سُورَةُ التَّوْبَةِ مَدَنِيَّةٌ

وَهِيَ مِائَةٌ وَتِسْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً

ومن سورة براءة «١»قوله : بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مرفوعة ، يضمر لها (هذه) ومثلهقوله : سُورَةٌ «٢» أَنْزَلْناها. وهكذا كل ما عاينته من اسم معرفة أو نكرة جاز إضمار (هذا) و(هذه) فتقول إذا نظرت إلى رجل : جميل واللّه ، تريد : هذا جميل.

والمعنى فى قوله (براءة) أن العرب كانوا قد أخذوا ينقضون عهودا كانت بينهم وبين النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، فنزلت عليه آيات من أوّل براءة ، أمر فيها بنبذ عهودهم إليهم ، وأن يجعل الأجل بينه وبينهم أربعة أشهر. فمن كانت مدّته أكثر من أربعة أشهر «٣» حطّه إلى أربعة. ومن كانت مدّته أقلّ من أربعة أشهر رفعه إلى أربعة. وبعث فى ذلك أبا بكر وعليا رحمهما اللّه ، فقرأها علىّ على الناس.

(١) كذا فى ش ، ج. وفى ا : «التوبة».

(٢) أوّل سورة النور.

(٣) سقط فى أ. وثبت فى ش ، ج

٢

وقوله : فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ (٢) يقول : تفرقوا آمنين أربعة أشهر مدّتكم.

٣

وقوله : وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (٣) تابع لقوله (براءة). وجعل لمن لم يكن له عهد خمسين يوما أجلا. وكل ذلك من يوم النحر.

٤

وقوله : إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ (٤) استثناء فى موضع نصب. وهم قوم من بنى كنانة كان قد بقي من أجلهم تسعة أشهر.

قال اللّه تبارك وتعالى : فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ يقول : لا تحطّوهم إلى الأربعة.

٥

و قوله : فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ (٥) عن الذين أجلهم خمسون ليلة. فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ومعنى الأشهر الحرم : المحرّم وحده. وجاز أن يقول : الأشهر الحرم للمحرم وحده لأنه متّصل بذي الحجة وذى القعدة وهما حرام كأنه قال : فإذا انسلخت الثلاثة.

وقوله : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (٥) فى الأشهر الحرم وغيرها فى الحلّ والحرم.

وقوله : وَاحْصُرُوهُمْ وحصرهم أن يمنعوا من البيت الحرام.

وقوله : وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ يقول : على طرقهم إلى البيت فقام رجل من الناس حين قرئت (براءة) فقال : يا ابن أبى طالب ، فمن أراد منا أن يلقى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى بعض الأمر بعد انقضاء الأربعة فليس له عهد؟ قال علىّ :

بلى ، لأن اللّه تبارك وتعالى قد أنزل :

وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ (٦) يقول : ردّه إلى موضعه ومأمنه.

و قوله : وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فى موضع جزم وإن فرق بين الجازم والمجزوم ب (أحد). وذلك سهل فى (إن) خاصّة دون حروف الجزاء لأنها شرط وليست باسم ، ولها عودة إلى الفتح فتلقى الاسم والفعل وتدور فى الكلام فلا تعمل ، فلم يحفلوا أن يفرقوا بينها وبين المجزوم بالمرفوع والمنصوب. فأما المنصوب فمثل قولك : إن أخاك ضربت ظلمت. والمرفوع مثل قوله : إِنِ «١» امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ولو حوّلت (هلك) إلى (إن يهلك) لجزمته ، وقال الشاعر «٢» :

فان أنت تفعل فللفاعلي ن أنت المجيزين تلك الغمارا

و من فرق بين الجزاء وما جزم بمرفوع أو منصوب لم يفرق بين جواب الجزاء وبين ما ينصب بتقدمة المنصوب أو المرفوع تقول : إن عبد اللّه يقم يقم أبوه ، ولا يجوز أبوه يقم ، ولا أن تجعل مكان الأب منصوبا بجواب الجزاء. فخطأ أن تقول : إن تأتنى زيدا تضرب. وكان الكسائىّ يجيز تقدمة النصب فى جواب الجزاء ، ولا يجوّز تقدمة المرفوع ، ويحتجّ بأن الفعل إذا كان للأول عاد فى الفعل راجع ذكر الأول ، فلم يستقم إلغاء الأوّل. وأجازه فى النصب لأن المنصوب لم يعد ذكره فيما نصبه ، فقال : كأن المنصوب لم يكن فى الكلام. وليس ذلك كما قال لأن الجزاء له جواب بالفاء. فإن لم يستقبل بالفاء استقبل بجزم مثله ولم يلق باسم ،

(١). ١٧٦ سورة النساء.

(٢) هو الكميت بن زيد من قصيدته فى مدح أبان بن الوليد بن عبد الملك بن مروان. يقول :

إن تفعل هذه المكارم فأنت منسوب للفاعلين الأجواد. والغمار جمع الغمرة وهى الشدة. و«المجيزين» وصف من أجاز بمعنى جاز.

إلا أن يضمر فى ذلك الاسم الفاء. فإذا أضمرت الفاء ارتفع الجواب فى منصوب الأسماء ومرفوعها لا غير. واحتجّ بقول الشاعر «١» :

و للخيل أيّام فمن يصطبر لها ويعرف لها أيامها الخير تعقب

فجعل (الخير) منصوبا ب (تعقب). (والخير) فى هذا الموضع نعت للايام كأنه قال : ويعرف لها أيامها الصالحة تعقب. ولو أراد أن يجعل (الخير) منصوبا ب (تعقب) لرفع (تعقب) لأنه يريد : فالخير تعقبه.

(١) هو طفيل الغنوي. والبيت من قصيدة عدتها ٧٦ بيتا ، فالها فى غارة له على طيء أكثرها فى وصف الخيل. يقول : إن الخيل تنفع فى الغارات والدفاع عن الذمار وتبلى البلاء الحسن ، فمن يعرف هذا لها ويصبر على العناية بها أعقبته الخير ودفعت عنه الضير. وأنظر الخزانة ٣/ ٦٤٢

٧

وقوله : كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ (٧) على التعجب كما تقول : كيف يستبقى مثلك أي لا ينبغى أن يستبقى. وهو فى قراءة عبد اللّه (كيف يكون للمشركين عهد عند اللّه ولا ذمة) فجاز دخول (لا) مع الواو لأن معنى أوّل الكلمة جحد ، وإذا استفهمت بشىء من حروف الاستفهام فلك أن تدعه استفهاما ، ولك أن تنوى به الجحد. من ذلك قولك : هل أنت إلّا كواحد منّا؟! ومعناه : ما أنت إلا واحد منا ، وكذلك تقول : هل أنت بذاهب؟ فتدخل الباء كما تقول : ما أنت بذاهب. وقال الشاعر :

يقول إذا اقلولى عليها وأقردت ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم «٢»

و قال الشاعر :

فاذهب فأىّ فتى فى الناس أحرزه من يومه ظلم دعج ولا جبل «٣»

(٢ ، ٣) انظر ص ١٦٤ من هذا الجزء.

فقال : ولا جبل ، للجحد وأوّله استفهام ونيّته الجحد معناه ليس يحرزه من يومه شىء. وزعم الكسائي أنه سمع العرب تقول : أين كنت لتنجو منى ، فهذه اللام إنما تدخل ل (ما) التي يراد بها الجحد كقوله : ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا «١» ، وَما كُنَّا «٢» لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ.

(١) آية ١١١ سورة الأنعام.

(٢) آية ٤٣ سورة الأعراف.

٨

وقوله : كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ (٨) اكتفى ب (كيف) ولا فعل معها لأن المعنى فيها قد تقدّم فى قوله : كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ وإذا أعيد الحرف وقد مضى معناه استجازوا حذف الفعل كما قال الشاعر «٣» :

و خبرتمانى أنما الموت فى القرى فكيف وهذى هضبة وكثيب

و قال الحطيئة :

فكيف ولم أعلمهم خذلوكم على معظم ولا أديمكم قدّوا «٤»

(٣) هو كعب بن سعد الغنوي من قصيدة يرثى فيها أخاه أبا المغوار ، وقد ذكره فى قوله :

و داع دعا : يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب

فقلت : ادع أخرى وارفع الصوت جهرة لعل أبى المغوار منك قريب

يقول : إن الناس تعتقد أن فى الريف الوباء والمرض ، وفى البادية الصحة وطيب الهواء ، وقد مات أخوه وهو فى حر البادية بين هضبة وقليب ، أي بئر لا نهر يجرى فى القرى. وورد الشطر الثاني فى اللسان (الألف اللينة) :

فكيف وهاتا روضة وكثيب

(٤) من قصيدته فى مدح بنى شماس بن لأى من بنى سعد. والمعظم بفتح الظاء وكسرها : الأمر العظيم.

