Geri

   

 

 

İleri

 

٢٨- ووجوه إعجاز القرآن الكريم عشرة

ومنها النظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وفي غيرها لأن نظمه ليس من نظم الشعر في شيء وكذلك قال رب العزة الذي تولى نظمه وما علمناه الشعر وما ينبغي له وفي صحيح مسلم أن أنيسا أخا أبي ذر قال لأبي ذر لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن اللّه أرسله قلت فما يقول الناس قال يقولون شاعر كاهن ساحر وكان أنيس أحد الشعراء قال أنيس لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد بهدي أنه شعر واللّه إنه لصادق وإنهم لكاذبون وكذلك أقر عتبة بن ربيعة أنه ليس بسحر ولا شعر لما قرأ عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حم فصلت على مايأتي بيانه هنالك فإذا اعترف عتبة على موضعه من اللسان وموضعه من الفصاحة والبلاغة بأنه ما سمع مثل القرآن قط كان في هذا القول مقرا بإعجاز القرآن له ولضربائه من المتحققين بالفصاحة والقدرة على التكلم بجميع أجناس القول وأنواعه

ومنها الأسلوب الحالف لجميع أساليب العرب

ومنها الجزالة التي لا تصح من مخلوق بحال وتأمل ذلك في سورة ق والقرآن المجيد إلى آخرها وقوله سبحانه والأرض جميعاقبضته يوم القيامة إلى آخر السورة وكذلك قوله سبحانه ولا تحسبن اللّه غافلا عما يعمل الظالمون إلى آخر السورة وكذلك فمن علم أن اللّه سبحانه وتعالى هو الحق علم أن مثل هذه الجزالة لا تصح في خطاب غيره ولا يصح من أعظم ملوك الدنيا أن يقول لمن الملك اليوم ولا أن يقول ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء

قال ابن الحصار وهذه الثلاثة من النظم والأسلوب والجزالة لازمة كل سورة بل هي لازمة كل آية وبمجموع هذه الثلاثة يتميز مسموع كل آية وكل سورة عن سائر كلام البشر وبها وقع التحدي والتعجيز ومع هذا فكل سورة تنفرد بهذه الثلاثة من غير أن ينضاف إليها أمر آخر من الوجوه العشرة فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات قصار وهي أقصر صورة في القرآن وقد تضمنت الإخبار عن مغيبين أحدهما الإخبار عن الكوثر وعظمه وسعته وكثرة أوانيه وذلك يدل على أن المصدقين به أكثر من اتباع سائر الرسل والثاني الإخبار عن الوليد بن المغيرة وقد كان الأول نزول الآية ذا مال وولد على ما يقتضيه قول الحق ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم أهلك اللّه سبحانه ماله وولده وانقطع نسله

ومنها التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به عربي حتى يقع منهم الاتفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه

ومنها الإخبار عن الأمور التي في أول الدنيا إلى وقت نزوله من أمي ما كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخطه بيمينه فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها والقرون الخالية في دهرها وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه وتحدوه به من قصص أهل الكهف وشأن موسى والخضر عليهما السلام وحال ذي القرنين فجاءهم وهو أمي من أمة أمية ليس لها بذلك علم بما عرفوا من الكتب السافلة صحته فتحققوا صدقه

قال القاضي ابن الطيب ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه إلا عن تعلم وإذا كان معروفاأنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار وحملة الأخبار ولا مترددا إلى المتعلم منهم ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه علم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي

ومنها الوفاء بالوعد المدرك بالحس في العيان في كل ما وعد اللّه سبحانه وينقسم إلى أخباره المطلقة كوعده بنصر رسوله عليه السلام وإخراج الذين أخرجوه من وطنه وإلى وعد مقيد بشرط كقوله ومن يتوكل على اللّه فهو حسبه ومن يؤمن باللّه يهد قلبه ومن يتق اللّه يجعل له مخرجا إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وشبه ذلك

ومنها الإخبار عن المغيبات في المستقبل التي لا يطلع عليها إلا بالوحي فمن ذلك ما وعد اللّه نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان بقوله تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق الآية ففعل ذلك وكان أبو بكر رضي اللّه عنه إذا أغزى جيوشه عرفهم ما وعدهم اللّه في إظهار دينه ليثقوا بالنصر وليستيقنوا بالنجح وكان عمر يفعل ذلك فلم يزل الفتح يتوالى شرقاوغربا براوبحرا قال اللّه تعالى وعد اللّه الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وقال لقد صدق اللّه رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء اللّه آمنين وقال وإذ يعدكم اللّه إحدى الطائفتين أنها لكم وقال الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون فهذه كلها أخبار عن الغيوب التي لا يقف عليها إلا رب العالمين أو من أوقفه عليها رب العالمين فدل على أن اللّه تعالى قد أوقف عليها رسوله لتكون دلالة على صدقه

ومنها ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام في الحلال والحرام وفي سائر الأحكام

ومنها الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتها وشرفها من آدمي

ومنها التناسب في جميع ماتضمنه ظاهراوباطنامن غير اختلاف قال اللّه تعالى ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا

قلت فهذه عشرة أوجه ذكرها علماؤنا رحمة اللّه عليهم ووجه حادي عشر قاله النظام وبعض القدرية أن وجه الإعجاز هو المنع من معارضته والصرفة عند التحدي بمثله وأن المنع والصرفة هو المعجزة دون ذات القرآن وذلك أن اللّه تعالى صرف هممهم عن معارضته مع تحديهم بأن يأتوا بسورة من مثله وهذا فاسد لأن إجماع الأمة قبل حدوث المخالف أن القرآن هو المعجز فلو قلنا إن المنع والصرفة هو المعجز لخرج القرآن عن أن يكون معجزا وذلك خلاف الإجماع وإذا كان كذلك علم أن نفس القرآن هو المعجز لان فصاحته وبلاغته أمر خارق للعادة إذ لم يوجد قط كلام على هذا الوجه فلما لم يكن ذلك الكلام مألوفا معتادا منهم دل على أن المنع والصرفة لم يكن معجزا واختلف من قال بهذه الصرفة على قولين أحدهما أنهم صرفوا على القدرة عليه ولو تعرضوا له لعجزوا عنه الثاني أنهم صرفوا عن التعرض له مع كونه في مقدورهم ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه

قال ابن عطية وجه التحدي في القرآن إنما هو بنظمه وصحة معانيه وتوالى فصاحة ألفاظه ووجه إعجازه أن اللّه تعالى قد أحاط بكل شيء علما وأحاط بالكلام كله علما فعلم بأحاطته أي لفظة تصلح أن تلى الأولى وتبين المعنى بعد المعنى ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول ومعلوم ضرورة أن بشرا لم يكن محيطا قط فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة وبهذا النظر يبطل قول من قال إن العرب كان في قدرتها أن تأتي بمثل القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة فلما جاء محمد صلى اللّه عليه وسلم صرفوا عن ذلك وعجزوا عنه والصحيح أن الإتيان بمثل القرآن لم يكن قط أحد من المخلوقين ويظهر لك قصور البشر أن الفصيح منهم يضع خطبة أو قصيدة يستفرغ فيها جهده ثم لا يزال ينقحها حولا كاملا ثم تعطى لآخر بعده فيأخذها بقريحة جامة فيبدل فيها وينقح ثم لا تزال بعد ذلك فيها مواضع للنظر والبدل وكتاب اللّه تعالى لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب أن يوجد أحسن منها لم يوجد

ومن فصاحة القرآن أن اللّه تعالى جل ذكره ذكر في آية واحدة أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين وهو قوله تعالى وأوحينا إلى موسى أن أرضعيه الآية وكذلك فاتحة سورة المائدة أمر بالوفاء ونهي عن النكث وحلل تحليلاعاما ثم استثنى استثناء بعد استثناء ثم أخبر عن حكمته وقدرته وذلك مما لا يقدر عليه إلا اللّه سبحانه وأنبأ سبحانه عن الموت وحسرة الفوت والدار الآخرة وثوابها وعقابها وفوز الفائزين وتردي المجرمين والتحذير عن الاغترار بالدنيا ووصفها بالقلة بلإضافة إلى دار البقاء بقوله تعالى كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة الآية وأنبا أيضا عن قصص الأولين والآخرين ومآل المترفين وعواقب المهلكين في شطر آية وذلك في قوله تعالى فمنهم من أرسلنا عليه حاصباومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وأنبأ جل وعز عن أمر السفينة وإجرائها وإهلاك الكفرة واستقرار السفينة واستوائها وتوجيه أوامر التسخير إلى الأرض والسماء بقوله عز وجل وقال اركبوا فيها بسم اللّه مجراها ومرساها إلى قوله تعالى وقيل بعدا للقوم الظالمين إلى غير ذلك فلما عجزت قريش عن الإتيان بمثله وقالت إن النبي صلى اللّه عليه وسلم تقوله أنزل اللّه تعالى أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ثم أنزل تعجيزا ابلغ من ذلك فقال أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات فلما عجزوا حطهم عن هذا المقدار إلى مثل سورة من السور القصار فقال جل ذكره وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله فأفحموا عن الجواب وتقطعت بهم الأسباب وعدلوا إلى الحروب والعناد وآثرواسبي الحريم والأولاد ولو قدروا على المعارضة لكان أهون كثيرا وأبلغ في الحجة وأكثر تأثيرا هذا مع كونهم أرباب البلاغة واللحن وعنهم تؤخذ الفصاحة واللسن

فبلاغة القرآن في أعلى طبقات الإحسان وأرفع درجات الإيجاز والبيان بل تجاوزت حد الإحسان والإجادة إلى حيز الإرباء والزيادة هذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع ماأوتي من جوامع الكلم واختص به من غرائب الحكم إذا تأملت قوله صلى اللّه عليه وسلم في صفة الجنان وإن كان في نهاية الإحسان وجدته منحطاعن رتبة القرآن وذلك في قوله عليه السلام فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فأين ذلك من قوله عز وجل وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وقوله فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين هذا أعدل وزنا وأحسن تركيبا وأعذب لفظا وأقل حروفا على أنه لا يعتبر إلا في مقدار سورة أو أطول آية لأن الكلام كلما طال اتسع فيه مجال المتصرف وضاق المقال عن القاصر المتكلف وبهذا قامت الحجة على العرب إذ كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة كما قامت الحجة في معجزة عيسى عليه السلام على الاطباء ومعجزة موسى عليه السلام على السحرة فإن اللّه سبحانه إنما جعل معجزات الأنبياء عليهم السلام بالوجه الشهير أبرع ما يكون في زمان النبي الذي أراد إظهاره فكان السحر في زمان موسى عليه السلام قد انتهى إلى غايته وكذلك الطب في زمن عيسى عليه السلام والفصاحة في زمن محمد صلى اللّه عليه وسلم