سُورَةُ الْمَائِدَةِ مَدَنِيَّةٌ

وَهِيَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ آيَةً

١

ومن قوله تبارك وتعالى : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ... (١)

يعنى : بالعهود. [والعقود] «١» والعهود واحد.

وقوله : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ وهى بقر الوحش والظباء والحمر الوحشيّة.

وقوله : إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فى موضع نصب بالاستثناء ، ويجوز الرفع ، كما يجوز : قام القوم إلا زيدا وإلّا زيد. والمعنى فيه : إلا ما نبينه لكم من تحريم ما يحرم وأنتم محرمون ، أو فى الحرم. فذلك قوله غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ يقول : أحلّت لكم هذه غير مستحلّين للصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ. ومثله إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ «٢» وهو «٣» بمنزلة قولك (فى قولك) «٤» أحلّ لك هذا الشيء لا مفرطا فيه ولا متعدّيا.

فإذا جعلت (غير) مكان (لا) صار النصب الذي بعد لا فى غير. ولو كان (محلّين الصيد) نصبت كما قال اللّه جل وعز وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ وفى قراءة عبد اللّه (ولا آمّى البيت الحرام).

إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ : يقضى ما يشاء.

(١) زيادة يقتضيها السياق خلت منها ش ، ج.

(٢) آية ٥٣ سورة الأحزاب.

(٣) كذا فى ش بحرف العطف. وفى ج : «هو» دون حرف العطف.

(٤) كذا. والأسوغ حذف ما بين القوسين.

٢

وقوله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ ... (٢)

كانت عامّة العرب لا يرون الصفا والمروة من الشعائر «٥» ، ولا يطوفون بينهما ، فأنزل اللّه تبارك وتعالى : لا تستحلّوا ترك ذلك.

 (٥) كذا فى ش. وفى ج «شعائر».

و قوله : وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ : ولا القتال فى الشهر الحرام.

وَ لَا الْهَدْيَ وهو هدى المشركين : أن تعرضوا له ولا أن تخيفوا من قلّد بعيره. وكانت العرب إذا أرادت أن تسافر فى غير أشهر «١» الحرم قلّد أحدهم بعيره ، فيأمن بذلك ، فقال : لا تخيفوا من قلّد. وكان أهل مكّة يقلّدون بلحاء «٢» الشجر ، وسائر العرب يقلّدون بالوبر والشعر.

وقوله : وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ يقول : ولا تمنعوا من أمّ البيت الحرام أو أراده من المشركين. ثم نسخت هذه «٣» الآية التي فى التوبة فَاقْتُلُوا «٤» الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ إلى آخر الآية.

وقوله : وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ قرأها يحيى بن وثّاب والأعمش : ولا يجرمنّكم ، من أجرمت ، وكلام «٥» العرب وقراءة القرّاء يَجْرِمَنَّكُمْ بفتح الياء. جاء التفسير : ولا يحملنّكم بغض قوم. قال الفرّاء : وسمعت العرب تقول :

فلأن جريمة أهله ، يريدون : كاسب لأهله ، وخرج يجرمهم : يكسب لهم. والمعنى فيها متقارب : لا يكسبنّكم بغض قوم أن تفعلوا شرّا. ف (أن) فى موضع تصب.

فإذا جعلت «٦» فى (أن) (على) ذهبت إلى معنى : لا يحملنّكم بغضهم على كذا وكذا ، على أن لا تعدلوا ، فيصلح طرح (على) كما تقول : حملتنى أن أسأل وعلى أن أسأل.

(١) كذا. والكوفيون يجيزون إضافة الموصوف للوصف.

(٢) لحاء الشجر : قشره.

(٣) كذا فى ج. وفى ش : «هى». [.....]

(٤) آية ٥.

(٥) فى اللسان (جرم) : «و قال أبو إسحق : يقال : أجرمنى كذا وجرمنى. وجرمت وأجرمت بمعنى واحد. وقيل فى قوله تعالى : (لا يَجْرِمَنَّكُمْ) : لا يدخلنكم فى الجرم كما يقال : آثمته أي أدخلته فى الإثم» وأبو إسحق هو الزجاج ، وهو بصرى. فقول القرطبي : «و لا يعرف البصريون الضم» موضع نظر.

(٦) أي إذا قدّرت حرف الجرّ المحذوف الداخل على (أن) هو (على).

وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ وقد ثقّل «١» الشنان بعضهم «٢» ، وأكثر القرّاء على تخفيفه «٣».

وقد روى تخفيفه وتثقيله عن الأعمش وهو : لا يحملنكم بغض قوم ، فالوجه إذا كان مصدرا أن يثقّل ، وإذا أردت به بغيض قوم قلت : شنآن.

وأَنْ صَدُّوكُمْ فى موضع نصب لصلاح «٤» الخافض فيها. ولو كسرت «٥» على معنى الجزاء لكان صوابا. وفى حرف عبد اللّه إن يصدّوكم فإن كسرت جعلت الفعل مستقبلا ، وإن فتحت جعلته ماضيا. وإن جعلته جزاء بالكسر صلح ذلك كقوله»

أَ فَنَضْرِبُ «٧» عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ وأن ، تفتح وتكسر. وكذلك أَوْلِياءَ «٨» إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ تكسر. ولو فتحت لكان صوابا ، وقوله باخِعٌ «٩» نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [فيه ] «١٠» الفتح والكسر. وأما قوله بَلِ «١١» اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ ف (أن) مفتوحة لأنّ معناها ماض كأنك قلت :

منّ عليكم أن هداكم. فلو نويت الاستقبال جاز الكسر فيها. والفتح الوجه «١٢» لمضىّ أوّل الفعلين. فإذا قلت : أكرمتك أن أتيتنى ، لم يجز كسر أن لأنّ الفعل ماض.

وقوله : وَتَعاوَنُوا هو فى موضع جزم. لأنها أمر ، وليست بمعطوفة على تَعْتَدُوا.

(١) كذا فى ج. وفى ش : «تقول» وهو تحريف. وتثقيل الشنآن تحريك نونه بالفتح ، وتخفيفه : تسكينها.

(٢) من هؤلاء أبو عمرو والكسائىّ وابن كثير وحمزة وحفص.

(٣) وهى قراءة ابن عامر وأبى بكر.

(٤) كذا فى ج. وفى ش : «لصالح».

(٥) وهى قراءة ابن كثير وأبى عمرو.

(٦) كذا فى ج. وفى ش : «قوله».

(٧) آية ٦ سورة الزخرف. والكسر قراءة نافع وحمزة والكسائىّ وأبى جعفر وخلف. ووافقهم الحسن والأعمش. والباقون بالفتح ، كما فى الإتحاف.

(٨) آية ٢٣ سورة التوبة.

(٩) آية ٣ سورة الشعراء.

(١٠) زيادة يقتضيها المقام.

(١١) آية ١٧ سورة الحجرات. [.....]

(١٢) فى ش ، ج : «و الوجه».

٣

و قوله : وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ... (٣)

ما فى موضع رفع بما لم يسمّ فاعله.

وَ الْمُنْخَنِقَةُ : ما اختنقت فماتت ولم تدرك.

وَ الْمَوْقُوذَةُ : المضروبة حتى تموت ولم تذكّ.

وَ الْمُتَرَدِّيَةُ : ما تردّى من فوق جبل أو بئر «١» ، فلم تدرك ذكاته.

وَ النَّطِيحَةُ : ما نطحت حتى تموت. كل ذلك محرّم إذا لم تدرك ذكاته.

وقوله : إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ نصب ورفع.

وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ : ذبح للأوثان. و(ما ذبح) فى موضع رفع «٢» لا غير.

وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا رفع بما لم يسمّ فاعله. والاستقسام : أنّ سهاما كانت تكون فى الكعبة ، فى بعضها : أمرنى ربى ، (وفى موضعها : نهانى ربى «٣») فكان أحدهم إذا أراد سفرا أخرج سهمين فأجالهما ، فإن خرج الذي فيه (أمرنى ربى) خرج. وإن خرج الذي فيه (نهانى ربى) قعد وأمسك عن الخروج.

قال اللّه تبارك وتعالى : ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ والكلام منقطع عند الفسق ، والْيَوْمَ منصوب ب (يئس) لا بالفسق.

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ نصب (اليوم) ب (أحلّ).

وقوله : غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ مثل قوله غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ يقول : غير معتمد لإثم. نصبت (غير) لأنها حال ل (من) ، وهى خارجة من الاسم الذي فى (اضطرّ).

(١) كذا فى ش ، ج. والمناسب : «فى بئر».

(٢) أي بالعطف على «الميتة».

(٣) سقط ما بين القوسين فى ج. وقوله : «فى موضعها» كذا. والمناسب : فى بعضها.

٤

و قوله : وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ ... (٤)

يعنى الكلاب. ومُكَلِّبِينَ نصب على الحال خارجة من (لكم) ، يعنى بمكلّبين :

الرجال أصحاب الكلاب ، يقال للواحد : مكلّب وكلّاب. وموضع (ما) رفع.

وقوله : (تعلّمونهنّ) : تؤدّبونهن ألّا يأكلن صيدهنّ.

ثم قال تبارك وتعالى فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ممّا لم يأكلن منه ، فإن أكل فليس بحلال لأنه إنما أمسك على نفسه.

٦

وقوله : وَأَرْجُلَكُمْ ... (٦)

مردودة على الوجوه «١». قال الفراء : وحدّثنى قيس «٢» بن الربيع عن عاصم «٣» عن زرّ عن عبد اللّه بن مسعود أنه قرأ (وأرجلكم) مقدّم «٤» ومؤخر. قال الفراء : وحدّثنى محمد «٥» بن أبان القريشي عن أبى «٦» إسحاق الهمدانىّ عن رجل عن علىّ أنه قال : نزل «٧» الكتاب بالمسح ، والسنّة الغسل. قال الفراء : وحدّثنى أبو شهاب «٨» عن رجل عن

(١) فى ش ، ج «الوجه». يريد أنها معطوفة على «وجوهكم».

(٢ ، ٣) قيس بن الربيع الأسدى الكوفىّ. مات سنة ١٦٥. وعاصم هو ابن بهدلة الكوفىّ أحد القراء السبعة. مات سنة ١٢٩. وزرّهو ابن حبيش. وهو كوفىّ أيضا. مات سنة ٨٢ ه. وانظر الخلاصة.

(٤) يريد عطف «أرجلكم» على «وجوهكم» وفيه تقديم «و امسحوا برءوسكم» وتأخير «أرجلكم» وهو ذكر للوجه السابق.

(٥) مات سنة ١٣٩

(٦) هو عمرو بن عبد اللّه السبيعىّ. مات سنة ١٢٧

(٧) أي على قراءة «أرجلكم» بالخفض. وهى قراءة ابن كثير وحمزة وأبى عمرو.

(٨) أبو شهاب : هو عبد ربه بن نافع الكنانىّ الحناط الكوفي نزيل المدائن. روى عن الأعمش وغيره وكان ثقة. توفى سنة ١٧١ وهو أبو شهاب الأصغر. وأبو شهاب الأكبر هو موسى بن نافع الأسدى الحناط روى عن سعيد بن جبير وعطاء وغيرهما وثقه أبو نعيم ، وقال أحمد : إنه منكر الحديث. توفى حوالى سنة ١٥٠ (خلاصة تذهيب الكمال).

الشعبىّ قال : نزل جبريل صلى اللّه عليه وسلّم بالمسح على محمد صلى اللّه عليهما وعلى جميع الأنبياء. قال الفراء : السنة الغسل.

وقوله : أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ كناية عن خلوة الرجل إذا أراد الحاجة.

٨

وقوله : اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ... (٨)

لو لم تكن (هو) فى الكلام كانت (أقرب) نصبا. يكنى عن الفعل فى هذا الموضع بهو وبذلك تصلحان جميعا. قال فى موضع آخر إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ «١» وفى الصفّ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ «٢» فلو لم تكن (هو) ولا (ذلك) فى الكلام كانت نصبا كقوله انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ «٣».

(١) آية ١٢ سورة المجادلة.

(٢) آية ١١

(٣) آية ١٧١ سورة النساء. [.....]

١٩

وقوله : يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ... (١٩)

معناه : كى لا تقولوا : ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ مثل ما قال يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «٤».

(٤) آية ١٧٦ سورة النساء.

٢٠

وقوله : إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ ... (٢٠)

يعنى السبعين الذين اختارهم موسى ليذهبوا معه إلى الجبل ، سمّاهم أنبياء لهذا.

وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً يقول : أحدكم فى بيته ملك ، لا يدخل عليه إلا بإذن.

وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ظلّلكم بالغمام الأبيض ، وأنزل عليكم المنّ والسّلوى.

٢١

و قوله : ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ... (٢١)

ذكر أن الأرض المقدّسة دمشق وفلسطون «١» وبعض الأردنّ (مشدّدة النون).

(١) تراه عامله فى الإعراب كجمع المذكر السالم. وهو أحد الوجهين فيه. والوجه الآخر أن يلزم الياء والنون كغسلين.

٢٤

وقوله : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا ... (٢٤)

فقال (أنت) ولو ألقيت (أنت) فقيل : اذهب وربك فقاتلا كان صوابا لأنه فى إحدى القراءتين إنه يراكم وقبيله بغير (هو) وهى بهو «٢» وفَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ أكثر فى كلام العرب. وذلك أنّ المردود على الاسم المرفوع إذا أضمر يكره لأن المرفوع خفىّ فى الفعل ، وليس كالمنصوب لأنّ المنصوب يظهر فتقول ضربته وضربتك ، وتقول فى المرفوع : قام وقاما ، فلا ترى اسما «٣» منفصلا فى الأصل من الفعل ، فلذلك أوثر إظهاره ، وقد قال اللّه تبارك وتعالى أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا «٤» ولم يقل (نحن) وكلّ صواب.

وإذا فرقت بين الاسم المعطوف بشىء قد وقع عليه الفعل حسن بعض الحسن.

من ذلك قولك : ضربت زيدا وأنت. ولو لم يكن زيد لقلت : قمت أنا وأنت ، وقمت وأنت قليل. ولو كانت (إنا هاهنا قاعدين) «٥» كان صوابا.

 (٢) كذا فى ج. وفى ش : «هو». يريد أن قراءة الآية السابقة (إنه يراكم هو وقبيله) أكثر لما فيها من الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه الذي هو ضمير الرفع ، وكذلك الفصل فى الآية بعده.

(٣) سقط فى ش.

(٤) آية ٦٧ سورة النمل.

(٥) ذلك أن يكون الظرف (هاهنا) خبر إن و(قاعدين) حال من الضمير المستتر فى متعلق الخبر أو من اسم إن وهو ضمير المتكلمين.

٢٦

و قوله : أَرْبَعِينَ سَنَةً ... (٢٦)

منصوبة بالتحريم «١». ولو قطعت الكلام فنصبتها بقوله (يتيهون) كان صوابا.

ومثله فى الكلام أن تقول : لأعطينّك ثوبا ترضى ، تنصب الثوب بالإعطاء ، ولو نصبته بالرضا تقطعه من الكلام من (لأعطينك) كان صوابا.