يقول : إن بنى شماس يقومون بنصرة عشيرتهم ، ومع ذلك يحسدهم قومهم. وقدّ الأديم : شقه.

يقول : لا يقدح فى عرضكم ولا يفسد أمركم.

و قال آخر :

فهل إلى عيش يا نصاب وهل فأفرد الثانية لأنه يريد بها مثل معنى الأوّل.

١١

وقوله : فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ (١١) ثم قال : فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ معناه : فهم إخوانكم. يرتفع مثل هذا من الكلام بأن يضمر له اسمه مكنّيا عنه. ومثله فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ «١» أي فهم إخوانكم. وفى قراءة أبىّ إن تعذّبهم فعبادك «٢» أي فهم عبادك.

(١) آية ٥ سورة الأحزاب.

(٢) آية ١١٨ سورة المائدة. وفى قراءتنا : «إن تعذبهم فإنهم عبادك».

١٢

وقوله : فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ (١٢) يقول : رءوس الكفر إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ : لا عهود لهم. وقرأ الحسن «٣» (لا إيمان لهم) يريد أنهم كفرة لا إسلام لهم. وقد يكون معنى الحسن على : لا أمان لهم ، أي لا تؤمنوهم فيكون مصدر قولك : آمنته إيمانا تريد أمانا.

(٣) وهى قراءة ابن عامر أيضا.

١٣

وقوله : وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ (١٣) ذلك أن خزاعة كانوا حلفاء للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، وكانت الديل بن بكر حلفاء لبنى عبد شمس ، فاقتتلت الديل وخزاعة ، فأعانت قريش الديل على خزاعة ، فذلك قوله : بَدَؤُكُمْ أي قاتلوا «٤» حلفاءكم.

(٤) كذا فى أ. وفى ش. ج : «قاتلوكم».

١٤

و قوله : قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ (١٤) ثم جزم ثلاثة أفاعيل بعده يجوز فى كلهن النصب والجزم والرفع.

ورفع قوله : وَيَتُوبُ اللَّهُ لأن معناه ليس من شروط الجزاء إنما هو استئناف كقولك للرجل : ايتني أعطك ، وأحبّك بعد ، وأكرمك ، استئناف ليس بشرط للجزاء. ومثله قول اللّه تبارك وتعالى : فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ «١» تمّ الجزاء هاهنا ، ثمّ استأنف فقال : وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ.

(١) آية ٢٤ سورة الشورى. وقد رسم «يمح» دون واو فى المصحف مع نيتها ، وقد دل على هذا قوله : «و يحق» بالرفع.

١٦

وقوله : أَمْ حَسِبْتُمْ (١٦) من الاستفهام الذي يتوسّط فى الكلام فيجعل ب (أم) ليفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ الذي لم يتّصل بكلام. ولو أريد به الابتداء لكان إمّا بالألف وأما ب (هل) كقوله : هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ «٢» وأشباهه.

و قوله : وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً والوليجة : البطانة من المشركين يتّخذونهم فيفشون إليهم أسرارهم ، ويعلمونهم أمورهم. فنهوا عن ذلك.

(٢) أوّل سورة الإنسان. [.....]

١٧

وقوله : ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ (١٧) وهو يعنى المسجد الحرام وحده. وقرأها مجاهد «٣» وعطاء بن أبى رباح :

(مسجد اللّه). وربما ذهبت العرب بالواحد إلى الجمع ، وبالجمع إلى الواحد ألا ترى الرجل على البرذون فتقول : قد أخذت فى ركوب البراذين ، وترى الرجل كثير الدراهم

(٣) وقرأها كذلك أيضا ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب.

فتقول : إنه «١» لكثير الدرهم. فأدّى الجماع عن الواحد ، والواحد عن الجمع. وكذلك قول العرب : عليه أخلاق نعلين وأخلاق ثوب أنشدنى أبو الجرّاح العقيلىّ :

جاء الشتاء وقميصى أخلاق شراذم يضحك منه التوّاق «٢»

(١) سقط فى ش ، ج. وثبت فى أ.

(٢) ثوب أخلاق : بال. والتوّاق : ابن الراجز. ويروى النوّاق بالنون. وانظر اللسان (توق) والخزانة فى الشاهد الرابع والثلاثين.

١٩

و قوله : أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ (١٩) ولم يقل : سقاة الحاجّ وعامرى ... كمن آمن ، فهذا مثل قوله : وَلكِنَّ «٣» الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ يكون المصدر يكفى من الأسماء ، والأسماء من المصدر إذا كان المعنى مستدلّا عليه بهما أنشدنى الكسائىّ :

لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى ولكنما الفتيان كلّ فتى ندى

فجعل خبر الفتيان (أن). وهو كما تقول : إنما السخاء حاتم ، وإنما الشعر زهير.

وقوله : الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا (٢٠) ثم قال : أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ فموضع الذين رفع بقوله : «أعظم درجة». ولو لم يكن فيه (أعظم) جاز أن يكون مردودا بالخفض على قوله (كمن آمن). والعرب تردّ الاسم إذا كان معرفة على (من) يريدون التكرير «٤». ولا يكون نعتا لأن (من) قد تكون معرفة ، ونكرة ، ومجهولة ، ولا تكون نعتا كما أن (الذي) قد يكون نعتا

(٣) آية ١٧٧ سورة البقرة.

(٤) أي أن يكون بدلا من «من».

للأسماء فتقول : مررت بأخيك الذي قام ، ولا تقول : مررت بأخيك من قام.

فلمّا لم تكن نعتا لغيرها من المعرفة لم تكن المعرفة نعتا لها كقول الشاعر «١» :

لسنا كمن جعلت إياد دارها تكريت تنظر حبّها أن تحصدا

إنما أراد تكرير الكاف على إياد كأنه قال : لسنا كإياد.

(١) هو الأعشى. وإياد قبيلة كبيرة من معدّ كانوا نزلوا العراق واشتغلوا بالزرع. وتكريت : بلدة بين بغداد والموصل. وقوله : «تحصدا» المعروف : يحصدا. والحب جنس للحبة يصح تذكيره وتأنيثه. وانظر الخصائص (الدار) ج ٢ ص ٤٠٢.

٢٥

وقوله : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ (٢٥) نصبت المواطن لأن كلّ جمع كانت فيه ألف قبلها حرفان وبعدها حرفان فهو لا يجرى «٢» مثل صوامع ، ومساجد ، وقناديل ، وتماثيل ، ومحاريب. وهذه الياء بعد الألف لا يعتدّ بها لأنها قد تدخل فيما ليست هى منه ، وتخرج ممّا هى منه ، فلم يعتدّوا بها «٣» إذ لم تثبت كما ثبت غيرها. وإنما منعهم من إجرائه أنه مثال لم يأت عليه شىء من الأسماء المفردة ، وأنه غاية للجماع إذا انتهى الجماع إليه فينبغى له ألّا يجمع. فذلك أيضا منعه من الانصراف ألا ترى أنك لا تقول : دراهمات ، ولا دنانيرات ، ولا مساجدات. وربّما اضطرّ إليه الشاعر فجمعه. وليس يوجد فى الكلام ما يجوز فى الشعر. قال الشاعر :

فهنّ يجمعن حدائداتها «٤» فهذا من المرفوض إلا فى الشعر.

ونعت (المواطن) إذا لم يكن معتلّا جرى. فلذلك قال : (كثيرة).

(٢) إجراء الاسم عند الكوفيين صرفه وتنوينه ، وعدم إجرائه منع صرفه.

(٣) فى ا : «إذا».

(٤) فى القرطبي :

فهنّ يعلكن حدائداتها

و نسبه فى اللسان (حدد) إلى الأحمر. وهو فى وصف الخيل.

و قوله : وَيَوْمَ حُنَيْنٍ وحنين واد بين مكة والطائف. وجرى (حنين) لأنه اسم لمذكّر. وإذا سمّيت ماء أو واديا أو جبلا باسم مذكّر لا علّة فيه أجريته.

