Geri

   

 

 

İleri

 

١٦- باب ذكر جمع القرآن وسبب كتب عثمان المصاحف وإحراقه ما سواها وذكر من حفظ القرآن من الصحابة رضي اللّه عنهم في زمن النبي صلى اللّه عليه وسلم

كان القرآن في مدة النبي صلى اللّه عليه وسلم متفرقا في صدور الرجال وقد كتب الناس منه في صحف وفي جريد وفي لخاف وظرر وفي خزف وغير ذلك قال الأصمعي اللخاف حجارة بيض رقاق واحدتها لخفة والظرر حجر له حد كحد السكين والجمع ظرار مثل رطب ورطاب وربع ورباع وظران أيضا مثل صرد وصردان فلما استحر القتل بالقراء يوم اليمامة في زمن الصديق رضي اللّه عنه وقتل منهم في ذلك اليوم فيما قيل سبعمائة أشار عمر بن الخطاب على ابي بكر الصديق رضي اللّه عنهما بجمع القرآن مخافة أن يموت أشياخ القراء كأبي وابن مسعود وزيد فندبا زيد بن ثابت إلى ذلك فجمعه غير مرتب السور بعد تعب شديد رضى اللّه عنه روى البخاري عن زيد بن ثابت قال أرسل إلى أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر فقال أبو بكر إن عمر أتاني فقال إن القتل استحر يوم اليمامة بالناس وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه وإني لا أرى أن تجمع القرآن قال أبو بكر فقلت لعمر كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال هو واللّه خير فلم يزل يراجعني حتى شرح اللّه لذلك صدري ورأيت الذي رأى عمر قال زيد وعنده عمر جالس لا يتكلم فقال لي أبو بكر إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك كنت تكتب الوحي لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتتبع القرآن فأجمعه فواللّه لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن قلت كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال أبو بكر هو واللّه خير فلم أزل أراجعه حتى شرح اللّه صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع غيره لقد جائكم رسول من أنفسكم إلى آخرها فكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه اللّه ثم عند عمر حتى توفاه اللّه ثم عند حفصة بنت عمر وقال الليث حدثني عبدالرحمن بن غالب عن ابن شهاب وقال مع أبي خزيمة الأنصاري وقال أبو ثابت حدثنا إبراهيم وقال مع خزيمة أو أبي خزيمة فإن تولوا فقل حسبي اللّه لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم

وقال الترمذي في حديثه عنه فوجدت آخر سورة براءة مع خزيمة بن ثابت لقد جائكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم فإن تولوا فقل حسبي اللّه لا إله إلا إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم قال حديث حسن صحيح

وفي البخاري عن زيد بن ثابت قال لما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرؤها لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري الذي جعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه وقال الترمذي عنه فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرؤها من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر فالتمستها فوجدتها عند خزيمة بن ثابت أو أبي خزيمة فألحقتها في سورتها

قلت فسقطت الآية الأولى من آخر براءة في الجمع الأول على ما قاله البخاري والترمذي وفي الجمع الثاني فقدت آية من سورة الأحزاب وحكى الطبري أن آية براءة سقطت في الجمع الأخير والأول أصح واللّه أعلم فإن قيل فما وجه جمع عثمان الناس على مصحفه وقد سبقه أبو بكر إلى ذلك وفرغ منه قيل له إن عثمان رضي اللّه عنه لم يقصد بما صنع جمع الناس على تأليف المصحف ألا ترى كيف أرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك على ما يأتي وإنما فعل ذلك عثمان لأن الناس اختلفوا في القراءات بسبب تفرق الصحابة في البلدان واشتد الأمر في ذلك وعظم اختلافهم وتشبثهم ووقع بين أهل الشام والعراق ماذكره حذيفة رضي اللّه عنه وذلك أنهم اجتمعوا في غزوة أرمينية كل طائفة بما روي لها فاختلفوا وتنازعوا وأظهر بعضهم إكفار بعض والبراءة منه وتلاعنوا فأشفق حذيفة مما رأى منهم فلما قدم حذيفة المدينة فيما ذكر البخاري والترمذي دخل إلى عثمان قبل أن يدخل إلى بيته فقال أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك قال فيما قال في كتاب اللّه إني حضرت هذه الغزوة وجمعت ناسا من العراق والشام والحجاز فوصف له ماتقدم وقال إني أخشى عليهم أن يختلفوا في كتابهم كما اختلف اليهود والنصارى

قلت وهذا أدل دليل على بطلان من قال إن المراد بالأحرف السبعة قراءات القراء السبعة لأن الحق لا يختلف فيه وقد روى سويد بن غفلة عن علي بن أبي طالب أن عثمان قال ما ترون في المصاحف فإن الناس قد اختلفوا في القراءة حتى إن الرجل ليقول قراءتي خير من قراءتك وقراءتي أفضل من قرائتك وهذا شبيه بالكفر قلنا ما الرأي عندك يا أمير المؤمنين قال الرأي عندي أن يجتمع الناس على قراءة فإنكم إذا اختلفتم اليوم كان من بعدكم أشد اختلافا قلنا الرأي رأيك يا أمير المؤمنين فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها إليه فأمر زيد بن ثابت وعبداللّه بن الزبير وسعيد بن العاصي وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فأكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق وكان هذا من عثمان رضي اللّه عنه بعد أن جمع المهاجرين والأنصار وجلة أهل الإسلام وشاورهم في ذلك فاتفقوا على جمعه بما صح وثبت في القراءات المشهورة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم واطراح ما سواها واستصوبوا رأيه وكان رأيا سديدا موفقا رحمة اللّه عليه وعليهم أجمعين وقال الطبري فيما روي أن عثمان قرن بزيد أبان بن سعيد بن العاص وحده وهذا ضعيف وما ذكره البخاري والترمذي وغيرهما أصح وقال الطبري أيضا إن الصحف التي كانت عند حفصة جعلت إماما في هذا الجمع الأخير وهذا صحيح

