١٠- باب ما جاء من الوعيد في تفسير القرآن بالرأي والجرأة على ذلك ومراتب المفسرينروي عن عائشة رضي اللّه عنها قالت ما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يفسر من كتاب اللّه إلا آيابعدد علمه إياهن جبريل قال ابن عطية ومعنى هذا الحديث في مغيبات القرآن وتفسير مجمله ونحو هذا مما لا سبيل إليه إلا بتوفيق من اللّه تعالى ومن جملة مغيباته ما لم يعلم اللّه به كوقت قيام الساعة ونحوها مما يستقري من ألفاظه كعدد النفخات في الصور وكرتبة خلق السموات والأرض روى الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال اتقوا الحديث علي إلا ما علمتم فمن كذب علي متعمدا فليبوأ مقعده من النار ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار وروي أيضا عن جندب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ قال هذا حديث غريب وأخرجه أبو داود وتكلم في أحد رواته وزاد رزين ومن قال برأيه فأخطأ فقد كفر قال أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار بن محمد الأنباري النحوي اللغوي في كتاب الرد فسر حديث ابن عباس تفسيرين أحدهما من قال في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذهب الأوائل من الصحابة والتابعين فهو متعرض لسخط اللّه والجواب الآخر وهو أثبت القولين وأصحهما معنى من قال في القرآن قولا يعلم أن الحق غيره فليتبوأ مقعده من النار ومعنى يتبوأ ينزل ويحل قال الشاعر وبوئت في صميم معشرها فتم في قومها مبوؤها وقال في حديث جندب فحمل بعض أهل العلم هذا الحديث على أن الرأي معنى به الهوى من قال في القرآن قولايوافق هواه لم يأخذه عن أئمة السلف فأصاب فقد أخطأ لحكمه على القرآن بما لا يعرف أصله ولا يقف على مذاهب أهل الأثر والنقل فيه وقال ابن عطية ومعنى هذا أن يسأل الرجل عن معنى في كتاب اللّه عز وجل فيتسور عليه برأيه دون نظر فيما قال العلماء واقتضته قوانين العلم كالنحو والأصول وليس يدخل في هذا الحديث أن يفسر اللغويون لغته والنحويون نحوه والفقهاء معانيه ويقول كل واحد باجتهاده المبني على قوانين علم ونظر فإن القائل على هذه الصفة ليس قائلا بمجرد رأيه قلت هذا صحيح هو الذي اختاره غير واحد من العلماء فإن من قال فيه بما سنح في وهمه وخطر على باله من غير استدلال عليه بالأصول فهو مخطيء وإن من استنبط معناه بحمله على الأصول المحكمة المتفق على معناها فهو ممدوح وقال بعض العلماء إن التفسير موقوف على السماع لقوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى اللّه والرسول وهذا فاسد لأن النهي عن تفسير القرآن لا يخلو إما أن يكون المراد به الاقتصار على النقل والمسموع وترك الإستنباط أو المراد به أمر آخر وباطل أن يكون المراد به ألا يتكلم أحد في القرآن إلا بما سمعه فإن الصحابة رضي اللّه عنهم قد قرءوا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه وليس كل ما قالوه سمعوه من النبي صلى اللّه عليه وسلم فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم دعا لابن عباس وقال: اللّهم فقه في الدين وعلمه التأويل فإن كان التأويل مسموعا كالتنزيل فما فائدة تخصيصه بذلك وهذا بين لا إشكال فيه وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة النساء إن شاء اللّه تعالى وإنما النهي يحمل على أحد وجهين أحدهما أن يكون له في الشيء رأي وإليه ميل في طبعه وهواه فيتأول القرآن على وفق رأيه وهواه ليحتج على تصحيح غرضه ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى وهذا النوع يكون تارة مع العلم كالذي يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته وهو يعلم أن ليس المراد بالآية ذلك ولكن مقصوده أن يلبس على خصمه وتاره يكون مع الجهل وذلك إذا كانت الآية محتمله فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ويرجح دلك الجانب برأيه وهواه فيكون قد فسر برأيه أي رأيه حمله على ذلك التفسير ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه وتارة يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلا من القرآن ويستدل عليه بما يعلم أنه ما أريد به كمن يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي فيقول قال اللّه تعالى اذهب إلى فرعون إنه طغى ويشير إلى قلبه ويوميء إلى أنه المراد بفرعون وهذا الجنس قد يستعمله بعض الوعاظ في المقاصد الصحيحة تحسينا للكلام وترغيبا للمستمع وهو ممنوع لأنه قياس في اللغة وذلك غير جائز وقد تستعمله الباطنية في المقاصد الفاسدة لتغرير الناس ودعوتهم إلى مذاهبهم الباطلة فينزلون القرآن على وفق رأيهم ومذهبهم على أمور يعلمون قطعاأنها غير مرادة فهذه الفنون أحد وجهي المنع من التفسير بالرأي الوجه الثاني أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة والمبدلة وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير فمن لم يحكم ظاهر التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه ودخل في زمرة من فسر القرآن بالرأي والنقل والسماع لابد له منه في ظاهر التفسير أولا ليتقي به مواضع الغلط ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط والغرائب التي لا تفهم إلا بالسماع كثيرة ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل احكام الظاهر ألا ترى أن قوله تعالى وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلوا بها معناه آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها