْياء مُتَفِقَة.

والنُونُ فُتِحَت في العَالمين لأنَّها نُونُ الْجَمَاعَة وزعم سيبويه أنَّها

فتحت ليفرق بينَها وبينَ نون الِإثْنين ، تقول : هذان عالمانِ ، يا هذا ، فتكسر

نونَ الِإثنين لالتقاء السَّاكنين ، وهذا يُشْرح في موضِعه إِنْ شاءَ اللّه ، وكذلك

نون الجماعة فتحت لالتقاء السَّاكنين ، ولم تكسر لثقل الكسرة بعد الواو والياء ألا ترى أنك تقول " سَوْفَ " أفعل فتفتح الفَاءَ من " سوْف " لالتقاء السَّاكنين ، ولم تَكْسِر لثقل الكسرة بعد الواو وكذلك تقول : أيْنَ زيد فتفتح النون لالتقاء السَّاكنين بعد الياءِ.

٣

وقوله عزَّ وجلَّ : (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)

هذه الصفات للّه عزَّ وجلَّ ، معناه فيما ذكر أبو عبيدة : ذو الرحمة.

ولا يجوز أنْ يُقَال " الرحْمَنُ " إلَّا للّه ، وإنما كان ذَلك لأن بناءَ فَعْلان من أبنية

ما يُبالغُ في وَصْفِهِ ، ألا ترى أنك إذَا قُلْت غضْبانَ فمعناه الْمُمْتلئ غَضَباً.

فَرحْمنُ الَّذي وَسِعَتْ رحْمَتُهُ كل شي فلاَ يَجوزُ أنْ يُقَال لغير اللّه رحمن.

وخُفِضَتْ هذه الصفَاتُ لأنها ثَناء على اللّه - عزَّ وجلَّ - فكان إعرابُها إعراب اسْمه ، ولو قلت فِي غَيْرِ القُرآنِ : بسم اللّه الكريمَ والكريمُ ، والحمد للّه رب العالمين ، ورب العالَمينَ : جاز ذلك ، فمن نصب ربَّ العالمين فإنما ينْصبُ

لأنَّهُ ثَنَاء على اللّه ، كأنه لَمَّا قَال : الحمدُ للّه اسْتدل بهذَا إللفْظِ أنه ذاكر اللّه ، ف رَبِّ الْعَالَمِينَ - كأنه قال أذْكُرُ ربَّ العالمين ، وإِذا قال ربُّ العالمين فهو على قولك : هو ربُّ العالمين : قال الشاعر :

وكل قوم أطاعوا أمْرَ مُرْشِدهم . . . إِلا نُمَيرا أطاعتْ أمر غَاوِيهَا

الطاعِنِينَ ولما يُظْعِنُوا أحَداً . . . والقائِلِينَ لِمنْ دارٌ نخَلِّيهَا

فيجِوز أن يُنْصب " الظأعنين " على ضربين : على إنَّه تابع نُميْرا ، وعلى

الذمِ ، كأنَّه قال : أذْكُر الظاعِنِينَ ، ولك أَن تَرْفَعَ تريدُ هم الظاعنون ، وكذلك لك في " الْقَائِلينَ " النصبُ والرفعُ ، ولك أنْ ترفَعهُما جميعاً ، ولك أنْ تنْصِبهما جمِيعاً ، ولك أن ترفَع الأول وتنصب الثانِي ، ولك أن تنْصِبَ الأولَ وترفَعَ الثاني . لا خلاف بين النحويين فيما وَصَفْنا .

٤

وقوله عزَّ وجلَّ : (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)

القراءَة الخفض على مجرِى الحمدُ للّه مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ.

وإِنْ نصب - في

الكلام - على ما نُصِب عليه (رب العالمين والرحْمنِ الرحِيم)

جازَ في الكلام.

فأما في الْقراءَةِ فلا أسْتحْسِنه فيها ، وقَدْ يجوز أنْ تنْصِب رب العالمين ومالك يومِ الدِّين على النداءِ في الكَلام كما تقول : الحمدُ للّه يا ربَّ العَالمين ، " ويا

مَالكَ يَوْمِ الدِّين "

كأنك . بعد أن قُلْت . : " الحمدُ للّه " قلت لك الْحْمدُ يا ربَّ

العالمين ويا مالك يوم الدين.

وقُرِئ (مَلِكِ يَوْمَ الدِّين ، ومَالِكِ يَوْمَ الدِّين).

وإنما خُصَّ يومُ الدِّين واللّه عزَّ وجلَّ يَملك كل شَيءٍ لأنه اليومُ الذي

يضْطَر فيه الْمخلوقونَ إلى أنْ يعْرِفُوا أن الأمْر كلَّه للّه ، ألا تراه يقولُ :

(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) و (يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً)

فهو اليوم الذي لا يملك فيه أحد لنفسه ولا لغيره نَفْعاً ولا ضَرَاً.