من ذلك حنين ، وبدر ، وأحد ، وحراء ، وثبير ، ودابق «١» ، وواسط «٢». وإنما سمّى واسطا بالقصر الذي بناه الحجّاج بين الكوفة والبصرة. ولو أراد البلدة أو اسما مؤنّثا لقال :

واسطة. وربما جعلت العرب واسط وحنين وبدر ، اسما لبلدته التي هو بها فلا يجرونه وأنشدنى بعضهم :

نصروا نبيّهم وشدّوا أزره بحنين يوم تواكل الأبطال «٣»

و قال الآخر«٤» :

ألسنا أكرم الثّقلين رجلا وأعظمه ببطن حراء نارا

فجعل حراء اسما للبلدة التي هو بها ، فكان مذكرا يسمى به مؤنّث فلم يجر.

وقال آخر :

لقد ضاع قوم قلّدوك أمورهم بدابق إذ قيل العدوّ قريب

رأوا جسدا ضخما فقالوا مقاتل ولم يعلموا أن الفؤاد نخيب «٥»

و لو أردت ببدر البلدة لجاز أن تقول مررت ببدر يا هذا.

(١) دابق : قرية قرب حلب.

(٢) بلد بين البصرة والكوفة بناه الحجاج.

(٣) البيت لحسان بن ثابت.

(٤) هو جرير كما فى معجم البلدان. ولم نجده فى ديوانه. وقوله : «رجلا» فهو بتسكين الجيم مخفف رجل بضمها. والأقرب أن يكون : رحلا بالحاء المهملة أي منزلا. ويروى : «طرا».

(٥) «جسدا» فى معجم البلدان لياقوت : «رجلا». و«نخيب» : جبان من النخب - بسكون الخاء - وهو الجبن. [.....]

٢٨

و قوله : إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (٢٨) لا تكاد العرب تقول : نجس إلا وقبلها رجس. فإذا أفردوها قالوا : نجس لا غير ولا يجمع ولا يؤنث. وهو مثل دنف «١». ولو أنّث هو ومثله كان صوابا كما قالوا : هى : ضيفته وضيفه ، وهى أخته سوغه «٢» وسوغته ، وزوجه وزوجته.

وقوله : إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ. قال يومئذ رجل من المسلمين : واللّه لا نغلب ، وكره ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكان المسلمون يؤمئذ عشرة آلاف ، وقال بعض الناس : اثنى عشر ألفا ، فهزموا هزيمة شديدة.

وهو قوله : وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ والباء هاهنا بمنزلة فى كما تقول : ضاقت عليكم الأرض فى رحبها وبرحبها. حدّثنا محمد قال حدّثنا الفرّاء ، قال : وحدّثنى المفضل عن أبى إسحاق قال قلت للبراء «٣» بن عازب : يا أبا عمارة أفررتم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين؟ قال : نعم واللّه حتى ما بقي معه منا إلا رجلان : أبو سفيان «٤» بن الحرث آخذا بلجامه ، والعباس بن عبد المطلب عند ركابه آخذا بثفره «٥». قال فقال لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم كما قال لهم يوم بدر :

شاهت الوجوه ،

أنا النبىّ لا كذب أنا ابن عبد المطلب

قال : فمنحنا اللّه أكتافهم.

(١) هو فى الأصل المرض الملازم ، ويوصف به.

(٢) أي ولدت على أثره ولم يكن بينهما ولد.

(٣) هو من فضلاء الأوس. شهد أحدا والمشاهد. ونزل الكوفة ، توفى سنة ٧١ أو ٧٢.

(٤) هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى اللّه عليه وسلم.

(٥) المروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان فى هذا اليوم راكبا بغلة. فقوله : آخذا بثفره أي بثفر مركوبه. والثفر : السير فى مؤخر السرج. والذي فى سيرة ابن هشام أن الذي كان آخذا بالثفر أبو سفيان. فأما العباس فكان آخذا بحكمة البغلة. والحكمة - بالتحريك - طرفا اللجام.

و قوله : وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً (٢٨) يعنى فقرا. وذلك لمّا نزلت : إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا خاف أهل مكة أن تنقطع عنهم الميرة والتجارة. فأنزل اللّه عز وجل : وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً. فذكروا أن تبالة «١» وجرش أخصبتا ، فأغناهم اللّه بهما وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.

(١) تبالة : بلدة من أرض تهامة فى طريق اليمن. وجرش مخلاف أي إقليم من مخاليف اليمن.

٣٠

وقوله : وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ (٣٠) قرأها الثقات «٢» بالتنوين وبطرح التنوين. والوجه أن ينوّن لأن الكلام ناقص (وابن) فى موضع خبر لعزير. فوجه العمل فى ذلك أن تنوّن ما رأيت الكلام محتاجا إلى ابن. فإذا اكتفى دون بن ، فوجه الكلام ألا ينون. وذلك مع ظهور اسم أبى الرجل أو كنيته. فإذا جاوزت ذلك فأضفت (ابن) إلى مكنىّ عنه مثل ابنك ، وابنه ، أو قلت : ابن الرجل ، أو ابن الصالح ، أدخلت النون فى التامّ منه والناقص. وذلك أن حذف النون إنما كان فى الموضع الذي يجرى فى الكلام كثيرا ، فيستخفّ طرحها فى الموضع الذي يستعمل. وقد ترى الرجل يذكر بالنسب إلى أبيه كثيرا فيقال :

من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان ، فلا يجرى كثيرا بغير ذلك. وربما حذفت النون وإن لم يتمم الكلام لسكون الباء من ابن ، ويستثقل النون إذ كانت ساكنة لقيت ساكنا ، فحذفت استثقالا لتحريكها. قال : من ذلك قراءة القرّاء :

(عزيز ابن اللّه). وأنشدنى بعضهم :

لتجدّنى بالأمير برّا وبالقناة مدعسا مكرّا «٣»

إذا غطيف السلمىّ فرّا

(٢) قرأ بالتنوين من العشرة عاصم والكسائي ويعقوب ، وقرأ الباقون بطرح التنوين.

(٣) المدعس : المطاعن. والمكر : الذي يكر فى الحرب ولا يفر.

و قد سمعت كثيرا من القراء الفصحاء يقرءون : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ.

فيحذفون النون من (أحد). وقال آخر «١» :

كيف نومى على الفراش ولمّا تشمل الشام غارة شعواء

تذهل الشيخ عن بنيه وتبدى عن خدام العقيلة العذراء

أراد : عن خدام ، فحذف النون للساكن إذ استقبلتها. وربما أدخلوا النون فى التمام مع ذكر الأب أنشدنى بعضهم :

جارية من قيس ابن ثعلبة كأنها حلية سيف مذهبه «٢»

و قال آخر«٣» :

و إلا يكن مال يثاب فإنه سيأتى ثنائى زيدا ابن مهلهل

و كان سبب قول اليهود : عزير ابن اللّه أن بخت نصّر قتل كلّ من كان يقرأ التوراة ، فأتى بعزير فاستصغره فتركه. فلمّا أحياه اللّه أتته اليهود ، فأملى عليهم التوراة عن ظهر لسانه. ثم إن رجلا من اليهود قال : إن أبى ذكر أن التوراة مدفونة فى بستان له ، فاستخرجت وقو بل بها ما أملى عزيز فلم يغادر منها حرفا.

فقالت اليهود : ما جمع اللّه التوراة فى صدر عزير وهو غلام إلا وهو ابنه - تعالى اللّه عمّا يقولون علوّا كبيرا - .

(١) هو عبيد اللّه بن قيس الرقيات من قصيدة يمدح فيها مصعب بن الزبير ويفتخر بقريش. ويريد بالغارة على الشام الغارة على عبد الملك بن مروان. وقوله : «خدام العقيلة». فى الديوان : «براها العقيلة» والخدام جمع الخدمة وهى الخلخال. والبرى جمع البرة - فى وزان كرة - الخلخال أيضا.

(٢) هذا مطلع أرجوزة للأغلب العجلى. وأراد بجارية امرأة اسمها كلبة كان يهاجيها وانظر الخزانة ١/ ٣٣٢

(٣) هو الحطيئة يمدح زيد الخيل الطائىّ.

و قوله : وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ. وذكر أن رجلا دخل فى النصارى وكان خبيثا منكرا فلبّس عليهم ، وقال : هو هو. وقال : هو ابنه ، وقال : هو ثالث ثلاثة. فقال اللّه تبارك وتعالى فى قولهم ثالث ثلاثة :

يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فى قولهم : اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى.

٣١

وقوله : اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (٣١) قال : لم يعبدوهم ، ولكن أطاعوهم فكانت كالربوبية.