فالناظر إلى ظاهر العربية يظن أن المراد به أن الناقة كانت مبصرة ولا يدري بماذا ظلموا وأنهم ظلموا غيرهم وأنفسهم فهذا من الحذف والإضمار وأمثال هذا في القرآن كثير وما عدا هذين الوجهين فلا يتطرق النهي اليه واللّه أعلم قال ابن عطية وكان جلة من السلف الصالح كسعيد بن المسيب وعامر الشعبي وغيرهما يعظمون القرآن ويتوقفون عنه تورعا واحتياطا لأنفسهم مع إدراكهم وتقدمهم قال أبو بكر الأنباري وقد كان الأئمة من السلف الماضي يتورعون عن تفسير المشكل من القرآن فبعض يقدر أن الذي يفسره لا يوافق مراد اللّه عز وجل فيحجم عن القول وبعض يشفق من أن يجعل في التفسير إماما يبني على مذهبه ويقتفي طريقه فلعل متأخرا أن يفسر حرفا برأيه ويخطيء فيه ويقول إمامي في تفسير القرآن بالرأي فلان الإمام من السلف وعن ابن أبي ملكية قال سئل أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه عن تفسير حرف من القرآن فقال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني وأين أذهب وكيف أصنع إذا قلت في حرف من كتاب اللّه بغير ما أراد تبارك وتعالى قال ابن عطية وكان جلة من السلف كثير عددهم يفسرون القرآن وهم أبقوا على المسلمين في ذلك رضي اللّه عنهم فأما صدر المفسرين والمؤيد فيهم فعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ويتلوه عبداللّه بن عباس وهو تجرد للأمر وكمله وتبعه العلماء عليه كمجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما والمحفوظ عنه في ذلك أكثر من المحفوظ عن علي وقال ابن عباس ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب وكان علي رضي اللّه عنه يثني على تفسير ابن عباس ويحض على الأخذ عنه وكان ابن عباس يقول نعم ترجمان القرآن عبداللّه بن عباس وقال عنه على رضي اللّه عنه ابن عباس كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق ويتلوه عبداللّه بن مسعود وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وعبداللّه بن عمرو بن العاص وكل ما أخذ عن الصحابة فحسن مقدم لشهودهم التنزيل ونزوله بلغتهم وعن عامر بن واثلة قال شهدت علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه يخطب فسمعته يقول في خطبته سلوني فواللّه لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدثتكم به سلوني عن كتاب اللّه فواللّه ما من آية إلا أنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل نزلت أم في جبل فقام إليه ابن الكواء فقال يا أمير المؤمنين ما الذاريات ذروا وذكر الحديث وعن المنهال بن عمرو قال قال عبداللّه بن مسعود لو أعلم أحدا أعلم بكتاب اللّه مني تبلغه المطي لأتيته فقال له رجل أما لقيت علي بن أبي طالب فقال بلى قد لقيته وعن مسروق قال وجدت أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم مثل الإخاذ يروي الواحد والإخاذ يروي الإثنين والإخاذ لو ورد عليه الناس أجمعون لأصدرهم وإن عبداللّه بن مسعود من تلك الآخاذ ذكر هذه المناقب أبو بكر الأنباري في كتاب الرد وقال الإخاذ عند العرب الموضع الذي يحبس الماء كالغدير قال أبو بكر حدثنا أحمد بن الهيثم بن خالد حدثنا أحمد بن عبداللّه بن يونس حدثنا سلام عن زيد العمى عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أرحم أمتي بها أبو بكر وأقواهم في دين اللّه عمر وأصدقهم حياء عثمان وأقضاهم علي وأفرضهم زيد وأقرؤهم لكتاب اللّه عز وجل أبي بن كعب وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ ابن جبل وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح وأبو هريرة وعاء من العلم وسلمان بحر من علم لا يدرك وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أو قال البطحاء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر قال ابن عطية ومن المبرزين في التابعين الحسن البصري ومجاهد وسعيد بن جبير وعلقمة قرأ مجاهد على ابن عباس قراءة تفهم ووقوف عند كل آية ويتلوهم عكرمة والضحاك وإن كان لم يلق ابن عباس وإنما أخذ عن ابن جبير وأما السدي فكان عامر الشعبي يطعن عليه وعلى أبي صالح لأنه كان يراهما مقصرين في النظر قلت وقال يحيى بن معين الكلبي ليس بشيء وعن يحيى بن سعيد القطان عن سفيان قال قال الكلبي قال أبو صالح كل ما حدثتك كذب وقال حبيب بن أبي ثابت كنا نسميه الدروغ زن يعني أبا صالح مولى أم هانيء والدروغ زن هو الكتاب بلغة الفرس ثم حمل تفسير كتاب اللّه تعالى عدول كل خلف كما قال صلى اللّه عليه وسلم يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين خرجه أبو عمرو وغيره قال الخطيب أبو بكر أحمد بن علي البغدادي وهذه شهادة من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأنهم أعلام الدين وأئمة المسلمين لحفظهم الشريعة من التحريف والانتحال للباطل ورد تأويل الأبله الجاهل وأنه يجب الرجوع إليهم والمعول في أمر الدين عليهم رضي اللّه عنهم قال ابن عطية وألف الناس فيه كعبدالرزاق والمفضل وعلي بن أبي طلحة والبخاري وغيرهم ثم إن محمد بن جرير رحمه اللّه جمع على الناس أشتات التفسير وقرب البعيد منها وشفي في الإسناد ومن المبرزين من المتأخرين أبو إسحاق الزجاج وأبو علي الفارسي وأما أبو بكر النقاش وأبو جعفر النحاس فكثيرا ما استدرك الناس عليهما وعلى سننهما مكي بن أبي طالب رضي اللّه عنه وأبو العباس المهدوي متقن التأليف وكلهم مجتهد مأجور رحمهم اللّه ونضر وجوههم |