ومن قرأ (مَالِك يَوْم الدِّين) فعلى قوله (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ).

وهو بمنزلة مَنِ الْمَالكُ الْيوْم.

ومن قرأ (مَلِكِ يَوْم الدِّين)

فعلى معنى " ذُو الْمَمْلَكَةِ " في يوم الدين ، وقيل إنها قراءَة النبي - صلى اللّه عليه وسلم -.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (يَوْم الدِّين).

الدين في اللغة الجزاءُ ، يقال : كما تَدِين تُدَان ،  كما تعمل تُعْطى.

وتُجَازىَ ، قال الشاعر :

واعلم وأيْقن أن مُلككَ زائل . . . واعلم بأن كما تدِينُ تُدَانُ

أي تجازى بما تعمل ، والدِّينُ أيضاً في اللغة العَادَة ، تقولُ العربُ ما

زَال ذلك دِيني ، أي عَادَتي.

قال الشاعر :

تقول إذا دَرَاتُ لها وضيني . . . أهذا دِينه أبداً ودِينِي

٥

وقوله عزَّ وجلَّ : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)

معنى العبادة في اللغة الطاعةُ مع الخُضُوع ، يقال هذا طَرِيق مُعّبد إذا

كان مُذللاً بكثْرةِ الوَطءِ ، وبعير معبَّدُ ، إِذا كانَ مَطْلِيًّا بِالْقَطْرَانِ.

فمعنى (إِياك نًعْبُدُ) : إِياك نطيع الطاعة التي - نَخضَع مَعها ، وموْضِع

(إِيَّاكَ) نصبُ بوقوع الفعل عليه وموْضع الكاف في (إِيَّاكَ) خفض بإضافة

" إِيَّا " إليها ، و " إِيَّا " اسم للمُضْمَر المنصوب إِلا أنهُ يُضاف إلى - سَائِر المضَمَراتِ ، نحو : إيَّاكَ ضَربْت وإياه ضربت ، وإياي حدَّثْت ، ولو قُلتَ : " إيا زَيدٍ " كان قبيحاً لأْنه خُص به الْمُضْمَر.

وقد رُوِي عن بعضِ العَرَب ، رواه الخليل : (إِذا بَلَغَ الرجُل الستين فإياه وإيَّا الشوابَّ ).

ومن قال إن إياك بكماله الاسمُ ، قيل له : لم نر اسما للمضمر ولا

للمظهر يُضَاف وإنَّما يتغيرُ آخرُهُ ويبْقى ما قَبْل آخرِهِ على لفظٍ واحد.

والدَّلِيل على إضافته قولُ العرب : " إِذَا بَلغَ الرجُلُ الستِينَ فإياه وإيا الشَواب " يا هَذَا . وإِجراؤُهم الهاءَ في إيَاهُ مَجْرَاها في عصاه.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

الأصل في نستعين : نَسْتَعْوِن لأنهُ إنما معناه من الْمَعُونَةِ والعَوْن.

ولكن الواو قُلِبَتْ ياءً لِثِقَل الكَسْرةِ فيها ، ونُقِلَتْ كَسْرَتُهَا إلى العين ، وبقيَتْ الياءٌ سَاكِنَة ، لأنَّ هذا مِنَ الإعْلالِ الذي يَتْبَع بعضُه بعْضاً نَحو أعان يُعِينَ وَأقَامَ يُقِيمُ ، وهذا يُشْرَحُ في مَكانِه شَرْحاً مُسْتَقْصًى إنْ شَاءَ اللّه.

٦

قوله عزَّ وجلَّ : (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)

معناه المنهاج الواضح قال الشاعر :

أميرُ المؤْمنين على صراط . . . إذا اعوج المناهج مستقيم

أي على طريق واضح.

ومعنى (اهْدِنَا وهم مهتدون : ثَبِّتْنا على الْهُدَى.

كما تقول للرجل القائم : قم لي حتى أعود إليك.

تعني : أثبت لي على ما أنت عليه .

٧

وقوله عزَّ وجلَّ : (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧)

صفة لقوله عزَّ وجلَّ : (الصراط المستقيم) ، ولك في عليهم ضَم الهاءِ

وكسرُها (تقول : الذين أنعمت عليهِمْ وعليهُمْ) وعلي هاتين اللغتين معظم القُراءِ ، ويجوز عليهمو (بالواو) والأصل في هذه - الهَاءُ في قولك : ضربتهو يا فَتى - ومررت بِهُو يا فتى - أنْ يتَكَلم بهَا في الوَصْل بواو ، فإذا وَقَفْتَ لخط : ضَربْتُه ومررتُ به.