٣٢

وقوله : وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ (٣٢) دخلت (إلّا) لأن فى أبيت طرفا من الجحد ألا ترى أن (أبيت) كقولك :

لم أفعل ، ولا أفعل ، فكأنه بمنزلة قولك : ما ذهب إلا زيد. ولو لا الجحد إذا ظهر أو أتى الفعل محتملا لضميره «١» لم تجز دخول إلّا كما أنك لا تقول : ضربت إلا أخاك ، ولا ذهب إلا أخوك. وكذلك قال الشاعر «٢» :

و هل لى أمّ غيرها إن تركتها أبى اللّه إلا أن أكون لها ابنما

و قال الآخر :

إيادا وأنمارها الغالبين إلّا صدودا وإلا ازورارا

أراد : غلبوا إلا صدودا وإلا ازورارا ، وقال الآخر :

و اعتلّ إلا كل فرع معرق مثلك لا يعرف بالتلهوق «٣»

(١) أي لمعناه. فكأن أبى ونحوه متضمن لمعنى لا فهو محتمل لهذا الحرف المضمر.

(٢) هو المتلمس. والبيت من قصيدة له يرد فيها على من عيره أمه ، مطلعها :

تعيرنى أمي رجال ولا أرى أخا كرم إلا بأن يتكرما

و هى فى مختارات ابن الشجري.

(٣) التلهوق : التملق. ويقال أيضا للتكلف. [.....]

فأدخل (إلا) لأن الاعتلال فى المنع كالإباء. ولو أراد علّة صحيحة لم تدخل إلا لأنها ليس فيها معنى جحد. والعرب تقول : أعوذ باللّه إلا منك ومن مثلك لأن الاستعاذة كقولك : اللهم لا تفعل ذا بي.

٣٤

وقوله : وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ (٣٤) ولم يقل : ينفقونهما. فإن شئت وجّهت الذهب والفضة إلى الكنوز فكان توحيدها من ذلك. وإن شئت اكتفيت بذكر أحدهما من صاحبه كما قال :

وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «١» فجعله للتجارة ، وقوله : وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً

«٢» فجعله - واللّه أعلم - للإثم ، وقال الشاعر «٣» فى مثل ذلك :

نحن بما عندنا وأنت بما عن دك راض والرأى مختلف

و لم يقل : راضون ، وقال الآخر :

إنى ضمنت لمن أتانى ما جنى وأبى وكان وكنت غير غدور

و لم يقل : غدورين ، وذلك لاتفاق المعنى يكتفى بذكر الواحد. وقوله : وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «٤» إن شئت جعلته من ذلك : مما اكتفى ببعضه من بعض ، وإن شئت جعلت اللّه تبارك وتعالى فى هذا الموضع ذكر لتعظيمه ، والمعنى للرسول صلى اللّه عليه وسلم كما قال : وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ «٥» ألا ترى أنك قد تقول لعبدك «٦» : قد أعتقك اللّه وأعتقتك ، فبدأت باللّه تبارك وتعالى تفويضا إليه وتعظيما له ، وإنما يقصد قصد نفسه.

(١) آية ١١ سورة الجمعة.

(٢) آية ١١٢ سورة النساء.

(٣) هو قيس بن الخطيم.

(٤) آية ٦٢ سورة التوبة.

(٥) آية ٣٧ سورة الأحزاب.

(٦) كذا فى أ. وفى ش ، ج : «لعبد».

٣٦

و قوله : مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ (٣٦) جاء التفسير : فى الاثني عشر. وجاء (فيهن) : فى الأشهر الحرم وهو أشبه بالصواب - واللّه أعلم - ليتبين بالنهى فيها عظم حرمتها كما قال : حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ «١» ثم قال : وَالصَّلاةِ الْوُسْطى فعظّمت ، ولم يرخص فى غيرها بترك المحافظة. ويدلّك على أنه للأربعة - واللّه أعلم - قوله : (فيهن) ولم يقل (فيها). وكذلك كلام العرب لما بين الثلاثة إلى العشرة تقول : لثلاث ليال خلون ، وثلاثة أيام خلون إلى العشرة ، فإذا جزت العشرة قالوا : خلت ، ومضت. ويقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة (هنّ) و(هؤلاء) فإذا جزت العشرة قالوا (هى ، وهذه) إرادة أن تعرف سمة القليل من الكثير. ويجوز فى كل واحد ما جاز فى صاحبه أنشدنى أبو القمقام الفقعسىّ :

أصبحن فى قرح وفى دارتها سبع ليال غير معلوفاتها «٢»

و لم يقل : معلوفاتهن وهى سبع ، وكل ذلك صواب ، إلا أن المؤثر ما فسّرت لك.

ومثله : وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ «٣» فذكّر الفعل لقلّة النسوة ووقوع (هؤلاء) عليهن كما يقع على الرجال. ومنه قوله : فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ «٤» ولم يقل : انسلخت ، وكلّ صواب. وقال اللّه تبارك وتعالى : إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ «٥» لقلّتهن ولم يقل (تلك) ولو قيلت كان صوابا.

(١) آية ٢٣٨ سورة البقرة.

(٢) قرح : سوق وادي القرى ، وهو واد بين المدينة والشام. وقوله : «أصبحن» فى اللسان (قرح) : «حبسن».

(٣) آية ٣٠ سورة يوسف.

(٤) آية ٥ سورة التوبة.

(٥) آية ٣٦ سورة الإسراء.

و قوله : الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً (٣٦) يقول : جميعا. والكافّة لا تكون مذكّرة ولا مجموعة على عدد الرجال فتقول :

كافّين ، أو كافّات للنسوة ، ولكنها (كافّة) بالهاء والتوحيد «١» فى كل جهة لأنها وإن كانت على لفظ (فاعلة) فإنها فى مذهب مصدر مثل الخاصّة ، والعاقبة ، والعافية. ولذلك لم تدخل فيها العرب الألف واللام لأنها آخر الكلام مع معنى المصدر. وهى فى مذهب قولك : قاموا معا وقاموا جميعا ألا ترى أن الألف واللام قد رفضت فى قولك : قاموا معا ، وقاموا جميعا ، كما رفضوها فى أجمعين وأكتعين وكلهم إذ كانت فى ذلك المعنى.

فإن قلت : فإن العرب قد تدخل الألف واللام فى الجميع ، فينبغى لها أن تدخل فى كافة وما أشبهها ، قلت : لأن الجميع على مذهبين ، أحدهما مصدر ، والآخر اسم ، فهو الذي شبّه عليك. فإذا أردت الجميع الذي فى معنى الاسم جمعته وأدخلت فيه الألف واللام مثل قوله : وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ «٢» ، وقوله : سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «٣»وأما الذي فى معنى معا وكافّة فقولك للرجلين : قاما جميعا ، وللقوم : قاموا جميعا ، وللنسوة : قمن جميعا ، فهذا فى معنى كلّ وأجمعين ، فلا تدخله ألفا ولا ما كما لم تدخل فى أجمعين.

وقوله : إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ (٣٧) كانت العرب فى الجاهلية إذا أرادوا الصدر عن منّى قام «٤» رجل من بنى كنانة يقال له (نعيم بن ثعلبة) وكان رئيس الموسم ، فيقول : أنا الذي لا أعاب ولا أجاب ولا يردّ لى قضاء. فيقولون : صدقت ، أنسئنا شهرا ، يريدون : أخّر عنّا حرمة المحرم

(١) كذا فى ش ، ج. وفى أ: «على».

(٢) آية ٥٦ سورة الشعراء.

(٣) آية ٤٥ سورة القمر. [.....]

(٤) كذا فى أ. وفى ش ، ج : «قدم».

و اجعلها فى صفر ، وأحلّ المحرم ، فيفعل ذلك. وإنما دعاهم إلى ذاك توالى ثلاثة أشهر حرم لا يغيرون فيها ، وإنما كان معاشهم من الإغارة ، فيفعل ذلك عاما ، ثم يرجع إلى المحرم فيحرّمه ويحلّ صفرا ، فذلك الإنساء. تقول إذا أخرت الرجل بدينه : أنسأته ، فإذا زدت فى الأجل زيادة يقع عليها تأخير قلت : قد نسأت فى أيامك وفى أجلك ، وكذلك تقول للرجل : نسأ اللّه فى أجلك لأن الأجل مزيد فيه. ولذلك قيل للّبن (نسأته) لزيادة الماء فيه ، ونسئت المرأة إذا حبلت أي جعل زيادة الولد فيها كزيادة الماء فى اللبن ، وللناقة : نسأتها ، أي زجرتها ليزداد سيرها.

والنسيء المصدر ، ويكون المنسوء مثل القتيل والمقتول.