(١) قال العكبري (أربعين سنة) ظرف لمحرمة ، فالتحريم على هذا مقدّر ، وجملة (يتيهون فى الأرض) حال من الضمير المجرور - وقيل هى ظرف ل «يتيهون» فالتحريم على هذا غير مؤقت.

٢٧

وقوله : فَتُقُبِّلَ مِنْ أحدهما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ... (٢٧)

و لم يقل : قال الذي لم يتقبل منه (لأقتلنّك) لأن المعنى يدلّ على أن الذي لم يتقبّل منه هو القائل لحسده لأخيه : لأقتلنك. ومثله فى الكلام أن تقول : إذا اجتمع السفيه والحليم حمد ، تنوى بالحمد الحليم ، وإذا رأيت الظالم والمظلوم أعنت ، وأنت تنوى : أعنت المظلوم ، للمعنى الذي لا يشكل. ولو قلت : مرّبى رجل وامرأة فأعنت ، وأنت تريد أحدهما لم يجز حتى يبيّن لأنهما ليس فيهما علامة تستدلّ بها على موضع المعونة ، إلا أن تريد : فأعنتهما جميعا.

٣٠

وقوله : فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ... (٣٠)

يريد : فتابعته.

٣٢

وقوله : مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ... (٣٢)

جواب لقتل ابن آدم صاحبه.

وقوله : وَمَنْ أَحْياها يقول : عفا عنها ، والإحياء هاهنا العفو.

٣٣

و قوله : إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ

يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ ... (٣٣)

(أن) فى موضع رفع.

فإذا أصاب الرجل الدم والمال وأخاف السبيل صلب ، وإذا أصاب القتل ولم يصب المال قتل ، وإذا أصاب المال ولم يصب القتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى «من خلاف» ويصلح مكان (من) على ، والباء ، واللام.

ونفيه أن يقال : من قتله فدمه هدر «١». فهذا النفي.

(١) فى اللسان (نفى) بعده : «أي لا يطالب قاتله بدمه».

٣٨

وقوله : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ... (٣٨)

مرفوعان بما عاد من ذكرهما. والنصب فيهما جائز كما يجوز أزيد ضربته ، وأزيدا ضربته. وإنما تختار العرب الرفع فى «السارق والسارقة» لأنهما [غير] «٢» موقّتين ، فوجّها توجيه الجزاء كقولك : من سرق فاقطعوا يده ، ف (من) لا يكون إلا رفعا ، ولو أردت سارقا بعينه أو سارقة بعينها كان النصب وجه الكلام. ومثله وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما «٣» وفى قراءة عبد اللّه «و السارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما».

وإنما قال (أيديهما) لأنّ كل «٤» شىء موحّد من خلق الإنسان إذا ذكر مضافا إلى اثنين فصاعدا جمع. فقيل : قد هشمت رءوسهما ، وملأت ظهورهما وبطونهما ضربا. ومثله إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «٥».

 (٢) سقط فى ش.

(٣) آية ١٦ سورة النساء.

(٤) كذا فى ج. وفى ش : «لكل».

(٥) آية ٤ سورة التحريم.

و إنما اختير الجمع على التثنية لأن أكثر ما تكون عليه الجوارح اثنين فى الإنسان :

اليدين والرجلين والعينين. فلما جرى»

أكثره على هذا ذهب بالواحد منه إذا أضيف إلى اثنين مذهب التثنية. وقد يجوز تثنيتهما قال أبو ذؤيب :

فتخالسا نفسيهما بنوافذ كنوافذ العبط التي لا ترقع «٢»

و قد يجوز هذا فيما ليس من خلق الإنسان. وذلك أن تقول للرجلين : خليّتما نساءكما ، وأنت تريد امرأتين ، وخرقتما قمصكما.

وإنما ذكرت ذلك لأن من النحويين من كان لا يجيزه إلّا فى خلق الإنسان ، وكلّ سواء. وقد يجوز أن تقول فى الكلام : السارق والسارقة فاقطعوا يمينهما «٣» لأن المعنى : اليمين من كل واحد منهما كما قال الشاعر :

كلوا فى نصف بطنكم تعيشوا فإنّ زمانكم زمن خميص «٤»

(١) يريد أن الجوارح لما كثر فيها التثنية غلبت هذه الجوارح على المفردة ، فدخلت الأخيرة فى باب الأولى. فإذا أضيف اثنان من المفردة الى اثنين فكأنما أضفت أربعة ، فجمع اللفظ لذلك.

(٢) هذا من عينيته المشهورة التي يرثى بها بنيه. وهى فى المفصليات. وهو فى وصف فارسين يتنازلان. و«تخالسا نفسيهما» : رام كل منهما اختلاس نفس صاحبه وابتهاز الفرصة فيه. والنوافذ :

الطعنات النافذة. والعبط : جمع العبيط ، وهو ما يشق ، من العبط أي الشق. وفى أمالى ابن الشجري ١/ ١٢ : «أراد : بطعنات نوافذ. والعبط جمع العبيط ، وهو البعير الذي ينحر لغير داء». وانظر شرح المفضّليات لابن الأنبارى ٨٨٣ ، وديوان الهذليين (الدار) ١/ ٢٠ [.....]

(٣) كذا فى ج. وفى ش : «يدهما».

(٤) ويروى :

كلوا فى بعض بطنكم تعفوا

و الخميص : الجائع طوى بطنه على غير زاد. وانظر الكتاب ١/ ١٠٨ ، والخزانة ٣/ ٣٧٩.

و قال الآخر «١» :

الواردون وتيم فى ذرى سبأ قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس

من قال : (ذرى) «٢» جعل سبأ جيلا ، ومن قال : (ذرى) أراد موضعا.

ويجوز فى الكلام أن تقول : ائتني برأس شاتين ، ورأس شاة. فإذا قلت :

برأس شاة فإنما أردت رأسى هذا الجنس ، وإذا قلت برأس شاتين فإنك تريد به الرأس من كل شاة قال الشاعر فى غير ذلك :

كأنه وجه تركيّين قد غضبا مستهدف لطعان غير تذبيب «٣»

(١) هو جرير. وهو من قصيدة فى هجاء تيم بن قيس من بكر بن وائل. والرواية فى الديوان ٣٢٥ :

تدعوك تيم وتيم فى قرى سبأ قد عض أعناقهم جلد الجواميس

(٢) الذرى - بالفتح - : الكنّ وما يستتر به. وتقول : أنا فى ذرى فلان أي فى ظله وحمايته ، فإذا أريد بسبأ القبيلة المعروفة قرئ «ذرى سبأ» بالفتح أي أن تيما يحتمون بسبأ ويمتنعون بها ، ولا عصمة لهم من أنفسهم. والذرى - بالضم - جمع الذروة. وذروة الشيء : أعلاه. وعلى هذه القراءة يكون سبأ اسما للمدينة المعروفة أي أن تيما فى أعالى هذه المدينة. وقد قرأ البغدادىّ «جبلا» واحد الجبال فضبط الأوّل بالضم والثاني بالفتح ، والأشبه بالصواب ما جرينا عليه من قراءته : «جيلا» بالجيم المكسورة والياء المثناة الساكنة. وانظر الخزانة ٣/ ٣٧١

(٣) هكذا أنشده الفرّاء «تذبيب» وتابعه ابن الشجري فى أماليه ١/ ١٢ ، وقال : «ذب فلان عن فلان : دفع عنه. وذبب فى الطعن والدفع إذا لم يبالغ فيهما» وهذا يوافق ما فى اللسان : «و يقال طعان غير تذبيب إذا بولغ فيه». وقال البغدادي فى الخزانة ٣/ ٣٧٢ : «و البيت الشاهد قافيته رائية لا بائية» وأورد البيت فيه «غير منجحر» فى مكان «غير تذبيب» وهو من قصيدة للفرزدق يهجو بها جريرا ، أوّلها :

ما تأمرون عباد اللّه أسألكم بشاعر حوله درجان مختمر

٤١

و قوله : وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ... (٤١)

إن شئت رفعت قوله «سمّاعون للكذب» بمن ولم تجعل (من) فى المعنى متصلة بما قبلها ، كما قال اللّه : «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ» «٤» وإن شئت كان

 (٤) آية ٣٢ سورة فاطر.