وزعم سيبويه أن الواو زِيدَتْ على الهاءِ في الْمُذَكَرِ كما زيدت الألِف

في المَؤنث في قولك : ضَرَبْتُهَا ومررتُ بِهَا ، ليَسْتَوي المذكرُ والمؤَنَثُ في باب الزَيَادَةِ.

والقولُ في هذه الواو عند أصحاب سيبويه والخليل أنها إِنما زيدتْ

لخفاءِ الهاءِ وذلك أنَّ الهاءَ تَخْرجُ منْ أقْصَى الحَلْقِ ، والوَاوُ بعدَ الهاءِ أخْرَجَتْها منَ الْخَفَاءِ إلى الإبَانة ، فلهذا زِيدَتْ ، وتسقط في الوَقْف ، كما تَسْقُط الصفةُ

والكسرةُ في قولك : أتَانِي زَيْد ، ومرَرْتُ بزيد ، إفي أنَّها وأو وَصْل فلَا تَثْبتُ

لئلا يلتبس الوصل - بالأصل.

فإذا قلت : مررت - ، بهُو - يا فتى - فَإنْ شِثْتَ قُلْت :

مرَرْتُ بِهي فقلَبْتُ الواو ياءً لأن ْكِسار ما قَبْلَهَا ، أعني اليَاءَ المنكَسرَةَ فإن قال

قائل : بين الكسرة والواو الهاكل ، قيل الهاءُ ليست بحاجز حصين ، فكأن الكسرةَ تَلِي - الوَاوَ ، ولوْ كانَتْ الهاءُ حاجزاً حَصِينا ما زيدتْ الواوُ عليها . وقد قُرِئ فَخَسَفْنَا بهي وبِدَارِهِي الأرْضَ ، وبهوُ وبدارِهو الأرضَ ، من قراءَة أهلِ الحجاز.

فَإِنْ قُلْت : فلانٌ عليه مال ، فَلك فيه أرْبَعَةُ أوجُه : إن شِثْتَ كَسَرْتَ

الهاءَ وإنْ شِئْتَ أثْبَت اليَاءَ ، وكذلك . في الضم إنْ شِئت ضمَمْتَ الهاء وإنْ

شِئْتَ أثْبَتُّ الوَاو ، فقلت عَلَيْهِ وعليهي ، وعليْهُ وعَلَيْهُو (مَال).

وأما قوله عزَّ وجلَّ : (إن تحمل عليه يلهث).

و (إلا ما دمت عليه قائماً) فالقراءَة بالكسر بغير ياءٍ في " عليه" وهي

أجود هذه الأربعة ولا ينبغي أن يقرأ بما يجوز إلا أن تثبت به رواية صحيحة

يقرأ به كثير من القراءِ ، فمن قال عليهُ مال (بالضم) فالأصل فيه عليهو مال ، ولكن حَذَفَ الواوَ لسكونها وسكون الياءِ واجتماعِ ثَلَاثَةِ أحْرفٍ مُتَجَانسَة ، وترك الضمة لتدل على الواو ، ومن قال عليهُو فإنما أثبت الواو على الأصل ، ويجعل الهاءَ حاجزاً ، وهذا أضعف الوجوه لأن الهاءَ ليست بحاجز حصين ، ومن قال : عَلَيْهِ مالا فإنما قدر عليهي مال فقلب الواو ياءً للياءِ التي قبلها ، ثم حذف الياء لسكونها وسكون الياءِ التي قبلها ، " كما قلبت الواو في  مررت به يا فتى.

ومن قال : عليهي مال فالحُجةُ في إثْبات الياءِ كالحجة في إثبات الواو ألا

ترى أن عليهي مال أجودُ من عليهو مال.

وأجود اللغات ما في القرآن وهو قوله عَلَيْهِ (قَائماً) والذي يليه في الجودة

عليهُ مال بالضمِ ، ثم يلي (هذا) عليهي مال ثم عليهو مال بإثبات الواو ، -

وهي أردأُ الأرْبَعَة.

فَأما قولهم (عَلَيْهُمْ) فأصل الهاءِ فيما وصفنا أنْ تكونَ معها ضمة ، إلا أن

الوَاوَ قد سَقطت ، وإنما تُكْسر الهاءُ للياءِ التِي قَبْلَهَا ، وإنَّمَا يكُونُ ما قَبْلَ مِيم

الإضْمَارِ مضْمُوماً ، فَإِنمَا أتَتْ هذه الضمةُ لميم الإضْمَار ، وقُلِبَت كسرةً

للياءِ.