وقوله : يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا قرأها ابن مسعود «١» يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وقرأها زيد بن ثابت «٢» (يضلّ) يجعل الفعل لهم ، وقرأ الحسن البصري «٣» (يضلّ به الذين كفروا) ، كأنه جعل الفعل لهم يضلّون به الناس وينسئونه لهم.

وقوله : (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ) يقول : لا يخرجون من تحريم أربعة.

(١) وكذلك قرأها حفص وحمزة والكسائي وخلف.

(٢) وقرأها كذلك الحرميان نافع وابن كثير وأبو عمرو.

(٣) قرأها كذلك يعقوب.

٣٨

وقوله : ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ (٣٨) معناه واللّه أعلم : (تثاقلتم) فإذا وصلتها العرب بكلام أدغموا التاء فى الثاء لأنها مناسبة لها ، ويحدثون ألفا لم يكن ليبنوا الحرف على الإدغام فى الابتداء والوصل.

وكأن إحداثهم الألف ليقع بها الابتداء ، ولو حذفت لأظهروا التاء لأنها مبتدأة ،

و المبتدأ لا يكون إلا متحركا. وكذلكقوله : حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً «١» ، وقوله : وَازَّيَّنَتْ «٢» المعنى - واللّه أعلم - : تزينت ، وقالُوا اطَّيَّرْنا «٣» معناه :

تطيرنا. والعرب تقول : (حتى إذا اداركوا) تجمع بين ساكنين : بين التاء من تداركوا وبين الألف من إذا. وبذلك كان يأخذ أبو عمرو «٤» بن العلاء ويردّ الوجه الأوّل ، وأنشدنى الكسائي :

تولى الضجيع إذا ما استافها «٥» خصرا عذب المذاق إذا ما اتّابع القبل

(١) آية ٣٨ سورة الأعراف.

(٢) آية ٢٤ سورة يونس.

(٣) آية ٤٧ سورة النمل.

(٤) إنما روى هذا الوجه عن أبى عمرو عصمة الفقيمي. وليس ممن تعتبر روايته. وانظر تفسير القرطبي ٧/ ٢٠٤

(٥) استافها. شمها. والخصر : البارد. يريد ريقها.

٤٠

و قوله : وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى (٤٠) فأوقع (جعل) على الكلمة ، ثم قال : وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا على الاستئناف ، ولم ترد بالفعل. وكلمة الذين كفروا الشرك باللّه ، وكلمة اللّه قول (لا إله إلا اللّه).

ويجوز (وكلمة «٦» اللّه هى العليا) ولست أستحبّ ذلك لظهور اللّه تبارك وتعالى لأنه لو نصبها - والفعل فعله - كان أجود الكلام أن يقال : «و كلمته هى العليا» ألا ترى أنك تقول : قد أعتق أبوك غلامه ، ولا يكادون يقولون : أعتق أبوك غلام أبيك. وقال الشاعر فى إجازة ذلك :

متى تأت زيدا قاعدا عند حوضه لتهدم ظلما حوض زيد تقارع

فذكر زيدا مرّتين ولم يكن عنه فى الثانية ، والكناية وجه الكلام.

(٦) وقد قرأ بهذا يعقوب والحسن والأعمش فى رواية المطوّعى.

٤١

و قوله : انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا (٤١) يقول «١» : لينفر منكم ذو العيال والميسرة ، فهؤلاء الثقال. والخفاف : ذوو العسرة وقلّة العيال. ويقال : انْفِرُوا خِفافاً : نشاطا (وثقالا) وإن ثقل عليكم الخروج.

(١) سقط فى ش ، ج. وثبت فى أ.

٤٤

وقوله : لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ (٤٤) أي لا يَسْتَأْذِنُكَ بعد غزوة تبوك فى جهاد الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ به.

ثم قال : إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ بعدها الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ

٤٧

وقوله : وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ (٤٧) الإيضاع : السير بين القوم. وكتبت»

بلام ألف وألف بعد ذلك ، ولم يكتب فى القرآن لها نظير. و«٣» ذلك أنهم لا يكادون يستمرون فى الكتاب على جهة واحدة ألا ترى أنهم كتبوا فَما تُغْنِ النُّذُرُ «٤» بغير ياء ، وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ «٥» بالياء ، وهو من سوء هجاء الأوّلين. ولا أوضعوا مجتمع عليه فى المصاحف.

وأماقوله : أو لا أذبحنّه «٦» فقد كتبت بالألف وبغير الألف. وقد كان ينبغى للألف أن تحذف من كله لأنها لام زيدت على ألف كقوله : لأخوك خير من أبيك ألا ترى أنه لا ينبغى ان تكتب بألف بعد لام ألف. وأماقوله

(٢) هذا على ما فى أكثر المصاحف. وقد كتبت فى بعضها واحدة ، وطبع المصحف على هذا الوجه. فقوله بعد : «و لأوضعوا مجتمع عليه فى المصاحف» غير المروي عن أصحاب الرسم. والإجماع على «لأ اذبجنه» فتراه انعكس عليه الأمر : وفى المقنع ٤٧ : «و قال نصير : اختلفت المصاحف فى الذي فى التوبة ، واتفقت على الذي فى النمل».

(٣) قال فى الكشاف : زيدت ألف فى الكتابة لأن الفتحة كانت تكتب ألفا فى الخط العربي ، والخط العربي اخترع قريبا من نزول القرآن ، وقد بقي من ذلك الألف أثر فى الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفا وفتحتها ألفا أخرى ، ونحوها : أو لا أذبحنه فى سورة النمل ، ولا آتوها فى الأحزاب ولا رابع لها فى القرآن.

(٤) آية ٥ سورة القمر. [.....]

(٥) آية ١٠١ سورة يونس.

(٦) آية ٢١ سورة النمل.

(لا انفصام لها) «١» فتكتب بالألف لأن (لا) فى (انفصام) تبرئة ، والألف من (انفصام) خفيفة. والعرب تقول : أوضع الراكب ووضعت الناقة فى سيرها.

وربما قالوا للراكب وضع قال الشاعر :

إنى إذا ما كان يوم ذو فزع ألفيتنى محتملا بذي أضع «٢»

و قوله : (يبغونكم الفتنة) المعنى : يبغونها لكم. ولو أعانوهم على بغائها لقلت :

أبغيتك الفتنة. وهو مثل قولك : أحلبنى واحلبنى.

(١) آية ٢٥٦ سورة البقرة.

(٢) محتملا على صيغة اسم المفعول من احتمل إذا غضب واستخفه الغضب. وقوله : بذي كأنه يريد : بذي الناقة أو بذي الفرس. وقد يكون المراد : محتملا رحلى - على صيغة اسم الفاعل - بالبعير الذي أضعه. فذى هنا موصول على لغة الطائيين.

٤٩

وقوله : وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي (٤٩) وذلك لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لجدّ «٣» بن قيس : هل لك فى جلاد بنى الأصفر؟ - يعنى الروم - وهى غزوة تبوك ، فقال جدّ : لا ، بل تأذن لى ، فأتخلف فإنى رجل كلف بالنساء أخاف فتنة بنات الأصفر. وإنما سمى الأصفر لأن حبشيا «٤» غلب على ناحية الروم وكان له بنات قد أخذن من بياض الروم وسواد الحبشة فكن صفرا لعسا «٥». فقال اللّه تبارك وتعالى أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا فى التخلف عنك «٦». وقد عذل المسلمون فى غزوة تبوك وثقل عليهم الخروج لبعد الشقة «٧» ، وكان أيضا زمان عسرة وأدرك الثمار وطاب الظل ، فأحبّوا الإقامة ، فوبّخهم اللّه.

(٣) كان سيد بنى سلمة من الأنصار. وكان ممن يرمى بالنفاق ومات فى خلافة عثمان.

(٤) فى ا : «جيشا».

(٥) جمع لعساء. وهى التي فى لونها سواد ، وتكون مشربة بحمرة.

(٦) كذا فى أ. وفى ش ، ج : «عندك».

(٧) كذا فى ش ، ج. وفى ا : «المشقة».

فقال عز وجل : (يا أَيُّهَا «١» الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ).

ووصف «٢» المنافقين فقال : (لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتّبعوك).

(١) سبق ذكر لهذه الآية.

(٢) يريد أنهم وصفوا بما فى الآية الآتية. وهى فى الآية ٤٢ من السورة.