المعنى : لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر من هؤلاء ولا «من الذين هادوا» فترفع حينئذ (سمّاعون) على الاستئناف ، فيكون مثل قوله «لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ» «١» ثم قال تبارك وتعالى : «طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ» ولو قيل : سماعين ، وطوّافين لكان صوابا كما قال : «مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا» «٢» وكما قال : «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» «٣» ثم قال : «آخِذِينَ «٤» ، وفاكِهِينَ «٥» ، ومُتَّكِئِينَ» «٦» والنصب أكثر. وقد قال أيضا فى الرفع : «كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى » «٧» فرفع «٨» (نزّاعة) على الاستئناف ، وهى نكرة من صفة معرفة. وكذلك قوله :

«لا «٩» تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ» وفى قراءة أبىّ «إنها «١٠» لإحدى الكبر نذير للبشر» بغير ألف. فما أتاك من مثل هذا فى الكلام نصبته ورفعته. ونصبه على القطع وعلى الحال. وإذا حسن فيه المدح أو الذمّ فهو وجه ثالث. ويصلح إذا نصبته على الشتم أو المدح أن تنصب معرفته كما نصبت نكرته. وكذلك قوله «سمّاعون للكذب أكّالون للسّحت» على ما ذكرت لك.

(١) آية ٥٨ سورة النور.

(٢) آية ٦١ سورة الأحزاب.

(٣) آية ١٥ سورة الذاريات.

(٤) آية ١٦ سورة الذاريات.

(٥) آية ١٨ سورة الطور وهى بعد قوله : «إن المتقين فى جنات ونعيم» وكأن الأمر اشتبه على المؤلف.

(٦) آية ٢٠ سورة الطور.

(٧) آيتا ١٥ ، ١٦ سورة المعارج.

(٨) وقرأ حفص من السبعة وبعض القرّاء من غيرهم بالنصب. [.....]

(٩) آيتا ٢٨ ، ٢٩ سورة المدّثر.

(١٠) آيتا ٣٥ ، ٣٦ سورة المدّثر.

٤٥

وقوله : وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ... (٤٥)

تنصب (النفس) بوقوع (أنّ) عليها. وأنت فى قوله (والعين بالعين والأنف بالأنف) إلى قوله (والجروح قصاص) بالخيار. إن شئت رفعت ، وإن شئت

نصبت. وقد نصب حمزة ورفع الكسائىّ. قال الفراء : وحدّثنى إبراهيم «١» بن محمد ابن أبى يحيى عن أبان «٢» بن أبى عياش عن أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم قرأ : (والعين بالعين) رفعا. قال الفرّاء : فإذا رفعت العين أتبع الكلام العين ، وإن نصبنه فجائز. وقد كان بعضهم ينصب كله ، فإذا انتهى إلى (والجروح قصاص) رفع. وكل صواب ، إلا أن الرفع والنصب فى عطوف إنّ وأنّ إنما يسهلان إذا كان مع الأسماء أفاعيل مثل قوله (وإذا قيل إن وعد اللّه حق والساعة لا ريب فيها) «٣» كان النصب سهلا لأنّ بعد الساعة خبرها. ومثله إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «٤» ومثله وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ «٥» فإذا لم يكن بعد الاسم الثاني خبر رفعته ، كقوله عزّ وجلّ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ «٦» وكقوله فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ «٧» وكذلك تقول : إنّ أخاك قائم وزيد ، رفعت (زيد) بإتباعه الاسم المضمر فى قائم. فابن على هذا.

(١) يروى عنه الشافعي والثورىّ. مات سنة ١٨٤.

(٢) كانت وفاته سنة ١٤٠ ه.

(٣) آية ٣٢ سورة الجاثية. وقد قرأ حمزة بالنصب والباقون بالرفع.

(٤) آية ١٢٨ سورة الأعراف. وقد قرأ بالنصب ابن مسعود.

(٥) آية ١٩ سورة الجاثية.

(٦) آية ٣ سورة التوبة.

(٧) آية ٤ سورة التحريم.

وقوله «٤» : فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ... (٤٥)

كنى (عن «٥» [الفعل ] بهو) وهى فى الفعل الذي يجرى منه فعل ويفعل ، كما تقول :

قد قدمت القافلة ففرحت به ، تريد : بقدومها.

وقوله (كفّارة له) يعنى : للجارح والجاني ، وأجر للمجروح.

(٤) تقدم بعض هذه الآية قبل الآية السابقة.

(٥) فى الأصول : «عن ألهو» والظاهر أنه مغير عما أثبتنا.

٤٦

وقوله : وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً ... (٤٦)

ثم قال (ومصدّقا) فإن شئت جعل (مصدّقا) من صفة عيسى ، وإن شئت من صفة الإنجيل.

وقوله وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ متبع للمصدّق فى نصبه ، ولو رفعته على أن تتبعهما قوله (فيه هدى ونور) كان صوابا.

٤٧

وقوله : وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ ... (٤٧)

قرأها حمزة وغيره نصبا «٦» ، وجعلت اللام فى جهة كى. وقرئت (وليحكم) جزما على أنها لام أمر.

(٦) فالميم عنده مفتوحة. وقد كسر اللام.

٤٩

و قوله : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ ... (٤٩)

دليل على أنّ قوله (وليحكم) جزم. لأنه كلام معطوف بعضه على بعض.

٥٣

وقوله : وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا ... (٥٣)

مستأنفة فى رفع. ولو نصبت «١» على الردّ على قوله (فعسى اللّه أن يأتى بالفتح أو أمر من عنده) «٢» كان صوابا. وهى فى مصاحف أهل المدينة (يقول «٣» الذين آمنوا) بغير واو.

(١) والنصب قراءة أبى عمرو ويعقوب.

(٢) فى الآية السابقة ٥٢.

(٣) وقد قرأ بذلك ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر كما فى الإتحاف.

٥٤

وقوله : يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ... (٥٤)

خفض ، تجعلها لعتا (لقوم) ولو نصبت على القطع «٤» من أسمائهم فى (يحبهم ويحبونه) كان وجها. وفى قراءة عبد اللّه (أذلّة على المؤمنين غلظاء على الكافرين) أذلة : أي رحماء بهم.

(٤) يريد بذلك النصب على الحال. وقد صرح بذلك القرطبي ، ويريد بأسمائهم الضمير فى الفعلين.

٥٧

وقوله : وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ ... (٥٧)

و هى «٥» فى قراءة أبىّ (ومن الكفار) ، ومن نصبها ردّها على (الذين اتخذوا).

(٥) يريد أن «الكفار» مجرور بالعطف على «الذين أوتوا الكتاب» المجرور بمن. ويذكر أن هذه القراءة يؤيدها قراءة أبىّ إذ صرّح بالجارّ. والجر على العطف قراءة أبى عمرو والكسائىّ ويعقوب. والنصب قراءة الباقين.

٥٩

وقوله : وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ ... (٥٩)

(أنّ) فى موضع نصب على قوله (هل تنقمون منا) إلا إيماننا وفسقكم. (أن) فى موضع مصدر ، ولو استأنفت (وإن أكثركم فاسقون) فكسرت «٦» لكان صوابا.