وقال ابن شهاب وأخبرني عبيداللّه بن عبداللّه أن عبداللّه بن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف وقال يا معشر المسلمين أعزل عن نسخ المصاحف ويتولاه رجل واللّه لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر يريد زيد بن ثابت ولذلك قال عبداللّه ابن مسعود يا أهل العراق اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها فإن اللّه عز وجل يقول ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة فالقوا اللّه بالمصاحف خرجه الترمذي وسيأتي الكلام في هذا في سورة آل عمران إن شاء اللّه تعالى

قال أبو بكر الأنباري ولم يكن الأختيار لزيد من جهة أبي بكر وعمر وعثمان على عبداللّه بن مسعود في جمع القرآن وعبداللّه أفضل من زيد وأقدم في الإسلام وأكثر سوابق وأعظم فضائل إلا لأن زيدا كان أحفظ للقرآن من عبداللّه إذ وعاه كله ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حي والذي حفظ منه عبداللّه في حياة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نيف وسبعون سورة ثم تعلم الباقي بعد وفاة الرسول صلى اللّه عليه وسلم فالذي ختم القرآن وحفظه ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حي أولى بجمع المصحف وأحق بالإيثار ولاختيار ولا ينبغي أن يظن جاهل أن في هذا طعنا على عبداللّه بن مسعود لأن زيدا إذا كان أحفظ للقرآن منه فليس ذلك موجبا لتقدمه عليه لأن أبا بكر وعمر رضي اللّه عنها كان زيد أحفظ منهما للقرآن وليس هو خيرا منهما ولا مساويا لهما في الفضائل والمناقب قال أبو بكر وما بدا من عبداللّه بن مسعود من نكير ذلك فشيء نتجه الغضب ولا يعمل به ولا يؤخذ به ولا يشك في أنه رضي اللّه عنه قد عرف بعد زوال الغضب عنه حسن اختيار عثمان ومن معه من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبقي على موافقتهم وترك الخلاف لهم فالشائع الذائع المتعالم عند أهل الرواية والنقل أن عبداللّه بن مسعود تعلم بقية القرآن بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد قال بعض الأئمة مات عبداللّه بن مسعود قبل أن يختم القرآن قال يزيد بن هارون المعوذتان بمنزلة البقرة وآل عمران ومن زعم أنهما ليستا من القرآن فهو كافر باللّه العظيم فقيل له فقول عبداللّه بن مسعود فيهما فقال لا خلاف بين المسلمين في أن عبداللّه بن مسعود مات وهو لا يحفظ القرآن كله

قلت هذا فيه نظر وسيأتي وروى إسماعيل بن إسحاق وغيره قال حماد أظنه عن أنس بن مالك قال كانوا يختلفون في الآية فيقولون أقرأها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلان بن فلان فعسى أن يكون من المدينة على ثلاث ليال فيرسل إليه فيجاء به فيقال كيف أقرأك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم آية كذا وكذا فيكتبون كما يقال قال ابن شهاب واختلفوا يومئذ في التابوت فقال زيد التابوه وقال ابن الزبير وسعيد بن العاص التابوت فرفع اعترافهم إلى عثمان فقال اكتبوه بالتاء فإنه نزل بلسان قريش أخرجه البخاري والترمذي قال ابن عطية قرأه زيد بالهاء والقرشيون بالتاء فأثبتوا بالتاء وكتبت المصاحف على ما هو عليه غابر الدهر ونسخ منها عثمان نسخا قال غيره قيل سبعة وقيل أربعة وهو الأكثر ووجه بها إلى الآفاق فوجه للعراق والشام ومصر بأمهات فاتخذها قراء الأمصار معتد اختياراتهم ولم يخالف أحد منهم مصحفه على النحو الذي بلغه وما وجد بين هؤلاء القراء السبعة من الأختلاف في حروف يزيدها بعضهم وينقصها بعضهم فذلك لأن كلا منهم اعتمد على ما بلغه في مصحفه ورواه إذ قد كان عثمان كتب تلك المواضع في بعض النسخ ولم يكتبها في بعض إشعارا بأن كل ذلك صحيح وأن القراءة بكل منها جائزة قال ابن عطية ثم إن عثمان أمر بما سواها من المصاحف أن تحرق أو تخرق تروى بالحاء غير منقوطة وتروى بالخاء على معنى ثم تدفن ورواية الحاء غير منقوطة أحسن

وذكر أبو بكر الأنباري في كتاب الرد عن سويد بن غفلة قال سمعت علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه يقول يا معشر الناس اتقوا اللّه وإياكم والغلو في عثمان وقولكم حراق المصاحف فواللّه ما حرقها إلا عن ملا منا أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم وعن عمير بن سعيد قال قال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان قال أبو الحسن بن بطال وفي أمر عثمان بتحريق الصحف والمصاحف حين جمع القرآن جواز تحريق الكتب التي فيها أسماء اللّه تعالى وأن ذلك إكرام لها وصيانة عن الوط ء بالأقدام وطرحها في ضياع من الأرض روي معمر عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان يحرق إذا اجتمعت عنده الرسائل فيها بسم اللّه الرحمن الرحيم وحرق عروة بن الزبير كتب فقه كانت عنده يوم الحرة وكره إبراهيم أن تحرق الصحف إذا كان فيها ذكر اللّه تعالى وقول من حرقها أولى بالصواب وقد فعله عثمان وقد قال القاضي أبو بكر لسان الأمة جائز للإمام تحريق الصحف التي فيها القرآن إذا أداه الاجتهاد إلى ذلك