٥٢

و قوله : قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ (٥٢) : الظفر أو الشهادة ، فهما الحسنيان. والعرب تدغم اللام من (هل) و(بل) عند التاء خاصة. وهو فى كلامهم عال كثير يقول : هل تدرى ، وهتّدرى. فقرأها القراء على ذلك ، وإنما استحبّ فى القراءة خاصّة تبيان ذلك ، لأنهما منفصلان ليسا من حرف واحد ، وإنما بنى القرآن على الترسّل والترتيل وإشباع الكلام فتبيانه أحب إلىّ من إدغامه ، وقد أدغم القرّاء «٣» الكبار ، وكلّ صواب.

(٣) هم حمزة والكسائىّ وخلف فى رواية هشام.

٥٣

وقوله : أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً (٥٣) وهو أمر فى اللفظ وليس بأمر فى المعنى لأنه أخبرهم أنه لن يتقبّل منهم.

وهو فى الكلام بمنزلة إن فى الجزاء كأنك قلت : إن أنفقت طوعا أو كرها فليس بمقبول منك. ومثله اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ «٤» ليس بأمر ، إنما هو على تأويل الجزاء. ومثله قول الشاعر «٥» :

أسيئي بنا أو أحسنى لا ملومة لدينا ولا مقليّة إن تقلّت

(٤) آية ٨٠ سورة التوبة.

(٥) هو جميل فى قصيدة يتغزل فيها بثينة. [.....]

٥٤

و قوله : وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا (٥٤) (أنهم) فى موضع رفع لأنه اسم للمنع كأنك قلت : ما منعهم أن تقبل منهم إلا ذاك. و(أن) الأولى فى موضع «١» نصب. وليست بمنزلة قوله : وَما أَرْسَلْنا «٢» قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ هذه فيها واو مضمرة ، وهى مستأنفة «٣» ليس لها موضع. ولو لم يكن فى جوابها اللام لكانت أيضا مكسورة كما تقول : ما رأيت منهم رجلا إلا إنه ليحسن ، وإلّا إنه يحسن. يعرّف أنها مستأنفة أن تضع (هو) فى موضعها فتصلح وذلك قولك : ما رأيت منهم رجلا إلا هو يفعل ذلك. فدلّت (هو) على استئناف إنّ.

(١) إذ المصدر المؤول فيها مفعول ثان لمنع.

(٢) آية ٢٠ سورة الفرقان.

(٣) يريد أنها فى صدر جملة وليست فى موضع المفرد. وجملتها فى موضع النصب لأنها حال.

٥٥

وقوله : فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا (٥٥) معناه : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم فى الحياة الدنيا. هذا معناه ، ولكنه أخّر ومعناه التقديم - واللّه أعلم - لأنه إنما أراد : لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم فى الحياة الدنيا إنما يريد اللّه ليعذبهم بها فى الآخرة. وقوله وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ أي تخرج أنفسهم وهم كفّار. ولو جعلت الحياة الدنيا مؤخّرة «٤» وأردت :

إنما يريد اللّه ليعذبهم بالإنفاق كرها ليعذبهم بذلك فى الدنيا ، لكان وجها حسنا.

(٤) أي غير منوىّ تقديمها ، كما فى الرأى السابق.

٥٧

و قوله : لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً - أى حرزا - أَوْ مَغاراتٍ (٥٧) وهى الغيران واحدها غار فى الجبال أَوْ مُدَّخَلًا يريد : سربا فى الأرض.

لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ مسرعين الجمح هاهنا : الإسراع.

٥٨

وقوله : وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ (٥٨) يقول : بعيبك ، ويقولون : لا يقسم بالسّويّة.

فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا فلم يعيبوا.

ثم إن اللّه تبارك وتعالى بيّن لهم لمن الصدقات.

فقال : إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ (٦٠) وهم أهل صفّة «١» رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، كانوا لا عشائر لهم ، كانوا يلتمسون الفضل بالنهار ، ثم يأوون إلى مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فهؤلاء الفقراء.

وَ الْمَساكِينِ : الطوّافين على الأبواب وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وهم السعاة.

وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وهم أشراف العرب ، كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعطيهم ليجترّبه إسلام قومهم.

وَ فِي الرِّقابِ يعنى المكاتبين وَالْغارِمِينَ : أصحاب الدّين الذين ركبهم فى غير إفساد.

(١) هى موضع مظلل من المسجد.

وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ : الجهاد وَابْنِ السَّبِيلِ : المنقطع به ، أو الضيف.

(فريضة من اللّه) نصب على القطع. والرفع فى (فريضة) جائز لو قرئ «١» به.

وهو فى الكلام بمنزلة قولك : هو لك هبة وهبة ، وهو عليك صدقة وصدقة ، والمال بينكما نصفين ونصفان ، والمال بينكما شقّ الشعرة وشقّ ....

(١) قرأ به إبراهيم بن أبى عبلة كما فى القرطبي.

٦١

وقوله : وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ (٦١) اجتمع قوم على عيب «٢» النبي صلى اللّه عليه وسلم فيقول رجل منهم : إن هذا يبلّغ محمدا - صلى اللّه عليه وسلم - فيقع بنا ، ف يَقُولُونَ : إنما هُوَ أُذُنٌ سامعة إذا أتيناه صدّقنا ، فقولوا ما شئتم. فأنزل اللّه عز وجل قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ أي كما تقولون ، ولكنه لا يصدّقكم ، إنما يصدّق المؤمنين.

وهو قوله : يُؤْمِنُ بِاللَّهِ : يصدق باللّه. وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ : يصدّق المؤمنين. وهو كقوله : لِلَّذِينَ «٣» هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ أي يرهبون ربهم.

وأماقوله : وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فمتصل بما قبله.

وقوله : وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا إن شئت خفضتها «٤» تتبعها لخير ، وإن شئت «٥» رفعتها أتبعتها الأذن. وقد «٦» يقرأ : قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ كقوله : قل أذن أفضل لكم و(خير) إذا خفض فليس على معنى أفضل إذا خفضت (خير) فكأنك قلت : أذن صلاح لكم ، وإذا قلت : (أذن خير لكم) ، فإنك قلت : أذن أصلح لكم. ولا تكون الرحمة إذا رفعت (خير) إلا رفعا. ولو نصبت الرحمة على

(٢) كذا فى أ. وفى ش ، ج : «غيب».

(٣) آية ١٥٤ سورة الأعراف.

(٤) والخفض قراءة حمزة.

(٥) سقط فى أ.

(٦) قرأ بهذا الحسن.

غير هذا الوجه كان صوابا : (يؤمن باللّه ويؤمن للمؤمنين ، ورحمة) يفعل ذلك. وهو كقوله : إِنَّا «١» زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً.

(١) آيتا ٥ ، ٦ من سورة الصافات.

٦٢

وقوله : وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ (٦٢) وحّد «٢» (يرضوه) ولم يقل : يرضوهما لأن المعنى - واللّه أعلم - بمنزلة قولك :

ما شاء اللّه وشئت إنما يقصد بالمشيئة قصد الثاني ، وقوله : «ما شاءَ اللَّهُ» تعظيم للّه مقدّم قبل الأفاعيل كما تقول لعبدك : قد أعتقك اللّه وأعتقتك. وإن شئت أردت : يرضوهما فاكتفيت بواحد كقوله :

نحن بما عندنا وأنت بما عن دك راض والرأى مختلف

و لم يقل : راضون.

(٢) كذا فى ش. وفى ا : «جديرأن».

٦٦

وقوله : إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً (٦٦) والطائفة واحد واثنان ، وإنما نزل فى ثلاثة نفر استهزأ رجلان برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والقرآن ، وضحك إليهما آخر ، فنزل إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ يعنى الواحد الضاحك نُعَذِّبْ طائِفَةً يعنى المستهزئين. وقد جاء وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ «٣»يعنى واحدا. ويقرأ : «إن يعف عن طائفة منكم تعذّب طائفة».

و«إن يعف ... يعذّب طائفة».

(٣) آية ٢ سورة النور. [.....]

٦٧

وقوله : وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ (٦٧) : يمسكون عن النفقة على النبي صلى اللّه عليه وسلم.

٦٩

و قوله : كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (٦٩) أي فعلتم كأفعال الذين من قبلكم.

وقوله : فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ. يقول : رضوا بنصيبهم فى الدنيا من أنصبائهم فى الآخرة.

وقوله : فَاسْتَمْتَعْتُمْ أي أردتم ما أراد الذين من قبلكم.

وقوله : وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا يريد : كخوضهم الذي خاضوا.

٧٠

وقوله : وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ (٧٠) يقال : إنها قريات قوم لوط وهود وصالح. ويقال : إنهم أصحاب لوط خاصّة.