 (٦) ثبت فى ج وسقط فى ش.

٦٠

و قوله : قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً ... (٦٠)

نصبت (مثوبة) لأنها مفسّرة كقوله (أنا «١» أكثر منك مالا وأعزّ نفرا).

وقوله مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ (من) فى موضع خفض تردّها على (بشرّ) وإن شئت استأنفتها فرفعتها كما قال : «قُلْ «٢» أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا» ولو نصبت (من) على قولك : أنبئكم (من) كما تقول : أنبأتك خيرا ، وأنبأتك زيدا قائما «٣» ، والوجه الخفض. وقوله وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ على قوله «٤» :

«و جعل منهم القردة [والخنازير] «٥» ومن عبد الطاغوت» وهى فى قراءة أبىّ وعبد اللّه (وعبدوا) على الجمع ، وكان أصحاب عبد اللّه يقرأون «و عبد الطاغوت» على فعل ، ويضيفونها إلى الطاغوت «٦» ، ويفسّرونها : خدمة الطاغوت. فأراد قوم هذا المعنى ، فرفعوا العين فقالوا : عبد الطاغوت مثل «٧» ثمار وثمر ، يكون جمع جمع.

ولو قرأ قارئ (وعبد الطاغوت) كان صوابا جيّدا. يريد عبدة الطاغوت فيحذف الهاء لمكان الإضافة كما قال الشاعر :

قام ولاها فسقوها صرخدا «٨» يريد : ولاتها. وأما قوله (وعبد الطاغوت) فإن تكن «٩» فيه لغة مثل حذر وحذر وعجل فهو وجه ، وإلا فإنه أراد - واللّه أعلم - قول الشاعر «١٠» :

(١) آية ٣٤ سورة الكهف. [.....]

(٢) آية ٧٢ سورة الحجّ.

(٣) حذف الجواب ، أي لكان صوابا وهذا يتكرر منه.

(٤) أي على حذف «من» الموصولة المعطوفة على «القردة».

(٥) زيادة فى اللسان (عبد).

(٦) وهذه قراءة حمزة.

(٧) يريد أن عبدا جمع عباد الذي هو جمع عبد. وفى اللسان : «قال الزجاج : هو جمع عبيد كرغيف ورغف».

(٨) أراد بالصرخد الخمر. وصرخد فى الأصل موضع ينسب إليه الشراب.

(٩) كذا فى ج.

وفى ش : «لم تكن» وفى اللسان : «قال الفرّاء : ولا أعلم له وجها إلا أن يكون عبد بمنزلة حذر وعجل» والظاهر أن هذا حكاية عما هنا بالمعنى.

(١٠) هو أوس بن حجر ، كما فى اللسان.

أبنى لبينى إنّ أمّكم أمة وإن أباكم عبد «١»

و هذا فى الشعر يجوز لضرورة القوافي ، فأما فى القراءة فلا.

(١) قبله :

أبنى لبينى لست معترفا ليكون ألأم منكم أحد

يريد أن «عبد» فى البيت حرك بضم الباء للوزن والأسل فيها السكون.

٦٤

وقوله : وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ... (٦٤)

أرادوا : ممسكة عن «٢» الإنفاق والإسباغ علينا. وهو كقوله وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ «٣» فى الإنفاق.

بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ وفى حرف عبد اللّه بل يداه بسطان والعرب تقول : الق أخاك بوجه مبسوط ، وبوجه بسط.

(٢) كذا فى ج. وفى ش : «على».

(٣) آية ٢٩ سورة الإسراء.

٦٦

وقوله : لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ... (٦)

يقول : من قطر السماء ونبات الأرض من ثمارها وغيرها. وقد يقال : إن هذا على وجه التوسعة كما تقول : هو فى خير من قرنه إلى قدمه.

٦٩

وقوله «٨» : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى ... (٦٩)

فإن رفع (الصابئين) على أنه عطف على (الذين) ، و(الذين) حرف على جهة واحدة «٩» فى رفعه ونصبه وخفضه ، فلمّا كان إعرابه واحدا وكان نصب (إنّ) نصبا

 (٨) هذه الآية فصلت بين أجزاء الآية ٤٥. وقد تكرر مثل هذا فى الكتاب.

(٩) يريد أنه مبنىّ غير معرب فلا يتغير آخره.

ضعيفا - وضعفه أنه يقع على (الاسم «١» ولا يقع على) خبره - جاز رفع الصابئين.

ولا أستحبّ أن أقول : إنّ عبد اللّه وزيد قائمان لتبيّن الإعراب فى عبد اللّه. وقد كان الكسائىّ يجيزه لضعف إنّ. وقد أنشدونا هذا البيت رفعا ونصبا :

فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإنى وقيّارا بها لغريب «٢»

و قيّار. ليس هذا بحجّة للكسائىّ فى إجازته (إنّ عمرا وزيد قائمان) لأن قيارا قد عطف على اسم مكنىّ عنه ، والمكنى لا إعراب له فسهل ذلك (فيه «٣» كما سهل) فى (الذين) إذا عطفت عليه (الصابئون) وهذا أقوى فى الجواز من (الصابئون) لأنّ المكنى لا يتبين فيه الرفع فى حال ، و(الذين) قد يقال : اللذون فيرفع فى حال.

وأنشدنى بعضهم :

و إلّا فاعلموا أنّا وأنتم بغاة ما حيينا فى شقاق «٤»

و قال الآخر :

يا ليتنى وأنت يا لميس ببلد ليس به أنيس

و أنشدنى بعضهم :

يا ليتنى وهما نخلو بمنزلة حتى يرى بعضنا بعضا ونأتلف

(١) سقط ما بين القوسين فى ج.

(٢) من أبيات لضابئ بن الحارث البرجمىّ قالها فى سجنه فى المدينة على عهد عثمان رضى اللّه عنه.

أخذ لقذفه المحصنات. وقيار اسم فرسه. وفى نوادر أبى زيد أنه اسم جمله. وانظر الخزانة ٤/ ٣٢٣ والكتاب ١/ ٨.

(٣) سقط ما بين القوسين فى ح. [.....]

(٤) هو لبشر بن خازم الأسدى. وقبله :

فإذ جزت نواصى آل بدر فأدّوها وأسرى فى الوثاق

و انظر الخزانة : / ٣١٥ ، والكتاب ١/ ٢٩٠.

قال الكسائىّ : أرفع (الصابئون) على إتباعه الاسم الذي فى هادوا ، ويجعله «١» من قوله (إنا هدنا إليك) «٢» لا من «٣» اليهودية. وجاء التفسير بغير ذلك لأنه وصف الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، ثم ذكر اليهود والنصارى فقال : من آمن منهم فله كذا ، فجعلهم يهودا ونصارى.

(١) فى الخزانة ٤/ ٣٣٤ : «بجعله».

(٢) آية ١٥٦ سورة الأعراف.

(٣) يريد أن «هادوا» فى قوله : «و الذين هادوا» بمعنى تابوا ورجعوا إلى الحق ، كما فى آية الأعراف ، وليس معنى «الذين هادوا» الذين كانوا على دين اليهودية. والذين هادوا بالمعنى الأوّل يدخل فيه بعض الصابئين فيصح العطف ، بخلافه على المعنى الثاني.