وإنَّما كثر " عَلَيْهِمْ " في القرآن (وعليهُم) ولم يكثر (عليهِمي)

و (عليهُمُو) لأنَّ الضمة التي على الهاءِ من " عليهم " للميم ، فهي أقوى

في الثبوت ، إلا تَرى أن هذه الضمة تأتي على الْميم في كل ما - لحقته الميم.

نحو عليكمْ ، وبكُمْ ، ومنكُمْ ، ولا يجوز في علِيكُمْ : " عَليكِم " (بكسر الكاف) لأن الكافَ حاجز حصينٌ بين الياءِ والميم ، فلا تُقْلَبْ كَسْرةً ، وقد

روي عن بَعْضِ العرب : (عَليكِمْ) و " بِكمْ " (بكسر الكاف).

ولا يلتفت إلى هذه الرواية ، وأنشدوا.

وإنْ قال مولاهم على جُل حادثٍ . . . من الدهر ردوا بَعْضَ أحلَامِكُمْ ردوا

(بكسر الكاف) وهذه لغة شاذة ، والرواية الصحيحة : فضل

أحلامكُم ، وعلى الشذوذ أنشد ذلك سيبويه.

فَامَّا " عليهمو " فاصل الجمع أن يكون بواو ، ولكن الميم استغنى بها عن

الواو ، والواوُ تثقل على ألسِنَتَهم ، حتى إنه ليس في أسمائهم اسم آخره واو

قبلها حركة ، فَلِذلك حُذِفَتِ الواو ، فأمَّا مَن قرأ " عَلَيْهُمُوا ولا الضالين " فقليل.

ولا ينبغي أن يقرأ إلا بالكثير وإِن كان قد قرأ به قوم فإنه أقل من الحذف

بكثير في لُغَة العرب.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ).

فيخفض (غَيْر) على وجهين ، على البَدلِ منَ الذين كأنَّهُ قال : صراط

غَيْرِ المغضُوبِ عليهم ، ويستقيم أن يكون (غَيْرِ المغْضُوبِ عليهم) من صفة

الذين ، وإن كان (غير) أصله أن يكونَ في الكلام صفة للنكرة ، تقول :

مررت برجل غيرِك ، فغيرك صفة لرَجل ، كأنك قلت : مررتُ برجل آخر.

ويصلح أن يكون معناه : مررت برجُل ليس بك وإنما وقع ههنا صفةً للذين.

لأن " الذين " ههنا ليس بمقصود قصدُهم فهو بمنزلة قولك : " إني لأمُرُّ

بالرجُلَ مِثْلك فأكرمه).

ويجوز نصب (غير) على ضربين : على الحال وعلى الاستثناءِ فكأنك

قلت : إِلا المغْضُوبَ عليهم ، وحق غير من الإعراب في الاستثناءِ النصب

إِذا كان ما بعد إِلا مَنْصوباً ، فأما الحال فكأنك قُلْتَ فيها : صراط الذين

أنعمْت عليهم لا مغْضوباً عليهم.

* * *

وقوله عزَّ وجلَّ : (ولَا الضالِّينَ).

فإنما عَطفَ بالضالين على المغْضوب عليهم ، وِإنما جاز أنْ يقع (لا)

في قوله تعالى : (ولا الضالين) لأن معنى (غَيْر) متضَمن معنى النفي ، يجيز

النحويون : أنت زيداً غير ضَارب ، لأنه بمنزلة قولك أنت زيداً لاَ تضْرِبُ ، ولا يجيزون أنتَ زيداً مثل ضارب ، لأن زيداً من صلة ضارب فلا يَتقَدم عليه.

وقول القائلين بعد الفَراغ من الحَمْد ، ومن الدعاءِ " آمِين " فيه لغتان.

تقول العرب : أمين ، وآمين ، قال الشاعر :

تباعد عني فطْحُل إِذْ دَعوته . . . أمينَ فزاد اللّه ما بيننا بعدا

وقال الشاعر أيضاً :

يا رَبِّ لا تسلبنَي حبّها أبداً . . . ويرحم اللّه عبداً قال آمينا

ومعناه : اللّهم استجب ، وهما موضوعان في موضع اسم الاستجابة كما

أن " قولنا : (صه) موضوع موضع سكوتاً.

وحقهما من الإعراب الوقف لأنهما بمنزلة الأصوات إذْ كانا غير

مشْتقين منْ فعل إِلا أن النون فتحت فيهما لالتقاءِ السَّاكنين ، فإِن قَال قائل : إلا كسِرت النُون لالتقاءِ السَّاكنين ، قيل : الكسرة تَثْقُل بعدَ الياءِ ، ألا تَرى أن أيْن ، وكيف فتحتا لالتقاءِ السَّاكنين ولم تُكْسَرا لِثِقَلِ الكسرةِ بعدَ الياءِ .