جمعوا بالتاء على قوله : وَالْمُؤْتَفِكَةَ «١» أَهْوى . وكأنّ جمعهم إذ قيل الْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ على الشيع والطوائف كما قيل : قتلت الفديكات ، نسبوا إلى رئيسهم أبى فديك»

(١) آية ٥٣ سورة النجم.

٧٢

وقوله : وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ (٧٢) رفع بالأكبر ، وعدل عن أن ينسق على ما قبله وهو مما قد وعدهم اللّه تبارك وتعالى ، ولكنه أوثر بالرفع لتفضيله كما تقول فى الكلام : قد وصلتك بالدراهم والثياب ، وحسن رأيى خير لك من ذلك.

٧٤

وقوله : وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ (٧٤) هذا تعيير لهم لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قدم على أهل المدينة وهم محتاجون ، فأثروا من الغنائم ، فقال : وما نقموا إلا الغنى ف (أن) فى موضع نصب.

(٢) هو من رءوس الخوارج.

٧٩

و قوله : الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ (٧٩) يراد به : المتطوعين «١» فأدغم التاء عند الطاء فصارت طاء مشددة. وكذلك (ومن «٢» يطّوّع خيرا) ، (والمطّهّرين) «٣».

ولمزهم إياهم : تنقّصهم وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم حثّ الناس على الصدقة ، فجاء عمر بصدقة وعثمان بن عفّان بصدقة عظيمة ، وبعض أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم جاء رجل يقال له أبو عقيل بصاع من تمر ، فقال المنافقون : ما أخرج هؤلاء صدقاتهم إلا رياء ، وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاعه ليذكر بنفسه ، فأنزل اللّه تبارك وتعالى : الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ يعنى المهاجرين وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ.

يعنى أبا عقيل. والجهد لغة أهل الحجاز والوجد ، ولغة غيرهم الجهد والوجد.

(١) حكى فى الإعراب المفسر : المطوعين. ولو لا هذا لقال : المتطوعون.

(٢) فى الآية ١٥٨ من سورة البقرة. ويريد المؤلف قراءة حمزة والكسائي. وقراءة العامة : تطوع

(٣) آية ١٠٨ سورة التوبة.

٨٣

وقوله : فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣) من الرجال ، خلوف وخالفون ، والنساء خوالف : اللاتي يخلفن فى البيت فلا يبرحن. ويقال : عبد خالف ، وصاحب خالف : إذا كان مخالفا.

٩٠

وقوله : وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ (٩٠) وهم الذين لهم عذر. وهو فى المعنى المعتذرون ، ولكن التاء أدغمت عند الذال فصارتا جميعا (ذالا) مشدّدة ، كما قيل يذّكّرون ويذّكّر. وهو مثل (يخصّمون) «٤» لمن فتح الخاء ، كذلك فتحت العين لأن إعراب التاء صار فى العين كانت - واللّه أعلم -

(٤) فى آية ٤٩ سورة يس.

المعتذرون. وأما المعذّر على جهة المفعّل فهو الذي يعتذر بغير عذر حدّثنا محمد قال حدّثنا الفراء قال : وحدّثنى أبو بكر بن عيّاش عن الكلبىّ عن أبى صالح عن ابن عباس ، وأبو حفص الخرّاز عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنه قرأ «١» :

(المعذرون) ، وقال : لعن اللّه المعذّرين ذهب إلى من يعتذر بغير عذر ، والمعذر :

الذي قد بلغ أقصى العذر. والمعتذر قد يكون فى معنى المعذر ، وقد يكون لا عذر له.

قال اللّه تبارك وتعالى فى الذي لا عذر له :

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ (٩٤) ثم قال : (لا تعتذروا) لا عذر لكم. وقال لبيد فى معنى الاعتذار بالأعذار إذا جعلهما واحدا :

و قوما فقولا بالذي قد علمتما ولا تخمشا وجها ولا تحلقا الشعر

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

يريد : فقد أعذر.

(١) كذا فى أ. وفى ش ، ج : «قال».

٩٢

وقوله : حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا (٩٢) (يجدوا) فى موضع نصب بأن ، ولو كانت رفعا على أن يجعل (لا) فى مذهب (ليس) كأنك قلت : حزنا أن ليس يجدون ما ينفقون ، ومثله. قوله : أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا «٢». وقوله : وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ «٣».

وكلّ موضع صلحت (ليس) فيه فى موضع (لا) فلك أن ترفع الفعل الذي بعد (لا) وتنصبه.

(٢) آية ٨٩ سورة طه.

(٣) آية ٧١ سورة المائدة.

٩٧

و قوله : الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً (٩٧) نزلت فى طائفة من أعراب أسد وغطفان وحاضرى المدينة. و(أجدر) كقولك : أحرى ، وأخلق.

وَ أَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا موضع (أن) نصب. وكل موضع دخلت فيه (أن) والكلام الذي قبلها مكتف بما خفضه أو رفعه أو نصبه ف (أن) فى موضع نصب كقولك : أتيتك أنّك محسن ، وقمت أنك مسىء ، وثبتّ عندك أنك صديق وصاحب. وقد تبين لك أن (أن) فى موضع نصب لأنك تضع فى موضع (أن) المصدر فيكون نصبا ألا ترى أنك تقول : أتيتك إحسانك ، فدلّ الإحسان بنصبه على نصب أن. وكذلك الآخران.

وأماقوله : وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا فإن وضعك المصدر فى موضع (أن) قبيح لأن أخلق وأجدر يطلبن الاستقبال من الأفاعيل فكانت ب (أن) تبين المستقبل ، وإذا وضعت مكان (أن) مصدرا لم يتبيّن استقباله ، فلذلك قبح. و(أن) فى موضع نصب على كل حال ألا ترى أنك تقول : أظن أنك قائم فتقضى على (أن) بالنصب ، ولا يصلح أن تقول : أظن قيامك ، فأظن نظير لخليق ولعسى (وجدير) «١» وأجدر وما يتصرف منهن فى (أن).

(١) سقط ما بين القوسين فى ش ، ج. وثبت فى أ.

٩٨

وقوله : وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ (٩٨) يعنى : الموت والقتل.

يقول اللّه تبارك وتعالى : عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وفتح السين من (السوء) هو وجه الكلام ، وقراءة أكثر القرّاء. وقد رفع مجاهد «٢» السين فى موضعين : هاهنا وفى

(٢) وهى قراءة ابن كثير وأبى عمرو.

سورة الفتح «١». فمن قال : «دائِرَةُ السَّوْءِ» فإنه أراد المصدر من سؤته سوءا ومساءة ومسائية وسوائية ، فهذه مصادر. ومن رفع السين جعله اسما كقولك : عليهم دائرة البلاء والعذاب. ولا يجوز ضم السين فى قوله : ما «٢» كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ ولا فى قوله : وَظَنَنْتُمْ «٣» ظَنَّ السَّوْءِ لأنه ضدّ لقولك : هذا رجل صدق ، وثوب صدق. فليس للسوء هاهنا معنى فى عذاب ولا بلاء ، فيضمّ.

(١) فى الآية ٦. والكلام فى «دائرة السوء» فقط.

(٢) آية ٢٨ سورة مريم.

(٣) آية ٦ سورة الفتح. [.....]

١٠٠

وقوله : وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ (١٠٠) إن شئت خفضت الأنصار تريد : من المهاجرين ومن الأنصار. وإن شئت رفعت (الأنصار) تتبعهم قوله : (والسابقون) ، وقد قرأ بها الحسن البصرىّ.

وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ : من أحسن من بعدهم إلى يوم القيامة. ورفعت (السابقون والذين اتبعوهم) بما عاد من ذكرهم فى قوله : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ.

١٠١

وقوله : وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ (١٠١) : مرنوا عليه وجرؤوا عليه كقولك : تمردوا.

وقوله : سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ. يقال : بالقتل وعذاب القبر.

١٠٢

وقوله : خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً (١٠٢) يقول : خرجوا إلى بدر فشهدوها. ويقال : العمل الصالح توبتهم من تخلّفهم عن غزوة تبوك.

وَ آخَرَ سَيِّئاً : تخلّفهم يوم تبوك عَسَى اللَّهُ عسى من اللّه واجب إن شاء اللّه. وكان هؤلاء قد أوثقوا أنفسهم بسوارى المسجد ، وحلفوا ألّا يفارقوا ذلك حتى تنزل توبتهم ، فلمّا نزلت قالوا : يا رسول اللّه خذ أموالنا شكرا لتوبتنا ، فقال : لا أفعل حتى ينزل بذلك علىّ قرآن. فأنزل اللّه عز وجل :

قوله : خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً (١٠٣) فأخذ بعضا.