٧١

وقوله : فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ ... (٧١)

فقد يكون رفع الكثير من جهتين إحداهما أن تكرّ «١» الفعل عليها تريد : عمى وصمّ كثير منهم ، وإن شئت جعلت عَمُوا وَصَمُّوا فعلا للكثير كما قال الشاعر «٢» :

يلوموننى فى اشترائى النخي ل أهلى فكلّهم ألوم

و هذا لمن قال : قاموا قومك. وإن شئت جعلت الكثير مصدرا فقلت أي ذلك كثير منهم «٣» ، وهذا وجه ثالث. ولو نصبت «٤» على هذا المعنى كان صوابا. ومثله قول الشاعر «٥».

وسوّد ماء المرد فاها فلونه كلون النؤور وهى أدماء سارها

و مثله قول اللّه تبارك وتعالى : «وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» «٦» إن شئت جعلت (وأسرّوا) فعلا لقوله «لاهية قلوبهم وأسرّوا النجوى» ثم تستأنف (الذين)

(١) يريد أن يكون بدلا من الفاعل فى (عموا وصموا).

(٢) هو أحيحة بن الجلاح. وكان قومه لاموه فى اشتراء النخل. وقوله : «اشترائى» كذا فى ش ، ج. ويروى : «اشتراء» وقوله : «ألوم» هكذا فى ش ، ج. ورواية البيت هكذا لم يلاحظ فيها الشعر الذي هذا البيت منه. وإلا فهو فيه : «يعذل» فإن قافيته لامية. وبعده :

و أهل الذي باع يلحونه كما لحى البائع الأول

[.....]

(٣) فيكون «كثير» خبر مبتدأ محذوف هو «ذلك» وهو العمى والصم. وبقدّره بعضهم :

«العمى والصم».

(٤) وبه قرأ ابن أبى عبلة كما فى البحر ٣/ ٥٣٤.

(٥) هو أبو ذؤيب الهذلىّ. والبيت فى وصف ظبية. والمرد : الغض من ثمر الأراك ، والنئور :

النيلج ، وهو دخان الشحم ، يعالج به الوشم فيخضر. وسارها أي سائرها. والأدماء من الأدمة ، وهى فى الظباء لون مشرب بياضا.

(٦) آية ٣ سورة الأنبياء.

بالرفع. وإن شئت جعلتها خفضا (إن «١» شئت) على نعت الناس فى قوله «اقترب للناس حسابهم» وإن شئت كانت رفعا كما يجوز (ذهبوا قومك).

(١) كذا فى ش ، ج. ويبدو أنها مزيدة فى النسخ.

٧٣

وقوله : لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ... (٧٣)

يكون مضافا. ولا يجوز التنوين فى (ثالث) فتنصب الثلاثة. وكذلك «٢» قلت : واحد من اثنين ، وواحد من ثلاثة ألا ترى أنه لا يكون ثانيا لنفسه ولا ثالثا لنفسه. فلو قلت :

أنت ثالث اثنين لجاز أن تقول : أنت ثالث اثنين ، بالإضافة ، وبالتنوين ونصب الاثنين وكذلك لو قلت : أنت رابع ثلاثة جاز ذلك لأنه فعل واقع.

وقوله : وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ لا يكون قوله (إله واحد) إلا رفعا لأن المعنى : ليس إله إلا إله واحد ، فرددت ما بعد (إلا) إلى المعنى ألا ترى أن (من) إذا فقدت من أوّل الكلام رفعت. وقد قال بعض الشعراء :

ما من حوىّ بين بدر وصاحة ولا شعبة إلا شباع نسورها «٣»

فرأيت الكسائي قد أجاز خفضه وهو بعد إلا ، وأنزل (إلا) مع الجحود بمنزلة غير ، وليس ذلك بشىء لأنه أنزله بمنزلة قول الشاعر :

أبنى لبينى لستم بيد إلا يد ليست لها عضد

 (٢) كذا فى ش ، ج. وكأنه محرّف عن : «كأنك».

(٣) الحوىّ : واحد الحوايا. وهى حفائر ملتوية يملؤها المطر فيبقى فيها دهرا طويلا. والشعبة مسيل صغير. وبدر ماء مشهور بين مكة والمدينة أسفل وادي الصفراء. وصاحة : هضاب حمر فى بلاد باهلة بقرب عقيق المدينة.

و هذا جائز لأن الباء قد تكون واقعة فى الجحد كالمعرفة والنكرة ، فيقول : ما أنت بقائم ، والقائم نكرة ، وما أنت بأخينا ، والأخ معرفة ، ولا يجوز أن تقول : ما قام من أخيك ، كما تقول ما قام من رجل.

٧٥

وقوله : وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ... (٧٥)

وقع «١» عليها التصديق كما «٢» وقع على الأنبياء. وذلك لقول اللّه تبارك وتعالى :

«فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا

«٣»تَمَثَّلَ لَها» فلما كلّمها جبريل صلى اللّه عليه وسلّم وصدّقته وقع عليها اسم الرسالة ، فكانت كالنبىّ.

(١) أي يقع عليها هذه الصفة لاتصافها بها أي أنها تصدّق.

(٢) كذا فى ج. وفى ش : «على».

(٣) آية ١٧ سورة مريم.

٨٢

وقوله : ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ... (٨٢)

نزلت فيمن أسلم من النصارى. ويقال : هو النّجاشى وأصحابه. قال الفرّاء ويقال : النجاشي.

٨٧

وقوله : لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا (٨٧) هم نفر من أصحاب النبىّ صلى اللّه عليه وسلّم أرادوا أن يرفضوا الدنيا ، ويجبّوا أنفسهم ، فأنزل اللّه تبارك وتعالى : «لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا» أي لا تجبّوا أنفسكم.

٨٩

وقوله : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ... (٨٩)

فى حرف عبد اللّه : «ثلاثة أيام متتابعات» ولو نوّنت فى الصيام نصبت الثلاثة كما قال اللّه تبارك وتعالى : «أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً» «٤» نصبت

 (٤) آيتا ١٤ ، ١٥ سورة البلد.

(يتيما) بإيقاع الإطعام عليه. ومثله قوله : «أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً» «١» : تكفتهم «٢» أحياء وأمواتا. وكذلك قوله «فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» «٣» ولو نصبت «٤» (مثل) كانت صوابا. وهى فى قراءة عبد اللّه «فجزاؤه مثل ما قتل» وقرأها بعض أهل المدينة «فجزاء مثل ما قتل» وكلّ ذلك صواب.

وأما قوله «وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ» لو نوّنت فى الشهادة جاز النصب فى إعراب (اللّه) على : ولا نكتم اللّه شهادة. وأما من استفهم باللّه فقال (اللّه) فإنما يخفض (اللّه) فى الإعراب كما يخفض القسم ، لا على إضافة الشهادة إليه.

(١) آيتا ٢٥ ، ٢٦ سورة المرسلات.

(٢) أي تضمهم ، يقال : كعته أي ضمه وقبضه. والأرض تضم الأحياء على ظهرها فى دورهم ، والأموات فى بطنها فى قبورهم. ويبين من هذا أن (كفاتا) مصدر كفت. وحمله على الأرض بتأويل :

ذات كفات. وانظر اللسان فى المادة.

(٣) آية ٩٥ سورة المائدة. [.....]

(٤) قرأ بذلك السلمىّ كما فى البحر ٤/ ١٩.

٩٠

وقوله : الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ... (٩٠)

الميسر : القمار كلّه ، والأنصاب : الأوثان ، والأزلام : سهام كانت فى الكعبة يقتسمون بها فى أمورهم ، ووأحدها زلم.

٩٣

وقوله : إِذا مَا اتَّقَوْا ... (٩٣)

أي اتقوا شرب الخمر ، وآمنوا بتحريمها.

٩٤

وقوله : تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ ... (٩٤)

فما نالته الأيدى فهو بيض النعام وفراخها ، وما نالت الرماح فهو سائر الوحش.