ثم قال : تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ : استغفر لهم فإن استغفارك لهم تسكن إليه قلوبهم ، وتطمئن بأن قد تاب اللّه عليهم. وقد «١» قرئت (صلواتك).

والصلاة أكثر.

(١) وهى قراءة غير حفص وحمزة والكسائي وخلف.

١٠٦

وقوله : وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ (١٠٦) هم ثلاثة نفر مسمّون ، تخلّفوا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فى غزوة تبوك ، فلما رجع قال : (ما عذركم)؟ قالوا : لا عذر لنا إلا الخطيئة ، فكانوا موقوفين حتى نزلت توبتهم فى قوله : لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ

١٠٧

و قوله : وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً (١٠٧) هم بنو عمرو بن عوف من الأنصار ، بنوا مسجدهم ضرارا لمسجد قباء.

ومسجد قباء أول مسجد بنى على التقوى. فلمّا قدم النبي صلى اللّه عليه وسلم من غزوة تبوك أمر بإحراق مسجد الشقاق وهدمه.

١٠٨

ثم قال : لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً (١٠٨) يعنى مسجد بنى عمرو. ثم انقطع الكلام فقال : لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ. ثم قال : فِيهِ رِجالٌ الأولى صلة لقوله :

(تقوم) والثانية رفعت الرجال.

١٠٩

وقوله : أَسَّسَ (١٠٤) وأَسَّسَ «١» ، ويجوز أساس ، وآساس. ويخيّل إلىّ أنى قد سمعتها فى القراءة.

(١) وهى قراءة نافع وابن عامر. والأولى بالبناء للفاعل قراءة الباقين.

١١٠

وقوله : لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ (١١٠) يعنى مسجد النفاق (ريبة) يقال : شكّا (إلا أن تقطّع) و(تقطّع) «٢» معناه : إلا أن يموتوا. وقرأ الحسن (إلى أن تقطّع) بمنزلة حتّى ، أي حتى تقطّع. وهى فى قراءة عبد اللّه ولو قطّعت قلوبهم حجة لمن قال إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ بضم التاء.

(٢) الجمهور على قراءة (تقطع قلوبهم) وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص ويعقوب كذلك إلا أنهم فتحوا التاء (تقطع قلوبهم) وروى عن يعقوب وأبى عبد الرحمن (تقطع) مخفف القاف مبنيا لما لم يسم فاعله. وروى عن شبل وابن كثير (تقطع قلوبهم) أي أنت تفعل ذلك بهم (من تفسير القرطبي).

١١١

و قوله : فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ (١١١) قراءة أصحاب عبد اللّه يقدّمون المفعول به قبل الفاعل. وقراءة العوام «١» : (فيقتلون ويقتلون).

وقوله : وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا خارج من قوله : بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ وهو كقولك :

علىّ ألف درهم عدّة صحيحة ، ويجوز الرفع لو قيل.

(١) يريد غير حمزة والكسائي وخلف أصحاب القراءة الأولى.

١١٢

وقوله : التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ (١١٢) استؤنفت بالرفع لتمام الآية قبلها وانقطاع الكلام ، فحسن الاستئناف.

وهى فى قراءة عبد اللّه «التائبين العابدين» فى موضع خفض لأنه نعت للمؤمنين :

اشترى من المؤمنين التائبين. ويجوز أن يكون (التائبين) فى موضع نصب على المدح كما قال :

لا يبعدن قومى الذين هم سمّ العداة وآفة الجزر «٢»

النازلين بكل معترك والطيّبين معاقد الأزر

(٢) انظر ص ١٠٥ من هذا الجزء. وقد ضبط فيه «الجزر» و«الأزر» بضم ما قبل الروى.

والصواب تسكينها كما هنا.

١١٥

و قوله : وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ (١١٥) سأل المسلمون النبىّ صلى اللّه عليه وسلم عمّن مات من المسلمين وهو يصلّى إلى القبلة الأولى ، ويستحلّ الخمر قبل تحريمها ، فقالوا : يا رسول اللّه أمات إخواننا ضلّالا؟ فأنزل اللّه تبارك وتعالى : وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ يقول : ليسوا بضلال ولم يصرفوا عن القبلة الأولى ، ولم ينزل عليهم تحريم الخمر.

١١٧

و قوله : مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ (١١٧) وكاد تزيغ «١». [من ] «٢» قال : كادَ يَزِيغُ جعل فى (كاد يزيغ) اسما «٣» مثل الذي فى قوله : عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ «٤» وجعل (يزبغ) به ارتفعت القلوب مذكّرا كما قال اللّه تبارك وتعالى : لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها «٥» ولا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ «٦» ومن قال (تزيغ) جعل فعل القلوب مؤنّثا كما قال : نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا «٧» وهو وجه الكلام ، ولم يقل (يطمئن) وكل فعل كان لجماع مذكر أو مؤنث فإن شئت أنّثت فعله إذا قدمته ، وإن شئت ذكّرته.

 (١) قراءة الياء لحفص وحمزة. وقراءة التاء للياقين.

(٢) زيادة خلت منها الأصول.

(٣) كأنه يريد : ضمير الشأن والحديث. وهذا تأويل البصريين.

(٤) آية ١١ سورة الحجرات.

(٥) آية ٣٧ سورة الحج.

(٦) آية ٥٢ سورة الأحزاب.

(٧) آية ١١٣ سورة المائدة.

١١٨

وقوله : وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا (١١٨) وهم كعب بن مالك ، وهلال بن أميّة ، ومرارة.

١٢٠

وقوله : وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً (١٢٠) يريد بالموطئ الأرض وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً فى ذهابهم ومجيئهم إلا كتب لهم.

١٢٢

وقوله : وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً (١٢٢) لمّا عيّر المسلمون بتخلفهم عن غزوة تبوك جعل النبي صلى اللّه عليه وسلم يبعث السريّة فينفرون جميعا ، فيبقى النبي صلى اللّه عليه وسلم وحده ، فأنزل اللّه تبارك وتعالى : وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً يعنى«٨» : جميعا ويتركوك وحدك.

ثم قال : فَلَوْ لا نَفَرَ معناه : فهلّا نفر مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ليتفقّه الباقون الذين تخلّفوا ويحفظوا على قومهم ما نزل على النبي صلى اللّه عليه وسلم من القرآن.

(٨) كذا فى ش ، ج. وفى ا : «يريد».

وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ يقول : ليفقّهوهم. وقد قيل فيها : إن أعراب أسد قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ، فغلت الأسعار وملئوا الطرق بالعذرات ، فأنزل اللّه تبارك وتعالى : فَلَوْ لا نَفَرَ يقول : فهلّا نفر منهم طائفة ثم رجعوا إلى قومهم فأخبروهم بما تعلّموا.

١٢٣

وقوله : يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ (١٢٣) يريد : الأقرب فالأقرب.

١٢٤

وقوله : وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ (١٢٤) يعنى : المنافقين يقول بعضهم لبعض : هل زادتكم هذه إيمانا؟

فأنزل اللّه تبارك وتعالى «فأما الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً ... وأما الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ» والمرض هاهنا النفاق.

١٢٦

وقوله : أَوَ لا يَرَوْنَ (١٢٦) (وترون) «١» بالتاء. وفى قراءة عبد اللّه «أو لا ترى أنهم» والعرب تقول : ألا ترى للقوم وللواحد كالتعجّب ، وكما قيل «ذلك أزكى لهم ، وذلكم» وكذلك (ألا ترى) و(ألا ترون).

(١) قراءة الخطاب لحمزة ويعقوب ، وقراءة الغيبة للباقين. [.....]

١٢٧

وقوله : وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ (١٢٧) فيها ذكرهم وعيبهم قال بعضهم لبعض هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ إن قمتم ، فإن خفى لهم القيام قاموا.

فذلك قوله : ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ دعاء عليهم.

١٢٨

و قوله : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (١٢٨) يقول : لم يبق بطن من العرب إلّا وقد ولدوه. فذلك قوله مِنْ أَنْفُسِكُمْ.

وقوله : عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ (ما) فى موضع رفع معناه : عزيز عليه عنتكم. ولو كان نصبا : عزيزا عليه ما عنتم حريصا رءوفا رحيما ، كان صوابا ، على قوله لقد جاءكم كذلك. والحريص الشحيح أن يدخلوا النار.