٩٥

قوله : فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ... (٩٥)

يقول : من أصاب صيدا ناسيا لإحرامه معتمدا للصيد حكم عليه حاكمان عدلان فقيهان يسألانه : أقتلت قبل هذا صيدا؟ فإن قال : نعم ، لم يحكما عليه ، وقالا :

ينتقم اللّه منك. وإن قال : لا ، حكما عليه ، فإن بلغ قيمة حكمها ثمن بدنة أو شاة حكما بذلك عليه هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ وإن لم يبلغ ثمن شاة حكما عليه بقيمة ما أصاب :

دراهم ، ثمّ قوّماه طعاما ، وأطعمه المساكين لكل مسكين نصف صاع. فإن لم يجد حكما عليه أن يصوم يوما مكان كل نصف صاع.

وقوله : أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً والعدل : ما عادل الشيء من غير جنسه ، والعدل المثل. وذلك أن تقول : عندى عدل غلامك وعدل شاتك إذا كان غلاما يعدل غلاما أو شاة تعدل شاة. فإذا أردت قيمته من غير جنسه نضبت العين.

وربما قال بعض العرب : عدله. وكأنه منهم غلط لتقارب معنى العدل من العدل.

وقد اجتمعوا على واحد الأعدال أنه عدل. ونصبك الصيام على التفسير كما تقول : عندى رطلان عسلا ، وملء بيت قتّا «١» ، وهو مما يفسّر للمبتدئ : أن ينظر إلى (من) فإذا حسنت فيه ثم ألقيت نصبت ألا ترى أنك تقول : عليه عدل ذلك من الصيام. وكذلك قول اللّه تبارك وتعالى «فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً» «٢».

(١) القت : الرطبة واليابسة من علف الدواب.

(٢) آية ٩١ سورة آل عمران.

٩٦

و قوله : أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ ... (٩٦)

الصيد : ما صدته ، وطعامه ما نضب «١» عنه الماء فبقى على وجه الأرض.

(١) أي غار وذهب فى الأرض ، وهنا حسر عنه ماء البحر.

١٠١

قوله : لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ... (١٠١)

خطب النبىّ صلى اللّه عليه وسلّم الناس ، وأخبرهم أن اللّه تبارك وتعالى قد فرض عليهم الحجّ ، فقام رجل فقال : يا رسول اللّه (أوفى) «٢» كلّ عام؟ فأعرض عنه.

ثم عاد (فقال «٣» : أفي كل عام؟ فأعرض عنه ، ثم عاد) فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلّم : «ما يؤمنك أن أقول (نعم) فيجب عليكم ثم لا تفعلوا فتكفروا؟ اتركوني ما تركتكم».

و(أشياء) فى موضع خفض لا تجرى. وقد قال فيها بعض النحويين :

إنما كثرت فى الكلام وهى (أفعال) فأشبهت فعلاء فلم تصرف كما لم تصرف حمراء ، وجمعها أشاوى - كما جمعوا عذراء عذارى ، وصحراء صحارى - وأشياوات كما قيل :

حمراوات. ولو كانت على التوهّم لكان أملك الوجهين بها أن تجرى لأن الحرف إذا كثر به الكلام خفّ كما كثرت التسمية بيزيد فأجروه وفيه ياء زائدة تمنع من الإجراء. ولكنا نرى أن أشياء جمعيت «٤» على أفعلاء كما جمع ليّن وأليناء ، فحذف من وسط أشياء همزة ، كان ينبغى لها أن تكون (أشيئاء) فحذفت الهمزة لكثرتها. وقد قالت العرب : هذا من أبناوات سعد ، وأعيذك بأسماوات اللّه ، ووأحدها أسماء وأبناء تجرى ، فلو منعت أشياء الجري لجمعهم إياها أشياوات لم أجر أسماء ولا أبناء لأنهما جمعتا أسماوات وأبناوات.

 (٢) كذا فى ش. وفى ج : «أ في».

(٣) سقط ما بين القوسين فى ش ، وثبت فى ج.

(٤) أي جعلت على هذه الصيغة.

١٠٣

و قوله : ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ ... (١٠٣)

قد اختلف فى السائبة. فقيل : كان الرجل يسيّب من ماله ما شاء ، يذهب به إلى الذين يقومون على خدمة آلهتهم. قال بعضهم : السائبة إذا ولدت الناقة عشرة «١» أبطن كلهنّ «٢» إناث سيّبت فلم تركب ولم يجزّ لها وبر ، ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو ضيف حتى تموت ، فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء وبحرت أذن ابن «٣» ابنتها - يريد : خرقت - فالبحيرة ابنة السائبة ، وهى بمنزلة أمّها. وأما الوصيلة فمن الشاء. إذا ولدت الشاة سبعة أبطن عناقين عناقين «٤» فولدت فى سابعها عناقا وجديا قيل : وصلت أخاها ، فلا يشرب لبنها النساء وكان للرجال ، وجرت مجرى السائبة.

وأما الحامى فالفحل من الإبل كان إذا لقح ولد ولده حمى ظهره ، فلا يركب ولا يجزّ له وبر ، ولا يمنع من مرعى ، وأىّ إبل ضرب فيها لم يمنع.

فقال اللّه تبارك وتعالى ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ هذا أنتم جعلتموه كذلك.

قال اللّه تبارك وتعالى وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ.

(١) كذا فى ج. وفى ش : «عشر».

(٢) كذا فى ج. وفى ش : «كلهم».

(٣) كذا. وكأن الصواب حذف هذا اللفظ ، كما يعلم مما بعد.

(٤) العناق : الأنثى من ولد المعز.

١٠٥

وقوله : عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ... (١٠٥)

هذا أمر من اللّه عزّ وجلّ كقولك : عليكم «٥» أنفسكم. والعرب تأمر من الصفات «٦» بغليك ، وعندك ، ودونك ، وإليك. يقولون : إليك إليك ، يريدون : تأخّر

 (٥) ثبت فى ج ، وسقط فى ش.

(٦) يريد الظروف وحروف الجرّ.

كما تقول : وراءك وراءك. فهذه الحروف كثيرة. وزعم الكسائىّ أنه سمع :

بينكما البعير فحذاه. فأجاز ذلك فى كلّ الصفات التي قد تفرد ، ولم يجزه فى اللام ولا فى الباء ولا فى الكاف. وسمع بعض العرب تقول «١» : كما أنت زيدا ، ومكانك زيدا. قال الفراء : وسمعت [بعض ] «٢» بنى سليم يقول فى كلامه : كما أنتنى ، ومكانكنى ، يريد انتظرنى فى مكانك.

ولا تقدّمنّ ما نصبته هذه الحروف قبلها لأنها أسماء ، والاسم لا ينصب شيئا قبله تقول : ضربا زيدا ، ولا تقول : زيدا ضربا. فإن قلته نصبت زيدا بفعل مضمر قبله كذلك قال الشاعر :

يا أيها المائح دلوى دونكا إن شئت نصبت (الدلو) بمضمر قبله ، وإن شئت جعلتها رفعا ، تريد : هذه دلوى فدونكا.

لا يَضُرُّكُمْ رفع ، ولو جزمت كان صوابا كما قال فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تخف ، ولا تَخافُ «٣» جائزان.

(١) كذا فى ش ، ج. فإن كان القائل امرأة فهو صحيح ، وإلا فهو نصحيف عن «يقول» إلا أن يريد ببعض العرب جماعة منهم. [.....]

(٢) زيادة يقتضيها السياق خلت منها نسختا ش ، ج.

(٣) آية ٧٧ سورة طه.

١٠٦

وقوله : شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ... (١٠٦)

يقول : شاهدان أو وصيّان ، وقد اختلف فيه. ورفع الاثنين بالشهادة ، أي ليشهدكم اثنان من المسلمين.

أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ من غير دينكم. هذا فى السّفر ، وله حديث طويل.

إلا أنّ المعنى فى قوله مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فمن قال : الأوليان أراد وليّى الموروث يقومان مقام النصرانيّين إذا اتّهما أنهما اختانا ، فيحلفان بعد ما حلف النصرانيّان وظهر على خيانتهما ، فهذا وجه قد قرأ به علىّ ، وذكر عن «١» أبىّ بن كعب. حدّثنا الفراء قال حدّثنى قيس بن الربيع عن عبد الملك عن عطاء عن ابن عباس أنه قال الأولين يجعله نعتا للذين. وقال أرأيت إن كان الأوليان صغيرين كيف يقومان مقامهما. وقوله اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ معناه : فيهم كما قال وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ «٢» أي فى ملك ، وكقوله وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ «٣» جاء التفسير : على جذوع النخل. وقرأ الحسن (الأوّلان) يريد : استحقّا بما حقّ عليهما من ظهور خيانتهما. وقرأ عبد اللّه بن مسعود الأولين كقول ابن عباس. وقد يكون الْأَوْلَيانِ هاهنا النصرانيّين - واللّه أعلم - فيرفعهما ب (استحقّ) ، ويجعلهما الأوليين باليمين لأن اليمين كانت عليهما ، وكانت البيّنة على الطالب فقيل الأوليان بموضع اليمين. وهو على معنى قول الحسن.

وقوله أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ غيرهم على «٤» أيمانهم فتبطلها.

(١) كذا فى ج. وفى ش : «أن».

(٢) آية ١٠٢ سورة البقرة.

(٣) آية ٧١ سورة طه.

(٤) كذا. وهو لا يريد التلاوة فإنها : «بعد أيمانهم» وإنما يريد التفسير.

١٠٩

وقوله : قالُوا لا عِلْمَ لَنا ... (١٠٩)

قالوا : فيما ذكر من هول يوم القيامة. ثم قالوا : إلا ما علمتنا «٥» ، فإن كانت على ما ذكر ف (ما) التي بعد (إلا) فى موضع نصب لحسن السكوت على قوله :

(لا علم لنا) ، والرفع جائز.

 (٥) ليس فى الآية (إلا ما علمتنا) والتلاوة (قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب).

١١٠

و قوله : إِذْ أَيَّدْتُكَ ... (١١٠)

على فعّلتك كما تقول : قوّيتك. وقرأ مجاهد (آيدتك) على أفعلتك. وقال الكسائىّ : فاعلتك ، وهى تجوز. وهى مثل عاونتك.

وقوله : فِي الْمَهْدِ يقول : صبيّا وَكَهْلًا فردّ الكهل على الصفة كقوله دَعانا «١» لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً.

(١) آية ١٢ سورة يونس.

١١١

وقوله : وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ... (١١١)

يقول : ألهمتهم كما قال وَأَوْحى «٢» رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً أي ألهمها.

(٢) آية ٦٨ سورة النحل.

١١٢

وقوله : هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ... (١١٢)

بالتاء والياء. قرأها أهل المدينة وعاصم بن أبى النجود والأعمش بالياء :

يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ وقد يكون ذلك على قولك : هل يستطيع فلان القيام معنا؟

و أنت تعلم أنه يستطيعه ، فهذا وجه. وذكر «٣» عن علىّ وعائشة رحمهما اللّه أنهما قرآ هل تستطيع ربّك بالتاء ، وذكر عن معاذ أنه قال : أقرأنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم هل تستطيع ربّك بالتاء ، وهو وجه حسن. أي هل تقدر على أن تسأل ربك أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ.

(٣) كذا فى ج. وفى ش : «ذلك».

١١٤

وقوله : تَكُونُ لَنا عِيداً ... (١١٤)

(وتكن لنا). وهى فى قراءة عبد اللّه تكن لنا عيدا بغير واو. وما كان من نكرة قد وقع عليها أمر جاز فى الفعل بعده الجزم والرفع. وأما المائدة فذكر

أنها نزلت ، وكانت خبزا وسمكا. نزلت - فيما ذكر - يوم الأحد مرّتين ، فلذلك اتخذوه عيدا. وقال بعض المفسّرين : لم تنزل لأنه اشترط عليهم أنه إن أنزلها فلم يؤمنوا عذّبهم ، فقالوا : لا حاجة لنا فيها.

١١٦

وقوله : يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ (١١٦) عِيسَى فى موضع رفع ، وإن شئت نصبت «١». وأما ابْنَ فلا يجوز فيه إلا النصب. وكذلك تفعل فى كل اسم دعوته باسمه ونسبته إلى أبيه كقولك :

يا زيد بن عبد اللّه ، ويا زيد بن عبد اللّه. والنصب فى (زيد) فى كلام العرب أكثر.

فإذا رفعت فالكلام على دعوتين ، وإذا نصبت فهو دعوة. فإذا قلت : يا زيد أخا تميم ، أو قلت : يا زيد ابن الرجل الصالح رفعت الأوّل ، ونصبت الثاني كقول الشاعر «٢» :

يا زبرقان أخا بنى خلف ما أنت ويل أبيك والفخر

(١) كذا فى ش. وفى ج : «نصب».

(٢) هو المخبل السعدىّ ، يهجو الزبرقان بن بدر. وبنو خلف رهطه الأدنون من تميم. وانظر الكتاب ١/ ١٥١ ، والخزانة ٢/ ٥٣٥.

١١٩

و قوله : هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ (١١٩) ترفع (اليوم) ب (هذا) ، ويجوز أن تنصبه «٣» لأنه مضاف إلى غير اسم كما قالت العرب : مضى يومئذ بما فيه. ويفعلون ذلك به فى موضع الخفض قال الشاعر «٤» :

رددنا لشعثاء الرسول ولا أرى كيومئذ شيئا تردّ رسائله

 (٣) وهو قراءة نافع ، ووافقه ابن محيصن.

(٤) هو جرير. والبيت من قصيدته التي أوّلها :

أ لم تر أن الجهل أقصر باطله وأمسى عماه قد تجلت مخابله.

[.....]

و كذلك وجه القراءة فى قوله : مِنْ «١» عَذابِ يَوْمِئِذٍ وَمِنْ «٢» خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ويجوز خفضه فى موضع الخفض كما جاز رفعه فى موضع الرفع. وما أضيف إلى كلام ليس فيه مخفوض فافعل به ما فعلت فى هذا كقول الشاعر «٣» :

على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألمّا تصح والشيب وازع

و تفعل ذلك فى يوم ، وليلة ، وحين ، وغداة ، وعشيّة ، وزمن ، وأزمان وأيام ، وليال. وقد يكون قوله : هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ كذلك. وقوله : هذا «٤» يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ فيه ما فى قوله : يَوْمُ يَنْفَعُ وإن قلت «هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ» كما قال اللّه : وَاتَّقُوا «٥» يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ تذهب إلى النكرة كان صوابا.

والنصب فى مثل هذا مكروه فى الصفة وهو على ذلك جائز ، ولا يصلح فى القراءة.

(١) آية ١١ سورة المعارج. وقراءة فتح الميم من (يومئذ) فى الآيتين لنافع والكسائىّ. وقراءة الباقين كسر الميم.

(٢) آية ٦٦ سورة هود.

(٣) هو النابغة الذبيانىّ. وانظر الكتاب ١/ ٣٦٩ ، والخزانة ٣/ ١٥١.

(٤) آية ٣٥ سورة المرسلات.

(٥) آية ١٢٣ سورة البقرة.